مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

[في معنى الآخرة واليقين بها ومن هم الموقنون]

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)

في تفسير القمي ، قال :

«بما أنزل من القرآن إليك ، وبما أنزل على الانبياء من قبلك من الكتب.» (١)

ويحتمل التعميم لكل ما نزل من شريعة أو وحي أو غيرهما.

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)

الآخرة تأنيث الآخر ، الذي هو نقيض الاول ، وهي صفة الدار ، كما قال سبحانه : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ)(٢). وهي والدنيا من الصفات الغالبة التي تستعمل كثيرا بلا موصوف كالصالحات.

والايقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. ولعلّ في تقديم «الآخرة» وبناء «يوقنون» على «هم» تعريضا بأهل الكتاب ، وبما كانوا من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان ، وأنّ اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.

ثم إنّ المراد بهؤلاء المؤمنين إمّا مؤمني أهل الكتاب ، الذين اشتمل إيمانهم على كل وحي نزل من عند الله سالفا ومترقبا ، سبيله سبيل السالف لكونه معقودا

__________________

(١) القمي ، ج ١ ، ص ٣٢ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٧.

(٢) القصص / ٨٣.

٤٢١

بعضه ببعض ، ومربوطا آتيه بماضيه ، وأيقنوا بالآخرة إيقانا زال عنهم ما كانوا عليه من الاعتقادات الفاسدة في النشأة الآخرة ، فكأنّهم لم يكونوا معتقدين بالآخرة حقيقة ، وإنما كانوا معتقدين آخرة موصوفة بصفات لا تحقق لها أصلا. وحينئذ فلا يبعد اختصاص الطائفة الأولى بالكفار الذين آمنوا ابتداء من غير أهل الكتاب.

أو تترك على إطلاقه ، ويكون عطف الخاص على العام تشريفا لهم ، وترغيبا لأمثالهم في الدين.

وعلى الوجهين فالظاهر كون الموصول عطفا على الموصول ، ويكون كلمة المتّقين في الآية الاولى شاملة للطائفتين معا وإن احتمل غير ذلك أيضا.

ولعلّ الاقرب كون الموصولين معا من توابع تلك الكلمة وصفت المتّقون بهما ، لا أنّ الموصول الاوّل مبتدأ والثاني كالمبتدأ معنى لكونه معطوفا عليه ، وجملة «اولئك» خبر للمبتدأ ، وإن اختاره بعضهم.

والوجه الثاني أن لا يكون مختصا بأهل الكتاب ، فيكون وصفا آخر للمتقين كما هو الظاهر فيما عطف عقيب قوله سبحانه : «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ـ إلى آخر الآيات العديدة.» (١)

وكلا الوجهين (٢) قويّان هنا.

__________________

(١) المؤمنون / ١ ـ ٩.

(٢) في المخطوطة : «الوجهان».

٤٢٢

[في معنى الهداية والفلاح وأن المهتدين]

[والمفلحين هم المتقون]

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ)

 منحوه من عنده وأوتوه من قبله. وهو إما اللّطف والتوفيق ، الّذي اعتضدوا به على أعمال الخير ، والترقي من الافضل إلى الافضل ، وإما الارشاد إلى الدليل الموجب للثبات على ما اعتقدوه ، والدوام على ما عملوه ، وإما الهداية الباطنية الموهوبة مجازاة على الايمان والاعمال ، أو تفضلا منه سبحانه ، كما مرّت الاشارة إليه.

قيل : «معنى الاستعلاء في قوله : «على هدى» مثل لتمكّنهم من الهدى ، واستقرارهم عليه ، وتمسّكهم به ؛ شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ، ونحوه هو على الحق وعلى الباطل ، وقد صرّحوا بذلك في قولهم (١) : جعل الغواية مركبا وامتطى الجهل أي : اتخذ الجهل مطية.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

الفائزون بالبغية.

وفي الرواية المتقدم ذيلها سابقا الواردة في ترجمة الاذان عن التوحيد :

«وأما قوله : «حي على الفلاح» ، فانّه يقول : أقبلوا إلى بقاء لا فناء معه ، ونجاة لا هلاك معها ، وتعالوا إلى حياة لا ـ

__________________

(١) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٢٤ ؛ وأنوار التنزيل ، ص ١٠.

٤٢٣

ممات (١) معها ، وإلى نعيم لا نفاد له ، وإلى ملك لا زوال عنه وإلى سرور لا حزن معه وإلى أنس لا وحشة معه ، وإلى نور لا ظلمة معه ، وإلى سعة لا ضيق فيها (٢) ، وإلى بهجة لا انقطاع لها ، وإلى غنى لا فاقة معه ، وإلى صحة لا سقم معها ، وإلى عز لا ذل معه ، وإلى قوة لا ضعف معها ، وإلى كرامة يا لها من كرامة ، وعجلوا إلى سرور الدنيا والعقبى ، ونجاة الآخرة والاولى.

وفي المرّة الثانية «حيّ على الفلاح» ، فانّه يقول : سابقوا إلى ما دعوتكم إليه ، وإلى جزيل الكرامة وعظيم المنّة ، وسني النعمة والفوز العظيم ، ونعيم الابد في جوار محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.» (٣)

ثم إنه بناء على الوجه الثاني من الوجهين المتقدّمين ، فالمراد ب «اولئك» في الموضعين هو المتّقون ، الذين وصفهم بالصفات الخمسة ، بل الستة ، وبناء على الوجه الاوّل بواحد من الثلاثة الاول والاخيرة.

هذا إذا لم نجعل الموصول الاوّل أو الثاني مبتداء وإلا فالمراد بهما هم (٤) الذين يؤمنون بالغيب إن كان هو المبتدأ ، أو «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ ـ الخ» إن جعل مبتداء على بعد فيه.

وعلى الاول ، فبعد أن وصف سبحانه المتقين الذين لهم القرآن هدى بصفات

__________________

(١) خ. ل : «موت».

(٢) خ. ل : «معها».

(٣) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ١ ص ٤١٧.

(٤) في المخطوطة : «هو».

٤٢٤

خمسة : إيمانهم بالغيب ، وإقامتهم الصلاة التي هي عمود الدين ، وبمنزلة الفسطاط للخيمة ، ورأس العبادات الجوارحية (١) ، وإنفاقهم بعض ما رزقهم الله وهو العبادة المالية بل الاعم كما مرّ (٢) ، وايمانهم بجميع ما أنزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما أنزل من قبله وإيقانهم بالآخرة أخبر عنهم بأنهم : (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) وبأنهم (الْمُفْلِحُونَ). وظهور الهدى في الدنيا وظهور الفلاح الغالب في الآخرة.

وربما يستخرج منه انحصار المحمولين أعني : «الهدى من الرب» و «الفلاح» فيهم وأنّه ليس لغيرهم شيء منهما باعتبار اسم الاشارة ، الذي هو بمنزلة الوصف هنا ، وتكريره وتعريف المفلحين ، وتوسيط الفصل بينه وبين اولئك.

وحينئذ ففيه قطع الاماني الفاسدة والرجائات الكاذبة والتمنيات التي يتمناها أمثالنا من الوصول إلى تلك الغايات ، من دون الاتصاف بشيء من حقائق تلك الاوصاف ، تنشيط للسامعين لدرك ما قدموا ، وترغيب في طلب ما طلبوا ، وتبصير لمراتبهم.

[غايات التّقوى على ما في نهج البلاغة]

وقد وردت في الاخبار صفات كثيرة للمتقين ربّما يرد عليك شيء منها فيما بعد ، وغايات عديدة للتقوى نقله السيد [ره] في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في ضمن خطبة له :

«فإنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم ، وبصر عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس

__________________

(١) روى المجلسي (ره) في البحار ، ج ٨٢ ، باب فضل الصلاة وعقاب تاركها ، أحاديث كثيرة تشتمل بهذه الاوصاف للصلاة ، فراجع.

(٢) راجع كلامه (ره) في تفسير آية «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ».

٤٢٥

أنفسكم ، وجلاء غشاء أبصاركم ، وأمن فزع جأشكم ، وضياء سواد ظلمتكم ـ إلى أن قال عليه‌السلام : ـ فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوّها ، واحلولت له الامور بعد مرارتها ، وانفرجت عنه الامواج بعد تراكمها ، وأسهلت له الصعاب بعد إنصابها (١) ، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها وتحدّبت عليه الرحمة بعد نفورها ، وتفجّرت عليه النعم بعد نضوبها ، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها ـ إلى آخر الحديث.» (٢)

و «النصب» بالتحريك : التعب ، والانصاب : الاتعاب. و «الهطل» بالفتح : تتابع المطر المنغرق العظيم القطر ، والمطر الضعيف الدائم ، وتتابع الدمع. و «القحوط» بالضم : احتباس المطر كالقحط بالفتح. و «تحدبت عليه» أي : تعطفت. و «الوبل» بالفتح والوابل : المطر الشديد ، و «وبلت السماء» أي : أمطرت. و «الرذاذ» : المطر الضعيف ، وقيل : هو كالغبار ، على ما وجدناه في بعض الحواشي.

ولا يخفى عليك أنه يمكن إدراجها جميعا تحت الهداية والفلاح المذكورين في الآية ، فانّ كونه «بصرا لعمى الافئدة» و «جلاء لغشاء الابصار» و «ضياء لسواد الظلمة» وغيرها مندرجة تحت عنوان الهداية الّتي يعطيها الله سبحانه ، أو الاولين من أسبابها ، والاخير عين تلك الهداية. وأكثر ما بقي من تلك الخصال تحت عنوان «الفلاح» ؛ إذ هو فوز بالبغية العاجلة والباقية ، وبعضها ذات وجهين يصلح للدخول تحت كل منها ؛ كتفجر النعم وهطل البركة ؛ إذ لو أخذا من المعارف

__________________

(١) خ. ل : «انصبابها».

(٢) نهج البلاغة ، خ ١٩٨ ، ص ٣١٢ ؛ والبحار ، ج ٧٠ ، باب الطاعة والتقوى والورع ، ص ٢٨٣ ، ح ٦.

٤٢٦

الواردة في القلب دخلا تحت الهداية ، وإلا صحّ إدخالهما تحت الفلاح. وحينئذ فربما يصح أن يجعل هذا الكلام بمنزلة تفصيل ما أجمل في الآية وتفسيرها. ولنشر إلى بعض ما ربما يصلح بيانا لها ، فنقول :

لعلّ المراد من كون التقوى دواء داء القلب أن الامراض القلبية الباطنيّة كالبخل والكبر والحسد والحقد والرياء وغيرها ممّا هو مقرّر في علم الاخلاق كلّها ترتفع بتحصيل التقوى ، وتسليط التقوي عليها ، باعتبار أن الانسان المتحرز عمّا يضرّ بدينه يتحرّز عن إعمال تلك الملكات ، ويسعى لنفي شوائب الاغراض عن أعماله ليكون العمل خالصا له سبحانه ، وكل ملكة وحال وخلق إذا تركت إعمالها ، وأهملت ولم يلتفت إلى شأنها في مقام العمل ، وارتفع عنها التأثير في العمل أصلا ، وكان العمل على حسب داعي التقوى المخالف له في الصورة كثيرا ، وفي المعنى دائما إذا اعتبر الخلوص فيها ضعفت تلك القوة والحالة والملكة إلى أن يرجع إلى التوسط المطلوب منه.

وأيضا إذا قوي باعث التقوى في القلب من الخوف والرجاء والمحبة والحياء منه سبحانه بحيث أعطي الانسان صفة التقوى ، وألبسه لباسها ، انقهرت تلك الملكات والاحوال والقوى تحت حكمها لمكان مضادّتها ، وكلّما أثر باعث التقوى في العمل ازداد قوة تأثيره ، وضعف به تأثير غيرها.

وأيضا الاخذ بالتقوى في مكان وصول المدد والجذبة من عالم القدس والشفاء الروحاني من عند الله سبحانه ، كما ورد على ما ببالي : أن «من كان لله كان الله له».

وأما كونها بصر عمى الفؤاد ، فلعلّه باعتبار أنّ عمى الفؤاد إما من غطاء المحبّة والعصبيّة وأمثالهما ، المانع عن إدراك الشيء بصفته الواقعيّة ؛ كما قال شعر :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

كما أن عين السخط تبدي المساويا

٤٢٧

وإما باعتبار رين الواقع على القلب من متابعة الشهوات وارتكاب المعاصي ، فاستولى بها الظلمة على الفؤاد. وإمّا باعتبار مجازات واقعيّة وقعت على معاصي العبد. وجميع ذلك ترتفع بالتقوى ؛ إذ بواعث التقوى تمنع من تلك الاغطية ، بل المتّقي يزن بميزان الحق والقسط خوفا من ميزان القيامة ، الموضوع على القسط ، ولا يبقى له معاصي تصير سببا للرين ، ووقوع المجازات بتركها فعلا ، وتداركها ما فرط منها سابقا بالتوبة والتلافي.

وأيضا فاعطاء الله سبحانه بصرا للمتقي به يكون فؤاده بصيرا ليس ببعيد من مواهب الله وعطاياه ، ولا من المتّقي لمكان القابليّة الحاصلة له ، ومن ذا يكون أقرب إلى عطاياه سبحانه من المتقي. والتقوى تقرب صاحبها إلى معطي الابصار ومالكها ، ومانع كل الخيرات.

وأما كونها شفاء لمرض الاجساد ، فلعلّه باعتبار كون الامراض ناشئة من المعاصي ؛ قال سبحانه :

(ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.)(١)

والتقوى مانعة عن فعل المعصية ، وموجبة لتدارك ما وقع ومحوه ، ومقربة لصاحبها من الدخول تحت قوله تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)(٢).

وإما باعتبار إرادة الاجساد المثالية الّتي هي في باطن الجسم العنصري ، وصحّتها تكون بالتقوى.

وإما باعتبار أن تلك الامراض الظاهرية بمنزلة الصور والكلال للأمراض الباطنية في كثير من الاحيان للمناسبة الواقعة بين عالم الملك والملكوت ، فبارتفاع تلك الامراض ترتفع هذه.

__________________

(١) الشورى / ٣٠.

(٢) الشورى / ٣٠ ؛ والمائدة / ١٥.

٤٢٨

وأما كونها صلاحا لفساد الصدر ، فلعلّه لما تقدم ، أو لأن فساده من طرف استيلاء الشيطان الّذي يوسوس في صدور الناس ، والمتقي بعيد عن تسلّط الشيطان عليه ؛ (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)(١) ؛ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)(٢).

وأما كونها طهور دنس النفس ، فلعلّه لأجل أن الدنس إنما يحصل في النفس لمزاولة المعاصي ، أو الانهماك في الشهوات ، أو لمجاورة عالم الطبيعة والخلود إليها ، والتقوى تمنع عنها وتزعجها إلى عالم القدس والطهارة ، ومقربة لها إلى المياه المعنوية المطهرة عن تلك الادناس.

وأما كونها جلاء غشاء البصر ، فلعلّه لمثل ما مرّ في ذكر كونها بصر عمى الفؤاد ؛ إذ الظاهر هنا إرادة بصر القلب أو بصر القالب المثالي.

وأما كونها أمن فزع الجأش ، فلعلّه باعتبار كونها موجبة لغمض العين عن المفاسد الدنيويّة ، فلا يكون للقلب اهتمام بشأنها حتّى يوجب حصول الفزع له لمكان صبره على مكاره الدنيا وتحمله لها ، ولصيرورة نظر صاحب التقوى أعلى من تلك المخاوف اليسيرة باستيلاء خوف المهالك العظيمة الباقية ، الّتي لا نسبة لجزء من أجزائها إلى مجموع مخاوف الدنيا بأسرها ، وعلو رجائه فيما يرجوه من الامور الباقية ، أو لاتّصال صاحبها وقربه إلى محل السكينة الّتي تنزل على قلوب المؤمنين ، أو لاتّصاله إلى عالم القدس المعرّى عن شوائب التغيير والنقصان ، وخروجه عن عالم الكون والفساد.

وأما كونها ضياء لسواد الظلمة ، فلعلّه لمثل ما تقدم ، أو كونها سببا لظهور النور من جانب الحق في القلب.

__________________

(١) النحل / ١٠٠.

(٢) الاعراف / ٢٠١.

٤٢٩

وأما عزوب الشدائد عمّن أخذ بالتقوى واحليلاء الامور ، فلعلّه لأن كلّ أمر تحمّله وصبر عليه يصير ملكة له ويسهل عليه ، فيصير الشديد سهلا ، والمرّ حلوا ، أو لان شدة الامور صعوبتها ومرارتها إنما جاء من طرف استيلاء تلك الحالات المخالفة لها في النفس ، فاذا ارتفعت أو ضعفت أو أسكنت بوجود المزاحم القوى الّذي هو باعث التقوى صارت سهلة حلوة ، أو لأن شغل النفس بالشاغل القوي يمنعها عن الانفعال التام عن تلك الامور ، أو لأن الحق سبحانه يفرغ عليه صبرا ويثبّت قدمه.

وأما انفراج الامواج بعد تراكمها ، فلعلّ المراد منه انفراج أمواج الهموم الدنيوية ، أو انفراج أمواج الهوى المسلّط عليه. وظاهر أنّ بعد الصبر على تحملها ومخالفة الهوى تنفرج عنه تلك الاهوال ، ويخلص النفس عن أسرها ، وتصير حرا بعد أن كان عبدا لها.

وأما سهولة الصعاب ، فلعلّه لما ذكر ، وإن أراد به الطاعات والمجاهدات الصعبة ، فمن الظاهر أنها جميعا بعد التمرّن والتعوّد تصير سهلة كما هو الحال في كل عمل صعب بعد الاعتياد.

وأما هطل الكرامة وتحدب الرحمة وتفجر النعم ووبل البركة ، فالظاهر أنها هي الفيوضات الباطنيّة الواردة لأهل التقوى من خزائنها الغيبية من المعارف والعلوم والارزاق المعنوية والصورية المثالية وغيرها مما يعلمه أهله ، أو مع البركات الظاهرية في ماله وعمره وغيرهما ، وسائر الخيرات الصورية والمعنوية ، الّتي منها أن يجعل له مخرجا ، يرزق من حيث لا يحتسب على ظاهر الآية الشريفة (١).

وهذا كلام اجمالي عسى أن تطلع على كثير من التفاصيل فيما بعد ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ.

__________________

(١) المراد منها آية ٢ ـ ٣ من سورة الطلاق.

٤٣٠

ثم إنه ربما يستفاد من نسبة الهدى في صفة القرآن إلى المتقين ، ومن قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) على ما مرّ من دلالته على الحصر ، انحصار الهدى الالهية في المتقين والمؤمنين الموصوفين بتلك الصفات ، وأن القرآن هدى لهم لا ـ لغيرهم. فالظاهر من ذلك أنّ طريق تحصيل تلك الهداية والاهتداء بالقرآن هو تحصيل تلك الصفات ، كما أن حصول الفلاح مما يترتب عليها ، وطريق تحصيله هو اكتسابها ، فربما يتحصل من ذلك أن كلا من تلك الصفات والهدى أخوان متلازمان وصاحبان مصطحبان لا يفارق أحدهما صاحبه ، فمن اتصف بتلك الصفات على ما ينبغي أن يكون عليها ، فهو على تلك الهدى الخاص ، والقرآن هدى له بمقتضى منطوق الآية ، ومن لم يتّصف بها لم يكن له ذلك.

فربما يستخرج من ذلك أن كلا منهما علامة للآخر فمن وجد في نفسه هدى ربانية ، وصار القرآن هدى له على غير الوجه الذي يشاركه فيه الكفار والمخالفين والمستغرقين أعمارهم بالفسق والفجور ، كان ذلك علامة لكونه مستجمعا لتلك الصفات ولكونه مفلحا في الآخرة ؛ لأن وجود الموضوع يستتبع وجود كل محمول له فرض. ومن لم يجد ذلك في نفسه ، وظهر له أنه لم يدرك غير ما يشاركه فيه الطوائف الآخر ، كان علامة عدم كونه مستجمعا لتلك الصفات على الوجه الّذي ينبغي أن تكون عليه ، ولخروجه عن تحت المفلحين بناء على استفادة الحصر كما تقدم ذكره. وكذا كل من وجد ما صورته الهداية ، فان ظهر منه تفرّعها على تلك الصفات كان إمارة كونها هداية حقّة إلهية ، سواء كان في آيات القرآن أو غيرها ، وإن ظهر منه عدم تفرعها عليه لم يلزم أن يكون كذلك ، بل لعلّها وسوسة شيطانية باطلة ، ظهرت له في صورة الحق.

وربما يلزم من ذلك أنّ غير التقوى والايمان والاتصاف بتلك الصفات ليس من طرق الهداية ، سواء كان رياضة باطلة ، أو تعلّم العلوم العقلية من الفلاسفة ، أو

٤٣١

غير ذلك.

وهذا كلام سنح بالبال ، فلاحظ فيه ، عسى أن تجده صحيحا باطلاقه ، أو بحسب المقتضى فقط بحسب بعض المراتب ، وتثبّت على طلب الهداية من هذا الطريق إن وجدت الامر على ذلك المنوال المذكور.

٤٣٢

[في معنى الكفر وأقسامه ومراتبه]

[(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)]

ثم إنه لما ظهر بيان صفة الكتاب وهدايته للمتقين ، ووصف المؤمنين بصفاتهم وما يترتّب على الاتّصاف بتلك الاوصاف في هذه الآيات الكريمة ، فصارت صفاتهم وجزائهم العاجل والآجل ظاهرا منها على ما مرّ ، وكانت هذه الآيات في شأنهم ، والآية الاولى في شأن الكتاب بالنسبة إليهم ، ناسب ذكر نبذة الكتاب والمخالفين لهم في تلك الخلال ، وما يترتب على تلك المخالفة من الكفار والمنافقين ، ولعلّ لذلك وأمثاله عقبها بقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...).

روى القمّي في ذيل هذه الآية باسناده عن أبي عمر الزبيري ، عن الصادق عليه‌السلام على ما في النسخة أنه قال :

«الكفر في كتاب الله على خمسة وجوه (١) : فمنه : كفر الجحود وهو على وجهين : جحود بعلم ، وجحود بغير علم. فأمّا الّذين جحدوا بغير علم ، فهم الّذين حكى الله عنهم في قوله : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.)(٢) وقوله : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ

__________________

(١) خ. ل : «أوجه».

(٢) الجاثية / ٢٤.

٤٣٣

لا يُؤْمِنُونَ.» فهؤلاء كفروا [وجحدوا] بغير علم. وأما الّذين كفروا وجحدوا بعلم ، فهم الّذين قال الله تبارك وتعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.)(١) فهؤلاء الّذين كفروا وجحدوا بعلم.

 ـ قال : ـ وحدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى ؛ يقول الله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) يعني : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ»)(٢) ؛ لأن الله عزوجل قد أنزل عليهم في التوراة والانجيل والزبور صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفة أصحابه بنعته ومنهاجه (٣) ، وهو قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ... ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ.)(٤) فهذه صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة والانجيل وصفة أصحابه. فلما بعثه الله عزوجل عرفه أهل الكتاب ، كما قال جلّ جلاله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) فكانت اليهود يقولون للعرب قبل مخرج (٥) النبي : أيها العرب هذا أوان نبي يخرج بمكة ، ويكون مهاجره (٦) إلى المدينة

__________________

(١) البقرة / ٨٩.

(٢) البقرة / ١٤٦.

(٣) في بعض النسخ : «ومبعثه وهجرته» ، وفي بعضها : «ومبعثه ومهاجره».

(٤) الفتح / ٢٩.

(٥) خ. ل : «مجيء».

(٦) في بعض النسخ : «هجرته» ، وفي المخطوطة : «مهاجرته».

٤٣٤

وهو آخر الانبياء وأفضلهم ؛ في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ؛ يلبس الشملة ويجتزي بالكسر والتميرات ، ويركب الحمار العري ، (١) وهو الضحوك القتّال يضع سيفه على عاتقه ، لا يبالي من لاقى ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر ، ليقتلنّكم [الله] به يا معشر العرب قتل عار.

فلما بعث الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الصفة حسدوه وكفروا به ؛ كما قال الله عزوجل : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)

ومنه : كفر البرائة ، وهو قوله : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ)(٢) ؛ أي : يتبرأ بعضكم من بعض.

ومنه : كفر ترك ، الترك لما أمرهم الله تعالى ، وهو قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ)(٣) أي : ترك الحج وهو مستطيع فقد كفر.

ومنه : كفر النعم ، وهو قوله تعالى : (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ)(٤) ، أي : ومن لم يشكر نعمة الله فقد كفر.

فهذه وجوه الكفر في كتاب الله.» (٥)

__________________

(١) في القمي : «عرية» ، وفي البحار : «العرية».

(٢) العنكبوت / ٢٥.

(٣) آل عمران / ٩٧.

(٤) النمل / ٤٠.

(٥) القمي ، ج ١ ، ص ٣٢ ؛ والبحار ، ج ٧٢ ، باب الكفر ولوازمه وآثاره ، ص ٩٢ ، ح ٢.

٤٣٥

وعن الكليني باسناده عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزوجل ، قال :

«الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه ، فمنها : كفر الجحود والجحود على وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البرائة ، وكفر النعم.

فأما كفر الجحود [فهو الجحود] بالربوبية ، وهو قول من يقول : «لا ربّ ولا جنّة ولا نار» ، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم «الدهرية» ، وهم الّذين يقولون : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) ، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت (١) منهم ، ولا تحقيق شيء مما يقولون ؛ قال الله عزوجل : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ، وذلك كما يقولون. وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني : بتوحيد الله. فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر من الجحود على معرفة ، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقرّ عنده ، وقد قال الله عزوجل : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(٢) وقال الله عزوجل : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ). فهذا تفسير وجهي الجحود.

الوجه الثالث من الكفر كفر النعم ، وذلك قوله تعالى يحكي

__________________

(١) في المخطوطة : «تثبيت».

(٢) النمل / ١٤.

٤٣٦

قول سليمان : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (١) وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ). (٢)

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزوجل به ، وهو قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ* ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ)(٣) فكفّرهم بترك ما أمر الله عزوجل به ، ونسبهم إلى الايمان ، ولم يقبله منهم ، ولم ينفعهم عنده ، فقال : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.)(٤) والوجه الخامس من الكفر كفر البرائة ، وذلك قول الله عزوجل يحكي قول إبراهيم ـ على نبينا وآله وعليه‌السلام ـ : (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ)(٥) ؛ يعني : تبرّئنا منكم. وقال (٦) : يذكر إبليس

__________________

(١) ابراهيم / ٧.

(٢) البقرة / ١٥٢.

(٣) البقرة / ٨٤ ـ ٨٥.

(٤) نفس الآية.

(٥) الممتحنة / ٤.

(٦) في المخطوطة : «قد».

٤٣٧

[و] تبرّيه من أوليائه من الانس يوم القيامة : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)(١) ؛ (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)(٢) ، يعني : يتبرأ بعضكم من بعض.» (٣) انتهى.

وفي الصحاح : «الكفر : ضدّ الايمان ، وقد كفر بالله كفرا ـ إلى أن قال : ـ والكفر أيضا : جحود النعمة ، وهو ضد الشكر ، وقد كفره كفورا وكفرانا. وقوله تعالى : (إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ)(٤) أي : جاحدون. وقوله تعالى : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً)(٥) قال الاخفش : هو جمع الكفر ؛ مثل : برد وبرود. والكفر بالفتح : التغطية ، وقد كفرت الشيء أكفره بالكسر كفرا أي : سترته. ورماد مكفور إذا سفت (٦) الريح التراب عليه حتى غطّته ـ إلى أن قال : ـ والكفر أيضا : ظلمة اللّيل وسواده ، وقد يكسر الكاف ؛ قال حميد [شعرا] :

فوردت قبل انبلاج الفجر

وابن ذكا كامن في كفر

أي : فيما يواريه من سواد اللّيل. والكافر : اللّيل المظلم ؛ لأنّه يستر بظلمته كلّ

__________________

(١) إبراهيم / ٢٢.

(٢) العنكبوت / ٢٥.

(٣) الكافي ، ج ٢ ، باب وجوه الكفر ، ص ٣٨٩ ، ح ١ ؛ والبرهان ، ج ١ ص ٥٧ ؛ وكذا رواه النعماني (ره) فى تفسيره عن إسماعيل بن جابر ، عن الصادق ، عن أمير المؤمنين ـ عليهما‌السلام ـ ، فراجع البحار ، ج ٩٣ ، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن ، ص ٦٠ ـ ٦١ ، وج ٧٢ ، باب الكفر ولوازمه وآثاره ، ص ١٠٠ ، ح ٣٠.

(٤) القصص / ١٨.

(٥) الاسراء / ٩٩.

(٦) في المخطوطة : «سلقت».

٤٣٨

شيء والكافر : الّذي كفر درعه بثوب ؛ أي : غطاه ولبسه فوقه ، وكل شيء غطّى شيئا فقد كفره. قال ابن السكيت : ومنه سمّي الكافر ؛ لأنه يستر نعم الله عليه ـ إلى أن قال : ـ والكافر : الزارع ؛ لأنه يغطي البذر بالتراب ، والكفار : الزراع.»

أقول : الظاهر على ما صرّح به بعضهم أو جماعة منهم (١) أن أصل الكفر : الستر والتغطية ، كما يشهد له ملاحطة المعاني المذكورة ، فانّ الجامع بينها المشترك بين عناوينها هو ذلك ، بل وغيرها كالكفارة ، فانه يستر الذنب ويغطيه ، كنسبته العفو إليه ، الظاهر كونه من الاندراس والبلى ، والتكفير في مقابل الاحباط فانّه ستر للمعاصي بفعل طاعة ومحوها ، كما أنّ الاقسام الخمسة المذكورة في الحديث كلّها مشتركة في ذلك المعنى ؛ إذ الجحود مع علم وبدونه ستر للحقّ ، وكفر النعم ستر لها ، وتغطية عن نسبتها إلى المنعم بها بترك إظهار بقول أو عمل أو حال أو جحود لها كذلك ، أو ستر المنعم بالنعم واحتجاب عن المنعم بنعمه ، فلا يلاحظها منسوبة إليه ، ولا يعامله معاملة المعطي المنعم ، بل يكون منقطعا إلى النعمة معرضا عن موليها ومعطيها.

وأما الكفر بترك ما أمر الله عزوجل ، فيمكن إدراجه تحت كفر النعم لترك استعماله النعمة المتعلّقة بذلك المأمور به فيما أراده المنعم منه ؛ كالزاد ، والراحلة ، وصحة البدن ، وتخلية السرب ، والفراغ من الاعذار ، ونعمة الهداية ، والايمان بالامر وغير ذلك في مثال الحج. وكنعمة سعة الدار والقدرة وغيرهما في مثال إخراج المجامعين لهم في المذهب من الديار.

ويمكن أن يجعل سترا للتكليف والامر ، حيث انّ الاعراض عن الامتثال وعن الامر ستر له في مقام العمل ، كأنّه ممّن لم يؤمر ولم يرد منه ذلك ، أو سترا عن الامر المكلّف حيث إنه أعرض عن إطاعة مولاه ، كأن مولاه مستور عنه ، أو

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٤١ ؛ وأنوار التنزيل ، ص ١٠.

٤٣٩

سترا عن الايمان حيث لم يعمل بمقتضاه.

وأما كفر البرائة ، فلان البرائة تقتضي إعراضا وإدبارا من المتبري عن المتبرّئ عنه ، وهو في معنى ستره أو التستر عنه ؛ إذ لم يتوجه بقلبه إليه ، بل نفر عنه وأدبر والقلب مع محبوبه ، والمرء مع من أحب معنى وإن لم يكن معه مجتمعا في الصورة.

وحينئذ فيشبه أن يكون الكافر المقابل للمؤمن هو من يكون ساترا للحق ، أو متسترا عنه لكونه شاكّا أو جاحدا له لا يقبله ، بل يعاند ويدفعه باطنا أو ظاهرا أو معتقدا خلافه بالجهل المركب ، فان الشاك والجاهل المركب غائبان عن الامر المشكوك فيه ، مستوران عنه ، كما أنّ المؤمن بالشيء كالمشاهد له الحاضر عنده والجاحد ساتر للحقّ الّذي يجحده عن قلبه أو ظاهره ، أو عن أعين المخالطين له ؛ إذ ربما يصحّ أن يقال : إنّ الستر والانكشاف في الحق سبحانه لما لم يمكن من جهة ظهوره وخفائه في نفسه ، بل من حيث ظهوره على القلب واستتاره عنه ، فالمؤمن قد ظهر الحق لقلبه وقبله ، والكافر ساتر له عن قلبه بشكّه أو جهله المركب ، أو بجحوده وإبائه وعناده. أو يقال : إن الحق سبحانه لمّا كان ظاهرا بأدلّته وآياته وبيناته بحيث يظهر لكل من لم يكن متسترا عنه بساتر ، ومحتجبا عنه بحجاب صوري أو معنوي ، كان الكافر الشاك ، أو الجاحد ، أو المعتقد خلافه هو المتستر عن الحق بشكّه ، أو سبب شكّه وخطائه من عصبية أو تقليد أو هوى أو غير ذلك ، أو بجحوده وعناده ، فكأنه يدفع ظهور الحق له بستره. أو يقال : إن من شأن القلب الانساني أن يكون مصدقا للحق عند سلامته ابتداء ، أو بعد قرع سمعه بالادلة المنصوبة عليه ، أو ورودها عليه من سائر طرق الادراك. فمن لم يحصل في قلبه العلم إنما منعه عنه مانع هو حجاب وستر بينه وبين الحق. وكذا من شأنه قبول الحق عند وروده عليه ، فالجاحد يجحد لتحقق مانع حجبه عن التسليم

٤٤٠