مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

أنّ إشراق الاسلام كان في ظاهر الناس قويّا ، ثمّ سلخ الله من اللّيل النهار ، فاذا هم مظلمون ، وذهب الله بنورهم عند قبضه صلى‌الله‌عليه‌وآله فصاروا في ظلمات لا يبصرون نورهم الّذي هو أهل البيت ، فأظلمت الدنيا ، وبقي أهلها في ظلمة اللّيل لا يبصرون النور الّذي هو الامام.

ويناسبه إطلاق الاضائة أوّلا الّذي هو صفة الشمس ، وذكر النور في الذهاب به ، الّذي هو صفة القمر ، فالمضيء الشمس ما لم يسلخ ، والمذهب به هو القمر ، وليس الذهاب به إلا استصحاب الحقّ إيّاه ، والمضيء به معه لا الانعدام على ما سبق ، وهو مقام توجّهه إلى الله سبحانه ، وتفرّده عن الخلق.

ويمكن أن يكون الرواية ناظرة إلى تطبيق المثال الخارجيّ المذكور في الآية إلى عالم المعنى ، فيكون مستوقد النار هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإضاءته إشراق نور الاسلام وظهور كلمته ، والنور نور الامام ، وإذهاب الله بالضياء هو ارتحال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبقائهم في الفتنة العمياء الحادثة بعده.

ويناسبه عدم التعبير بضمير المفرد المطابق للمستوقد ؛ إذ لم يذهب الله بنور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حدّ نفسه ، ولم يتركه في الظلمات ، بل أذهب بما أشرق عليهم من نوره عنهم ، وترك هؤلاء في ظلمات لا يبصرون.

وكما أنّ نور القمر مأخوذ من الشمس ، كذلك علم الامام من علم الرسول ، فالشمس هي المنيرة أوّلا ، كما أنّ النبيّ هو المنير الاوّل في عالم المعنى ، وهو الضياء المشرق في النهار الّذي هو عالم الظاهر ، والقمر هو المنير ثانيا خلافة عن الشمس ووساطة بينها وبين العالم ، كما أنّ الامام هو الثائي في مقام المعنى وإشراقه في الباطن ، والخفاء الّذي يساوقه اللّيل في الظاهر. وكما أنّ لعالم الظاهر نهارا وليلا ، كذلك لنور الهداية زمان ظهور وإشراق ، وزمان انسلاخ نهار عن اللّيل وخفاء تامّ له.

٥٦١

وعن ابن بابويه باسناده عن إبراهيم بن أبي محمود ، قال :

سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فقال : «إنّ الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلالة فمنعهم المعاونة واللّطف خلّا بينهم وبين اختيارهم» (١).

وكأنّه عليه‌السلام أراد به أنّ الله لا يوصف بترك المخلوق بحاله ؛ إذ لو ترك وقطع عنه المدد والفيض لم يبق له وجود ، وصار معدوما محضا لم يبق له شيئيّة بخلاف المخلوق الذي يوصف بترك الشيء بحاله ، ودفع التصرف عنه بوجه من الوجوه ، ويصير خارجا عن قبضته وتقليبه وتصرّفه وجريان حكمه عليه. وأمّا الحقّ القيّوم ، فلا يمكن أن يخرج شيء من قبضته وتصرّفه وملكه وقضائه وقدره وفيضه ، لكنّه بعد تمام الحجّة عليه وظهور عدم رجوعه يمنعه المعاونة على الخير واللّطف المقرب إليه ، أو مطلق اللّطف بالمعنى العرفي ، وخلّى بينه وبين اختياره ، وولاه ما تولّى ، وأبقى عليه وجوده واختياره ، وما يتوقّف عليه أحدهما في حال كفره أو عصيانه حتّى صار عاصيا بما أمدّه به وأعطاه وجاريا عليه في ذلك قضاؤه وقدره ، ومحفوظا في حاله ومقامه.

ويمكن أن يكون إشارة إلى أنّ ترك ما من شأنه أن يفعل لا يصدر منه سبحانه كما يصدر من الخلق ، بل علمه بعدم الرجوع أخرجهم عن شأنيّة الاعطاء فمنعوا وتركوا على حالهم ، فهم الموجبون للترك على أنفسهم ، وحرموها عن

__________________

(١) أورده ـ رحمه‌الله ـ في العيون ، ج ١ ، باب ١١ ، ص ١٠١ ، ح ١٦ ؛ وكذا في الصافي ، ج ١ ، ص ٦٣ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٥ ، ح ٤ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٦ ، ح ٢٦.

٥٦٢

[في بيان معنى الصّمم والعمى والبكم]

[وظهورها في الدنيا والآخرة]

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)

يعني : يصمّون في الآخرة في عذابها. «بكم» : يبكمون هنا بين أطباق نيرانها. «عمي» يعني : يعمون هناك ، وذلك نظير قوله عزوجل : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)(١) (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً)(٢) كذا عن تفسير الامام عليه‌السلام في ذيل ما تقدّم ظاهرا.

أقول :

كونهم أصمّ وأعمى وأبكم في الآخرة يشهد عند أولى الالباب أنّ لهم صمما وعميا وبكما باطنيا غيبيا في الدنيا لم تظهر فيها لأهل الدنيا ، وإنّما ظهرت في الآخرة الّتي هي يوم تبلى السرائر وتبدى الضمائر ، فانّ الدنيا مزرعة الآخرة بنوالها ونكالها ، وثوابها وعقابها. وكيف يوجد في الزرع وقت حصاده ما ليس في البذر وقت زراعته؟ ولعلّ في ذيل الآية المتقدّمة إشارة إليه ، وهو قوله عزوجل : (قالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)(٣).

__________________

(١) طه / ١٢٤.

(٢) الآية الاخيرة : الاسراء / ٩٧ ؛ والحديث : راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٢ ص ٥٥٩.

(٣) طه / ١٢٥ ـ ١٢٦.

٥٦٣

بمعدن طيّب.» (١).

ثمّ إنّ نظير هذا المعنى المنتزع من المثال المذكور في الآية يحصل لأهل المجاهدة وإصلاح القلب ، فانّه كثيرا ما يحدث لهم مواهب وأحوال حسنة ، وإشراقات أنوار غيبيّة وغير ذلك ، ثمّ يتعقبه الخمود وانقلاب الحال إلى ما كان قبله أو أسوء منه ، وذلك لكونه عارضا ليس له في قلبه أصله ، ولم يتمكّن من باطن الغيب ، وهو أيضا من النفاق بالقياس إلى مقام حقيقته ، وإن كان من مقام الايمان بالقياس إلى ما نزل عليه ، فانّ للايمان درجات ومراتب ، كما يظهر من أخبار عديدة مذكورة في محالّها (٢).

وربّما يرى هؤلاء في مبادئ أحوالهم رؤيا مطابقة لما ذكر في الآية ، ويكشف ذلك عن وجود النفاق بالمعنى الاعمّ في نفس من رأى تلك الرؤيا إن كان ما يراه في منامه ناظرا إلى أحوال نفسه وباطن حاله. وحينئذ فلا بدّ له من السعي والمجاهدة إلى أن يصل إلى حقيقة ذلك الامر الصوري ، والله الهادي.

__________________

(١) رواه علي بن عيسى (ره) في كشف الغمة ، ج ٢ ، باب في فضائل الامام أبي عبد الله الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٥٨ ؛ ونقله المجلسي (رض) في البحار ، ج ٧٨ ، باب مواعظ الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٢٠٢ ، ح ٣٣.

(٢) راجع مبحث الايمان ذيل آية : «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» ، وقد أورد المصنف ـ رحمه‌الله ـ فيه أخبارا في هذا المعنى.

٥٦٤
٥٦٥

وكذا قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)(١).

إلى غير ذلك وقد تكرّر في الآيات والاخبار الوصف بالعمى والصمم والبكم وما في معناها على وجه ظاهره تحقّقها فعلا ؛ كما نقل عن مواعظ المسيح ـ على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ـ أنّه قال :

«ألم تكونوا عميا فبصّركم فلما بصّركم عميتم؟ ويلكم! ألم تكونوا صمّا فأسمعكم ، فلمّا أسمعكم صممتم؟ ويلكم! ألم تكونوا بكما فانطقكم فلما أنطقكم بكمتم» (٢).

ومن تلك المواعظ أنّه قال :

«بحقّ أقول لكم : إنّ الدنيا خلقت مزرعة يزرع فيها العباد الحلو والمرّ والشرّ والخير ؛ الخير له مغبّة (٣) نافعة يوم الحساب ، والشرّ له عناء وشقاء يوم الحصاد» (٤).

وقد سبق منّا مراتب من البيان في شرح الختم على القلب والسمع ، وغشاوة البصر ، والسمع المختوم عليها أصمّ عمّا ختم عليه ، والعين المغشيّ عليها أعمى ، واللّسان الّذي من شأنه الحكاية عمّا في القلب إذا كان القلب مختوما عليها فليس له حكاية عمّا ختم عليه ؛ إذ الختم مانع عن الدخول باعتبار ، ومن الخروج والاظهار باعتبار آخر ، والاصل في الاظهار اللّسان ، والمانع عن الدخول رافع للموضوع

__________________

(١) الاعراف / ٢٩.

(٢) رواه الحراني (ره) في تحف العقول ، باب مواعظ المسيح ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧ ؛ ونقله المجلسي (ره) في البحار ، ج ١٤ ، باب مواعظ عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٣١٢ ـ ٣١٤ ، ح ١٧.

(٣) «المغبة» : عاقبة الشيء.

(٤) راجع المآخذ المذكورة في تعليقة ٢ من هذه الصفحة.

٥٦٦

بالنسبة إلى الاظهار ؛ إذ الاظهار فرع الوجود في القلب. وكما أنّ في الباطن عينا وبصرا كذلك للانسان لسان باطنيّ غيبيّ به يذكر صاحبه الحقّ سبحانه ذكرا باطنيّا ، ويقرأ القرآن كذلك. وكما أنّ للقلب نورا معنويّا به يظهر حقيقة المسموع والمبصر والمعقول ، كذلك للانسان مقام إظهار المعنى بالاشراق من دون كلام لفظيّ. وكما أنّ في القلب والسمع والبصر موانع عن التأثير والادراك الواقعيّ للحقّ كذلك للّسان مرض يمنعه عن الاقرار بالحقّ والاذعان به ، كما أنّ البكم مرض صوريّ يمنعه عن التنطّق.

وحينئذ فيظهر جملة ممّا يتعلّق بالمقام ممّا قدّمناه في الآية السالفة من الوجوه الظاهرية والمعنويّة ، فراجع وتأمّل. ولعلّه يأتي تتمّة البيان في طيّ شرح سائر الآيات المشتملة على نحو من ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ ، هذا.

وفي تفسير القميّ هنا أنّ :

«الصمّ : الّذي لا يسمع ، والبكم : الّذي يولد من أمّه أعمى ، والعمي : الّذي يكون بصيرا ثمّ يعمى» (١).

وهو بظاهره غريب إلّا أن يؤول إلى ما قيل من أنّ : «الاخرس : الّذي خلق ولا نطق له ، والابكم : الّذي له نطق ولا يعقل الجواب». (٢) وذلك بأن يريد من العمى عمى الباطن وعدم تعقّل الكلام ، ومع ذلك فهو أيضا لا يخلو عن بعد. ألا ترى إلى أنّ جماعة من أهل العربيّة ذكروا هنا أنّه لمّا سدّوا عن الاصاخة إلى الحقّ مسامعهم ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ، وأن ينظروا بعيونهم جعلوا كأنّما ألغيت مشاعرهم؟ ويحتمل في المقام وقوع اشتباه في التعبير ، وأنّه كان في الاصل أنّ الابكم هو الّذي يولد من أمّه غير سميع ، والاصمّ الّذي يولد سميعا

__________________

(١) القمي ، ج ١ ، ص ٣٤ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٥.

(٢) راجع مجمع البحرين.

٥٦٧

ثمّ يصمّ ، وذلك غير خال عن الوجه ؛ إذ الاصمّ بحسب الخلقة أبكم ، إذ ما لم يسمع الالفاظ ويتعلّمها كيف يتنطق بها؟ ويكون قصر الاصمّ على غيره لقضيّة المقابلة له. والله العالم.

[(فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)]

«فهم لا يرجعون إلى الهدى بعد أن باغوا ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، أو أراد أنّهم بمنزلة المتحيّرين الّذين بقوا جامدين في مكافاتهم ، ولا يدرون أيتقدّمون أو يتأخّرون ، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدئوا منه.» كذا ذكروه (١).

ولعلّ الاولى إرادة أنّهم لا يرجعون عمّا هم فيه إلى الاستقامة على الصراط المستقيم بعد فقدان أسباب الاهتداء.

وقال بعض المفسّرين في ذيل شرح الآية : «مثله مثل مريد الطريقة ، الّذي له بداية ، ولازم خلوة وصحبة ، حتّى شرقت له من صفحات القلب شوارق الشوق ، وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق ، فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس ، ويرجع قهقري إلى ما كان من حضيض عالم الطبيعة ، فغابت شمسه وأظلمت نفسه وفضل يومه أمسه.»

__________________

(١) الكشاف ، ج ١ ، ص ٤٠.

٥٦٨

[بيان أحوال المنافقين]

[وامتناعهم عن استماع الحقّ في تشبيه آخر]

[(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ)]

[في معنى الصيّب وما يراد منه]

أو كصيّب فيعل من الصوب ؛ يقال : صاب أي : نزل ، كما في الصحاح. وهو المطر لأنّه يصوب أي : ينزل ويقع ، كما ذكره جماعة (١) ، وفسّره به القميّ (٢) ، والظاهر من الرواية الآتية ـ إن شاء الله ـ ؛ أو السحاب ذو الصوب ، كما ذكره الجوهري وغيره. قال (٣) : «الشماخ وأسحم دان : صادق الرعد صيب.» أي : هطل غير خلب لا عبث فيه ، والاحتمالان متقاربان في المقصود من المثال.

من السماء ، يطلق السماء على هذه المظلّة ، وعلى كلّ ما علاك فأظلّك كما صرّح به الجوهري ؛ قال : «ومنه قيل لسقف البيت سماء وعلى المطر يقال : ما زلنا نطأ السماء حتّى أتيناكم.» وكأنّه من إطلاق مبدء الشيء عليه.

وذكر (٤) في وجه تقييد الصيّب بكونه من السماء مع أنّ كل صيّب كذلك أنّه يفيد حينئذ أنّه غمام مطبق آخذ بجميع الآفاق على ما يفيده تعريف الجنس من غير قرينة التبعيضيّة ، ولو لم يذكر لم يحصل هذه الفائدة لجواز أن يكون الصيّب من بعض الآفاق ؛ إذ كلّ ناحية من السماء وأفق من آفاقها سماء ، ففي

__________________

(١) كالزمخشري ، فراجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٤١.

(٢) القمي ، ج ١ ، ص ٣٤ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٦.

(٣) الكشاف ، ج ١ ، ص ٤١.

(٤) نفس المصدر.

٥٦٩

الكلام حينئذ مبالغات من جهة مادّة الصيّب ؛ الاولى ، لأنّ الصاد من المستعلية والياء مشدّدة ؛ والمادّة الثانية ، لأنّ الصوب فرط الانسكاب والوقوع ؛ ومن جهة الصورة ، لأنّ فيعلا صفة مشبّهة دالّة على الثبوت ؛ ومن جهة العارض ، لأنّ التنكير للتعظيم والتهويل ، وأمدّ ذلك بقوله : «من السماء» دلالة على أنّه مطبق لا يختصّ بسماء دون سماء.

وقال بعضهم (١) : «إنّ في ذكر السماء هنا دلالة على أنّ السحاب من السماء ينحدر ، ومنها يأخذ ماءه ، لا كزعم من يزعم أنّه يأخذه من البحر.» وأيّده قوله سبحانه : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ.)(٢).

وفيه أنّه مبنيّ على حمل السماء على الجوهر المحيط بالارض دون مطلق ما علا وأظلّ ، على أنّ المراد من كونه من السماء كون انحداره منه بأن يكون الماء نازلا من السماء نزولا ظاهريّا كنزول المطر من السحاب ، لا مطلق كون السماء مبدء له بأن يكون دورانه أو إلقاء شعاع ما فيه على الاجسام الرطبة معدّا لتكوّنه ونزوله ، ولا أن يكون النزول معنويّا بأن يكون له نحو وجود وثبوت في ملكوت السماء وباطنه مقدّما على ظهوره وتحقّقه عندنا ، فينزل منه إلينا ، كما لعلّه المراد من قوله سبحانه : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)(٣) ومن قوله سبحانه : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)(٤).

وستعرف الحال في ذلك المطلب ممّا سيمرّ عليك في خلال التفسير ـ إن شاء الله تعالى ـ.

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) النور / ٤٣.

(٣) الذاريات / ٢٢.

(٤) السجدة / ٥.

٥٧٠

(فِيهِ ظُلُماتٌ)

أي : في الصيّب على الظاهر ، ولعلّ ظلمته على تقدير إرادة السحاب لكونه أسحم مطبقا منضمّة ظلمته لسحمته ، وتطبيقه إلى ظلمة اللّيل المستفاد من قوله سبحانه : «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ـ الخ» (١) وإن لم يكن ظلمة اللّيل في المطر حقيقة ، إلا أنّها باعتبار انضمامها إليهما يصحّ جعله في السحاب بتبعيّتهما ؛ وعلى تقدير إرادة المطر ظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة أطلال غمامه مع ظلمة اللّيل.

(وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)

[في بيان حقيقة الرّعد والبرق وكيفيّة ظهورهما]

الرعد : الصوت الّذي يسمع من السحاب كما في الصحاح وغيره (٢) ، بل قال بعضهم إنّ : «في كلام أهل اللّغة الرعد : صوت السحاب» (٣).

والبرق الّذي يلمع من السحاب من النور والضياء من برق الشيء بريقا إذا لمع ، أو يكون هو الاصل المأخوذ منه ذلك ، وما ذكر هو الظاهر من العرف واللّغة.

وقيل : «إنّ الرعد صوت ملك يزجر السحاب» (٤) وكأنّه يريد بيان مبدء ذلك الصوت المسموع من السحاب ، لا بيان معنى اللّفظ.

وروي عن ابن عباس ومجاهد أنّ : «الرعد هو ملك موكل بالسحاب

__________________

(١) البقرة / ٢٠.

(٢) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٤١.

(٣) راجع مجمع البحرين.

(٤) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٧.

٥٧١

يسبح» (١).

وذكر الطبرسي في المجمع أنّه المرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

وعن الاوّل أنّ : «الملك الذى اسمه الرعد هو الذي يسمع صوته» (٢).

وروي عنه أيضا أنّه قال : «انه ريح تختنق تحت السماء» (٣).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«انّه مخاريق الملائكة من حديد تضرب بها السحاب ، فينقدح منه النار» (٤).

وفي مجمع البحرين في الحديث :

«البرق مخاريق الملائكة تضرب السحاب ، فتسوقه إلى الموضع الّذي قدّر الله فيه المطر» (٥).

وفي حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إن الله ينشئ السحاب ، فينطق أحسن النطق ، ويضحك

__________________

(١) راجع التفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ٢٨٠ ؛ والتبيان ، ج ١ ، ص ٩٢ ؛ ومجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٧ ؛ وكذا في نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٧.

(٢) نقله الطريحي (ره) في المجمع.

(٣) أورده الشيخ (ره) في التبيان ، ج ١ ، ص ٩٢ ؛ والطبرسي (ره) في المجمع ، ج ١ ، ص ٥٧.

(٤) نفس المصادر.

(٥) رواه العياشي (ره) في تفسيره ، ج ٢ ، ص ٢٠٧ ، ح ٢٣ ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ إلا فيه «قضى» بدل «قدر» ؛ وأورده الصدوق (ره) فى الفقيه ، ج ١ ، باب صلاة الاستسقاء ، ج ١ ، ص ٣٣٤ ، ح ٩ ، بهذا الاسناد عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ وكذا نقله المجلسي (ره) فى البحار ، ج ٥٩ ، باب السحاب والمطر والشهاب ، ص ٣٧٩ ، ح ٢٠.

٥٧٢

أحسن الضحك ، فمنطقه الرعد ، وضحكه البرق» (١).

وعن ابن عباس :

«أنّه سوط (٢) من نور يزجر به الملك السحاب» (٣).

وعن مجاهد ، «أنّه مصع ملك» (٤). وفسّر المصاع بالمجادلة بالسيوف وغيرها.

وقيل (٥) : إنّه نار تنقدح من اصطكاك الاجرام.

وعن الفقيه أنّه روي :

«أنّ الرعد صوت ملك أكبر من الذباب ، وأصغر من الزنبور» (٦).

وعنه والعيّاشي ، عن الصادق عليه‌السلام :

«أنّه بمنزلة الرجل يكون في الابل فيزجرها هاي هاي

__________________

(١) مجمع البحرين ؛ وكذا أخرجه الرازي في التفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ٢٨٠ ؛ ونقله أيضا المجلسي (رض) في البحار ، ج ٥٩ ، باب السحاب والمطر والشهاب ، ص ٣٥٧.

(٢) في المخطوطة : «صوت».

(٣) التبيان ، ج ١ ، ص ٩٢ ؛ والمجمع ، ج ١ ، ص ٥٧ ؛ ومجمع البحرين.

(٤) التبيان ، ج ١ ، ص ٩٣ ؛ والمجمع ، ج ١ ص ٥٧

(٥) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٧.

(٦) الفقيه ، ج ١ ، باب صلاة الاستسقاء ، ص ٣٣٤ ، ح ١١ ؛ ونقله الفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، ص ٨٦٧ ؛ والمجلسي (رض) في البحار ، ج ٥٩ ، باب السحاب والمطر والشهاب ، ص ٣٨٠ ، ح ٢١ ؛ والعروسي الحويزي (ره) في نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٧ ، ح ٣٠.

٥٧٣

كهيئة ذلك» (١).

ولقائل أن يقول : إنّ ظهور البرق والرعد لاجتماع الاجزاء الناريّة والدخانيّة في باطن السحاب المتراكم الحاصل من الابخرة الّتي اشتمل على تلك الاجزاء النارية والدخانيّة قبل تراكمه ، فاذا اجتمع تلك الاجزاء في باطن السحاب بعد تراكمه ببرودة الهواء العالي أو الزمهرير ، وتكاثفه من جهة البرودة وانعصاره ، وكان أعلى السحاب أشدّ تراكما من أسفله لكون أعلى الهواء أبرد من أسفله ، اندفعت تلك الاجزاء ، وتخلّصت من الطرف الاسفل وشقّته وظهرت بصورة نار ذا بريق ولمعان ، وحصل من ذلك الانشقاق صوت هائل ، فيكون البرق والرعد ؛ لكنّ البرق يدرك بالبصر ، وهو لا يظهر لادراكه زمان ، فهو مقارن للحالة المبصرة حقيقة أو عرفا ، والرعد يدرك بالسمع ، فيلزمه تأخّر الادراك إلى وصول الصوت من السحاب إلى الارض ، كما يشاهد نظيره في آلات النار المصنوعة للحرب ، فان إدراك البصر ضوء نيرانها مقدّم للبعيد على سماع صوتها.

ويشهد لما ذكرنا من المنشأ للرعد والبرق أنّ الاكثر تصاحبهما معا وتأخّر الرعد عن البرق على حسب اختلاف السحاب قربا وبعدا إذا لم يكن السحاب بعيدا جدّا ، وإلا ظهر البرق دون الرعد ؛ لأنّ في إدراك البصر الضوء في الظلمة امتدادا يزيد على قرع الصوت الهواء المقابل له ، وأنّ الاكثر حدوثهما في السحاب المتراكم جدّا ، وفي الربيع وما يقرب منه من حيث الحرارة دون أصل الشتاء

__________________

(١) الفقيه ، ج ١ ، باب صلاة الاستسقاء ، ص ٣٣٤ ، ح ٩ ؛ والعياشي ، ج ٢ ، ص ٢٠٧ ، ح ٢٣ ؛ ونقله أيضا الفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ص ٨٦٧ ؛ والمجلسي (ره) في البحار ، ج ٥٩ باب السحاب والمطر والشهاب ، ص ٣٧٩ ، ح ٢٠ ؛ والبحراني في البرهان ج ٢ ص ٢٨٥ ، ح ٧ ؛ والعروسي الحويزي (ره) في نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٧ ، ح ٣١.

٥٧٤

البارد جدّا لكثرة الاجزاء الناريّة والحرارة فى مادّة السحاب حينئذ الموجبة لكثرة تصاعدها ووصولها إلى الهواء القويّ البرودة الموجب لشدّة عقد السحاب ، واحتباس تلك الاجزاء في باطنه ؛ ولذا لا يظهر دائما أو غالبا شيء منها في سحاب الثلج ؛ إلى غير ذلك من الشواهد والامارات.

لكنّ هذا إنّما هو في عالم الاسباب الطبيعيّة الظاهريّة الكائنة في ظاهر عالم الكون والفساد ، فلا ينافي ذلك وقوع ذلك بسبب الملائكة الموكلين بتلك الاجرام والطبائع ؛ وأن يكونوا هم الفاعين لتلك الافاعيل واقعا بتلك الاسباب الظاهريّة والقوى والاستعدادات ؛ وأن يجري على ذلك الملك الزاجر للسحاب بتلك الاجزاء النارية حيث إنها السبب في تحرّك السحاب وصعوده وانتقاله في حدّ نفسه دون ما يعرضه من جهة الريح ، ونحوه اسم الرعد ، ويقال ذلك الاسم على الملك الموكل بهذا الشأن الذي يستند إليه ظهور هذه الاسباب الظاهريّة في ظاهر عالم الشهادة ، وتوصيفه بأنّه الزاجر للسحاب ؛ وأن يقال : إنّه الملك الموكّل بالسحاب ، وأنّه يسبّح لكونه من جملة الملائكة المسبحين ؛ وأنّ الرعد صوته لكونه المبدء في ظهوره ، كما أنّ الانسان مبدء لظهور كلامه في الهواء في قالب فمه ، مع أنّ حقيقة الانسان مغاير للقالب ؛ وأنّه ريح تختنق تحت السماء إن أراد به الهواء المركّب مع تلك الاجزاء الناريّة ، واختناقه في داخل السحاب الواقع في جهة العلوّ ، أو تحت جوهر السماء ؛ وأنّه مخاريق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فينقدح منه النار لما ذكرنا من كون تلك الاجزاء الناريّة حاصلة من أفاعيل الملائكة دالّة لفعلها وعندهم أصلها ومعدنها.

فان شئت جعلت المخاريق نفس تلك الاجزاء الناريّة ، وكونها من حديد لمشابهتها له جوهرا ، أو كونها عند الاستحالة حديدا أو قريبا به ، وضرب السحاب به شقّ السحاب الملك به ، وانقداح النار منه ظهور لمعانه بعد انشقاقه.

٥٧٥

وإن شئت جعلت المخاريق عبارة عن الاصول الحاصلة عندهم ، وضرب السحاب به عبارة من إلقائها عليه ، وانقداح النار عن ظهور النار منه.

وكذا يمكن وصفه بأنّه يسوقه الملائكة بتلك المخاريق إلى الموضع المقدّر إمطاره لما ذكر من أنّ تلك الاجزاء هي المحرّكة الداخلية ، والحركة المفروضة هي المستندة إلى ذلك الملك استقلالا دون الحركة الحاصلة من جهة الريح مثلا ؛ لاستنادها إصالة إلى الملك الموكّل بالريح المحرّك.

ثمّ إذا لوحظ السحاب مبدء لظهور البرق والرعد بمنزلة انسان كان نطقه والكلام الصادر منه الرعد وضحكه البرق ، ويصحّ التعبير عن البرق بأنّه صوت من نور يزجر به السحاب ، وأنّه مصع ملك إذا شبّه ذلك الامر المعنويّ بالمقاتلة بآلات الحرب ، وذلك الملك الّذي هو المنشأ للرعد يصحّ التعبير عنه بالرعد ، في عالم الملائكة ، كما أنّ الصوت رعد في عالم الشهادة ، او لكونه فعله وصفته ومعلوله ، فيطلق عليه اسمه ؛ إذ ليس هنا لفظ من الالفاظ اللّغويّة أقرب إليه من ذلك اللّفظ.

ولعلّه لكون ذلك الموكّل من أصاغر الملائكة دون أكابرهم يوصف بأنّه أصغر من الزنبور ، ولأنّه ليس في المرتبة القصوى من الصغر بأنّه أكبر من الذباب حيث إنّه أصغر الحيوانات والزنبور أكبر منه ومندرج تحت الصغار. ويصحّ وصف ذلك الملك بأنّه كالرجل يكون فى الابل يزجرها بكلامه ؛ إذ هو ملك موكّل بالسحاب كائن فيه بفعله ، وزاجر له بما يصدر منه.

ولقائل أن ينكر ذلك كلّه ، ويبقي ألفاظ الاخبار على ما يفهمه العرف أوّلا قبل تدقيق النظر ، ولا يلتفت إلى شيء ممّا يخالفه أخذا بحجزتها على حسب معانيها العرفيّه ، أورادّا لها إلى الائمّة ـ صلوات الله عليهم ـ موكلا لعلمها إليهم مسلّما. وهو الاقرب إلى الاحتياط وإن كان الظاهر هو ما ذكر.

٥٧٦

وقريب من هذا المبحث كثير من المباحث ، فعليك بالمقايسة واستخراج العناوين الكلّيّة من البيانات الخاصّة ، لكن بشرط أن لا يطّرد الكلام إلى ما يتعلّق بالديانات وأصول الشرائع وفروعها ، وما يتعلّق بأغصانها وشؤونها. وإيّاك وأن تفتح باب التأويل فيها! وهذا كلام وقع في البين ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول :

إنّه إن جعلنا الصيّب عبارة عن السحاب فكونه مكانا للبرق والرعد ظاهر لخروجهما منه وإن لم يتسمّيا قبل الخروج باسميهما بعد أن يكون هو محلّ خروجهما. وأمّا إن جعل عبارة عن المطر ، فلعلّ جعلها فيه لوقوعهما في أعلاه ومبدئه ، وملابستهما له في الجملة ، وكون ظهورهما وامتداد الصوت والضوء مجاورا له في الهواء الفاصل بين السحاب والارض. ولعلّ توحيدهما مع جمع الظلمات لكونهما في الاصل مصدرين ، أو لارادة المعنى المصدريّ ؛ أعني : الرعد والبرق المصدرين لرعدت السماء رعدا وبرقت برقا ، وتنكيرهما لأنّ المراد أنواع منها كأنّه قيل : ظلمات داجية ، ورعد قاصف ، وبرق خاطف.

(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ)

والجاعلون هم أصحاب الصيّب الّذين وقعوا فيه ، وذلك بأن يقدّر للصيّب المدخول لأداة التشبيه مضافا ، فيكون المشبّه به هو ذو الصيّب حتّى يوافق المشبّه والمثال الاوّل بحسب المساق ، ويكون المضاف حينئذ هو المرجع لهذا الضمير وما بعده.

ويحتمل ترك إضمار المضاف فيه ؛ إذ لا يلزم في هذا النحو من التشبيه أن يكون المفرد المدخول لأداة التشبيه بنفسه مطابقا للمشبّه ، ولا موافقا لما ابتدء به في المثال الاوّل ، ويكون هذه الضمائر راجعة إلى القوم الّذين وقع عليهم المطر

٥٧٧

الّذي كالمذكور حكما أو مقدّر قبلها.

ثمّ إنّ هذه الجملة إمّا حاليّة من أصحاب الصيّب ، كما ذهب إليه بعضهم (١) ، أو مستأنفة كأنّها وقعت جوابا للسؤال عن أنه كيف حالهم مع هذا الرعد ، فقيل : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ) ، ثمّ قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق ، فقيل : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) ، كما ذكره جماعة (٢). ولعلّ الاوّل أقرب.

ثمّ إنّ في نسبة الجعل إلى الاصابع مع عدم وقوعه إلّا على رؤوسها مبالغة حسنة ، ولها نظائر كثيرة ينسب المنسوب إلى الجزء حقيقة إلى كلّه ، كما يقال :

طلعت الشمس في وقت ظهور قرنه.

(مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)

[معنى الصّاعقة]

الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقّة من نار ، والبحث في حقيقتها قريب ممّا تقدّم في الرعد والبرق. فعلى ما ذكر تلك الاجزاء الناريّة إمّا أن تكون لطيفة تنطفي بسرعة ، أو تكون قويّة شديدة غليظة المادّة ، فتصل إلى الارض.

وربّما دخلت في باطنها لقوّة وقوعها ، فتسمّى صاعقة. ويقال الصاعقة لصيحة العذاب أيضا على ما ذكره بعضهم (٣).

وكون جعل الاصابع في الاذان من الصواعق بمعنى كونه من أجلها ، وأنّها الباعثة على ذلك ؛ قيل : إنّ من هيهنا يغني غناء اللام في المفعول له ، فقد يكون غاية يقصد حصوله ، وقد يكون غاية يتقدّم وجوده.

والحذر هو طلب السلامة ممّا يخاف ، وهو منصوب على أنّه مفعول له.

__________________

(١) راجع أنوار التنزيل ، ص ١٦.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ٤٣ ؛ والاية الاخيرة : البقرة / ٢٠.

(٣) راجع الصحاح ؛ والتبيان ، ج ١ ، ص ٩٣ ؛ ومجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٧.

٥٧٨

(وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)

[معنى إحاطة الله سبحانه]

ذكر جماعة أنّ : «إحاطة الله بالكافرين مجاز ، والمعنى أنّهم لايفو [تو] نه كما لا يفوت المحاط به المحيط حقيقة» (١). وقريب منه تفسيرها بأنّه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته.

وعن الاصم : «أنّه عالم بهم فيعلم سرائرهم ، ويطلع نبيّه على ضمائرهم» (٢). وعن مجاهد : «أنّه جامعهم يوم القيامة ، يقال أحاط بكذا إذا لم يشذّ منه شيء» (٣). واحتمل بعضهم (٤) أن يراد بالاحاطة : الاهلاك ، كما في قوله سبحانه : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ)(٥) أي : أصابه ما أهلكه. وأقرب هذه الوجوه هو الوجه الاوّل ، وورائها معنى يعسر بيانه وإدراكها ، ويظهر بملاحظة ما ورد : «أنّه سبحانه مع كلّ شيء لا بمقارنة ، ودون كلّ شيء لا بمزايلة» (٦). وما يقرب من ذلك البيان. ولعلّه يأتي بيان ما له ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وقالوا : إنّ هذه الجملة اعتراضيّة ، وذكروا في نكتة إيراد تلك الجملة الاعتراضيّة : أنّه تنبيه على أنّ الحذر من الموت لا يفيد ، وفي فائدة وضع الكافرين موضع الضمير دلالة على أنّ أصحاب الصيّب كفّار ، ليظهر استحقاقهم شدّة

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ١ ، ص ٣٠٠ ؛ والكشاف ، ج ١ ، ص ٤٢.

(٢) راجع مجمع البيان ، ج ١ ص ٥٨.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الكهف / ٤٢.

(٦) هو كلام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في خطبته ، وفيه «غير» بدل «دون» ، راجع نهج البلاغة ، خ ١ ، ص ٤٠.

٥٧٩

الامر عليهم ، ليكون أبلغ ؛ كما في قوله تعالى : (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)(١).

وقيل : هذا الاعتراض من جملة أحوال المشبّه على أنّ المراد بالكافرين المنافقين ، وأنّهم من عذاب الله في الآخرة وقدرته على إهلاكه إيّاهم في الدنيا بحيث لا مدفع له ، ووسّط بين أحوال المشبّه به تنبيها على شدّة الاتّصال وفرط التناسب.

[وجوه تشبيه المنافقين بما أصابه الصيب]

ثمّ إنّ الكلام في هذا التشبيه نظير ما قدّمناه في التشبيه الاوّل ، وأنّ المناسب بيان تطبيق المفردات والهيئة التركيبيّة معا. فنقول في المقام الاوّل : قد يقال : شبّه دين الاسلام بالصيّب ؛ لأنّ القلوب تحيى به حياة الارض بالمطر ، وما يتعلّق به من شبه الكفّار بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيب الكفرة من الافزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الاسلام بالصواعق ؛ أو الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر ، وما فيه من الرعد بما في الاسلام من فرض الجهاد وخوف القتل ، وبما يخافونه من وعيد الاخرة لشكّهم في دينهم ، وما فيه من البرق بما في إظهار الاسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم ، وما فيه من الصواعق بما في الاسلام من الزواجر بالعقاب في الآجل والعاجل ؛ وقوّي ذلك بما روي عن الحسن أنّه : «مثل إسلام المنافق كصيّب هذا وصفه» ؛ أو أنّه شبّه المطر المنزل من السماء بالقرآن ، وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء ، وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر ، وما فيه من البرق بما فيه من البيان ، وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا والدعاء

__________________

(١) آل عمران / ١١٧.

٥٨٠