مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

قال في الصافي بعد إيراد الروايتين :

«وفيهما دلالة على أن لكلّ إنسان أن يفرغ من حسابه ، ووزن عمله في دار الدنيا بحيث لا يحتاج إليهما في الآخرة ، وهو كذلك عند اولى الالباب.» (١)

أقول :

إن أراد بذلك أنّ كل إنسان يقدر أن يفرغ من مجموع حسابه ووزن عمله بحيث لا يبقى موضع يتأخّر حسابه للآخرة ، ففيه أنّه موقوف على الاطلاع على كلّ عمل من أعماله بجميع ما له دخل فيه ، شرطا كان أو مانعا للصحّة أو الكمال أو القبول ، ابتداء واستدامة ، وانّه علي أيّ وجه من هذه الوجوه وقع ، وعلى كلّيّات كلّ عمل من الاعمال بأجزائها وشرائطها وموانعها ومفسداتها الباطنيّة وشرائط قبولها وموانعه ، وما يحبطها وما يكملها وينميها ، وعلى الاطلاع على كل عمل قبيح صدر عنه بجميع الخصوصيّات الّتي لها مدخل في زيادة قبحه ونقصانه ، وعلى مقدار كلّ عمل حسن أو قبيح في ميزان القسط وغير ذلك ؛ إذ لو لا هذه المعلوم لم يمكن للانسان وزن نفسه ، والتفرّغ عن حسابه ، وأنّى يحصل هذه الامور كلّها للانسان إلا من خرج عن عالم الغرور ، وأعطي نورا يمشى به في الظلمات ، فشاهد بذلك هذه العلوم أو حقيقة الميزان العقليّ لنفسه ، فوزن به نفسه ، وتفرّغ عن المحاسبة. لكنّه مقام لا يستأهل له كلّ أحد إلا أن يراد محض الشأنيّة الّتي كانت في أصل الفطرة ؛ إذ ربّما يدّعى ثبوتها للجميع.

وإن أراد به أنّ له السعي بقدر ما يتيسّر له ، فهو حقّ يشهد بصحّته الاعتبار والاخبار ، ولكنّه لا ينفي الاحتياج إلى الميزان في الآخرة.

وعلى كلّ حال ، فلو أريد به أنّه لا يقع على المحاسب في الدنيا حساب وميزان

__________________

(١) الصافي ، ج ١ ، ص ٥٣.

٣٠١

في الآخرة ، فليس في الخبرين دلالة عليه ؛ إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه ، والقبليّة لا تنفي وقوع شيء بعده لو لم يقتضه ، ولا نجد في اعتبار الالباب شاهدا عليه لو لم يشهد بخلافه ، والله العالم وهو المستعان.

[في دلالة الآيات الثّلاث بالتّرتيب على المبدء والمعاد وما بينهما]

ثمّ إنّ المستفاد من الكلمات الخمسة أنّ منه المبدء وبه البقاء وإليه المعاد. ويندرج فيها عالم البدو والوسط والمعاد ، فكأنّ الآيات الثلاث محيطة بعوالم الاكوان ، جاذبة للقلب المشتغل بشيء منها إليه سبحانه ، حتّى يتحقّق له حقيقة الاسلام المطلق بأخذها بمجامع القلب ؛ إذ لا ملجأ ولا منجا في ذلك إلا إليه سبحانه.

وبه يظهر كون الترتيب اللّفظيّ مطابقا للترتيب المعنويّ إذ مقام الالوهيّة مقدّمة على الربوبيّة المطلقة ، كما يظهر ممّا سبق (١) ، وهي بعنوان الوحدة مقدّمة على كلّ من القسمين ؛ إذ التفصيل هنا فرع الاجمال ، والكثرة فرع الوحدة ، فمرتبة الرحمانيّة والرحيميّة بعد الربوبيّة المطلقة.

ثمّ المقصود الاصليّ من إنشاء القيامة هو ايصال الرحمة لأهله ، ومنها الانتقام من أعدائهم ، فانّه من الرحمة لهم ويتبعه الغضب ؛ إذ الاصل في الغاية هو الرحمة دون الغضب.

ولمّا اندرج الاصل في اسم الرحيم بقي سائر ما اقتضته الحكمة تبعا أو ضمنا ، فدلّ عليه بالاسم الاخير في مرتبته الّتي هي آخر المراتب ، فالناظر إلى الآيات الثلاثة بعين البصيرة ناظر إلى بدو الموجودات ونزولها وصعودها وختمها من حيث ظهور أسماء الله سبحانه عليها ، فهو في نظره إلى ربّه جلّ وعلا بأسمائه سائر في الموجودات بدوا وتوسّطا وختما. وهذا نظر صاحب مقام الوحدة في عين الكثرة.

__________________

(١) راجع ص ٢٨٧.

٣٠٢

[تحقيق حول العبادة والاستعانة]

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ)

عن تفسير الامام عليه‌السلام :

«قال الله تعالى : قولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم : إيّاك نعبد أيّها المنعم علينا ، نطيعك مخلصين موحّدين (١) مع التذلّل والخضوع بلا رياء ولا سمعة.» (٢)

وعن رواية عامّية عن الصادق عليه‌السلام :

«يعني : لا نريد منك غيرك ، لا نعبدك بالعوض والبدل كما يعبدك الجاهلون بك ، المغيّبون عنك.» (٣)

[معنى العبادة وعلّة تقديم المفعول على الفعل]

أقول : العبادة أقصى غاية الخضوع ، وأعلى مراتب التذلّل ؛ يقال : طريق معبّد ، أي : مذلّل ، وثوب ذو عبدة في غاية الصفاقة وقوّة النسج. ولذلك لا يليق بها إلا من هو مولى لأعلى النعم وأعظمها من الوجود والحياة وتوابعها. كذا ذكروه (٤).

__________________

(١) سقطت هذه الكلمة عن بعض النسخ.

(٢) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٤ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٣ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٥١ ، ح ٤٨.

(٣) نقله الفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، ص ٥٣.

(٤) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ١١ ؛ وأنوار التنزيل ، ج ١ ، ص ٣.

٣٠٣

وقد سبق في كلمة الجلالة تفسيره بمطلق التذلّل والخضوع ، وأنّ التخصيص لعلّه باعتبار الانصراف إلى الفرد الكامل ، ولا يليق بالعبادة إلا من كان منعما بالحقيقة ، فليس غيره سبحانه أهلا لها ؛ إذ لا منعم سواه على ما عرفت. وحينئذ فيقرب من التفسير المتقدّم بالاطاعة المقترنة بالتذلّل والخضوع.

وأمّا اعتبار التوحيد والاخلاص ونفي الرياء والسمعة ، فالظاهر أنّه باعتبار تقدّم المفعول على الفعل ، مع أنّ حقّه التأخير عنه ، خصوصا مع كونه ضميرا لا ينبغي الاتيان به منفصلا مع إمكان الاتيان به متّصلا. وهذا يكشف عن وجود نكتة ، وأظهرها في مثل المقام الحصر ، بمعنى : نخصّك بالعبادة ونجعلها مختصّة بك ، فلا نعبد غيرك ولا نشركه في عبادتك. وهو معنى الاخلاص والتوحيد في العبادة ، ونفي الرياء والسمعة الاستقلاليّين والانضماميّين إلى داعي القربة ؛ إذ الاوّل عبادة غيره سبحانه ، إذ هو المقصود بالعبادة في الفرض ، والثاني شرك في العبادة حيث قصد بها الخالق والمخلوق معا.

ولمّا كان للعبادة من حيث الغاية درجات أشرنا إليها في كلمة الجلالة مع كثير ممّا يتعلّق بالمقام ؛ إذ العابد إمّا يجعل الحقّ وسيلة وواسطة لنيل مطلوب ، أو دفع مكروه ، صوريّ أو معنويّ ، دنيويّ أو أخرويّ ، وهذه درجة الخائفين والراجين ، وإمّا يجعل الحقّ غاية عبادته فلا يريد منه بعبادته غيره سبحانه ، وهو العابد بالحقيقة ، وما قبله عبادة تلك الغاية في المعنى ، فكأنّ حقيقة الحصر لم يتحقّق إلا في الثاني ، مضافا إلى ما عساه يشعر به تقدّم الضمير على الفعل من الايماء إلى أنّ العابد ينبغي أن يكون مطمح نظره أوّلا وبالذّات هو الحقّ سبحانه على وتيرة : «ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله.» (١) ثمّ منه إلى أنفسهم لا من حيث ذواتها ، بل من حيث أنّها ملاحظة له عزوجل ومنتسبة إليه ، ثمّ إلى أعمالهم من

__________________

(١) إشارة إلى قول أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ المعروف.

٣٠٤

العبادة ونحوها ، لا من حيث صدورها عنهم ، بل من حيث أنّها نسبة شريفة ووصلة لطيفة بينه جلّ شأنه وبينهم.

وهذه نكتة أخرى لتقدّم المفعول مع ما في تقديم ذكر الله سبحانه من إيراث الخشية والمهابة حتّى لا يلتفت في العبادة يمنة ويسرة ، وإيراث العبد قوّة يسهل بها عليه ثقل العبوديّة ، ومن المطابقة للوجود العيني بتقدّم ما هو مقدّم في الوجود.

مضافا إلى أن (الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ.)(١) فالنفس إذا مسّها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع له جلال الله من مشرق «إيّاك» فتصير مبصرة مستعدّة لأداء حقّ العبوديّة إلى غير ذلك.

[علّة إيراد الفعل بصيغة الجمع]

ثمّ إنّه يشبه أن يكون في إيراد الفعل بصيغة المتكلّم مع الغير إرشادا إلى ملاحظة القارئ دخول الحفظة ، أو حضّار صلاة الجماعة ، أو جميع حواسّه وقواه الظاهرة والباطنة ، بل وجميع جوارحه وشعره وبشره ـ كما ربّما يومي إليه دعاء الركوع ـ أو جميع ما حوته دائرة الامكان ؛ كما قال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(٢). وايذانا إلى أنّ المناسب للعبد أن يرى نفسه حقيرا غير قابل لعرض عبادته منفردا من دون الانضمام إلى جماعة يشاركونه في العرض ، كما يظهر من دأب الرعايا مع الملوك ، مع ما فيه من الفرار عن أنّه لا يليق بنا مع ما نحن عليه من تعظيم الدنيا وأهلها ، والخضوع التامّ لأربابها من الملوك وغيرهم أن نخاطبه سبحانه بما يدلّ على حصر العبادة فيه سبحانه ؛ إذ على تقدير العدول إلى الجمع يمكن أن

__________________

(١) الاعراف / ٢٠١.

(٢) الاسراء / ٤٤.

٣٠٥

يقصد حينئذ تغليب الاصفياء الخلّص على غيرهم ، فيحترز بذلك عن الكذب الظاهر عند من يعلم الضمائر.

مضافا إلى أنّ المناسب للعبد الحامد لله الواقف بين يديه بحقيقة الحمد والحضور أن لا يقصر همّه على إصلاح حال نفسه ، بل يسعى في إصلاح حال إخوانه في الله سبحانه أيضا ، فيدخل نفسه في جملتهم ويتكلّم عن المجموع.

[سبب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب]

ثمّ إنّ الالتفات في هذه الآية من الغيبة إلى الخطاب لعلّه إشارة إلى أنّ القرائة ينبغي أن يكون عن قلب حاضر وتوجّه كامل ، بحيث كلّما أجرى القارئ اسما من تلك الاسماء العليا والنعوت العظمى على لسانه ، ونقشه على صفحة جنانه حصل للمطلوب مزيد انكشاف وانجلاء ، وأحسّ هو بتزايد قرب واعتلاء. وهكذا شيئا فشيئا إلى أن يصير الخبر له عيانا ، والغيبة حضورا ، والبرهان مشاهدة ، فيستدعي المقام العدول إلى الخطاب ، وإلى علوّ مرتبة هذه الآيات القرآنيّة حيث انّها تصيّر قارئها وتاليها بلسانه وقلبه أهلا لمجلس الخطاب ، فائزا بسعادة الحضور والاقتراب. فكيف لو لازم وظائف الاذكار ، وواظب على تلاوته وتدبّر معانيه باللّيل والنهار ، مع ما فيه من جبر كلفة العبادة بلذّة الحضور والمخاطبة وان عرض الهديّة الحقيرة حضورا أقرب إلى القبول من عرضه بدون المواجهة عند الاكابر والملوك ، وهو آية لكون هدايا الحاضرين لديه سبحانه على ما ورد في الحديث القدسي : «أنا جليس من ذكرني» (١) أقرب إلى القبول.

فعلى التالي صرف الهمّ على تحصيل الحضور بين يدي من هو حاضر لا يغيب ،

__________________

(١) رواه الصدوق (ره) في العيون ، ج ٢ ، ص ٤٦ ، ح ١٧٥ ، عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ ... عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ؛ ونقله المجلسي (ره) في البحار ، ج ٩٣ ، باب ذكر الله تعالى ، ص ١٥٦ ، ح ٢٥.

٣٠٦

وهو أقرب من حبل الوريد (١).

[حقيقة العبوديّة والخضوع ومقاماتها]

مضافا إلى أنّ القارئ لمّا ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه الصفات العظام تعلّق قلبه بمعلوم عظيم الشأن حقيق بغاية الخضوع والاستعانة في المهام ، فخوطب (٢) ذلك المعلوم الّذي لا يحقّ العبادة إلا له ، وقد قدّمنا بعض الكلام في العبوديّة في كلمة الجلالة ، وعلى ما سبق من أنّ أصل (٣) الخضوع له مقام في المعرفة ، والملاحظة بأن يعرف نفسه متّسما بسمات لا يليق بها سوى الخضوع والاستكانة للحقّ ويرى نفسه كذلك ، وهو مستفاد من حصر الحمد في الحقّ ، ومن كلمة الجلالة كما سبق ، ومن إضافة الربّ إلى العالمين ؛ لأنّ كلّ شيء وجد في المربوب فهو من ربّه لا من نفسه ، فليس له من نفسه سوى ما يصحّ كونه مربوبا ، وهو الحاجة والفقر ، ومن إضافة الرحمة إليه سبحانه ، فالعباد مرحومون ، والمرحوم هو الخاضع ؛ «أنا عند المنكسرة قلوبهم.» (٤) وخصوصا بالنسبة إلى الرحمة المترقّبة ؛ لأنّ الخضوع مفتاح لتحصيل ما ليس له بحاصل ، ومن إضافة الملك أو المالك إلى يوم الدين كما أشرنا إليه ، فانّ من كان معرضا لوقوعه عليه وهو لا يدري على أيّ وجه يكون حريّ بنهاية التذلّل ، وكلّ من كان اطّلاعه على جهات فقره عاجلا وآجلا ، ابتداء واستدامة من الجهات الغير المتناهية ، كما أنّ النعم الّتي تجبر تلك الحاجات غير متناهية ، وكان نظره إلى هذه الجهات ، كان أعبد في هذا المقام ، خصوصا بعد

__________________

(١) مأخوذ من آية ١٦ من سورة ق.

(٢) كذا في الاصل ولكن الظاهر أن يكون الصحيح : «فخاطب».

(٣) في المخطوطة : «أصله».

(٤) هذا من حديث قدسي ، نقله الفيض (ره) في المحجة البيضاء ، ج ٧ ، كتاب الفقر والزهد ، ص ٣٢٥. وفيه : «أوحى الله تعالى إلى اسماعيل ـ عليه‌السلام ـ : اطلبني عند المنكسرة قلوبهم.»

٣٠٧

تكميل النظر في الاوصاف الخمسة لربّه المذكورة في الآيات الثلاث وغيرها من أسمائه وصفاته سبحانه ، وتقابل تلك الصفات إلى هذه الصفات.

فمن شاهد صفات نفسه بما ذكروه من خواص الامكان وغيرها ممّا لم يذكروه يرى كلّ واحد من صفاته كافيا لذلّته وخضوعه ، كما أنّ كلّ صفة من صفات الله سبحانه ممّا عدّ من خواصّ الوجوب وغيرها كافية في استحقاق وقوع الخضوع له. فقايس وتدبّر لعلّك تستفيد منه ما لا مطمع لك فيه قبله.

وكمال هذا المقام توحيده ، وهو سلب الكمال عن جميع الممكنات وإضافتها إلى الحقّ سبحانه ، وسلب الفقر والنقص عن الحقّ وتعميمهما على جميع دائرة الحق (١) ، حتّى يظهر أنّه لا ينبغي مسمّى الخضوع إلا له سبحانه ، أو بأمره ، أو من جهته.

وهذا هو الّذي ينتج التوحيد في الدعاء والاستعانة. كيف يسأل محتاج محتاجا؟ وأنّى يرغب معدم إلى معدم؟

وله مقام في القلب يسمّى حالة الخضوع والخشوع ، ويظهر آثاره في العين بترك رفع الطرف وخفضه ، وفي الرأس باطراقة وطأطئته (٢) ، وفي المنكبين بالقاء جناح الذلّة ، وفي الصوت بغضّه ، وفي الصلب بانحنائه إلى حالة الركوع ، وفي الجبهة وسائر المساجد عند السجدة. وكلّ هذه خضوعات وتذلّلات ظاهريّة ، وروحها ومبدئها الامر القلبيّ.

وله مقام في مقام الانقياد لما يرد عليه من طرف المعبود ، فمن كان قلبه خاضعا قبل أحكامه ، وامتثلها على ما أراد منه ، ومن كان مستكبرا أبي ولم يقبله. ويعبّر عنه بالطاعة.

وله مقام في عمله مع كلامه معبوده ، وفي حضور أوليائه ، وكلّ شيء له

__________________

(١) كذا في الاصل ، لكن الظاهر : «الخلق».

(٢) أطرق رأسه أي : أماله وأسكنه ، وطأطأ الرأس وغيره أي : خفضه.

٣٠٨

نسبة إليه كبيته ، فمن كان خاشعا عند تلاوته واستماعه ، وعند أولياء الله سبحانه كان خاضعا لله ؛ (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى). (١)

وله مقام صور جعلت خضوعا وعبوديّة كالصلاة ، وتسمّى عبادات بالمعنى الاخصّ ، وهي أمور مخصوصة ومهيّات مجعولة ، جعلت لأن يعبد به الله سبحانه.

ولكلّ من هذه المقامات فروع وأغصان ومكتنفات وآثار. وقد ورد في حديث «عنوان البصري» عن الصادق عليه‌السلام بعض ما أشرنا إليه. قال في مجمع البحرين على ما في النسخة : وحقيقة العبوديّة كما في حديث «عنوان» ثلاثة أشياء :

«أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكا ؛ لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك ، بل يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله ، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرا ، وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى ونهاه عنه. فاذا لم ير العبد فيما خوّله الله ملكا هان عليه الانفاق ، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه إلى مدبّرها هانت عليه مصائب الدنيا ، وإذا اشتغل العبد فيما أمره الله ونهاه لا يتفرّغ منهما إلى المراء والمباهات مع الناس. فاذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا والمسيس والخلق ، ولا يطلب الدنيا تفاخرا وتكاثرا ، ولا يطلب عند الناس عزّا وعلوّا ، ولا يدع أيّامه باطلة. فهذا أوّل درجة المتّقين.» (٢)

__________________

(١) الحجرات / ٣.

(٢) مجمع البحرين ، ج ٣ ص ٩٦ ؛ وروى شيخنا البهائي ـ نوّر الله مضجعه ـ بتمامه في الكشكول ، ج ٢ ، ص ١٨٤ ؛ ونقله المجلسي (قده) في البحار ، ج ١ ، باب آداب ـ

٣٠٩

فرؤية المال ملكا للحقّ من شئون المعرفة به سبحانه ، وأنّه المالك لجميع الاشياء. وأمّا هوان الانفاق عليه ، فهو بمنزلة غصن لبذر المعرفة السابقة. وأمّا وضعه المال حيث أمرهم الله ، فهو ثمرة هذا الغصن ، وأمّا تفويض تدبير نفسه إلى مدبّرها ، فهو غصن أصلها المعرفة بأنّه الربّ المطلق ، وله الربوبيّة كيف يشاء ، وليس له من صفات الربوبيّة شيء لا يقدر لنفسه ضرّا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وأمّا الاشتغال بما أمره الله ونهاه ، فهو مقام الانقياد لما يرد عليه من المعبود.

هذا ما سنح بالبال في شئون العبادة والعبوديّة ، والله العالم بحقيقة الحال.

وفي كلّ هذه المقامات المتصوّرة يتصوّر توحيد وشرك ، وقلّ من توحّد في جميعها بحيث لم يدخل فيه شرك في شيء منها حتّى جنس الخضوع بأن لا يخضع لغيره سبحانه ، أو لأجله ، أو لأمره سبحانه. نسأل الله التوفيق والسداد والعصمة ، وهو المستعان.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)

«على طاعتك وعبادتك ، وعلى دفع شرور أعدائك وردّ مكائدهم ، والمقام على ما أمرت» كذا عن تفسير الامام عليه‌السلام (١).

[معنى الاستعانة]

وأصل الاستعانة طلب المعونة على الفعل ، والظاهر منه في المقام إمّا طلب

__________________

 ـ طلب العلم وأحكامه ، ص ٢٢٤ ، ح ١٧ ، من خطه (الشيخ البهائي) ، عن الشيخ شمس الدين محمد بن مكي ، وقد نقله من خط الشيخ أحمد الفراهانى (ره) ، عن عنوان البصري.

(١) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٥ ، عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٣ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٥٢ ، ح ٤٨.

٣١٠

المعونة في المهمّات أو مطلق الافعال الّتي تتعلّق القصد بها بأسرها ، ومنها : التحرّز عمّا ينبغي التحرّز منها ، تعويلا على إفادة حذف المتعلّق العموم حيث لا معين.

وإمّا بالنسبة إلى خصوص أداء العبادة والقيام بوظائفها الظاهريّة والباطنيّة من الاخلاص وحضور القلب وغيرهما باعتبار رجحان هذا القسم على سائر الافراد بورود اللّفظ عقيب ذكر العبادة ولعلّ الاوّل أولى.

[حصر العبادة والاستعانة لله تعالى]

وهذه الفقرة في إفادة الحصر كسابقه ، وحصر الاستعانة به سبحانه نتيجة التوحيد في اسم الربّ بالمعنى المتقدّم الشامل لإسمي الضارّ والنافع ؛ إذ من يعلم أنّه لا ضارّ ولا نافع سوى الواحد القهار كيف يستعين بغيره ولم يجد معطيا سواه ، ولا مغيث ولا مفزع ولا مهرب ، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه؟ وهذا توحيد غامض بحسب العلم ، صعب المنال حالا وعملا ، وبدونه لا تكمل حصر الاستعانة ، فيكون القائل كاذبا ؛ إذ مادام في النفس اعتقاد أو احتمال أنّ شيئا يمكن الاستعانة منه ، ويقدر على إعطاء معونة له ، وإيجاد عون عليه لا يكمل الانقطاع إليه سبحانه بتوحيد الاستعانة.

وهذا التوحيد من جزئيّات التوحيد في اسم المنعم المندرج تحت اسم الربّ ، فانّ الاعانة وبذل المعونة من أعظم أنواع النعمة ، والانعام باطلاقة من شئون الربوبيّة وإلى ما ذكرنا من صعوبة هذا الحصر ينظر ما ذكره شيخنا البهائي في جملة علل تقدّم العبادة على الاستعانة بقوله :

«إنّ التخصيص بالعبادة أوّل ما يحصل به الاسلام ، وأمّا التخصيص بالاستعانة فانّما يحصل بعد الرسوخ التامّ في الدين ، فهو أحقّ بالتأخير.» (١)

__________________

(١) العروة الوثقى (المخطوط).

٣١١

وملاحظة الربط بين أجزاء الكلام يغني عن هذا التوجيه وأمثاله ؛ إذ المناسب لذكر الصفات المتقدّمة وخصوصا الصفة الاخيرة هو التخصيص بالعبادة وهو الاهمّ ، وبمنزلة النتيجة لما قبله لظهور أن لا مستحقّ للعبادة إلا إيّاه من الآيات الثلاث.

وأمّا التخصيص بالاستعانة ، فهو وإن كان من شئون الربوبيّة وغيرها إلا أنّها في مرتبة سائر الشئون من دون ظهور جهة يظهر خصوصيّتها ، بل هو بطلب الهداية أشدّ ربطا وأظهر تعلّقا ، مع أنّه لو عمّم متعلّق الاستعانة كانت العبادة لكونها أهمّ وأعظم أولى بالتقدّم. وإن خصّصت بالعبادة فالاستعانة مقصودة لغيره ، والمطلوب لذاته أشرف وأولى بالتقديم وإن تأخّر ذو المقدّمة في الوجود عن المقدّمة.

ولعلّ في تذييل حصر العبادة بحصر الاستعانة دفعا لما يعرض القارئ حال دعوى العبادة من مبادي العجب ، أو لما يوهمه الكلام من كونه مستقلا في إيجاد العبادة ، كما أنّ الحقّ مستقلّ في الربوبيّة وغيرهما من الصفات المتقدّمة.

[في دلالة الآية على بطلان الجبر والتّفويض]

ومن هنا يظهر أنّ هذه الآية تبطل الجبر بالشطر الاوّل ، والتفويض بالشطر الثاني ، وأنّ تمسّك كلّ منهما على بطلان الآخر به صحيح ، وعلى صحّة مذهبه باطل بل هو نصّ في نسبة فعل العبادة والاستعانة إلى العبد ، وفي كون المعونة من الله سبحانه ، وإنّما يطلبها العبد منه سبحانه ، فليست في يده وتحت قدرته وإلا لما طلبه من غيره. فالعبد عابد بعون الله سبحانه ، وفاعل كذلك ، والله سبحانه معين له ، لا موجد الفعل عليه قهرا بالمعنى. فالشطر الاخر نفى الجبر أيضا ، كما أنّ باقي السورة نفي لهما معا ، بل كلمة الجلالة بالمعنى المتقدّم تدلّ على نفيهما ، إذ المعبود لا يكون معبودا بالفعل ما لم يكن عابد يعبده باختياره. ومن يستقلّ العباد عنه ويستغنون عنه في أفعالهم ليس معبودا بعنوان مطلق ، وكذلك ربّ

٣١٢

العالمين ينفي التفويض ؛ إذ المربوب بقول مطلق لا يستقلّ عن ربّه وربوبيّته في جهة من الجهات ، وباعتبار أن إعطاء الاختيار للمربوب من الشؤون الداخلة تحت الربوبيّة ينتفي الجبر ، كما أنّها من الرحمة الرحمانيّة ، فلو لم يعط نقصت الرحمة ، ولو استقلّ العبد بها لم يكن كلّ رحمة منه حدوثا وبقاء وكمالا. وفعل الخيرات من آثار الرحمة الرحيميّة أو موجباتها ، ولو لا الاختيار لاستوت العباد كلّها في استحقاق الرحمة الاخرويّة. ولم يكن للدين والحساب والجزاء معنى حتّى يوصف الحقّ بكونه مالكا أو ملكا له ، فتبصّر.

[في شرائط الاستعانة ولوازمها]

ثمّ إنّ الاستعانة إنّما يستحسن في مقام يكون المستعين محتاجا لا يقوي على أمره بنفسه ، ويضعف عن تحمّله بنفسه ، والمستعان عالما بحاله واستعانته ، وقادرا على إعطاء المعونة والعون له ، وجودا لا يبخل بما يقدر عليه ، ومجيبا لطلب الطالبين وسؤال السائلين ؛ إذ لو لم يعلم بحاله أو باستعانته منه ، أو كان عاجزا عنه ، أو قادرا بخيلا لا يبذل على المحتاجين ، أو كان غير معتن بسؤال السائلين لا يجيبهم إذا سألوه كانت الاستعانة لغوا لا يترتّب عليه المقصود. وإذا علم المستعين استجماع هذه الشرائط انبعث في قلبه حالة استدعاء هو حقيقة الدعاء والطلب ، وتصير سببا لاظهار الطلب والسؤال باللّسان وغيره ، وبقدر قوّة هذا العلوم وحضورها عند نفس السائل يقوي حالة السؤال ، ويتأكّد همّه فيه وفي الالحاح به ، وبقدر زيادة الحاجة في السائل يكون لزوم السؤال عليه أشدّ ، وبقدر استجماع المسئول الشرائط كمالا ونقصا يكون عرض السؤال عليه أليق ، وبقدر علم السائل كمال الشرائط في المسئول يكون انصراف قلب السائل نحو الاستدعاء. وهذه هي القاعدة في الدعاء بعنوان مطلق.

٣١٣

[شدّة فقر العبد إلى الله وارتباط حصول الاستعانة مع درجات الفقر]

ثمّ إنّ الممكن لمّا كان من لوازم ذاته الفقر ، بحيث يمتنع امتناعا عقليّا ارتفاع الحاجة منه في مرتبة ذاته في ذاته ووجوده وبقائه وصفاته ، وممّا يتوقّف عليه شيء من ذلك من الامور الداخليّة والخارجيّة ، وفي أفعاله ومقدّمات أفعاله من حوله وقوّته وتوفيقه ، وتهيّىء الاسباب الخارجيّة وغيرها ، وبالجملة هو فقير مطلق في كلّ شأن من شئونه ، وكلّ حيثيّة من حيثيّاته من كلّ جهة من الجهات ، فكلّ فعل عبادة وغيرها أراد صدوره كان محتاجا إلى جميع ما أشرنا إلى جملة حتّى يستتمّ له ذلك ، وليس وجوده قبل زمان الفعل رافعا لاحتياجه ، بل هو محتاج إلى الوجود حال الفعل من دون فرق بين أن يكون قبله موجودا أو لا ، وليس حال الممكن في بقائه إلا كحاله حين الحدوث من جهة الافتقار إلى المؤثّر. فكلّ آن فرض للممكن فهو مفتقر إلى علّة وجودها في ذلك الآن من دون فرق بين وجوده سابقا وعدمه ؛ إذ لا ربط لوجوده سابقا في وجوده لاحقا. وحينئذ فما أعطي من النعم والمقدّمات ليس مغنيا للممكن بحيث يرفع حاجته ، بل هو في كلّ آن محتاج مطلق ، وكلّ آن رفع حاجته باغناء الغنيّ له صورة في مرتبة متأخّرة عن ذاته بقي بالنسبة إلى الحال اللاحق فقيرا مطلقا ، وهكذا يمتدّ الفقر منه والعطاء من الحق بقدر ما شاء من إغنائه.

فاذا عرف العبد حاله بالنسبة إلى جميع شؤونه وأموره من عبادة وغيرها على ما وصفنا تحقّق الشرط الاوّل إذا كان متذكّرا لحاله ، وإذا تذكّر الاوصاف الاربعة للحقّ من الالوهيّة والربوبيّة والرحمانيّة والرحيميّة علم أنّ الحقّ عالم به وباستعانته ، وقادر على إعانته ، وجواد لا يبخل ، وأنّ من شأنه إجابة دعاء المحتاجين ؛ إذ الجميع صفات كماليّة يندرج تحت كلمة الجلالة ، ولو لا العلم بالحال والقدر على الاعانة والجود المطلق لم يستحقّ له إثبات ربوبيّة العالمين ،

٣١٤

وإجابة الدعاء ظاهر من صفة الرحمة ، بل ومن الربوبيّة أيضا. وإذا لاحظ مع ذلك وقوع يوم الدين ظهرت شدّة فاقته إلى أمور دينه ، وتمّ ظهور فقره واضطراره إلى تحصيله. وإذا لاحظ أنّ مالكه هو الله سبحانه يقيم على كلّ أحد على ما يشاء ظهر أنّ السعادة والشقاوة تحت حكمه وملكه ، فلا بدّ من الاستعانة به لتحصيل السعادة ودفع الشقاوة عن نفسه. وإذا لاحظ شدّة خطر طريق الآخرة ودقّة صراطه وأسرار دينه ونكاته علم أنّه لا ينجو من مهالكه أحد إلا باعانة الحقّ سبحانه ؛ «لا الّذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك.» (١)

وبقدر ظهور هذه المعارف في القلب يكون كمال الاستعانة وضعفها وعمومها للأحوال والشؤون كلّها ، واختصارها وانصراف قلب المستعين نحو المستعان منه.

وفي هذا المقام يتفاوت درجات العابد تفاوتا لا تحدّ ، فأعلاها درجة الفقر المطلق ، الّذي اتصّف بصفة الالتجاء والاعتصام الكلّيّ بربّه ، الّذي لا يخرج منه فرد ، وشأن الداعي ربّه أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين أبدا في شأن من شئونه.

وممّا ذكرنا ظهر وجه ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة مفصّلا ، وأنّ القارئ بقلبه الآيات الثلاث يصل إلى مقام العبادة مع التوحيد والاستعانة المطلقة منه سبحانه ، ونفي الاستعانة بغيره. وظهر إجمالا أنّ غير الحقّ لا يليق الاستعانة ، ولو فرض تحقّق هذه الشرائط في غير الحقّ فلم يترك الاستعانة بربّه الموسوم بتلك الاسماء العظام ، ويستعين بمن فيه هو مثله في صفات الامكان والجهل والعجز وقلّة الجود الصوريّ المشغول همّه بنفسه عن غيره. فقايس بين الحالين ، وانظر فيه قبائح الاستعانة بغيره سبحانه.

__________________

(١) هذه فقرة من مناجات علي بن الحسين ـ عليهما‌السلام ـ في أسحار شهر رمضان ، المروية عن أبي حمزة الثمالي ، نقله الشيخ (ره) في مصباح المتهجد ، الجزء الثاني ، ص ٥٢٤.

٣١٥

[تحقيق حول الهداية والصراط]

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)

عن المعاني وتفسير الامام عليه‌السلام عن الصّادق عليه‌السلام : يعني :

«أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك ، والمبلغ إلى جنّتك (١) ، والمانع من أن نتّبع أهوائنا فنعطب ، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك.» (٢)

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : يعني :

«أدم لنا توفيقك ، الّذي أطعناك به فيما مضى من أيّامنا (٣) حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.» (٤)

[معنى الهداية]

أقول : الهداية مطلق الارشاد والدلالة بلطف سواء كان معها وصول إلى البغية أم لا ، وسواء تعدّت إلى ثاني المفعولين بنفسها أو بالحرف ، بل لا يبعد أن يكون التقييد باللّطف أيضا زائدا ، فيكون مطلق الارشاد وإرائة الطريق هداية ؛ لكنّ الارشاد والدلالة إذا لم يقبله المهديّ ، ولم يعمل بحسبه لما لم يظهر أثره

__________________

(١) في المعاني : «دينك».

(٢) المعاني ، باب معنى الصراط ، ص ٣٣ ؛ وتفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٥ و ١٦ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٣.

(٣) في المعاني والصافي : «في ماضي أيامنا».

(٤) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٢ من هذه الصفحة.

٣١٦

في الخارج ، فربّما يفرض كأن لم يكن ، لا أنّ الايصال إلى المطلوب معنى آخر للهداية مستقلا ، بل هو ظهور إرائة الطريق في آثاره وغايته المقصودة منه ، كما أنّ كلّ شيء لا يترتّب عليه غايته المقصودة منه ربّما نزّل منزلة عدمه.

قال الجوهري : «هديته البيت هداية أي : عرّفته ؛ هذه لغة أهل الحجاز ، وغيرهم يقول : هديته إلى الطريق وإلى الدار ، حكاها الاخفش.»

والصراط جادّة ، لأنّه يسترط السابلة ؛ أي : يبتلع أبناء السبيل المختلفين ، وقيل : «لأنّهم يسترطون الطريق.»

والمستقيم ما لا عوج فيه.

وربّما ظهر من الروايتين أنّ المراد بالهداية هنا هو إعطاء الهداية والرشاد على وجه يترتّب عليه لزوم الطريق ، ويعبّر عنه بالتوفيق ، فانّ الهداية من شأنها التأثير في العمل على حسبها ، فان لم يؤثّر فإمّا لنقصان فيها لعدم كمالها ، أو لمانع يمنع من تأثيره. ولمّا كان المقصود بالدعاء هو الهداية الكاملة المؤثّرة فسّرت بالتوفيق تارة ، والارشاد للزوم الطريق أخرى ؛ إذ الهداية الّتي لا تؤثّر في العمل ولا يتبعها صاحبها ربّما كان ضررها أكثر من منفعتها ، لأنّه أشدّ تقصيرا من الجاهل ؛ «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.» كما في الحديث (١).

وأمّا تفسير الهداية بإدامتها فليس مجازا ؛ إذ العبد في كلّ وقت وحال محتاج إلى الهداية ، ولو كان مجازا فلعلّه باعتبار مقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث اجتمع له جميع أنواع الهداية إلى الصراط فعلا.

__________________

(١) رواه الكليني (ره) في الكافي ، ج ١ ، باب لزوم الحجة على العالم وتشديد الامر عليه ، ص ٤٧ ، ح ١ ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام.

٣١٧

[معنى الصّراط وصفاته]

وأمّا الصراط ، فعنه عليه‌السلام أنّ :

«الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلوّ ، وارتفع عن التقصير واستقام ، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة.» (١)

وفي المعاني عن الصادق عليه‌السلام :

«هو الطريق إلى معرفة الله ، وهما صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة. فأمّا الصراط في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة ؛ من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الّذي هو جسر جهنّم في الآخرة. ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة ، فتردى في نار جهنم.» (٢)

وعنه عليه‌السلام أنّ :

«الصراط أمير المؤمنين عليه‌السلام(٣)

وفي أخرى أنّه :

«معرفة الامام عليه‌السلام(٤)

وفي أخرى :

__________________

(١) راجع المآخذ المذكورة في تعليقة ٢ ص ٣١٦.

(٢) المعاني ، باب معنى الصراط ، ص ٣٢ ، ح ١ ، عن المفضّل بن عمر ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٤ ؛ والبحار ، ج ٨ ، باب الصراط ، ص ٦٦ ، ح ٣.

(٣) المعاني ، باب معنى الصراط ، ص ٣٢ ، ح ٢ ، عن عبيد الله الحلبي ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٤ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢١ ؛ ورواه أيضا العياشي (ره) في تفسيره ، ج ١ ، ص ٢٤ ، ح ٢٥ ، عن داود بن فرقد ، عنه ـ عليه‌السلام ـ.

(٤) القمي ، ج ١ ، ص ٢٨ ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ؛ والصافي ، ج ١ ص ٥٤ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢١.

٣١٨

«نحن (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(١)

وروى القميّ باسناد معتبر عن الصادق عليه‌السلام في قوله : (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال :

«هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ومعرفته ، والدليل على أنّه أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٢) ، وهو أمير المؤمنين في أمّ الكتاب في قوله : (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.)(٣)

ثمّ روى باسناده عن حفص أنّه قال :

«وصف أبو عبد الله عليه‌السلام الصراط ، فقال : ألف سنة صعود ، وألف سنة هبوط ، وألف سنة حدال.» (٤)

وباسناده عن سعدان بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«سألته عن الصراط ، فقال : هو أدقّ من الشعر ، وأحدّ من السيف ، فمنهم من يمرّ عليه مثل البرق ، ومنهم من يمرّ عليه مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمرّ عليه ماشيا ، ومنهم من

__________________

(١) المعاني ، باب معنى الصراط ، ص ٣٥ ، ح ٥ ، عن ثابت الثمالي ، عن علي ابن الحسين ـ عليهما‌السلام ـ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٤ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢٢.

(٢) الزخرف / ٤.

(٣) القمي ، ج ١ ، ص ٢٨ ، عن حماد ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ ورواه أيضا الصدوق (ره) بهذا الاسناد في المعاني ، باب معنى الصراط ص ٣٢ ، ح ٣ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢١ ؛ وأورده أيضا السيد هاشم البحراني (رض) مع الاحاديث المتقدمة في هذه الآية في معالم الزلفى ، الباب الثاني والثلاثون من الجملة الاولى ، ص ٢٦ و ٢٧.

(٤) الحدال بضم الحاء المهملة : الاملس كما في القاموس وفي المخطوطة : «خذال» ، وفي نور الثقلين : «حذال». والحديث : نفس المصادر غير المعاني ؛ وهكذا أورده محمد ابن على بن إبراهيم في كتاب «العلل» كما في البحار ، ج ٨٥ ، باب القراءة وآدابها من كتاب الصلاة ، ص ٥٢ ، ح ٤٣.

٣١٩

يمرّ عليه حبوا ، ومنهم من يمرّ عليه متعلّقا ، فتأخذ النار منه شيئا وتترك منه شيئا.» (١)

وفي رواية أخرى : «أنّه مظلم يسعى الناس عليه على قدر أنوارهم.»

أقول :

وتحقيق الكلام في الصراط بحيث يجتمع به هذه الاخبار يقتضي بسطا ما في الكلام لا بأس بايراده هنا ؛ لأنّه من المهمّات ، ويتفرّع عليه كثير من المطالب ، فنقول ـ وبالله التوفيق ، ومنه الاستعانة إلى سواء الطريق ـ :

إن لكلّ من أمثال هذه الكلمة معنى ظاهريّا وحقيقة بمنزلة الصورة والمعنى ، وكلاهما حقّ صحيح.

[الصّراط في الدّنيا هو الدّين]

أمّا المعنى الظاهري للصراط ، فهو أنّ لكلّ مقصد من مقاصد الانسان وسائل ومقدّمات لا يصل إليه إلا بها ، ويعبّر عنها بالطريق وما يرادفه لها ، فيقال : طريق تحصيل الغنى هو التجارة ، وطريق حصول الصحّة للمريض شرب الدواء ، وطريق قرب السلطان خدمته ، ووجه المناسبة واضح ، فانّ الانسان كما لا يصل إلى المكان الذي قصده إلا بطيّ طريقه ومسافته ، كذلك لا يصل إلى تلك المقاصد إلا بطيّ تلك الوسائل والمقدّمات ، فهي واسطة بين الانسان ومقصوده ، وكلّ جزء من أجزاء هذه الواسطة حصل قرب حصول المقصود له ، كما يقرب الغاية المكانيّة بطيّ جزء المسافة.

وحينئذ فنقول : لا شكّ أنّ الوصول إلى نعيم البرزخ والآخرة بأقسامها

__________________

(١) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٣ ص ٣١٩ ؛ وأيضا رواه الصدوق (ره) في الامالي ، المجلس الثالث والثلاثون ، ح ٤.

٣٢٠