مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

نوعا من الاغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله ، ولهم من بين الآلام العظيم نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.»

هذا ، ولعلّ في ايراد الجملة خبرية ظاهرة في الحال دلالة على ثبوت العذاب لهم فعلا وإن لم يشعروا به. وذلك إمّا باعتبار العذاب الاخروي ، فباعتبار مخلوقية ما يعذب به فعلا على ما نطقت به الادلة الكثيرة وإن لم يقع التعذيب بعد ، إلا أنّه ثابت لهم. وإمّا باعتبار العذاب المعنوي ، فهو الآن موجود ، وأهله معذّبون بها ، ولكن لا يشعرون بعذابهم وآلامهم ، فاذا خرج عن جلابيب أبدانهم ، وكشف لهم عن حالهم ، وارتفعت عنهم موانع الادراك ، شاهدوا أنفسهم معذّبين بأنواع العذاب الروحاني ، مضافا إلى سائر أنواع عذاب عالم البرزخ والقيامة ، ولو ارتفعت في حال حياته الموانع عنه من تخديرات الطبيعة ، وشغل النفس الانسانية بأسباب هذه الدار الفانية وخيالاتها ، والظلمة التي اكتسبته حتّى صار ناسيا لنفسه ، والعلائق الشاغلة له عن نفسه وغير ذلك ، لشاهد نفسه اليوم معذّبا بالعذاب الروحاني.

[شرائط إدراك العذاب الباطنيّ وكيفيّته]

فإن قلت : فهل يمكن مشاهدة ذلك في حال الحياة بارتفاع الموانع مع بقاء الحياة؟

قلت : أمّا للمتجرّدين عن جلابيب الطبيعة الذين صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالملاء الاعلى ، فهو ممكن واقع على قدر مراتبهم. ولعلّ في ظاهر الكلام المتقدّم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) وغيره دلالة وإشارة اليه. وإثبات ذلك بالادلة ، ولو أمكن لا ينفع لنا في مقام اليقين بعد أن لم تكن من أهله وإن ترتب عليه

__________________

(١) تقدم في ص ٤٥١.

٤٦١

منافع أخر من تكميل المعرفة بحالهم وطلب مقاماتهم ودرجاتهم.

وأمّا في حقّ غيرهم ، فربما للمتوسّم المتفرّس منها أشياء باماراتها إذا دقق النظر فيها ، وتخلّى عن الشواغل الملهية للنفس عن ذاتها ، وأمعن الفكر في حالها ، وتحقق له خلوة مع نفسه وذاته ، فربما يظهر له آلام أو لذّات لا سبب له من الخارج أصلا ، ولا في أعضائه وقواه ما يقتضيه ، بل لا يبعد أن يكون من أعظم أسباب الميل إلى الملهيات والشواغل ومجالس البطالة وغيرها هو استشعار النفس آلامها الباطنيّة ، فتطلب ما يلهيه ، ويرفع إدراكها لئلا يتألّم بها تألّما فعليّا ، كما لا يبعد أن يكون من أسباب سوء الحال الواقع عند القيام من النوم المشاهد في حقّ كثير من الناس هو إدراك النفس حالها عند تفرّغها عن الشواغل الظاهريّة ، ورجوعها عن الخارج إلى الداخل من جهة النوم. نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا.

٤٦٢

[تحقيق حول النّفاق والمنافقين]

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)

في تفسير القميّ :

«إنها نزلت في قوم منافقين أظهروا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الاسلام ، فكانوا إذا رأوا الكفّار قالوا : (إِنَّا مَعَكُمْ) ، وإذا لقوا المؤمنين قالوا : «نحن مؤمنون» ، وكانوا يقولون للكفّار : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)» (١).

وعن محمّد بن الحسن الصفار والكليني باسنادهما عن الصادق عليه‌السلام (٢) أنّه قال :

__________________

(١) القمى ، ج ١ ، ص ٣٤ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٩ ، ح ٢. والاية : البقرة / ١٤.

(٢) لا يخفى أن الصفار (ره) رواه باسناده عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ؛ ورواه الكلينى (ره) قائلا عنه ـ عليه‌السلام ـ ، ولم يصرّح باسم المعصوم ـ عليه‌السلام ـ المنقول عنه ، ويظهر منه أن المراد من الضمير هو : الصادق ـ عليه‌السلام ـ. ويؤيده ما ذكره البحراني (ره) في تفسيره بعد نقل الحديث عن الصفار باسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : «وروى هذا الحديث محمد بن يعقوب ؛ عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، بباقي السند والمتن.» لكن المجلسي (ره) حمل الضمير في شرحه لهذا الحديث في المرآة على أبي جعفر الباقر ـ عليه‌السلام ـ وقال : «وضمير «قال» لأبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ لما رواه الكشي عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا جعفر ـ عليه صلوات الله والسلام ـ يقول : ان الحكم بن عتيبة وكثير النواء وأبا المقدام والتمار يعني سالما أضلّوا كثيرا ممّن ضل هؤلاء وانهم ممّن قال الله عزوجل : ومن النّاس من يقول ...»

٤٦٣

«إنّ «الحكم بن عيينة» (١) ممّن قال الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ). فليشرّق الحكم وليغرّب ؛ أما والله لا يصيب العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه‌السلام(٢)

وعن تفسير الامام عليه‌السلام : قال الامام موسى بن جعفر عليهما‌السلام :

«إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا وقّف (٣) أمير المؤمنين عليه‌السلام في يوم الغدير موقفه المشهور المعروف ، ثمّ قال : يا عباد الله ، أنسبوني.

فقالوا : أنت محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

ثمّ قال : أيّها الناس ، ألست أولى بكم منكم بأنفسكم ، فأنا مولاكم أولى بكم من أنفسكم؟

قالوا : بلى يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) خ. ل : «عتيبة». قال في هامش نور الثقلين : «الحكم بن عتيبة كقتيبة الكوفي الكندي كان من فقهاء العامة ، وقيل : «انه كان زيديا بتريا.» وحكي عن ابن فضال انه قال : «كان الحكم من فقهاء العامة ، وكان استاد زرارة وحمران والطيار قبل أن يروا هذا الامر.» وقيل : كان مرجئا. مات حدود سنة ١١٥ ، وقد ورد في ذمّه روايات كثيرة ، منها هذه الروايات ، وإن شئت تفصيل الحال فراجع تنقيح المقال وغيره من كتب الرجال.»

(٢) البصائر ، باب ٦ من الجزء الاول ، ص ٩ ، ح ٢ ؛ والكافي ، ج ١ ، باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الائمة ـ عليهم‌السلام ـ ، ص ٣٩٩ ، ح ٤ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٩ ، ح ٣ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٤ ، ح ١٨.

(٣) خ. ل : «أوقف».

٤٦٤

فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى السماء فقال : اللهم إني أشهدك.

يقول هو ذلك ويقولون ذلك ثلاثا. ثمّ قال : ألا فمن كنت مولاه وأولى به فهذا [عليّ] مولاه وأولى به ؛ اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.

ثمّ قال : قم يا أبا بكر فبايع له بامرة المؤمنين ، فقام ففعل ذلك فبايع.

ثمّ قال : قم يا عمر فبايع له بإمرة المؤمنين ، فقام فبايع.

ثمّ قال بعد ذلك لتمام التسعة ، ثم لرؤساء المهاجرين والانصار ، فبايعوا كلّهم.

فقام من بين جماعتهم عمر بن الخطاب ، فقال : بخ بخ [لك] يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولا كلّ مؤمن ومؤمنة. ثمّ تفرّقوا عن ذلك.

وقال : وكّدت عليهم العهود والمواثيق. ثمّ إنّ قوما من متمردي جبابرتهم تواطئوا بينهم لئن (١) كانت لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كائنة لندفعنّ (٢) هذا الامر عن عليّ عليه‌السلام ، ولا نتركنّه (٣) [له] ، فعرف الله ذلك في (٤) قلوبهم ، وكانوا يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون له : لقد أقمت عليّا (٥) أحبّ خلق الله إلى

__________________

(١) خ. ل : «إن».

(٢) خ. ل : «ليدفعن».

(٣) خ. ل : «يتركونه».

(٤) خ. ل : «من».

(٥) خ. ل : «علينا».

٤٦٥

الله وإليك وإلينا ، [و] كفيتنا به مؤنة الظلمة والجبابرة وسياستنا ، وعلم الله في قلوبهم خلاف ذلك [من] مواطاة بعضهم لبعض أنهم على العداوة مقيمون ، ولدفع الامر عن مؤثره (١) مؤثرون. فأخبر الله عزوجل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم ، فقال : يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله! «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ الذي أمرك بنصب عليّ عليه‌السلام إماما وسائسا لأمتك ومدبّرا ، وما هم بمؤمنين بذلك ، ولكنّهم مواطئون على هلاكك وهلاكه ، يوطئون أنفسهم على التمرد على عليّ عليه‌السلام إن كانت به كائنة.» (٢)

وأقول :

فالظاهر بملاحظة هذه الروايات أن يكون شأن نزول هذه الآيات جماعة من المنافقين ؛ كابن أبيّ وأصحابه ، أو كالاوّل والثاني وغيرهما من المنافقين ، الذين زادوا على الكفر الباطني النفاق وإظهار ما ليس فيهم ، وبعد إلغاء الخصوصيات النزولية والاخذ بأصل المعنى فالظاهر اندراج كلّ منافق ممّن كان في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة تحت الآية ، ومنهم : الحكم بن عيينة بناء على الرواية السابقة.

[في أنّ النّفاق أقبح من الكفر]

ثمّ إنّ في ذكر قصة المنافقين في ضمن ثلاث عشر آية ، والاقتصار في صفة الكفّار على الآيتين لعلّه ايماء إلى كثرة الاهتمام بردع المنافقين. فربما يستشعر من ذلك أن النفاق أقبح من الكفر لزيادته الكذب والخديعة والاستهزاء على

__________________

(١) خ. ل : «مستحقه» أو «محقه».

(٢) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٤١ ؛ والبحار ، ج ٣٧ ، باب في اخبار الغدير ، ص ١٤١ ، ح ٣٦ ، والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٩ ، ح ١.

٤٦٦

الكفر وإن كان الكافر قبيح الظاهر والباطن بخلاف المنافق ، الّذي يري كلامه وظاهره حسنا ، لكن لا يبعد أن يكون ظاهره في صورة الحسن لا أنّه حسن واقعي ؛ إذ الاقوال والافعال تابعة للنيات والباطن في حسنها وقبحها ، فهم ذئاب لابسون لباس المسوك ، وأنّ المنافقين ما كانوا جمعا قليلا ممّن كان ظاهره الاسلام ؛ إذ لو كان منحصرا في ذلك القليل لما ناسب حالهم شدّة الاهتمام بردعهم وتوبيخهم وغير ذلك في هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة الواردة في حالهم.

وحينئذ فلا ينبغي الوثوق التامّ بأحوال كلّ من دخل في الصحابة ظاهرا وإن كان عمله في الظاهر حسنا ، كما هو ظاهر ديدن العامّة العمياء ومقتضى طريقتهم ، بل لعلّه مبنى مذهبهم ، ويأتي مثل ذلك في كلّ زمان ، فلا ينبغي كثرة الوثوق بأحوال الاشخاص الذين ظاهر [هم] الصلاح بمحض قولهم أو فعلهم في محضر الناس.

ثمّ إنّ الاقتصار هنا بالايمان بالله وباليوم الآخر ، الذي هو من وقت الحشر إلى استقرار الجنّة والنار بأهلها ، أو مطلق زمان المعاد الذي لا يتناهى ، أو الاعمّ منه ومن عالم البرزخ الواقع بينه وبين الموت لعلّه مشعر بأنّ أهمّ أركان الايمان هو هذان الامران الراجعان إلى الايمان بالمبدء والمعاد.

[في بيان حقيقة النّفاق]

ثمّ إنّه بناء على ما سبق في معنى الكفر والايمان والمقابلة بينهما ربّما يتّجه أن يكون حقيقة النفاق هو ظهور صورة فرع الايمان دون (١) أصله ، وإظهار إيمان بفعل أو قول ليس بمتحقّق.

وحينئذ فقد يكون التصديق أو القبول الباطني معدوما ، والقول أو الفعل

__________________

(١) في المخطوطة : «بدون».

٤٦٧

بالجوارح موجودا ؛ كأداء الشهادتين ، أو الاتيان بالعبادة الدالة على الايمان كالصلاة ، وذكر الله ، وقد يكون الامران موجودين في الجملة ، ولكن يظهر المقدار الذي [يكون] موجودا بقول أو عمل ، أو يكون مقام الاخلاق والاحوال وغيرهما ممّا سبق كونه في مقام الاغصان معدومة بأسرها أو ببعضها ، ويظهر المفقود بالقول أو العمل ، أو يكون نيّة الخلوص والقربة مفقودة ، ويأتي بالعبادة مظهرا أنها لله.

وبالجملة فلا يبعد إلحاق كلّ من أظهر شأنا من شؤون الدين ومرتبة من المراتب ، ولم يكن متحققا به في الواقع بحقيقة النفاق ، فالنفاق يشارك الكفر في الباطن ، ويشابه الايمان في الصورة الظاهرية ، فهو إظهار إيمان وصورة إيمان لا حقيقة له ، بل حقيقة من شجرة الكفر إن جعلناهما ضدين لا ثالث لهما في كلّ مقام وكلّ شأن ، وإلا جاز خلوّ الباطن عن الحقيقتين ، وكان النفاق في الباطن أعمّ من الكفر في بعض المراتب.

وربّما يرشد إلى ما ذكرنا ما ورد على ما ببالى من أن :

«كلّما زاد (١) خشوع الجسد على خشوع القلب (٢) فهو عندنا نفاق.» (٣)

__________________

(١) في المصادر : «ما زاد».

(٢) في المصادر : «على ما في القلب».

(٣) رواه الكليني (رض) في الكافي ، ج ٢ ، باب صفة النفاق والمنافق ، ص ٣٩٦ ، ح ٦ ، عن مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ؛ وهكذا في الصافي ، ج ٢ ، ص ١٣٦ ؛ ونور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٢٨ ، ح ٩.

وقريب من هذا المضمون موعظة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أوردها ابن شعبة الحراني (ره) في تحف العقول ، ص ٤٢ ، وهي : «إياكم وتخشع النفاق ، وهو أن يرى الجسد خاشعا ، والقلب ليس بخاشع.»

قال المجلسي (ره) في المرآة ، ج ١١ ، ص ١٧٣ ، في شرح حديث الكليني (رض): ـ

٤٦٨

وما ورد على ما ببالي من أن : «آيات النفاق فيمن ينتحل مودّتنا أهل البيت.» أو ما يقرب من ذلك.

وما عن كتاب صفات الشيعة باسناده عن المفضل ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام :

«إن الله تبارك وتعالى خلق المؤمنين من أصل واحد ، لا يدخل فيهم داخل ، ولا يخرج منهم خارج ، مثلهم والله مثل الرأس في الجسد ، ومثل الاصابع في الكف ، فمن رأيتم يخالف ذلك فاشهدوا عليه بتاتا أنّه منافق.» (١)

قيل : بتاتا أي : بتّا وقطعا. وعلى هذا فالمنافق هو من يظهر شأنا ومقاما من شؤون الدين ومقاماته ، مع أنّه ليس بواجد له في الواقع ، فهو يقول بلسانه أو عمله إنّه آمن بالله واليوم الآخر في مقام وشأن من الايمان وما هو بمؤمن فيه ، كما أنّه يظهر ممّا سيأتي في صفتهم في جميع ذلك المراتب النفاقية ، كما ننبّه عليه ـ إن شاء الله ـ.

[في اندراج الرّياء تحت النّفاق]

وحينئذ فيندرج تحت النفاق بالمعنى الاعمّ العبادة الريائية ، وكل عمل أظهر صاحبه أنه لله وليس له ، وكلّ ملكة أو خلق أظهر صاحبها أنه واجد لها من حيث كونه مستحسنا في الدين وليس فيه ؛ كإظهار الزهد والخوف والمحبّة لله

__________________

 ـ «كلمة «ما» شرطية زمانية ، نحو : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (التوبة / ٧) وكذا لم يحتج إلى العائد ، ويدل على أن زيادة خشوع البدن على خشوع القلب من الرياء ، وهو من النفاق. وفى قوله : «عندنا» إيماء إلى أنه ليس بنفاق حقيقي ، بل هو خصلة مذمومة شبيهة بالنفاق.»

(١) صفات الشيعة ، الحديث الثامن والاربعون.

٤٦٩

سبحانه وغير ذلك ، وكلّ مقام ادّعى تحقّقه بينه وبين الله سبحانه وهو خال عنه. فيكون النفاق إظهار صورة الايمان والدين من دون حقيقة.

وهذا الحصر ما سنح بالبال في باب النفاق عند تجريده عن الخصوصيات ، ولعلّه ورائه أمر أحقّ بالتصديق منه ؛ إذ النظر لا يستلزم الاصابة ، والله العالم.

[وجه المناسبة بين هذه الآية والآيات السابقة]

ثمّ إنّ وجه الاتصال بين هذه الايات وما قبلها ظاهرة ؛ إذ المنافقون داخلون تحت الكفّار إن أخذ الكفر على إطلاقه الشامل له ، فهم طائفة من هؤلاء يناسب تذييل حال الجنس بصفة الطائفة الخاصة منهم ، حتّى يتّضح الصفة المشتركة بين الطائفتين والمختصة بإحديهما ، ومقابلون لهم إن خصّصت الكفار بالكافرين من حيث الصورة والمعنى معا ، فيناسب بيان حال هذه الطائفة بعد بيان صفة الطائفتين الأخريين المقابلين لها. ولها ارتباط مع قصة المؤمنين من حيث بيان الموضوع لدلالته على أن ليس كل من يقول آمنّا بمؤمن واقعا.

ولعلّ إليه يشير كيفيّة التعبير في الآية حيث جعل صفتهم قوله : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وردّه (ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) لا بأنّهم لم يؤمنوا ، الذي هو أنسب بالمقابلة وإن كان ملاحظة التأكيد وغيره أيضا مناسبا للنحو الذي ورد عليه الآية لدلالته على إخراج ذواتهم عن عداد المؤمنين.

٤٧٠

[تحقيق حول المخادعة مع الله والمؤمنين]

[والاثار المترتبه عليها]

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)

[في معنى الخدعة]

و «الخدع» كما صرّح به بعضهم : «أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه من قولهم : «ضبّ خادع». وخدع إذا أمرّ الحارش يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه ، ثمّ خرج من باب آخر.» (١)

وقال آخر : «أصل المخادعة الاخفاء ، ومنه سمّيت الخزانة المخدع ، والاخدعان عرقان في العنق خفيّان ، وخدع الضبّ خدعا إذا توارى في حجره ، فلم يظهر إلا قليلا».

وذكر أنّ «الخديعة إظهار ما يوهم السداد والسلامة ، وإبطان ما يقتضي الاضرار بالغير أو التخليص منه». ولعلّه يرجع إليه التفسير الاول وما ذكره الطريحي بقوله : «خدعه يخدعه خدعا وخداعا أيضا بالكسر : ختله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم ، والاسم الخديعة». هذا ، وعن تفسير الامام عليه‌السلام عن الكاظم عليه‌السلام بعد ما تقدم :

«فاتصل ذلك من مواطاتهم وقيلهم في عليّ عليه‌السلام ، وسوء تدبيرهم عليه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدعاهم فعاتبهم فاجتهدوا

__________________

(١) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٠.

٤٧١

في الأيمان ، وقال أوّلهم : «يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما اعتددت بشيء كاعتدادي بهذه البيعة! ولقد رجوت أن يفتح (١) الله بهالي في قصور الجنان ، ويجعلني فيها من أفضل النزّال والسكان!»

وقال ثانيهم : «بأبي أنت [وامي] يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! ما وثقت بدخول الجنة والنجاة من النار إلا بهذه البيعة! والله ما يسرّني إن نقضتها أو نكث بها ما اعطيت من نفسي ما أعطيت ، وإن لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش لآلى رطبة وجواهر فاخرة».

وقال ثالثهم : «والله يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد صرت من الفرح بهذه البيعة من السرور والفسح من الآمال في رضوان الله ما أيقنت أنه لو كان علي ذنوب أهل الارض كلّها لمحصت عنّي بهذه البيعة!» وخلف على ما قال من ذلك!! ولعن من بلّغ عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خلاف ما حلف عليه!! ثمّ تتابع بمثل هذا الاعتذار بعدهم من الجبابرة المتمرّدين.

فقال الله عزوجل لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : يخادعون الله يعنى : يخادعون رسول الله بأيمانهم بخلاف ما في جوانحهم ، والذين آمنوا ، كذلك أيضا الذين سيدهم وفاضلهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام(٢)

__________________

(١) فى البحار : «يفسح».

(٢) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٢ ص ٤٦٦.

٤٧٢

[في معنى المخادعة مع الله]

أقول : ذيل كلام يدلّ على أنّ المراد من مخادعة الله مخادعة رسول الله ، وأن إسناد المخادعة إليه سبحانه باعتبار إسناده إلى رسوله. ولعلّه إشارة إلى جواب سؤال مشهور ، وهو أنّه : كيف يتصور الخدعة بالنسبة إليه سبحانه وهو عالم السرّ والخفيات ، لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء ، وهو عليم بذات الصدور؟ فيكون الجواب صرف الاسناد عن ظاهره كما مثّل له بأنه يقال : قال الملك كذا ورسم كذا ، وإنما القائل والراسم وزيره أو بعض خاصّته ، الذين رسمهم رسمه وقولهم قوله ، مصداقه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(١) و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ.)(٢)

وهذا بيان ظاهريّ وتحته معنى دقيق يظهر بمعرفة حقيقة الفناء والبقاء بعد الفناء ، ومعنى كون العبد خليفة الحقّ ويدا له باسطة ، وعينا له ناظرة ، وأذنا له واعية ، ولعلّه نشير إلى بيان ما لتلك المعاني فيما يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.

ومخادعة الرسول [و] إن امتنع بالنسبة إلى ذلك الشأن ، لكن لم يظهر امتناعه في شأن البشرية ، ولو بحسب ظنّهم الفاسد الكاسد لجهلهم بمقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يلزم في إطلاق الخدعة أزيد من حسبان المخادع إخفاء الامر على من يريد خداعه ، وإظهار ما يخالف باطنه باعتقاده.

وحينئذ فربما يصحّ دفع الاشكال من أصله وهو التزام أنهم قصدوا مخادعة الله سبحانه لجهلهم بصفاته سبحانه ، كما يصحّ دفعه أيضا بارادة صورة المخادعة ، وأنهم يعاملون الله معاملة المخادع. وبمثله يصحّ الجواب عن إشكال آخر وهو : أنّ باب

__________________

(١) الفتح / ١٠.

(٢) النساء / ٨٠.

٤٧٣

المفاعلة بين اثنين فيلزم أن يكون الله سبحانه خادعا لهم ؛ كما ذكر في قوله سبحانه (وَهُوَ خادِعُهُمْ)(١) ، مع أنّ الخدعة ممّا لا يستحسن صدوره عنه سبحانه ؛ إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّه سبحانه يعاملهم معاملة الخادع بايجاد ما في صورة الخدعة بأن يفعل بهم ما يظنون أنه خير لهم وهو في الواقع شرّ لهم ، كما أنّه ينسب إليه سبحانه لفظ المكر إن لم نجعل بناء المفاعلة هنا مصروفا عن ظاهره حتى يكون مرادفا ليخدعون مع المبالغة.

[في أنّ المرائي يخادع الله]

وبمثل ذلك ربّما يصحّ بيان ما عن ابن بابويه باسناده عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام ، سئل (٢) فيما النجاة غدا؟ فقال :

«إنّما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم ، فانه من يخادع الله يخدعه ، ويخلع منه الايمان ، ونفسه يخدع لو يشعر.

فقيل له : كيف يخادع الله؟

فقال : يعمل بما أمر الله عزوجل به ثمّ يريد به غيره ؛ فاتقوا الرياء فانّه شرك بالله عزوجل ؛ إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا غادر ، يا خاسر! حبط عملك وبطل أجرك ، ولا خلاق (٣) لك اليوم ، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له.» (٤)

__________________

(١) النساء / ١٤٢.

(٢) في المعاني والبحار ونور الثقلين : «أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سئل».

(٣) خ. ل : «خلاص».

(٤) رواه رحمه‌الله في المعاني ، باب معنى مخادعة الله عزوجل ، ص ٣٤٠ ، عن ـ ـ مسعدة بن صدقة بن زياد ؛ والامالي وثواب الاعمال ؛ وهكذا في البرهان ، ج ١ ، ص ٦٠ ، ح ٢ ؛ والبحار ونور الثقلين.

٤٧٤

وعن العياشي ، عن الصادق عليه‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل فيما النجاة غدا؟ فقال مثله إلى قوله : «شرك بالله» بتفاوت ما في النسختين في الالفاظ (١).

وفيه دلالة على أنّ مخادعة الله لا يختص بالمنافق المعروف ، بل يعمّ المرائي الآخذ ببعض شعب النفاق أيضا. وفيه تأييد للتعميم المذكور في معنى النفاق ، وبيان مخادعة المرائي إن حمل لفظه ، ثمّ على التراخي عن تمام الفعل ، فينحصر بالرياء المتأخر عن العمل ، [ف] إنه عقد العمل على أنه لله سبحانه ، وفعله على هذا الوجه الخالص ، ثم إنه أراد به غيره ، وجعله للناس طلبا للجاه وغيره من بواعث الرياء ، فصيّره للناس ثانيا بعد كونه لله سبحانه ، فهو كأجير عمل عملا لشخص ، ثم عارض ذلك العمل مع غيره بأجرة يطلبها منه وسلّمه إليه. فهذا صورة الخدعة ، فان لم يلتفت بأنّ الله سبحانه مطلع على حال قلبه ونيّته فربما يتخيل إليه أن جزاء العمل ثابت بحاله ، ويريد منه سبحانه الجزاء ، ويحاسب في نفسه أنه قد فاز بالجزائين ، كما أنّ المعاملة الثانية مما لم يطلع عليها الحق سبحانه ، وأن رجوعه عمّا عقد عليه العمل لم يكن بمحضر الحق سبحانه ، فيكون بذلك مخادعا لله سبحانه ، وغادرا وخاسرا لحبط عمله ، وفاجرا لكونه عاصيا به ، وكافرا لحسبانه عدم اطلاع الحق عليه ، إما في مقام الاعتقاد إن كان معتقدا لذلك ، أو في مقام التذكر والتصور إن كان ذلك فيه. وهو أيضا من شعب الكفر وأغصانه على المعنى المتقدم. وهذا شرك في العبادة لله سبحانه حيث أراد بعبادته غيره ولو حمل لفظه.

ثمّ على التأخر من ابتداء النية أو العمل فيكون الخبر في الرياء المقارن لجزء العمل أو لكلّه بعد انعقاد العزم على وجه الخلوص ، ويجري فيه نحو البيان

__________________

(١) العياشي ، ج ١ ، ص ٢٨٣ ، ح ٢٩٥.

٤٧٥

المتقدم ولو ألغي التّرتيب الخارجي بين العمل وإرادته الغير به كان هو الرياء الاصلي ، وكونه خدعة لله سبحانه باعتبار أنّه يوقعه على أنّه عبادة لله سبحانه فيما بينه وبين ربّه في صورة خياله وحسبانه ، مع أنه ليس عبادة له ، بل هو مأتيّ به لغيره ، فهو كمن يظهر إيقاع عمل لشخص وهو في الواقع ليس يريده به ، بل يريد غيره به ، كمن يظهر للملك إيقاع تعظيمه له وهو في الواقع معظّم لغيره راكع وساجد له ، وهو محض الخداع. وهو أيضا خدعة في حد نفسه من حيث أنّ الصورة صورة عبادة والحقيقة حقيقة المعصية ، وهو خدعة للناس حيث أنه يظهر لهم أنّي عابد لله سبحانه ، مع أنّه عامل لهم لا عابد له عزوجل ، ولو ظهر لهم كونه مرائيا لكان ذلك مناقضا لغرضه ، فهو إظهار الطاعة من دون واقعية.

وإطلاق الشرك عليه فيما لو انضمّ الداعيان ظاهر ، وأمّا في صورة انحصار الداعي في الرياء من دون انضمام القربة ، فلعلّه لكونه مشركا في عبادة الله سبحانه حيث أنّه يفعل العبادة لغيره كما يفعله له سبحانه ، أو لكونه في الظاهر لله سبحانه وفي الباطن لغيره. وتجري هذه الوجوه في القسم الثاني أيضا بأدنى تأمّل. وقريب من هذه البيانات يأتي في سائر شعب النفاق بالمعنى المتقدّم.

فكلّ شعبة من شعب النفاق مخادعة لله والّذين آمنوا بنحو من الانحاء ، واعتبار من الاعتبارات ، كما يظهر بالتأمّل فيما سبق.

[في أنّ الأوّل والثّاني وأضرابهما هم أصل الخدعة والنّفاق]

ومن أوضح أفراد المخادعة ما كان يصنعه الاوّل والثاني وأضرابهما ، بل هم أصل الخدعة والنفاق في كلّ مقام من مقاماته حيث يظهرون التسليم للرسالة والدين وهم جاحدون ، وخصوصا لأمر الخلافة وهم معاندون ، ولكمال الايمان والاخلاق الحسنة وهم عنه خلاء ، وللأعمال والعبادات مع أنّهم مراؤون ، بل

٤٧٦

الظاهر أنهم ما كانوا يدعون شأنا من شؤون الايمان وغصنا من أغصانه بالمعنى المتقدم ، إلا أظهروا تحققهم به ، مع أنّهم في الباطن كاملون في الكفر مستجمعون لأصله وأغصانه وفرعه ، فهم إن ذكر النفاق كانوا أصله وفرعه ومعدنه ومأويه ومنتهاه ، وأتباعهم في مقام الفعل والحقيقة ، لا في مقام اللّفظ والدعوى ؛ من اتصف بتلك الصفات النفاقيّة ، ووافق صفتهم في الصورة والمعنى على دركات كثيرة بمقدار تخلّقه واتصافه بصفتهم وشأنهم ، فلا تغترّ بمن ينتحل التشيع وهو على هذه الصفة ، كما ربما يدلّ [عليه] ما سبق من الرواية ، بل لعلّ هذا الانتحال الصوري أيضا متابعة ومشايعة لأعدائهم حيث كانوا يقولون عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما سبق عن التفسير من دعاويهم بالنسبة إلى قبول الولاية ، فيشبه حالهم حال من يدّعي التشيع وهو في صفة أعدائهم وأخلاقهم وأعمالهم وجهالتهم ، الّتي كلّها نفاق أو كفر بالمعنى الاعمّ.

ولعلّ من ذلك يظهر لك الوجه في الاخبار الواردة في صفات الشيعة ، وانحصار الشيعة بالمتصفين بصفات ربّما يعزّ وجودها ، ونفي هذا الاسم عن غير المتصف بصفات كماليّة ، كما لا يخفى على من تصفّح تلك الاخبار في مظانها من «بحار الانوار» (١) وغيرها.

نسئل الله سبحانه أن يخلّصنا من شؤون تلك الشجرة الخبيثة ، ويجعلنا من المؤمنين المخلصين ، والشيعة الحقيقيين بحق الائمة الطاهرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ.

__________________

(١) راجع بحار الانوار ، ج ٦٨ ، باب صفات الشيعة.

٤٧٧

[في رجوع الخدعة إلى الخادع]

(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [وَما يَشْعُرُونَ])

عن تفسير الامام عليه‌السلام بعد ما سبق :

«ثمّ قال : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ما يضرّون بتلك الخديعة إلا أنفسهم ، فانّ الله غنيّ عنهم وعن نصرتهم ، لو لا إمهاله لهم لما قدروا على شيء من فجورهم وطغيانهم (وَما يَشْعُرُونَ) أنّ الامر كذلك ، وأن الله يطلع نبيّه على نفاقهم وكذبهم وكفرهم ، ويأمره بلعنهم في لعنه الظالمين الناكثين ، وذلك اللّعن لا يفارقهم في الدنيا يلعنهم خيار عباد الله ، وفي الآخرة يبتلون بشدائد عذاب الله.» (١).

أقول :

ظاهره أنّ المراد من الخديعة هنا هو غاية الخديعة ، وهو الضرر ؛ إذ الخادع إنّما يخادع لايصال ضرر إلى المخادع غالبا ، ولسائر الاغراض المترتبة على إظهار ما ليس ثابتا ، وإخفاء ما هو ثابت ، ولما لم يخف الحال على الله ورسوله وجملة من المؤمنين لم يترتب تك المقاصد المترتبة على الاخفاء عليه ، ولم يبق للخداع غاية إلا الضرر الذي ورد عليهم بخداعهم في الدنيا والآخرة ، فكأنهم كانوا يخادعون أنفسهم إذ أوردوا أنفسهم في ضرر من حيث لا تشعر به أنفسهم.

وأمّا المنافع الّتي كانت تصل إليهم في الدنيا من معاملة الاسلام معهم ، ومشاركتهم للمسلمين ، فهي ليست من نتائج خداعهم ، وإنّما هي من آثار كلمة الاسلام والتسليم الظاهري حيث بني أمر الدين في الظاهر على نفس ذلك الامر

__________________

(١) راجع المصادر المذكورة فى تعليقة ٢ ص ٤٦٦.

٤٧٨

الظاهري ، وعدم التكشّف عن أحوال الباطن في ترتيب آثار الاسلام وأحكامه.

وربما يتصور هنا حقيقة المخادعة باعتبار أنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنّونها الاباطيل وأنفسهم أيضا تمنيهم وتحدّثهم بالاكاذيب.

هذا ، وربما يستفاد من الآية منضما إلى الرواية السابقة أنّ من خادع الله فهو يخدع نفسه لو شعر في كل مقام من مقامات الخداع والنفاق وهو كذلك ، فانه لا يخفي على الحق شيئا من أمره ، وإنّما يخفي على نفسه علم الحق به ، ولا يظهر السداد والصلاح عند الحق البصير بعدم حقيقته ، وإنّما يظهر عند نفسه صورة الصلاح زاعما أنه مما يترتب عليه آثار الصلاح عند الحق ، فهو قد خدع نفسه حيث أظهر لنفسه كونه نافعا لها لما يترتب عليه من الثواب والمجازات من عند الحق وهو ليس كذلك ، فهو يوهم نفسه النصح والرشاد وطلب الخير ، وهو مريد لما لا يترتب عليه إلا الضرر على نفسه ، فهو يظهر لنفسه ما يوهم السداد والصلاح ، وقد خفي على نفسه الشرّ والفساد الواقع عليه ، وحينئذ فهو المخادع نفسه.

[في بيان حقيقة إسناد الخداع إلى الله]

وأمّا نسبة الخداع إلى الله سبحانه في الرواية ، وربما تدلّ عليه الآية باعتبار بناء المفاعلة ، وصرّح به في الآية الاخرى (١) ، فربما يتصوّر هنا باعتبار أنّ الحقّ لمّا خذله ، وخلّى بينه وبين نفسه والشيطان ، ترتّب عليه المخادعة بحيث خفي عليه أمر نفسه وما هو عليه ، ووقع في حسبان الرشاد مع أنه ليس إلا الفساد. وهذا نظير نسبة الاضلال إليه سبحانه كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.

ولمّا كان من شأن حال المخادع المذكور أن لا يشتبه عليه حال نفسه لأنه أوضح الاشياء عنده وقد فرض اشتباهه ، فيصحّ حينئذ سلب الشعور عنه ، الذي

__________________

(١) يعني قوله سبحانه : «وهو خادعهم».

٤٧٩

هو علم الشيء علم حسّ ، وصورة معاملته مع نفسه وحاله في حد ذاته من أحق الاشياء بأن يكون عالما به علما وجدانيا. وعلى هذا المعنى لا حاجة إلى توسع في الشعور بأن يقال : إنّ لحوق ضرر ذلك بهم لما كان كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له وإن كان حسّيا باعتبار المعنى المذكور سابقا.

ثم لا يخفى عليك أن مخادعة النفس الامّارة للحق سبحانه ليس أمرا نادرا ، بل هي في كثير من مقامات العبودية تبنى على الخداع مع الله سبحانه ، ولا يلتزم بالصدق في المواطن ، فتدّعي عند الحق ما ليس فيها ، وتظهر في حضور الحق ما ليس بواقع من دعوى الثبات في مقام العبودية والاخلاص والتوكل والتفويض والرضاء والمحبة وسائر المقامات ، فتأتي بكلام كاذب كحصر العبادة والاستعانة بالحق سبحانه ، وطلب الهداية ، مع أنه لا يهمّها ولها معبودون ومستعان بهم غير الحق ، ويستغفر الله سبحانه وهو مصرّ على الذنب ، الذي ورد في حقه على ما ببالي : «إنّه كالمستهزئ بربه» (١) ، وتظهر حالا ليس لها واقعيّة ، كالخشوع الظاهري الزائد على خشوع القلب الذي سبق كونه نفاقا ، فضلا عن أن يكون القلب خاليا عن الخشوع رأسا ، وكإظهار الرضاء عند الحق سبحانه والحق يراها كارها لقضائه وكإظهار حبّ الله وغيره من سائر المقامات ، وتظهر مقاما من مقامات الايمان وليس فيها ، وتعد الحق بشيء ولا تفي به ، وتجادل عند الحق في تصحيح أعمالها القبيحة وتطلب لها المعاذير ، فتعدّ لنفسه لكل قبيح عذرا يتغطى به حذرا عن حدو انكسار لها وذلّة ، كما أنه ربما يظهر من قوله سبحانه : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها)(٢) ، أنها لا تترك المجادلة في القيامة فضلا عن الدنيا ، ولا تعترف بالقصور

__________________

(١) روى الكليني (رض) في الكافي ، ج ٢ ، باب التوبة ، ص ٤٣٥ ، ح ١٠ ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ أنه قال : «المقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ.»

(٢) النحل / ١١١.

٤٨٠