مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

الابحاث ـ إن شاء الله تعالى ـ.

ثمّ إنّه غير خارج عن مشيّة الله وقضائه وقدره بناء على ما أشرنا إليه من عدم خروج المعاصي عنه ، ولعلّه ستعرف التفصيل.

[وجه اضافة الطغيان الى المنافقين]

ثمّ إنّ في إضافة الطغيان إليهم كأنّه إشارة إلى ما ذكره في الكشّاف من «أنّ الطغيان والتمادي في الضلالة ممّا اقترفته أنفسهم ، واجترحته أيديهم ، وأنّ الله بريء منه ردّا لاعتقاد الكفرة القائلين : لو شاء الله ما أشركنا ، ونفيا لو هم من من عسى يتوهّم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان إليهم أنّ الطغيان فعله. فلمّا أسند المدّ إليه على الطريق الذي ذكر أضاف الطغيان إليهم ليميط الشبهة ويقلعها ، ويدفع في صدر من يلحد في صفاته.» (١) وأكّد ذلك بترك إضافته الغيّ حيث أسند إلى الشياطين في قوله : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ). وغرضه الردّ على المجبّرة وإن كان هو بنفسه أيضا خارجا عن الميزان المستقيم ، مائلا إلى التفويض على ما يظهر من جملة كلماته ، وفيه إشارة إلى تكفير جمهور أهل مذهبه.

[في أنواع الطغيان وأن النفاق هو الطغيان]

ثمّ إنّ سائر أقسام النفاق أيضا ممّا يجري عليهم المهلة والمدد في الطغيان مستندا إلى الله سبحانه بالوجوه المتقدّمة على ما سبق ، فانّ الطغيان على ما سبق ضدّ العبوديّة الّتي هي حدّ العبد الّذي من تجاوزه تجاوز حدّه وعتى وغلا ، وهي غاية

__________________

 ـ ـ عليه‌السلام ـ في بيان العقل والجهل وجنودهما وما يتعلق بهما ؛ تجده في المجلد الاول من المصدر كتاب العقل والجهل ، ح ١٤.

(١) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٦.

٥٤١

الخضوع ، أو الخضوع مطلقا على ما سبق ، وهو مقام المؤمنين المخلصين لا المخالفين ظواهرهم لبواطنهم ، فانّهم خارجون عن تحت الخضوع بقدر ما يصدر منهم من ذلك ؛ إذ ليس هذا من شؤون الخضوع والعبوديّة والطاعة ، بل من شأن أنانيّة النفس واستعلائها ، وطلبها الجاه والكبرياء ، بل كلّ غصن من أغصان النفاق بالمعنى المتقدّم تجاوز عن الحدّ وكفر ، وتجاوز فيه على بعض الوجوه المتقدم إليها الاشارة ، بل لا يبعد أن يندرج كلّ ما خرج عن الايمان وأغصانه وشؤونه تحت الطغيان لكونه تجاوزا عن الحدّ الّذي هو العبوديّة المطلقة ، كما يظهر من تطبيق صفات نفسه مع صفات ربّه ، وسائر الوجوه المتقدّم إليها الاشارة في شرح كلمة الجلالة.

ثمّ إنّهم في ذلك عامهون متحيّرون متردّدون لانسلاب نور المعرفة واليقين منهم ، واستيلاء الظلمة الموجبة لذلك عليهم ، سالكون أرضا عمهاء لا أعلام لها ، وذهبت إبل نفوسهم العمهى ؛ إذ لا يدرون أين ذهبت ، بل إذا أخرجوا أيديهم لم يكديروها ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (١). وأصل ذلك كلّه هو حالة الطغيان ، كما أنّ أصل حالة البصيرة والسكينة والثبات هو العبوديّة على ما ظهر ويظهر لك ـ إن شاء الله سبحانه ـ.

ثمّ إنّ لأنواع من الطغيان بالمعنى الاعمّ خصوصيّة في تحقّق العمى في القلب ؛ كالكبر والعجب والفخر وأمثالها ، فانّها توجب أحوالا مضادّة للهداية والبصيرة ، بل تمنع البصيرة عن الادراك ، وهي العمدة في أسباب النّفاق بالمعنى المتقدّم.

ثمّ إنّ مدّهم في طغيانهم وهم يعمهون نوع من الاستهزاء بالمعنى المتقدّم

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى في سورة النور ، آية ٤٠ ، وهو : «... إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.»

٥٤٢

كما يظهر وجهه بالمراجعة. وبه يظهر وجه اتّصال وارتباط معنويّ بين الجملتين بل بين المجموع وسابقته. وهذا العمه الحاصل لهم مقابل للهدى الثابت للمؤمنين في بعض الوجوه ، ومضاه للختم والغشاوة اللّتين أثبتتا للكافرين ، وربّما يؤكّد ذلك اتّباع تلك بقوله سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)

٥٤٣

[بحوث حول الضّلالة والهداية]

[وتجارة المنافقين باشتراء الاولى بالاخرى]

[(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)] «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ، باعوا دين الله ، واعتاضوا منه الكفر بالله (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ؛ أي : ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة لأنّهم اشتروا النار وأصناف عذابها بالجنّة الّتي كانت معدّة لهم لو آمنوا ، (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إلى الحقّ والصواب.» (١) كذا عن العالم عليه‌السلام فيما ربّما يحكى من تفسير الامام عليه‌السلام.

وفي تفسير القميّ :

«الضلالة هيهنا : الحيرة ، والهدى : [هو] البيان ، فاختاروا الحيرة والضلالة على الهدى والبيان.» (٢)

[كيفيّة اشتراء الضّلالة بالهدى]

أقول : اشتراء الضلالة التي هي ضدّ الرشاد ، وفقد الاهتداء ، والجور عن القصد ؛ اختيارها عليه ، واستبدالها به ؛ إذ حقيقة الاشتراء إعطاء شيء وأخذ شيء مكانه ، فهؤلاء تركوا الهدى وأخذوا الضلالة مكانه بعد تمكّنهم من الهدى ، وقدرتهم عليه ، فكأنّهم كانوا مالكين له مسلّطين عليه ، فأعرضوا عنها وتركوها ،

__________________

(١) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٤٧ ـ ٤٨ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٦٣ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٤.

(٢) القمي ، ج ١ ، ص ٣٤ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٤.

٥٤٤

وجعلوا مكانه الضلالة. فهذه صورة معاملتهم في متجر الدنيا وسوقها المعدّ لتحصيل الربح الدائم والثواب العظيم. ولمّا كان الهدى هو الاصل في كلّ خير باق لكون الملكات والاحوال والنيّات ، والاعمال كلّها من توابع الهداية ، والضلالة المقابلة له هي أصل كلّ شرّ حقيقي ، كان هؤلاء المستبدلين خاسرين في تجارتهم ، وما كانوا مهتدين إلى طريق التجارة ؛ لأنّهم أضاعوا الربح الذي هو فضل التجارة ، ورأس المال الذي هو الهداية الّتي هي مال التجارة ، الّتي لم يبق لهم مع الضلالة ، ولم يحصل لهم سوى الضلالة التي هي أصل كلّ شرّ ومقصود التاجر هو بقاء رأس المال والربح ، وعدم حصول الضرر عليه ، وهؤلاء ذهب عنهم الأوّلان ، ولزم عليهم الامر الثالث مضافا إلى ضرره السابق.

ثمّ إنّ مراتب الهداية والضلالة متقابلة ، فالهداية الموهوبة الالهيّة عقيب سعي العبد في مقام العبوديّة في مقابلة الضلالة الحقيقيّة تقابل النور والظلمة ، والمعرفة الفطريّة التي فطر الناس عليها ، التي هي أولى بصدق الاشتراء عليه في مقابل الضلالة الحاصلة من الاحتجاب عنه ، واليقين الاكتسابيّ البرهاني في مقابلة الشكّ والجهل المركّب ، والعلوم الاكتسابيّة في مقابلة الجهل بها بسيطا أو مركّبا ، وكذا الامور المترتّبة على تلك الهدايات من السداد والاستقامة والرشاد والاحوال والملكات الحسنة ، والنيّات الخالصة ، والافعال الصالحة في مقابلة أضدادها. والانسان في الدنيا كأنّه مجبول بالتجارة واكتساب مصالحه بما عنده من العمر والاعضاء والادوات الخارجيّة ، والقوى الداخليّة ، والادراكات الحاصلة له ، فيستعملها في أخذ شيء وتحصيله ، وترك شيء ودفعه ، كأنّه يحسّ من نفسه أنّه خلق لأجل الاكتساب والتجارة ، لكنّ التجارات والاكتسابات مختلفة ، فتجارة المؤمنين رابحة يسّرها لهم ربّهم ؛ كما وصف المتّقون بها في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١)

__________________

(١) قال عليه‌السلام في وصفهم : «تجارة مربحة ، يسرها لهم ربهم.» راجع نهج البلاغة ، خ ١٩٣ ، ص ٣٠٤.

٥٤٥

[في تشبيه المنافقين بالمستوقد]

[النّار الّذى أذهب الله نوره وتركه في الظّلمة]

[في بيان معنى المثل ووقود النار]

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)

«المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل ، وهو : النظير ؛ يقال : مثل ومثل ومثيل ؛ كشبه وشبه وشبيه. ثمّ قيل للقول السائر الممثّل مضربه بمورده : مثل. ولا يخلو من غرابة ، ومن ثمّ حوفظ عن التغيير ... وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنّه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا ، وكذلك قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ... (١) (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى)(٢) أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ، وقوله : (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ)(٣) أي : صفتهم وشأنهم المتعجب منه.» (٤) كذا ذكره بعضهم.

وفي الصحاح : «مثل كلمة تسوية ؛ يقال : هذا مثله ومثله ، كما يقال : شبهه وشبهه بمعنى ـ إلى أن قال : ـ والمثل ما يضرب به من الامثال ، ومثل الشيء صفته أيضا.» انتهى.

وكأنّ إطلاق لفظ المثل على القول من قبيل توصيف اللّفظ بما هو من صفات

__________________

(١) الرعد / ٣٥ ؛ ومحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ / ١٥.

(٢) النحل / ٦٠.

(٣) الفتح / ٢٩.

(٤) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٨.

٥٤٦

ثمّ إنّ أقسام النفاق بالمعنى المتقدّم كلّها مشتركة في اشتراء الضلالة بالهداية ؛ إذ الهداية الموهوبة وظهور الهداية الفطريّة وكمالها إنّما يحصلان للعبد بالتحقق بالايمان الحقيقي بشؤونه وأغصانه ، لا بالاتّصاف بصفات المنافقين والاتيان بأفعالهم. وكذا يجري نظير ذلك في سائر المراتب بالنسبة إلى كثير من أقسام النفاق ، ويظهر التفصيل بالتأمّل فيما سبق.

ثمّ إنّ المعاملة الواقعة بين الهدى والضلالة الذين هما الاصلان في المقامين تجري في جميع آثارها ، فقد اشتروا الاسلام بالكفر ، والسعادة بالشقاوة ، والآجلة بالعاجلة ، والآخرة بالاولى ، والامر الحقيقيّ بالامر الوهمي ، والجنّة بالنار إلى غير ذلك ، بل وفي مبدأ الهداية والضلالة في النفس ، فانّ النفس لها صلاحيّة لقبول الهداية وطلبها ، وميل شأنيّ نحوها من طرف العقل والفطرة ، ولها صلاحية للاتّصاف بالضلالة ، وطلب ما يترتّب عليه الضلالة وإن لم يشعر به ، وميل شأنّي نحوه من طرف النفس وأسباب الحجاب الطاري على الفطرة ، فلا تغفل.

٥٤٧
٥٤٨

المعنى ؛ كالكلّيّة والجزئيّة وغيرهما لما بينهما من العلاقة والربط معنى ؛ إذ مدلول المثل أمر هو مماثل للممثّل له ونظيره ، وإطلاقه على الصفة والحال باعتبار كون الصورة والحال الظاهر في الكلام الذي هو المعنى المتصوّر عند النفس مماثلا لما حلّ في الممثّل ، كما يقال للصورة التمثال ، ويقال : مثّلت له تمثيلا إذا صوّرت له مثاله بالكتابة وغيرها.

واحتمل في الموصول هنا أن يكون موضوعا موضع «الذين» ؛ كقوله : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا)(١) باعتبار أنّ «الذي» وصلة إلى وصف كلّ معرفة بجملة وتكاثر وقوعه في كلامهم ، وكونه مستطالا بصلته ، فصار خفيفا بالتخفيف ، وأنّ جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون ، إنّما ذلك علامة لزيادة الدلالة ، كما يشهد له وحدة لفظ سائر الموصولات في الجمع والواحد ، وأن يكون المراد جنس المستوقدين وإن يراد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا.

وهذه الوجوه إنّما يوجّه لأجل إرجاع ضمير بنورهم وما بعدها إلى الموصول ، وإلا فتشبيه مثل جماعة المنافقين بمثل الشخص الذي استوقد ممّا لا ضير فيه أصلا. فعلى تقدير عدم إرجاع ضمائر الجمع إلى لفظ الموصول يتعيّن إبقاء اللّفظ على ظاهره.

ولعلّ أولى الوجوه إرادة الجنس من الموصول بحيث يشمل الواحد والمتعدّد بعد النظر إلى المعنى واللّفظ معا ، كما يظهر وجهه بالتأمّل.

ووقود النار : سطوعها وارتفاع لهبها ، والنار : جوهر لطيف مضيء حارّ محرق ، والنور : ضوئها ، وهو نقيض الظلمة.

__________________

(١) التوبة / ٦٩.

٥٤٩

[في معنى الاضاءة]

(فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ)

الاضاءة : فرط الانارة ، كما يؤيّده قوله سبحانه : (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً.)(١)

والظاهر كون «ما» موصولة ، وهو مفعول أضاءت ، وإن احتمل أن يكون الفعل لازما ، والموصولة فاعله ، والتأنيث باعتبار المعنى ؛ لأنّ ما حول المستوقد أماكن وأشياء ، وأن يستتر في الفعل فاعله ، ويكون «ما» مزيدة أو موصولة بمعنى الامكنة. وعلى كلّ حال ف «حوله» منصوب على الظرف ، وتأليفه للدوران والاطافة ، ولاجله قيل للعام حول ؛ لانّه يدور. كذا ذكروه (٢).

(ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ [وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)]

يحتمل أن يكون جواب «لمّا» ، فيكون الضمير راجعا إلى الّذي استوقد باعتبار المعنى بناء على كونه جمعا في المعنى ، ويكون إفراد الضمير سابقا باعتبار اللّفظ. كذا ذكروه.

ولعلّ الاولى منه ما ذكر من إرادة الجنس ، ويكون توحيد الضمير أولا باعتبار ملاحظة الجنس أمرا واحدا بالوحدة الصنفيّة ، وجمعه ثانيا باعتبار ملاحظة تحقّقه في ضمن الجماعة ، ووجوده في ضمن عدّة أشخاص فرضوا مستوقدين ، وليس هذا من الاستخدام في شيء ، كما هو ظاهر ، وكذا الكلام في قوله سبحانه : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).

وترك بمعنى : طرح وخلى إذا علّق بواحد ، فاذا علّق بشيئين كان مضمّنا

__________________

(١) يونس / ٥.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٨.

٥٥٠

معنى صيّر ، ويجري مجرى أفعال القلوب ، ومنه المقام بحسب الظاهر وإن احتمل فيه كونه هنا بمعنى طرح. ويكون في ظلمات لا يبصرون حالين مترادفين أو متداخلين.

والظلمة : عدم النور على ما ذكره في الكشّاف (١) ، والصواب زيادة قيد ، وهو كونه عمّا من شأنه النور ، كما عن الحكماء. وقيل : «عرض ينافي النور. واشتقاقها من قولهم : «ما ظلمك أن تفعل كذا ؛ أي : ما منعك وشغلك ، لأنّها تسدّ البصر ، وتمنع الرؤية.» على ما ذكر بعضهم (٢).

وفي جمع الظلمة وتنكيرها وإتباعها بما يدلّ على نفي الابصار مطلقا ، وهو قوله : «لا يبصرون» ، وإسقاط المفعول منه بمنزلة المتروك المطرح الذي لا يخطر بالبال على ما قيل ، دلالة على أنّ الظلمة بلغت مبلغا يبهت معها الواصفون.

وفي تعليق الذهاب بالنور لا الضوء الذي كان يناسبه المقابلة ، ونسبة الذهاب به إلى الله سبحانه تأييد لذلك.

والاحتمال الثاني في قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)» أن لا يكون جواب «لمّا» ، فيكون جواب «لمّا» محذوفا بقرينة ما بعده ، وهو مثل طفئت النار الموقدة وخمدت ، وبقي خابطا متحيّرا في الظلمات.

وحينئذ يكون الجملة المذكورة بمنزلة بيان لوجه المشابهة بين حال المنافقين والمستوقدين ، ومرجع الضميرين إلى المنافقين ، وهو أنسب بايرادها جمعا على خلاف الضمائر السّابقة ، كما أنّ ذهاب النور أقلّ مناسبة لحال مستوقد النّار من حال المنافقين ، كما أنّ لفظ النور والظلمات ونفي الابصار ربّما يترائى من ظواهرها تأييد الوجه الاول نظرا إلى بقائها على معانيها العرفيّة الشائعة.

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٣٩.

(٢) نفس المصدر.

٥٥١

[في بيان وجه تشبيه المنافقين بالمستوقدين]

وعلى كلّ حال فالتشبيه الواقع بين مثلي المنافقين ومستوقد النار تارة يؤخذ تشبيها مركّبا ، والمراد به أن ينتزع كيفيّة أمور متعدّدة فيشبّه بكيفيّة أخرى كذلك ، فيقع في كلّ من الطرفين عدّة أمور ربّما يكون التشبيه فيما بينهما ظاهرا ، لكن لا يلتفت إليه ، بل إلى الهيئة الحاصلة من المجموع ، كما في قوله (١) :

وكأنّ أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزرق

ويكون التشبيه مركّبا.

وأخرى يؤخذ مفرّقا ، فيكون التشبيه واقعا بين عدّه أمور مفردة وأخرى كذلك ، وينحلّ إلى تشبيهات عديدة بين أمور كذلك.

ومنهم من قال : هذا التشبيه ليس مفرّقا ولا مركّبا ، وإنّما يكون كذلك لو كان نسبة أشياء إلى أشياء وليس كذلك ، بل هو تشبيه شيء هو حال المنافقين بشيء هو حال المستوقد ، ووجه الشبه اسم الاضائة والظلمة ؛ أي : كما في حال المستوقد ما يسمّى إضائة وظلمة ، فكذا في حال المنافقين. ووقوع الاسم في أحدهما بالحقيقة وفي الآخر بالمجاز لا يقدح في اشتراك الاسم ، وكأنّه مناقشة لفظيّة ، وإلا فمعنى التشبيه المركب موجود فيما ذكره كما يظهر بالتأمل فيما قدّمناه.

وحينئذ فالامر دائر بين الامرين المذكورين. وعلى تقدير كونه مركّبا فوجود المشابهة بين المفردات وإن لم يكن لازما ولا ملحوظا من حيث هي ، لكن وجو [د] ها بين المفردات بأسرها ممّا يقوّي المقصود من التشبيه ويؤكّده ، بل يصير غالبا سببا لقوّة المشابهة بين المركّبين ، لأنّ المركّب في الخارج ليس إلا الاجزاء والهيئة التركيبيّة القائمة بها.

__________________

(١) هو من قصيدة لأبي طالب الرقي ، نقله التفتازاني (ره) في المطول في باب التشبيه فراجع.

٥٥٢

وعلى تقدير أخذ التشبيه بين المفردات وجود المشابهة بين الهيئتين أيضا كذلك ، بل لا ضير في اعتبار الهيئة أيضا من الامور المفرّقة التي يوقع التشبيه بينها.

والظاهر في المقام كون التشبيه مركّبا ، كما هو الشأن في مطلق التمثيل بالمعنى المصطلح عليه ، وإيراد الامثال الغير البسيطة ممّا هو شائع عند العرب ، بل ربّما صنّف في شأنها الكتب.

[في تطبيق مفاد الآية على حال المنافقين]

وحينئذ فلنشرع في تطبيق الاجزاء المذكورة في الاية على حال المنافقين مفردات ، ثمّ نتمّمه ببيان المشابهة بين الجملتين من حيث التركيب على حسب ما نتصوّره من المشابهة ، والعلم عند الله سبحانه. فنقول :

المفروض في المثال (اسْتَوْقَدَ ناراً) ، وأضائت النار ما حول المستوقد ، و (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ، و (تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) بناء على كون الجميع مثالا. والمنافق أيضا أمّا استيقاده النار ، فهو مشابه لحال المنافقين من حيث إظهارهم الاسلام ، وتديّنهم به ظاهرا ، والالتزام بما يظهر منه في توجّه طمعهم وطلبهم إلى شيء مطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة ؛ وإضائة ما حوله لحالهم من حيث احتقان دمائهم وأموالهم بها ، ومشاركتهم المسلمين في الغنائم والعزّة الظاهريّة ، وسائر منافع الاسلام من الامور الدنيويّة الظاهريّة التي وصل إليهم ؛ وذهاب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لحالهم من حيث تعقّب الحرمان والخيبة لانقلاب الاسباب قليلا في الدنيا بقدر ما ظهر من آثار نفاقهم فيها ، وكمالا عند الموت إلى الابد ؛ إذ ذهب نور صورة إسلامهم عند إخراج الله إيّاهم عن عالم الصورة بالاماتة ، وبطل عنده المنافع التي كانت تترتّب على الصورة المجرّدة ، وتركوا في ظلمات نفاقهم وكفرهم ومعاصيهم لا يبصرون فيها أصلا ، وإدّائهم تلك الظلمة إلى ظلمة العقاب

٥٥٣

السرمد. ويؤكّد وجه المشابهة بين إضائة النار ما حوله وبين المنافع القليلة التي ظهرت في الخارج أنّ الخارج هو محلّ استيقادهم النار ؛ إذ ليس لهم من الاسلام إلا الظواهر الخارجيّة ، وهي ممّا تضيء ما حوله من الآثار الظاهريّة ، ولا تمتدّ إلى سائر الاطراف.

وحينئذ فيصحّ أن يجعل ذهاب نورهم أنّ وراء استضائتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق الباطنيّ المؤدية إلى ظلمات البرزخ والقيامة والعقاب ، فيكون بين الحالين في المنافقين باعتبار عالم الظاهر والباطن ، وفي المستوقد زمانيّا.

وإذهاب الله نورهم عن الباطن مع أنّه لم يكن قطّ مستنيرا ، يمكن أن يكون باعتبار منع الحقّ من تأثير هذه الصور الاسلاميّة الصادرة منهم من دون حقيقة عن نفوذه في الباطن ، وتنويره إيّاه بنور الايمان ، أو باعتبار الطبع والختم الواقعين على بواطنهم وغيرهما من سائر أسباب الظلمة الباطنيّة.

وربّما يذكر في هنا وجه مشابهة آخر يكون به مطابقا لما سبق من اشترائهم الضلالة بالهدى ، وذلك بأن يمثّل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها ، والطبع الواقع على قلوبهم بذهاب الله بنورهم ، وتركهم في الظلمات.

[وجوه المشابهة بين النّار والدّين]

ثمّ إنّ التأمّل التامّ في حال مستوقد النار يؤدّي إلى أنّه يطلب أمرا يظهر به نور ، ويترتّب عليه منافع من دفع البرودة ، وإنضاج ما ليس بمنضج ، وتلطيف ما ليس بلطيف ، وتأليف ما ليس بمؤتلف ، وإحالة ما يتشبّث به ، وتصعيد أجزائه إلى السماء.

وإذا تأمّلت في حال دين الاسلام بتمام شؤونه الظاهريّة والباطنيّة ، فربّما

٥٥٤

أدّاك إلى أنّه ممّا استجمع فيه هذه الصفات بأسرها باعتبار ظهور النور والهداية على ما سبق ، واندفاع برودة الطبع به بحصول الشوق والرغبة والمحبّة وغيرها به ، وانضاجه النفس الحيوانيّة التي ليست بمنضجة ، وتلطيفه الطبع الكثيف ، وتأليفه بين الاشخاص المتباينة بجامع المشاركة في الدين ، وبين الاعمال المختلفة المتضادّة المرتبطة كلّ منها إلى جزء من مصالح الدّنيا والآخرة بجامع الاخلاص ووحدة الغاية والداعي ، وبين العقل والنفس والقوى والاعضاء بالعدل بينها وسلوكها كلّا إلى الصراط المستقيم ، وإحالته النفس التي يتشبّث بها من مقام الامّارة إلى اللّوّامة والمطمئنّة ، وتصعيده الارواح التي تتشبّث بها إلى العالم الاعلى ؛ كما ورد في صفة طائفة : «أنّهم صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالملأ (١) الاعلى» في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) على ما ببالي.

وإن شئت مزيد بيان للمشابهة بين الدين والنار فانظر إلى كلامه عليه‌السلام في صفة من يصفه نفسه على ما حكي عن نهج البلاغة :

«قد أحيا عقله وأمات نفسه ، حتّى دقّ جليله ولطف غليظه وبرق له لامع كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الابواب إلى باب السلامة ودار الاقامة ، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الامن والراحة ، بما استعمل قلبه ، وأرضى ربّه.» (٣)

فانظر إلى هذه الصفات ، وقايسه إلى صفات النار ، أو ليست النار تميث

__________________

(١) خ. ل : «بالمحل».

(٢) فقرة من كلامه ـ عليه‌السلام ـ لكميل بن زياد النخعي (قده) ، راجع نهج البلاغة ح ١٤٧ ، ص ٤٩٧.

(٣) نهج البلاغة ، خ ٢٢٠ ، ص ٣٣٧.

٥٥٥

الحطب الذي توقد بها ، وتحيي الشعلة التي تقوم بها ، وتدقّ جليل الحطب ، وتلطف غليظه حتّى يصير الحطب الكثيف دخانا لطيفا ، ويظهر بسببها لمعان النور الذي يبين المساكن بطرقها ، ويتمكن السالك من سلوك السبيل في ضوئه حتى يصل إلى مقصده ومقامه ، وبه يثبت رجلا السالك ، ويطمئنّ بدنه ؛ إذ لولاه لم يتمكن من وضع رجليه في موضع الطمأنينة والاجتناب عن المزلق والمدحض ، وبه يحصل الامن والراحة باستعمال البدن وإرضاء النفس ، كما أنّ موقد نار الدين يستعمل قلبه ويرضى ربه؟

وأنت [إذا] تدبرت صفات النار وجدت المشابهة بينه وبين الايمان والدين من وجوه أخر أيضا : ككونها مخلّصة للذهب من بين الاجناس التي يغشّ بها محرقة للامور الغير الثابته الباقيه ، وككونها مؤلمة للبدن الغريب ويعيش فيها (١) السمندر على المشهور ، وكذا الدين والايمان مخلص للخلّصين الممتحنين محرق لغيرهم بالنار الباقية ، ومؤلمة للمبتدئ بحيث يفرّ منه فرار الجبان من الاسد الشاكي ، ويعيش فيها أهله عيشا هنيئا ، ويحيون به حياة طيّبة بعد موتهم بالموت الاختياريّ ، كما أنّ النّار تفني الصورة الاولى وتحدث صورة أخرى ، وهذا حقيقة الموت بالمعنى الشامل للمعادن وغيرها ، إلى غير ذلك ممّا يظهر بالتأمّل.

ولعلّه لما ذكر وأشباهه ظهر الدين بصورة النار في العالم الاوّل حيث عرض على النّاس الدخول فيها. وفي القيامة حين يعرض جماعة ممّن لم يتمّ عليهم الحجّة على نار ، ويؤمرون بالدخول فيها ، فمن دخل كان عليه سلاما على ما يظهر من الاخبار المذكورة في محلّه. والاعتبار يقضي بكونه صورة الدين في كلا العالمين. وربّما يظهر في صورة النار في المنامات الصحيحة الواقعة من أهل التقوى الباطنيّة.

__________________

(١) في المخطوطة : «فيه».

٥٥٦

[في ظهور آثار النّور والظّلمة في الدّنيا والآخرة]

ثمّ إنّ هذه النار المعنويّة مشتمل على نور يضيء ما حولها ، فان كان مستوقدها في باطن العالم وظاهره ظهرت آثار النور فيهما معا ، وبقي النور في الباطن بعد خراب البدن لبقاء محلّه ، وإن كان مستوقده الظاهر فقط ، كما هو شأن المنافق يشرق نوره على الظاهر ، ويحصل به المنافع الدنيويّة الظاهريّة ، ولم يرتفع نوره إلى الباطن ، بل يبطل النور الفطريّ بتلك الاعمال النفاقيّة ، ويرتفع ظلمتها إلى القلب ، ويستولى الظلمة عليه شيئا وشيئا من أثر تلك المعاصي الواقعيّة الظاهر بصورة الطاعات ، إلى أن يحيط الظلمة بعالم القلب ، فيصمّ ويعمي ويبكم ، ولا يرجع إلى خير أبدا.

وربّما يظهر أثر الظلمة الباطنيّة في عالم البدن لما بينهما من المناسبة والارتباط ، كما يشاهده الفطن في حال بعض الكفّار والمنهمكين في الفسق. وربّما يظهر عند الموت حسّا للحاضرين ، كما يحكى عن بعض المحتضرين ، وبعد الموت ينكشف ظلمته لنفسه وأهل ذلك العالم من كان حاضرا عنده تمام الانكشاف ، ويبقى الظلمة أبدا وينتهي إلى ظلمة جهنّم خالدا فيها.

فاذهاب الله نور فطرتهم بمعاصيهم ، وردعه عن تأثير الصور الظاهريّة في تنوير الباطن ، وإعدام النور بالمرّة عند فراق الدنيا كلّها مماثلة لحال المستوقد المذكور ، والمبالغات المذكورة في الظلمة المتروكة فيها كلّها آتية هنا على النهج الاتمّ والاكمل.

ثمّ إنّ التشبيه في الهيئة قد ظهر من تضاعيف ما ذكرنا ، ونقول أيضا : إنّ الحالين اشتركا في أنّهم غبّ الاضائة خبطوا في ظلمة ، وتورّطوا في حيرة ، ووقعوا في ظلمات لا يبصرون أصلا ، وخاب سعيهم ، وبطل كدحهم ، ولم يدم ما قصدوه بعد بروز وظهور.

٥٥٧

[في بيان وجه التّمثيل]

وممّا فصّلنا يظهر بعض شأن هذا التمثيل الالهيّ بحسب مبلغ أفهامنا ومدرك بصائرنا ، وما يترتّب على ضربه من زيادة الكشف ، وتتميم البيان ، وتصوير المعقول ضورة المحسوس ، وتطبيق العوالم بعضها مع بعض ، وإظهار حال بعضها لمن ليس من أهل ذلك العالم بايراد مثاله المطابق له من العالم الّذي هو فيه. ولمثل ذلك كثر ضرب الامثال في كلام الحكماء والعلماء والعرب على حسب مراتبهم ومقاصدهم في ضربها ، وليس يخفى شأنها في إبراز خبيّات المعاني ، ورفع الاستار عن الحقائق ، حتّى تريك المتخيّل في صورة المحقّق ، والمتوهّم في معرض المتيقّن ، والغائب في صورة الشاهد. وفيه تبكيت للخصم ، وقمع سورته.

ولعلّه لمثل ذلك كثر في كلامه سبحانه ضرب الامثال ؛ كما قال سبحانه : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (١).

وقد سبق في الاخبار على ما ببالي : «أن القرآن أمثال لقوم يعلمون» (٢).

والظاهر أنّ كمال المثال في اتّحاده مع الممثّل مع تغاير العالمين ؛ إذ العوالم متطابقة ، فكلّ شيء يرى هيهنا فله حقيقة في سائر العوالم ، بل كلّ ما هيهنا مثال لما هناك ، فتفهّم إن كنت من أهله.

ثمّ إنّ هيهنا نكته وهو : أنّهم فرّقوا بين «أذهبه» و «ذهب به» بأنّ معنى أذهبه : جعله ذاهبا وأزاله ، ومعنى ذهب به : استصحبه ومضى به معه. وحينئذ فلعلّ في التعبير على الوجه الثاني هيهنا دلالة على أن ما يفنى من هذا العالم لا ينعدم انعداما مطلقا ، بل هو موجود في عالم آخر من عوالمه سبحانه ،

__________________

(١) العنكبوت / ٤٣.

(٢) المقدمة الثانية ، ص ٣٩.

٥٥٨

ولعلّك تطّلع على تفصيله في سائر المواضع ـ إن شاء الله سبحانه ـ ، هذا.

[روايات حول تفسير الآية]

ويؤيّد بعض ما ذكرنا هنا ما روي عن الكاظم عليه‌السلام أنّه قال :

«مثل هؤلاء المنافقون كمثل الّذي استوقد نارا أبصر بها ما حوله ، فلمّا أبصر ما حوله ذهب الله بنورهم بريح أرسلها فأطفأها ، أو مطر ، كذلك مثل هؤلاء المنافقين لمّا أخذ الله عليهم من البيعة لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أعطوا ظاهرها شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عبده ورسوله ، وأنّ عليّا وليّه ووصيّه ووارثه ، وخليفته في أمّته ، وقاضي دينه ، ومنجز عداته والقائم بسياسة عباد الله مقامه. فورث مواريث المسلمين بها ، ونكح في المسلمين بها ، فوالوه من أجلها ، وأحسنوا عنه (١) الدفاع بسببها ، واتّخذوه أخا يصونونه ممّا يصونون عنه أنفسهم بسماعهم منه لها. فلمّا جاءه الموت وقع في حكم ربّ العالمين ، العالم بالاسرار الّذي لا تخفى عليه خافية ، فأخذهم بعذاب باطن كفرهم ، فذلك حين ذهب نورهم ، وصاروا في ظلمات عذاب الله ، ظلمات أحكام الآخرة ، لا يرون منها خروجا ، ولا يجدون عنها محيصا» (٢).

وإذا دقّقت النظر في هذه الرواية وجدت مساقها جارية على سائر مراتب النفاق

__________________

(١) في المخطوطة والبرهان : «عنها».

(٢) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ص ٥٠ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٤ ـ ٦٥.

٥٥٩

المشار إليها بعد ملاحظة ما ذكرناه في الآيات السابقة ، فلا نطيل بذكر التفصيل ، كما أنّه يجري نظير جملة ممّا تقدّم في شرح نظير الرواية هنا بأدنى تأمّل.

وعن الكافي باسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) :

«يقول : أضائت الارض بنور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما تضيء الشمس ، فضرب الله مثل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الشمس ، ومثل عليّ الوصيّ عليه‌السلام القمر ، وهو قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ)(١) ، وقوله عزوجل : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) ؛ يعني قبض محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فظهرت الظلمة ، فلم يبصروا فضل أهل بيته ، وهو قوله عزوجل : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ»)(٢).

أقول :

كأنّه إشارة إلى تطبيق حال المنافق في عالمه الصغير بحال العالم الكبير بالقياس إلى النوع ، وذلك أنّه كما كان صفة المنافق هنا أنّه كان في حكم الاسلام مدّة تضيء نار الاسلام عليه ، وعقّب باذهاب الله نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، كذلك نار الاسلام في العالم الكبير كانت يستوقدها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى شيّد أمر الدين ، ونصر الاسلام وأعلى كلمته ، كما تضيء الشمس في النهار في ظاهر العالم. كما

__________________

(١) يس / ٣٧.

(٢) الآية الاخيرة : الاعراف / ١٩٨ ، وفيها : «إن تدعوهم» ؛ والحديث في الكافي ج ٨ ، ص ٣٨٠ ، ح ٥٧٤ ، عن جابر ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ وكذا في البرهان ، ج ١ ، ص ٦٥ ، ح ٣ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٦ ، ح ٢٥.

٥٦٠