مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

الإسرار والإظهار للغير عموم من وجه ، وحينئذ فيحتمل قويّا أن يكون في الحكم الاسرار والاجهار مختلفا بحسب الاحوال ، فمن كان الإسرار له أخلص من جهة النيّة ، أو أدخل في التوجّه ، كان أرجح له ، ومن كمل إخلاصه ، أو كان متخلّيا عن الناس ، وكان الاجهار أشدّ تأثيرا في القلب ، أو أجمع للفكر ، أو كان منبّها للغير ، أو نحو ذلك ، كان أولى له.

ويؤيّد أولويّة الجهر في الجملة ما رواه الكليني بسنده عن أبي بصير قال :

«قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جائني الشيطان فقال : إنّما ترائي بهذا أهلك والناس.

فقال : يا أبا محمّد ، اقرأ قرائة ما بين القرائتين تسمع أهلك ، ورجّع بالقرآن صوتك ، فانّ الله عزوجل يحبّ الصوت الحسن.» (١)

ولا يبعد أن يكون ذلك لاستظهاره عليه‌السلام أنّ ذلك الخطور له بالنسبة إلى الاهل محض خطور لا يؤثّر في نيّته ، فيكون من قبيل تصوّر الرياء بخلافة بالنسبة إلى الناس ؛ إذ ربّما يشوب النيّة فيمنعه عن كمال الاخلاص.

[استحباب تحسين الصّوت وعدم جواز التّرجيع والغناء]

ومنها : تحسين الصوت ؛ كما دلّ عليه ذيل الخبرين المتقدّمين ، وما رواه الكليني بسنده عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكلّ شيء حلية ، وحلية القرآن الصوت الحسن.» (٢)

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ، والصافي ؛ ج ١ ، المقدمة الحادية عشرة ، ص ٤٥ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن.

(٢) نفس المصادر ، وكذا في جامع الاخبار ، ص ٤٩ ، وفيه : أنس بن مالك ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

١٨١

وما رواه في المرسل عنه عليه‌السلام قال :

«كان عليّ بن الحسين عليهما‌السلام أحسن الناس صوتا بالقرآن ، وكان السقّاؤون يمرّون فيقفون ببابه يستمعون قرائته.» (١)

وما رواه عن عليّ بن محمّد النوفلي ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال :

«ذكرت الصوت عنده ، فقال : إنّ عليّ بن الحسين عليهما‌السلام كان يقرأ فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته.» (٢)

وما رواه الصدوق في عيون الاخبار باسنادين عن الرضا عليه‌السلام قال :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حسّنوا القرآن بأصواتكم ، فانّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا.»

وزاد في إحدى الروايتين :

«وقرأ : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ.)» (٣).

وما رواه الطبرسي في مجمع البيان عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)(٤) ، قال :

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ؛ والصافي ، ج ١ ، المقدمة الحادية عشرة ، ص ٤٥ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٥٩.

(٢) نفس المصادر.

(٣) الآية : فاطر / ١ ؛ والروايتين : تجد الاخيرة في العيون ، ج ٢ ، باب ٣١ ، ص ٦٨ ، ح ٣٢٣ ، عن دارم بن قبيصة ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ، عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ ، عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ؛ وأما الرواية الاولى فلم نعثر عليها فيما بأيدينا من نسخ العيون ؛ ولكن نقلهما الشيخ حرّ العاملي (رض) عنه فى الوسائل ، باب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٥٩ و ٨٦٠ ، ح ٦ و ٧. واسناد الرواية الاولى على ما في الوسائل هو : محمد بن عمر الجعابي ، عن الحسن بن عبد الله التميمي ، عن أبيه ، عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ ، عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

(٤) المزّمّل / ٤.

١٨٢

«هو أن تتمكّث فيه وتحسن به صوتك.» (١)

أقول :

قد يكون حسن الصوت طبيعيّا منشؤه كون آلات التنفّس والتكلّم بحيث يصدر عنه الكلام حسنا وملايما مناسبا لسمع السامعين ، بحيث يستلذّ به السامع ، كما أنّها قد تكون على خلاف ذلك بحيث يخرج منه الكلام على وجه تشمئزّ منه النفوس ؛ كصوت الحمار. وهذا في الصوت كالحسن والقبح في الوجه وغيره من سائر الاشياء. وقد يكون اختياريّا ناشئا من طرف المادّة باعتبار إخراج الحروف من أليق حدود مخارجها بها على وجه متناسب ، كما يشاهد في بعض القرّاء ، أو من طرف الهيئات العارضيّة للحروف ، المحسّنة لها ، المزيّنة إيّاها ، باعتبار الانفراد والتأليف مع غيرها بحيث يميل إلى معروضها نفس السامع ، كما يعرض القبح للكلام بالاعتبارين ، كما هو المشاهد من بعض الناس. وقد يكون اختياريّا ناشئا من ترجيح الصوت وترديده بكيفيّات خاصّة ، بحيث تؤثر في النفس سرورا وحزنا ، مع قطع النظر عن مادّة الحروف والكلمات وهيئاتها العارضة لها ، بل هو خارج عنها أصلا ، بل ربّما يوثّر تأثيرها في نفس السامع مع عدم سماعه لجوهر الكلام.

وبيان هذا النمط من الحسن هو الّذي تكفّل له علم الموسيقي المعدود من أجزاء علم الحكمة ، وله أقسام وقواعد مسطورة فيه.

ولا يبعد أن يكون هذا القسم بالخصوص هو المراد بالغناء الّذي ورد عنه النهي في الاخبار وأفتى بحرمته العلماء ، ويشبه أن يكون موضوعه ظاهرا عند أهله ومن له بصيرة بهذا الشأن ، ولو في الجملة ؛ إذ ليس كلّ من يعرف حسن الشيء من قبحه يقدر على صناعته ، كما يظهر بين الخطّ الحسن والقبيح ، والبناء الحسن

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٧٨ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢١ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٥٦ ، ح ٤.

١٨٣

من القبيح. والظاهر أنّ هذا من الكيفيّات العارضة للصوت ؛ كعروض هيئة الشعر على الكلمات في تعيّنه واقعا ، وانقسامه إلى أقسام محصورة في الواقع ، ومعرفته من لا يقدر على إحداثه ، واختلاف الصانعين في جودة الطبع وعدمها ، ومقدار الاكتساب. وهذه الكيفيّة هي ترجيع خاصّ معهود ، ومطرب مؤثّر في النفس سرورا وحزنا ، وهو المراد من تفسيره بالترجيع ، أو مع قيد الاطراب ، أو ما يعبّر عنه في الفارسيّة ب «خوانندگى» ، ونحوها إن أريد بها ، وما يشبهها المعاني المعهودة عند أهل الخبرة بهذا الشأن.

وهيهنا نوع آخر من حسن الصوت بالقرآن يحصل من حال القارئ إذا ترقّى في مقامات القرائة من هذا العالم إلى عالم السرور والبهاء والقدس ، فانه يحدث لقرائته ملاحة وحسنا ، ويتلبّس بها كلامه بحيث يبتهج به السامع ابتهاجا روحانيّا لصدوره من عالم البهجة والحسن والجمال ، وظهور حال المتكلّم وصفاته في الكلام ، كما يظهر حزنه وسروره فيه بحيث سرى منه إلى السامع ، كما يؤثّر الغناء في ذلك ، وكما أنّه إذا خرج عن القلب دخل في القلب. ويشبه أن يكون هذا النمط من الحسن هو ما كان لداود وعليّ بن الحسين والباقر عليهم‌السلام على ما روي في الأخبار ، أو نمط أعلى من ذلك يشابهه في الروحانيّة ، وذلك بخروج القرآن عن لسان المتكلّم على ما هو عليه من البهاء والكمال الروحاني ، أو عن مبدئه الّذي له الجمال المطلق.

وممّا ذكر يظهر أنّه لا يختصّ تحسين الصوت بالقرآن ، والترجيع به بالتغنّي به ، بل ليس لتلك الاخبار الواردة ظهور تامّ في جوازه فضلا عن رجحانه ، فالخروج بها عن إطلاق ما دلّ على حرمته جرئة تامّة ، خصوصا بملاحظة ما رواه الكليني بسنده عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اقرءوا القرآن بألحان العرب و

١٨٤

أصواتها ، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر! فانّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانيّة ، لا يجوز تراقيهم ، قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم.» (١)

[استحباب التّرتيل في القرائة ومعنى التّرتيل]

ومنها : الترتيل ؛ قال سبحانه : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً.)

وعن الكافي بسنده عن عبد الله بن سليمان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك ، قال :

«قال أمير المؤمنين : بيّنه تبيانا ، ولا تهذّه هذّ الشعر ، ولا تنثره نثر الرمل ، ولكن أقرعوا (٢) به قلوبكم القاسية ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.» (٣)

وروى الطبرسي قريبا من ألفاظه عنه عليه‌السلام مرسلا (٤). لكنّ الموجود في

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ، ص ٦١٤ ، ح ٣ ؛ ورواه أيضا الطبرسي (ره) في مجمع البيان ، ج ١ ، المقدمة ، الفن السابع ، ص ١٦ ، عن حذيفة بن اليمان ، عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ؛ والشيخ البهائي (قده) في كشكوله ، ج ٢ ، ص ١٦ ، مرسلا عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ؛ وهكذا في الوسائل ، ج ٤ ، باب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٥٨ ، ح ١.

(٢) في بعض النسخ : «أفزعوا» أو «فزعوا».

(٣) الكافي ، ج ٢ ، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ، ص ٦١٤ ، ح ١ ؛ والصافي ، ج ١ ، المقدمة الحادية عشرة ، ص ٤٥ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢١ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٥٦ ، ح ١. وقال الفيض (ره) في الصافي : «الهذّ : السرعة في القرائة ؛ أي : لا تسرع فيه كما تسرع في قراءة الشعر ، ولا تفرق كلماته بحيث لا تكاد تجتمع كذرّات الرمل ، والمراد به الاقتصاد بين السرعة المفرطة والبطوء المفرط.»

(٤) راجع مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٧٨.

١٨٥

النسخة أفزع بالموحّدتين ، كما أنّ الموجود في نسخة الوسائل عن الكليني أقرع بالمثنّاة والمهملة ، كما أنّ الموجود في نسخة تفسير عليّ بن إبراهيم هكذا :

قال :

«بيّنه تبيانا ، ولا تنثره نثر الرمل ، ولا تهذّه هذّ الشعر ، ولكن أقرع به القلوب القاسية». (١)

وقال الطبرسي بعد الرواية : وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فاسأل الله الجنّة ، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار ، فتعوّذ بالله من النار.» (٢)

وقد سبق رواية أخرى عنه فيه.

وروى غيره عن الصادق عليه‌السلام في المرسل كالصحيح :

«ينبغي للعبد إذا صلّى أن يرتّل في قرائته ، فاذا مرّ بآية [فيها] ذكر الجنّة وذكر النار سأل الله الجنّة وتعوّذ [بالله] من النار ، وإذا مرّ ب (٣) : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يقول : لبّيك ربّنا» (٤)

__________________

(١) القمي ، ج ٢ ، ص ٣٩٢.

(٢) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٧٨ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب آداب القرائة وأوقاتها ، ص ٢١٦ ، ح ٢٠ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٣ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٣٠ ، ح ٨.

(٣) في المخطوطة : «إذا قرأ».

(٤) رواه الشيخ (ره) في التهذيب ، ج ٢ ، باب في كيفية الصلاة وصفتها .... ، ص ١٢٤ ، ح ؛ ونقله الحرّ العاملي (ره) في الوسائل ، ج ٤ ، باب ١٨ من أبواب القراءة في الصلاة ، ص ٧٥٣ ، ح ١.

١٨٦

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام تفسيره ب : «حفظ الوقوف ، وأداء الحروف.» (١)

وعن دعائم الاسلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما نقله بعض الفقهاء عقيب رواية عبد الله بن سليمان :

«ولا تنثره نثر الرمل ، ولا تهذّه هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.» (٢)

وقد اختلفوا تعبيرا في تفسير الترتيل ، فقال الجوهري في الصحاح : «الترتيل في القرائة : الترسّل فيها ، والتبيين بغير بغي وكلام ، رتّل بالتحريك أي : مرتّل ، وثغر رتّل أيضا إذا كان مستوى البنات.»

وعن ابن عباس في تفسيره في الآية : «بيّنه تبيانا ، واقرأه على هنيئتك ثلاث آيات وأربعا وخمسا.» (٣)

__________________

(١) نقله الفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، المقدمة الحادية عشرة ، ص ٤٥ ؛ والمجلسي (ره) في البحار ، ج ٦٧ ، باب علامات المؤمن وصفاته ، ص ٣٢٣ ؛ وج ٨٥ ، كتاب الصلاة ، باب القرائة وآدابها ، ص ٨.

(٢) دعائم الاسلام ، ج ١ ، كتاب الصلاة ، باب في ذكر صفات الصلاة ص ١٦١.

والمراد من بعض الفقهاء هو : الشيخ محمد حسن النجفي ـ قدّس الله سرّه ـ صاحب الجواهر ، وقد نقله في ج ٩ ، كتاب الصلاة ، باب القرائة ، ص ٣٩٢ من كتابه ؛ ونقله أيضا المجلسي (رض) عن الدعائم ، عنه ـ عليه‌السلام ـ في البحار ، ج ٨٥ ، باب القرائة وآدابها من كتاب الصلاة ، ص ٥٠ ، وعن نوادر الراوندي ، عن موسى بن جعفر ، عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في ج ٩٢ ، باب آداب القراءة من كتاب القرآن ، ص ٢١٥ ، ح ١٧ ؛ وهكذا أخرجه العسكري فى المواعظ عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ ، عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما في الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٧٧.

(٣) راجع مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٧٧.

١٨٧

وعن الزجاج : «البيان لا يتمّ بأن يعجل في القرآن ، إنّما يتمّ بأن يبيّن جميع الحروف وتوفي حقّها من الاشباع.» (١)

وعن مجاهد : «معناه : يرسّل فيه ترسيلا.» (٢) وعن قتادة : «ثبت فيه تثبيتا.» (٣)

وقيل : «الترتيل هو أن يقرأه على نظمه وتواليه ، ولا يغيّر لفظا ، ولا يقدّم مؤخّرا ، وهو مأخوذ من ترتّل الاسنان إذا استوت وحسن انتظامها.» (٤)

وقيل : «رتّل معناه : ضعّف ، والرتل : اللّين» عن قطرب ، قال : «والمراد بهذا تحزين القرآن ، أي : اقرأه بصوت حزين.» (٥)

وعن بعض تفسيره ب «الترسّل والتؤودة بتبيين الحروف وإشباع الحركات.» (٦) وعن آخر : «بالتأنّي والتمهّل ، وتبيين الحروف والحركات» ، قال : «تشبيها بالثغر المرتّل ، وهو المشبّه بنور الاقحوان.» (٧)

وعن الشيخ الطوسي [ره] وغيره تفسيره ب «تبيين الحروف من غير مبالغة» (٨).

__________________

(١) نفس المصدر ؛ وهكذا نقله الطوسي (ره) في التبيان ، ج ١٠ ، ص ١٦٢ ؛ والرازي في التفسير الكبير ، ج ٨ ، ص ٣٣٤.

(٢) التبيان ، ج ١٠ ، ص ١٦٢ ؛ ومجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٧٧ ؛ والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٧٧.

(٣) راجع مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٧٦.

(٤) نفس المصدر ، ص ٣٧٨.

(٥) نفس المصدر.

(٦) هذا التفسير للزمخشري على الظاهر ، راجع الكشّاف ، ج ٤ ، ص ١٥٢.

(٧) القول لابن الاثير كما يقول في النهاية ؛ وهكذا في تفسير القرطبي ، ج ١ ، ص ١٧.

(٨) التبيان ، ج ٧ ، ص ٤٨٨ ، وج ١٠ ، ص ١٦٢ ؛ وهكذا في منتهى المطلب للعلامة كتاب الصلاة ، باب القراءة ، ص ٢٧٨ ؛ والمعتبر للمحقّق الحلّي ، كتاب الصلاة ، باب القراءة ، ص ١٧٦ ، نقلا عن الشيخ.

١٨٨

وعن العلامة : ب «بيان الحروف وإظهارها» ، وب «أن لا يمدّه بحيث يشبه الغناء.» (١) وكأنّهما مأخوذان من كلام الجوهري من التقييد بغير بغي (٢).

وعن إرشاد الجعفريّة ب : «تبيين الحروف وإظهارها» (٣). وعن المدارك ب «الترسّل والتبيين وحسن التأليف.» (٤) وعن جماعة ب «حفظ الوقوف وأداء الحروف.» (٥)

وأكثر هذه التعبيرات متقاربة المفاد ، وليس المفسّر ملتزما بايراد الحدّ الجامع المانع ، وإنّما عليه كشف المعنى ولو في الجملة ، كما هو الظاهر من ملاحظة كلمات أهل اللّغة والتفسير.

وفسّره بعض الفقهاء ب «الترسّل والتأنّي بالقرائة بسبب المحافظة على كمال بيان الحروف والحركات ، فيحسن تأليفه وتنضيده ، ويكون كالثغر المرتّل الّذي حسن نضده بسبب ما فيه من الفلج حتّى شبّه بنور الاقحوان ، بخلاف غير المرتّل من الكلام الّذي يشبه في تتابعه الثغر الألصّ ، أو الشعر الذي يهذّ ويسرع في تأديته ، أو الرمل المنثور الذي بعضه على بعض ؛ كالدقل من التمر المتراكم قبل سقوطه أو بعده إذا تساقط متتابعا.» (٦)

__________________

(١) ذكره (ره) في نهاية الاحكام ، كتاب الصلاة ، باب القراءة ؛ وتذكرة الفقهاء ج ١ ، كتاب الصلاة ، ص ١١٧.

(٢) كما قال (ره) في الجواهر ، ج ٩ ، ص ٣٩٤.

(٣) كما في المصدر السابق ؛ ومفتاح الكرامة ، كتاب الصّلاة ، باب القراءة.

(٤) مدارك الاحكام ، كتاب الصلاة ، باب القرائة.

(٥) كالشهيد الاول ـ قدّس الله روحه ـ ، ذكره في الذكرى ، ج ١ ، كتاب الصلوة باب القرائة (الواجب الرابع) ؛ وهكذا فى الجواهر ، ج ٩ ، ص ٣٩١ ـ ٣٩٥ ، ولقد يوجد فيه كثير من الاقوال المتقدمة كما أشرنا إلى بعضها فيما سبق.

(٦) الكلام لصاحب الجواهر ، راجع المصدر ، ج ٩ ، كتاب الصلاة ، باب القراءة ، ص ٣٩٢.

١٨٩

واستظهر أن يكون هو المراد لأكثر اللّغويين والفقهاء وإن اختلفت عباراتهم. ويشبه أن يكون الجامع لجميع ما ذكر عدا ما عن قطرب ، الترسّل والتأنّي والتؤودة والتمهّل فيها ، فلا يكون هذّا كهذّ الشعر على ما عن ابن الاثير من تفسيره بترك الاسراع فيه وترك الافراط في التمهّل ، فيكون نثرا كنثر الرمل أو الدقل على أحد الاحتمالين ، وتبيين الحروف وإظهارها ، وترك المبالغة فيه ، وتوفية حقّها من الاشباع ، وبيان الحركات ، والمحافظة على نظمه وتواليه بحيث يحسن تأليفه ، ويحفظ وقوفه. وهذا قريب ممّا سبق عن المدارك.

ولعلّ الجامع لها هو : إفصاح الكلام وإظهاره مادّة وهيئة على الوجه الّذي ينبغي أن يكون عليه ، بحيث يكون ظاهر الأجزاء منفصلة الابعاض مع بقاء نظامها ، وارتباط بعضها مع بعض ؛ كالثغر المرتّل الّذي انفصل أسنانه ، مع بقاء نسقه ونظامه ، ولزومه محلّه الّذي ينبغي أن يكون عليه.

وأمّا سؤال الجنّة والنار ، فلم يعلم من الاخبار كونه معنى الترتيل ، فلعلّه من لواحق الترتيل ؛ إذ الكلام الصادر على الوجه المذكور يكون منشرح المعاني للقارئ ، فيناسب إلحاق السؤالين المفروضين بالقرائة ؛ كقول لبّيك عقيب الخطابين ، وكذا الوقوف عند عجائبه ، وتحريك القلوب وتقريعها وتفزيعها.

ويمكن أن يقال : إنّ هيهنا ترتيلا صوريا في لفظ القرائة ، وترتيلا معنويا في معانيها الواردة على القلب ، وترتيلا في الحالات المنبعثة عن تلك المعاني الواردة عليه ؛ فتبيين للقلب ، وتبيين للمعنى لعلّه المراد من الوقوف عند عجائبه ، وتبيين للحالة الحادثة من ذلك المعنى من طلب جنّة واستعاذة من نار في القلب مؤكّدا إيّاهما باجرائه على اللّسان ، أو حالة إجابة نداء الحقّ ، كذلك. ولعلّه المراد من إقراع القلب وإفزاعه وتحريكه ، وكذا التأنّي في اللّفظ والمعنى والحالة ، وكذا حسن التأليف في كلّ منها ، فتدبّر.

١٩٠

وأمّا ما نقل عن قطرب من إرادة تحزين الصوت بالقرآن فشاذّ ، ولا يؤيّده الرواية المذكورة في بيان استحباب تحسين الصوت ؛ إذ المذكور هو : التمكّث وتحسين الصوت وهو غير التحزين ، وبينهما عموم من وجه.

ولعلّ المراد من التحسين تحسين المادّة والصورة والنظم ، فيدلّ على ما ذكرنا ، وقد أشرنا إلى بيانه هناك ، فيكون هذه الرواية والروايات السابقة والآتية متفرّقة مع كلمات الجماعة ، مجتمعة على ما استظهرناه وإن احتاج إلى تصرّفات في ظواهر كثير منها.

وأمّا ما ذكره العلامة [ره] من ترك مدّها بحيث يشبه الغناء ، فان كان المراد منه ما يخلّ بأسلوب القرآن ونظامه ، الّذي ينبغي أن يكون عليه ، فهو حسن ، وإلا كان ممنوعا ؛ إذ لم نجد له شاهدا أصلا.

هذا ما سنح بالبال ، والله العالم بحقيقة الحال.

[ترك الافراط في مقدار القرائة إلّا في شهر رمضان]

ومنها : ترك الافراط في مقدار القرائة على ما يستفاد من جملة من الاخبار ؛ فعن الكليني بسنده عن محمّد بن عبد الله قال :

«قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أقرأ القرآن في ليلة ، فقال : لا يعجبني أن تقرأه في أقلّ من شهر.» (١)

وباسناده عن الحسين بن خالد ، عنه عليه‌السلام قال :

«قلت له : في كم أقرأ القرآن؟ فقال : اقرأه أخماسا ، إقرأه أسباعا ؛ أما إنّ عندي مصحفا مجزّءا أربعة عشر جزءا.» (٢)

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، باب في كم يقرأ القرآن ويختم ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢٧ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٦٢.

(٢) نفس المصادر.

١٩١

وباسناده عن عليّ بن أبي حمزة قال : سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر ، فقال له :

«جعلت فداك ، أقرأ القرآن في ليلة؟

فقال : لا. قال : ففي ليلتين؟

فقال : لا. حتّى بلغ ستّ ليال ، فأشار بيده فقال : ها.

ثمّ قال : يا با محمّد ، إنّ من كان قبلكم من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ القرآن في شهر وأقلّ ؛ إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة ، ولكن يرتّل ترتيلا. إذا مررت بآية فيها ذكر النار وقفت عندها وتعوّذ [ت] بالله من النار.

فقال له أبو بصير : أقرأ القرآن في رمضان في ليلة؟

فقال : لا. فقال : ففي ليلتين؟

فقال : لا. فقال : ففي ثلاث؟

فقال : ها ، وأومأ بيده ، نعم ، شهر رمضان لا يشبهه شيء من الشهور ، له حقّ وحرمة ، أكثر من الصلاة ما استطعت.» (١)

وعن السيّد ابن طاووس في الاقبال ، عن وهب بن حفص ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«سألته : الرجل في كم يقرأ القرآن؟ قال : في ستّ ، فصاعدا.

قلت : في شهر رمضان؟ قال : في ثلاث ، فصاعدا. (٢)

__________________

(١) نفس المصادر.

(٢) الاقبال ، ص ١١٠ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢٧ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٦٤.

١٩٢

وعن جعفر بن قولويه باسناده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«لا يعجبني أن يقرأ القرآن في أقلّ من شهر.» (١)

ولعلّ السرّ فى ذلك هو لزوم الاخلال بآداب القرائة من الترتيل والتدبّر وغيرهما على تقدير الافراط ، أو حدوث القساوة في القلب وعدم تأثّره من مواعظه ، كما ربّما يشاهد نظيره عن بعض من يدمن حضور مجالس الوعّاظ ومحادثتهم ، فانّه أبعد تأثّرا من المقتصدين ، أو حدوث الكسل عن هذه العبادة الشريفة وإدبار النفس عنها ، وكراهتها إيّاها ، مع أنّ النشاط في العبادة والاقبال عليها مطلوب.

وأمّا شهر رمضان ، فانّ المواظبة فيه على العبادة أكثر ، فربّما يسهل عليه مراعات الآداب مع الاكثار ، والقلب فيه رقيق من جهة الصوم ، فلا يحدث للمتّقي قساوة ، والنشاط فيه للعبادة وقلّة الكسالة وإقبال القلب مشاهد من أهل العبادة ، كما يظهر بأدنى تأمّل في تفاوت أحوالهم فيه بالنسبة إلى سائر الشهور. مع أنّ فيوضات ذلك الشهر ربّما تمدّ المتّقي باطنا ، وتصير سببا لظهور بركات القرائة لأهله ، وقبول ما لم يكمل فيه آدابه. ولعلّه لذا ورد فيها الاذن في الختم في كلّ ليلة ، بل استفاد الرخصة في أربعين ختمة في مجموع الشهر. ولعلّ الاشارة فيما رواه الكليني إلى ما مرّ باسناده عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«لكلّ شيء ربيع ، وربيع القرآن شهر رمضان.» (٢)

ومنه يظهر قوّة احتمال اختلاف الأشخاص في المقدار الّذي ينبغي له من الجزء الواحد من ثلاثين جزء إلى السدس من القرآن ، بل ورد في رواية «إبراهيم بن العباس» أنّ الرضا عليه‌السلام كان يختمه في كلّ ثلاث ويقول :

__________________

(١) نفس المصادر.

(٢) الكافي ، ج ٢ ، باب النوادر من كتاب فضل القرآن ص ٦٣٠ ، ح ١٠ ؛ ورواه أيضا الصدوق (ره) في ثواب الاعمال ، ص ١٢٩ ؛ وفي المجالس والمعاني كما في الوسائل ، ج ٤ ، باب ١٨ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٥٣ ، ح ٢.

١٩٣

«لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمت ، ولكنّي ما مررت بآية قطّ إلا فكّرت فيها ، وفي أيّ شيء انزلت ، وفي أيّ وقت ، فلذلك صرت أختم في كلّ ثلاثة.» (١)

[التّحزين في القرائة]

ومنها : كون القرائة بالحزن ؛ فعن الكليني باسناده عن ابن أبي عمير ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«إنّ القرآن نزل بالحزن ، فاقرؤه بالحزن.» (٢)

وباسناده عن عبد الله بن سنان ، عنه عليه‌السلام قال :

«إنّ الله أوحى إلى موسى بن عمران عليه‌السلام : إذا وقفت بين يديّ فقف موقف الذليل الفقير ، وإذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين.» (٣)

وباسناده عن حفص قال :

«ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليه‌السلام ، ولا أرجى الناس منه ، وكانت قرائته حزنا ، فكأنه يخاطب إنسانا.» (٤)

__________________

(١) رواه الصدوق (ره) في العيون ، ج ٢ ، باب ٤٤ ، ص ١٧٧ ، ح ٤ ؛ ونقله الحرّ العاملي (رض) في الوسائل ، ج ٤ ، باب ٢٧ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٦٣ ، ح ٦.

(٢) الكافي ، ج ٢ باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن من كتاب فضل القرآن ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢٢ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٥٧.

(٣) نفس المصادر.

(٤) الكافي ، ج ٢ ، باب فضل حامل القرآن ، ص ٦٠٦ ، ح ١٠ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢٢ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٥٧ ، ح ٣.

١٩٤

[استحباب سؤال الجنّة والاستعاذة من النّار عند آيتيهما]

ومنها : سؤال الجنّة والاستعاذة من النار عند آيتيهما ، بل سؤال كلّ مسئلة عند آيتها ، والعافية من العذاب ؛ وقد مرّ جملة من الأخبار في ذلك.

وعن الكليني باسناده عن سماعة قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام :

«ينبغي لمن قرأ القرآن إذا مرّ بآية من القرآن فيها مسئلة أو تخويف أن يسأل [الله] عند ذلك خير ما يرجو أو يسأله العافية من النار ومن العذاب.» (١)

وعن الطبرسي عن الصّادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) ، (٢) قال :

«حقّ تلاوته هو : الوقوف عند ذكر الجنّة والنار ؛ يسأل في الاولى ، ويستعيذ من الاخرى.» (٣).

واعلم أنّ السؤال والاستجارة لفظيّان وقلبيّان ، ربّما يعبّر عنهما بالطلب والاستدفاع ، والرجاء والخوف ؛ وعلميان فعليّان بمعنى المعرفة بأنه في معرض حصول المرجوّ له ، ووقوع المخوف عليه ، مع العلم بوجودهما في الواقع ، وكونهما في يد المسؤول عنه ، والمستعاذ به يعذّب من يشاء بما يشاء كيف يشاء ، ويرحم من يشاء بما يشاء كيف يشاء ، مع تذكّر الانسان لمعرفته تفصيلا ، والاوّلان حكايتان عن الثانيين منبعثان عنهما ، وهما مسبّبان عن الاخيرتين. فاذا حصّل العلم والمعرفة في النفس

__________________

(١) الكافي ، ج ٣ ، باب البكاء والدعاء في الصلاة ، ص ٣٠١ ، ح ١ ؛ ورواه الشيخ (ره) في التهذيب ، ج ٢ ، باب كيفية الصلاة وصفتها و... من أبواب الزيادات ، ص ٢٨٦ ، ح ٣ ؛ وهكذا في الوسائل ، ج ٤ ، باب ٣ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٢٨ ، ح ٢.

(٢) البقرة / ١٢١.

(٣) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٩٨ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢٧ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٦٣ ، ح ٧.

١٩٥

بما مرّ ، وصار ذاكرا له انبعث الرجاء والخوف والطلب والهرب في القلب ، وإذا تحقّقت صار اللّسان مترجما للحالة الحادثة حاكيا عنه ، وتوسّل السائل بسؤاله نيل مقصوده ، أو الهرب عن مبغوضه. والقرآن هو المذكّر لذلك ، والهادي إليه لمن يؤمن به ، فيحقّ أن يكون حقّ تلاوته هو حصول التذكّر والمعرفة بحيث يستتبعهما آثارهما في القلب واللّسان ، ولا يكمل السؤال حقيقة إلا باستجماعه المراتب ، وكذا الاستجارة والاستعاذة ، فتأمّل.

[التفكّر في معاني القرآن والتأثّر منها]

ومنها : التفكّر في معاني القرآن والتدبّر والتأثّر والاتّعاظ ، واستشعار الرقّة واللّين والوجل والدمعة ، وما أشبه ذلك دون إظهار الغشية.

فعن الكليني باسناده عن الحلبيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، والصدوق بسنده عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّهما قالا :

«قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ألا أخبركم في الفقيه حقّا؟ من لم يقنّط الناس من رحمة الله ، [ولم يؤمنهم من عذاب الله ،] ولم يؤيسهم من روح الله (١) ، ولم يرخّص لهم في معاصي الله ، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره ؛ ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم ، ألا لا خير في قرائة ليس فيها تدبّر ، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه.» (٢)

والاوّل باسناده عن الزهري قال : سمعت عليّ بن الحسين عليهما‌السلام يقول :

«آيات القرآن خزائن ، كلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن

__________________

(١) هذه الفقرة غير موجودة في بعض نسخ الكافي والمعاني.

(٢) الكافي ، ج ١ باب صفة العلماء ، ص ٣٦ ، ح ٣ والمعاني ، باب معنى الفقيه حقا ، ص ٢٢٦ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٣ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٢٩ ، ح ٧.

١٩٦

تنظر ما فيها.» (١)

[كلام عليّ ـ عليه‌السلام ـ في صفة المتّقين وشرحه]

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام طويل في صفة المتّقين :

«أمّا اللّيل ، فصافّون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم. فاذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ؛ وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم. فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم ، وأطراف أقدامهم ؛ يطلبون إلى الله سبحانه تعالى في فكاك رقابهم.» (٢)

وعن الصدوق في المجالس باسناده عن جعفر بن محمّد ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام في جملة كلام في صفتهم هكذا :

«أما اللّيل ، فصافّون أقدامهم ، تالين لاجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به تهييج أحزانهم بكاء على ذنوبهم ، ووجع كلوم جراحهم. وإذا مرّوا

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، باب في قراءته من كتاب فضل القرآن ، ص ٦٠٩ ، ح ٢ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ١٥ من أبواب قراءة القرآن ، ص ٨٤٩ ، ح ٢ ؛ وهكذا رواه ابن فهد الحلّي (رض) في عدّة الداعي (المخطوطة) ، الباب السادس ، ص ٢٥٥ ؛ ونقله المجلسي (ره) عنه في البحار ، ج ٩٢ ، باب آداب القرائة وأوقاتها ، ص ٢١٦ ، ح ٢٢.

(٢) نهج البلاغة ، خ ١٩٣ ، ص ٣٠٤ ؛ والبحار ، ج ٦٧ ، باب علامات المؤمن وصفاته ، ص ٣١٥ ، ح ٥٠ ؛ وهكذا رواه الحرّاني (ره) في تحف العقول ، ص ١٠٧.

١٩٧

بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وأبصارهم ، فاقشعرّت منها جلودهم ، ووجلت [منها] قلوبهم ، فظنّوا أنّ صهيل جهنّم [وزفيرها] وشهيقها في أصول آذانهم ؛ وإذا مروّا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلّعت أنفسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ـ الحديث.» (١)

وعن كنز الكراجكي باسناده عنه عليه‌السلام في جملة كلام له في صفة شيعة أهل البيت هكذا :

«أمّا اللّيل ، فصافّون أقدامهم ، تالون لأجزاء القرآن يرتّلونه ترييلا ، يعظون أنفسهم بأمثاله ، ويستشفون لدائهم بدوائه تاره وتارة ، مفترشون جباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، تجري دموعهم على خدودهم ـ الحديث.» (٢)

أقول :

«الصفّ» : ترتيب الجمع على صفّ ، وصفّ القدمين في الصلاة : وضعهما بحيث يتحاذى الابهامان ويتساوى البعد بين الصدر والعقب. وحينئذ إرادة هذا المعنى في حال صلاتهم حقيقة لكون قرائتهم فيها كذلك ، أو كونهم بهذه الصفة ولو في غيرها ، وأن يكون كناية عن مطلق قيامهم بالقرائة مع شدّة ثباتهم وإقبالهم عليها بجدّهم ، وعن بعض النسخ : «تالون».

و «الحزن» : الهمّ ، وحزنه الامر كنصر أي : جعله حزينا ، وحزن كعلم أي : صار حزينا ، وحزّنه تحزينا : جعل فيه حزنا ، والاوّل والاخير كلاهما

__________________

(١) المجالس ، المجلس الرابع والثمانون ، ص ٥٧٠ ، ح ٢ ؛ والبحار ج ٦٧ ، ص ٣٤١ ، ح ٥١ ؛ ورواه أيضا سليم بن قيس الكوفي ـ قدّس الله سرّه ـ فى كتابه ، ص ٢٣٩.

(٢) كنز الفوائد ، ص ٣٢.

١٩٨

موجودان في النسخ ، وتحزين النفوس بآيات الوعيد ظاهر ، وأمّا آيات الوعد ، فللخوف من الحرمان وعدم الاستعداد ، كذا قيل ؛ لكن أكثر الآيات بظاهرها خارجة عن كلتا الطائفتين. ويصحّ أن يلاحظ فيها أمورا يحزن به النفس من جهات عديدة ، فيلاحظ في الآيات المشتملة على ذكر النعم العامّة والتقصير في شكرها ، وفيما دلّ على صفات الحقّ بعدم القيام بواجب حقّ عبوديّته ، وما اشتمل على نعمه على بعض العباد باستشعار أنّ فقدها له لقصوره إن كان مفقودا له ، والتقصير في الشكر إن كان مثله موجودا ، وغير ذلك من الوجوه المناسبة. وكما يمكن تحزين النفس بالقرآن يمكن إثارة البشارة والرجاء منه ولو من آيات الوعيد لكون الانتقام من الاشقياء نعمة على السعداء لأنّهم أعدائهم ، وإثارة المحبّة منها بملاحظة صفات الله سبحانه الذاتيّة والفعليّة في جملة أفعاله وحكمته وعدله وسنّته في الماضين والغابرين ، وعجائب تدبيره. فينشرح منها القلب بالمعرفة والمحبّة واستثارة الحياء لمشاهدة عظمة المتكلّم في كلامه الحاكي عن جلاله وجماله ، ومشاهدة القصور والتقصير ، ونفود حكمه ومشيّته ، وسعة قدرته وحلمه وكرمه في طيّ أفعاله وصنائعه وأحكامه.

ولعلّه عليه‌السلام اقتصر على الاوّل لكون التحزين أقرب إلى مقام العبوديّة والخضوع والاستكانة للحقّ ، وأقرب إلى شمول الرحمة له بالتدارك ، وأقمع للنفس عن هواه وكبره وأنانيّته من الرجاء ، مع أكثريّة الزواجر في القرآن عن المبشّرات لاقتران المبشّرات نوعا بشرائط وخصوصيّات غير متحقّقة الحصول للعبد.

وأمّا المحبّة والحياء ، فاستثارتهما من القرآن موقوف على علوّ مقام في المعرفة ، وصلاح القلب لا تحضر لأغلب العباد في أكثر أوقاتهم. ويحتمل أن يراد من تحزين القلب بالقرآن تحزينه بما اشتمل ظاهره على ما ينبغي الحزن بسببه ، لا

١٩٩

الاستغراق ، هذا.

وأثار الغبار واستثاره أي : هيّجه ؛ قيل : «لعلّ المراد بالدواء : العلم ، وبالداء : الجهل ، واستثارة العلوم الكامنة على حسب الاستعداد والكمال بالتدبّر والتفكّر والتذكّر.»

وقال بعضهم : «المراد أنّهم يداوون بآيات الخوف داء الرجاء الغالب الّذى كاد يبلغ [حدّ] الاغترار والامن لمكر الله ، وبآيات الرجاء داء الخوف إذا قرب من القنوط ، وبما يستكمل اليقين داء الشبهة ، وبالعبر داء القسوة ، وبما ينفر عن الدنيا والميل إليها داء الرغبة فيها ، ونحو ذلك.» (١)

وهذا مقام أهل الاحوال والاخلاق المشتغلين بمعالجة نفوسهم ، كما أنّ الاوّل مقام الحكماء المستهدين بأنوار القرآن ، فيمكن الحمل على الاعمّ منهما ، بل على الاعمّ من حال المنقطع إلى الله سبحانه في أدواته المتقرّب إليه سبحانه بكلامه ليجعله شفاء لما في صدره.

وركن إلى الشيء : مال وسكن. والتطّلع إلى الشيء : الاستشراف له ، والانتظار لوروده. ونصب الشيء : رفعه ، وأن يستقبل به شيء ، والكلمة منصوبة على الظرفيّة ؛ أي : ظنّوا أنّها فيما نصب بين أيديهم ، كذا قيل ، وعن بعض النسخ برفع النصب على أنّه خبر «أنّ» ، ويكون النصب بمعنى المنصوب والاضافة إلى الاعين لأدنى ملابسة.

وعن «الكيدريّ» : «وتطّلعت نفوسهم إليها أي : كادت تطلع شموس نفوسهم من أفق عوالم الابدان ، فتصعد إلى العالم الاعلى شوقا إلى ما وعدوا به في تلك الآيات من أخائر الذخائر وعظائم الكرائم.»

__________________

(١) نقله المجلسي (رض) عن والده (ره) في البحار ، وسنشير إلى موضعه فيه عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ.

٢٠٠