مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

زفير جهنم.

«حطى» حطت الخطايا عن المستغفرين.

«كلمن» كلام الله لا مبدل لكلماته.

«سعفص» ، صاع بصاع ، والجزاء بالجزاء.

«قرشت» قرشهم فحشرهم.

فقال المؤدب : أيتها المرأة ، خذى بيد ابنك ، فقد علم ولا حاجة له في المؤدب (١).

وباسناده عن الاصبغ بن نباتة أنه قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«سأل عثمان بن عفان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير «أبجد» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تعلّموا تفسير أبجد ، فان فيه الاعاجيب كلّها ؛ ويل لعالم جهل تفسيره.

فقيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما تفسير «أبجد»؟

فقال : أما الالف ، فآلاء الله حرف من أسمائه ، وأما الباء ، فبهجة الله ، وأما الجيم ، فجنة الله وجلال الله وجماله ، وأما الدال ، فدين الله.

وأما «هوز» فالهاء هاء الهاوية ، فويل لمن هوى في النار ، وأما الواو ، فويل لأهل النار ، وأما الزاء ، فزاوية في النار ، فنعوذ بالله مما في الزاوية ؛ يعنى : زوايا جهنم.

__________________

(١) التوحيد ، باب تفسير حروف الجمل ، ص ٢٣٦ ، ح ١ ؛ والمعاني ، باب معنى حروف الجمل ، ص ٤٥ ، ح ١ ؛ والبحار ، ج ٢ ، باب غرائب العلوم من تفسير أبجد وحروف المعجم ، ص ٣١٦ ، ح ١.

٣٨١

وأما «حطى» ، فالحاء حطوط الخطايا عن المستغفرين في ليلة القدر ، وما نزل به جبرئيل مع الملائكة إلى مطلع الفجر وأما الطاء ، فطوبى لهم وحسن مآب ، وهي شجرة غرسها الله عزوجل ونفخ فيها من روحه ، وإن أغصانها الترى من وراء سور الجنه تنبت بالحليّ والحلل متدلية على أفواههم وأما الياء ، فيد الله فوق خلقه ؛ سبحانه وتعالى عما يشركون وأما «كلمن» فالكاف كلام الله (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)(١) وأما اللام ، فالمام أهل الجنة بينهم في الزيارة والتحية والسلام ، [و] تلاوم أهل النار فيما بينهم وأما الميم ، فملك الله الذي لا يزول ، ودوام الله الذي لا يفنى وأما النون ف (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ)(٢) فالقلم قلم من نور ، وكتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقربون ، وكفى بالله شهيدا.

وأما «سعفص» ، فالصاد صاع بصاع ، وفص بفص ، يعني : الجزاء بالجزاء ، وكما تدين تدان ، إنّ الله لا يريد ظلما للعباد.

وأما «قرشت» ، يعنى قرشهم الله فحشرهم ونشرهم إلى يوم القيامة ، فقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون (٣).

__________________

(١) ناظر إلى قوله تعالى في سورة الكهف ، آية ٢٧ ، وهو : «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً».

(٢) القلم / ١.

(٣) قد مضى بعض فقراته في تفسير البسملة في مواضع شتى ، فراجع المآخذ المذ ـ كورة في تعليقة ١ ص ٢٢٢.

٣٨٢

[في بيان دلالة الحروف المقطعة على حقائق أسماء الله سبحانه واستبصارات فيها]

أقول : الذى يظهر لي في المقام بملاحظة تلك الاخبار المترائى منها الاختلاف وملاحظة بعض الاستبصارات ، هو أنه كما أن الحروف المفردة اللفظية أصل للكلمات المركبة منها ، والمفهوم من المركبة أمور غير بسيطة بحسب الاستقراء في الغالب أو الكل ، فالظاهر أن يكون تلك الحروف المفردة بازاء أصول للعالم هي بسائط بالقياس إلى أجزاء العالم ؛ كما أن النفس الانساني أول ما يحصل فيها الحروف على حسب مراتبها ، فالظاهر ان يكون النفس الرحماني أيضا محصلا لبسائط هي الاصول للعوالم المقيدة المركبة ، ويكون كل حرف من الحروف الصادرة عن الانسان بازاء حقيقة من تلك الحقائق البسيطة حتى يطابق الاية التي هى الانسان مع ذي الآية ، ويطابق مع مقام اللّفظ مقام المعنى حتى يصلح لكونه مرآتا له. وإذا لاحظت بعقلك نسبة البسيط إلى المركب المفروض وجوده ، فأحدس أنه لم يتحقق المركب في الكون إلا وقد سبقه فيها البسائط التي هي أصول هذا المركب ، فان البسيط مقدم على المركب ، وأولى بالتقدم في الايجاد وقبول الفيض ، فيشبه أن يكون مقتضى النظام الاكمل تقديم إيجاد البسائط على بساطتها على خلق المركبات ، حتى تكون بمنزلة الخزائن للحصص التي عرضها التركيب في عالم التركيب ولعل إليها ينظر قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(١)

والذي يناسبها في عالم الالفاظ بحيث يدل عليها بذاته أن جعلنا دلالة الالفاظ ذاتية ، أو يوضع لها واضع حكيم يضع الاشياء مواضعه ، ولا يرجح المرجوح على الراجح هو الحروف البسيطة المفردة ، فيشبه أن يكون تلك دالة على تلك الحقائق

__________________

(١) الحجر / ٢١.

٣٨٣

بالذات أو الوضع.

والظاهر أن تلك الحقائق هي حقائق هى أسماء الله سبحانه ملأت أركان كل شيء بأشعتها وآثارها وستعرف ـ إن شاء الله تعالى ـ تمام البحث عن تلك الحقائق المخلوقة.

فالظاهر أن يكون كل حرف من تلك الحروف المفردة دالّة على حقيقة اسم من الاسماء الالهية العينية. وربما يدل عليه قوله عليه‌السلام فيما تقدم : «إن اول ما خلق الله عزوجل ـ الخ (١) ، وقوله : ما من حرف إلا وهو اسم من اسماء الله ـ الخ (٢) ، وما ذكر من تفاصيل معاني الحروف وإن كان بعضها مما يترائى منه أنه ليس اسما للحق سبحانه ، لكن إذا لاحظته منتسبا إلى الرب سبحانه ، فربما ظهر لك المشتق الذى يصح أن يوصف به الحق سبحانه ، ولا يلزم أن يكون مدلول تلك الاخبار أن يكون الحروف المفردة دالّة على المركباب ، كما ربما يسبق إلى الوهم ، بل يصح أن يكون كل من الطائفتين دالة على تلك الحقائق العينية ، وعلى الله سبحانه باعتبارها.

وربما يدل على ذلك ما سبق من أن «صفوة هذا الكتاب حروف التهجى» (٣) وكثير ممّا سبق في بيان فواتح السور المفسرة لها بأسماء الله سبحانه ، أو بما يستشم منه ذلك ؛ كتفسير نون بالمداد من النور الذي كتب به ما كان وما يكون فان الظاهر منه كونه من البسائط الاولية ، ولا ينافيه وصفه بكونه نهرا في الجنة ، فانّ الجنة ينقسم إلى روحاني محض وجسماني محض ، ومتوسط بينهما ، كما لعلك ستعرف

__________________

(١) راجع كلام علي بن موسى الرضا ـ عليهما‌السلام ـ في تفسير حروف المعجم ، الذي مرآنقا.

(٢) إشارة إلى الكلام الاخير عن مولى الموحدين علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ في الفائدة في حروف الهجاء.

(٣) قد تقدم في أول هذه السورة ، فراجع.

٣٨٤

تفصيلها ـ إن شاء الله تعالى ـ.

فلو حمل على الروحاني المحض كان كونه نهرا روحانيا في عالم الاسماء الالهية مناسبا لما ذكرنا. ويؤيده وصفه بالنورية وبأنه ملك ، فانّ تلك الحقائق ربما يصح أن يطلق عليها لفط «الملك» أو يستعار لها اسم الملك الموكل عليها الواقع تحتها ، كما يصح أن يجعل لفظ «الجنة» مستعملا في مبدء الجنة وأصلها الذي بتنزلها ظهرت الجنة ، كما أن في تتمة رواية القمي ما ربما يؤكد ما ذكرنا للبصير.

وما ورد في «صاد» من أنه عين أو ماء عند العرش ، فان جعل العرش عبارة عن عالم العلم الكلّي فهو يوافق ما قررناه ، وإن جعل عبارة عن بعض الموجودات المقيدة فلعلّه باعتبار كونه مظهرا لتلك الحقيقة ، وحصة متنزله منها على عالم السفلى يظهر بتوسطها تلك الحقيقة في هذا العالم.

وبمثل ذلك يمكن أن يحمل ما ورد من تفسير بعض الفواتح بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وشجرة طوبى ، وسدرة المنتهى ، وطور سيناء وغيرها ، إذ لعل ذلك كله باعتبار كونها قوالب ومظاهر لتلك الحقيقة لكون العوالم السافلة حاكية عن العالية ، وتنزلات لها. وقريب منه الكلام في تفسير «قاف» بالجبل إن أخذنا الجبل بالمعنى العرفي الشائع وإن جعلناه عبارة عن أمر باطن بالنسبة إلى هذا العالم محيط به ، فهو إما اسم من تلك الاسماء ، أو مظهر له بناء على ما ذكر.

وأما ما ورد من تفسير (كهيعص) بكربلا وهلاك العترة ويزيد والعطش والصبر ، فلعلّه باعتبار أخذ آثار تلك الاسماء الالهية ومظاهرها ومحالها مكانها مثلا إذا جعل الكاف عبارة عن الكافي فيصح أن يجعل عبارة عن كربلاء باعتبار استجابة الدعاء فيه من دون ظهور تقييد المدعو به ببعض الحاجات ، فهو مظهر اسم الكافي ؛ إذ هو يكفي كل محتاج ، وممدّ له من الفيوضات ما يكفيه لاصلاح جميع شئونه مثلا. وإذا جعلنا الهاء عبارة عن الهادي ، فبملاحظة ما ترتب على واقعه الطف

٣٨٥

من ظهور أمر الدين والهداية ، وأن المقصود من الاقدام على تلك الوقعة هو هداية الناس مثلا يصح جعله عبارة عن هلاك العترة.

وأما إطلاق الياء على يزيد ، فلعلّه باعتبار كونه مظهرا لاسامي القهر والانتقام ، ويكون الياء عبارة عن أحدها.

وأما جعل العين بمعنى العطش ، فلعلّه باعتبار كون عطش هذا العالم ريا من ذلك العالم ، ويكون العين عبارة عن العلم الذى هو موجب للري ، أو باعتبار كونه من آثار بعض الاسماء الذي يقتضي نزول البلاء على الاولياء.

وأما الصاد ، فان جعل عبارة عن الصادق وما يترتب على الصدق ، فمن أوضح مظاهر الصدق هو الصبر في تلك الشدة العظيمة.

ويمكن أن يجعل تلك الواقعة الهائلة مثالا ومظهرا عينيا لما يتوقف عليه ظهور تلك المعاني في الانسان ، فان ظهور الكفاية والهداية والعلم والصدق والايادي العظام على ظاهر الرواية الاخرى في تفسير هذه الحروف فرع الشهادة المعنويه ، التي هي الموت قبل الموت الذي هو الحياة والهلاك الصوري ، الذي هو الحياة المعنوية في مقام الشهادة المعنوية ، الذي هو كربلاء معنوي وتحقق الفناء عن الانانية التي بها صار يزيد يزيدا ، وقطع التعلّقات عن جميع الاشياء مع كونه عطشانا ورد إلى حياض ربه ، وصابرا لا يجزع عمّا أصابه. فظهور تلك الاسماء في مظهر كان مماثلا لكربلاء فيصح جعله بيانا لمثال المظهر.

ولقائل أن يدعي انه كما يكون ظهورها في العالم الصغير عند وجود تلك المعاني فكذلك ظهرت في كربلاء او في مطلق العالم الكبير بواسطة ظهور تلك الوقعة فيها ، ولذلك صار تلك البلدة والبقعة والوقعة مبادئ لظهور بركات وخيرات لا تحصى لمن انتسب إليها من ذاكر وباك ومتباك ومؤسس لعزاء أو خادم في مجلس تعزية ، أو زائر أو مجاور أو خادم أو متوسل أو غيرهم ، فحينئذ فتلك الوقعة ظهور كلي لتلك

٣٨٦

الاسماء في العالم ، فاطلق عليها الاسم إطلاق اسم الظاهر على المظهر له ، فتأمل.

ثم اعلم أن ظهور آثار كل من تلك الحقائق في هذا العالم مختلفة بحسب الدهور والازمان فتارة يقوى ظهور بعضها ظهورا بينا ويخفى مقابله ، وأخرى ينعكس ، وثالثة يتوسط فيكون لهما الظهور ، ولدولة كل منها واستيلائه زمانا معينا وعصرا خاصا محدودا على حسب ما حكم الله سبحانه له فاذا جاء زمانه كان الملك والتسلّط والاستيلاء لأهل ذلك الاسم ، وإذا انقضى ارتفعت عنهم ، وذلك كالشمس إذا طلعت ظهر آثار طلوعها من الاضائة والتسخين والتجفيف وغيرها في العالم ، وكلما ارتفعت ازدادت الاثار إلى نصف النهار على عكس حال الظلمة والبرودة والرطوبة ، فانها تضعف كذلك ، وعند وسط السماء يبتدء النزول والانتقاص إلى غروب الشمس. وحينئذ فتستولي الظمة والبرودة والرطوبة متزايدة إلى نصف اللّيل ، ثم ينقض بحسب المقتضى إلى طلوع الشمس.

وهكذا الحال في أكثر موجودات هذا العالم ، فانها تبتدء وتأخذ في الكمال إلى حين ثم تقف وترجع متناقصة إلى ما يماثل الحال الاول. فالانسان يوجد ابتداء ضعيفا من كل وجه ، ويأخذ في القوة والاستكمال إلى حد الشباب ، ثم يشرع في الانتقاص ووهن القوى إلى أن يصل إليه الموت ، الذى هو مساو لحاله قبل الحياة وكما أن حال أشخاص الموجودات على ما وصفنا فكذلك حال الاصناف والانواع فحال العلماء مثلا تارة في القوة والاقبال إلى حين ، وتارة يأخذ في الضعف إلى نهايته. وكذلك كل صنف من الاصناف كأهل الباطل وأهل الحق ، فتارة يستولي أهل الحق ويكمل استيلائهم إلى حين ، وينعكس تارة أخرى ، فيكون الاستيلاء لأهل الباطل.

ثم إن الباطل ذو شئون كثيرة ، كما أن الحق أيضا له اركان وشعب كثيرة ، فيجري الكلام في كل جهة من كل منها ، واستيلاء كل واحد من تلك الاصناف تابع لقوة ظهور ذلك الاسم الخاص المنسوب ذلك الصنف إليه في ذلك وكونه وقتا

٣٨٧

مجعولا له ؛ إذ لكل من تلك الاسماء المتقابلة طلوعا يظهر عنده آثاره واستواء في الكمال ، وغروبا يختفي عنده أهله ، ويكونون مغلوبين مقهورين.

ومن هنا يظهر أن لكل طائفة خاصّة زمان ملك وسلطنة واستيلاء هو زمان طلوع الاسم المنتسب إليهم ؛ إذ الناس على دين ملوكهم وطريقتهم.

ثم إن الاعتبار يقضي بكون زمان كل اسم من الاسماء في كل مرتبة بعدد الحرف الدال عليه ؛ إذ الحرف قالب المعنى والاصل مطابقتها في صفات المعنى ، فاذا كان الحرف له عدد خاص كان الظاهر ثبوت ذلك العدد للمعنى ، بل كون الحرف تابعا للمعنى في العدد.

ثم إن الجمع بين عدة من تلك الحروف في الكلام الذي ليس في الامكان أكمل منه من كل وجه لا بدّ وأن يكون لحكم ومناسبة وتوافق وقع بين تلك الحقائق بحيث وقعت الالفة بينهما ، وتحقق اجتماع تلك المعاني في موضع واحد حتى يوافق الكتاب التكويني الكتاب اللّفظي ، ويكون إظهار ذلك لفظا بالوحي دليلا على ظهور مظهر تلك المعاني المجتمعة في العين في مدة مجموع أعداد آحادها ؛ إذ بعد الاجتماع فى المحل يكون ظهور ذلك المظهر الجامع واستيلائه بقدر زمان كل منها مع رعاية موافقة اللّفظ والعين في العدد وحينئذ فكل فاتحة من فواتح السور يدل على استيلاء مظهر تلك الفاتحة ، وملكه في المدة المدلول عليها بحروف تلك الفاتحة.

ولعلّه لما ظن اليهودي المتقدم أن «الم» متعلّق بأصل النبوة والشريعة حكم بأنه مدة ملك الدين وأكل امته (١) وذلك لأنه ظن أجزاء زمان الشريعة متشابها متوافقا فجعله زمانا له ولم يعلم أنه قرون وأعصار مختلفة.

وفواتح السور المتعلّقة بها كثيرة ؛ فمنها : ما يتعلّق بقيام بني العباس وانقضاء دولة بنى أمية «المص» على ما سبق ولا إشكال فيه بأن الظاهر من التواريخ وتصفح الاخبار ان ظهور دولة العباسيين قبل ذلك بسنين كثيرة يمكن دفعه بأن المناسب لمبدء العدد ليس هو الهجرة ، بل هو زمان البعثة ، فانه أول زمان النبوة.

__________________

(١) راجع الرواية المنقولة عن ابن بابويه (ره) ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في ص ٣٦٨.

٣٨٨

ونزول الكتاب. ويشهد له أنّ بدو خروج الحسين عليه‌السلام كان بحسب الظاهر في آخر الستّين ، مع أنّ عدد «الم» واحد وسبعين.

والظاهر من ظهور دولة العباسيّين وإن كان قبل هذا العدد من هذا المبدء أيضا ، إلا أنّ كمال استقلالهم وشوكتهم ، وارتفاع الاستيلاء من بني أميّة لعلّه يوافق ذلك.

ويحتمل الحمل على البداء أيضا وإن كان ذيل بعض الاخبار ينافيه (١).

وأمّا ما ذكره في ذيل الخبر الاخير من أنّها تجري في وجه آخر على غير تأويل «حييّ» و «أبي ياسر» وأصحابهما (٢) ، فلعلّه ناظر إلى أنّ كلّ فاتحة إشارة إلى دولة خاصة ، لا أنّ الفواتح لأجل مدة الشريعة والدين ، أو أنّها تجري في وجه آخر غير هذا النمط أيضا. هذا.

وأمّا أنّ «عسق» عدد سني القائم ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ ، فهو موافق لكون علم كلّ شيء في «عسق» ؛ إذ ذلك السنين هو زمان ظهور العلم والمعرفة والحقيقة ، واضمحلال الباطل والجهل. ولما ورد من ترجمته بالعالم السميع القادر القويّ ؛ إذ فيها يظهر حكم العلم والسمع مجتمعين مع القوّة والقدرة مؤتلفين معهما ؛ إذ القدرة والقوّة حينئذ بيد مظهر العالم السميع وأرباب العلم والسمع.

ويؤيّد ذلك كلّه أنّ لقرائة هذه الحروف أعني : (حم عسق) تأثيرا عظيما في انكشاف العلوم والمعارف ، بل وفي ظهور دولة الحقّ في العالم الصغير على ما هو الظاهر ممّا جرّ به المجرّبون.

__________________

(١) ومراده على حسب الظاهر هو الرواية المتقدمة التي نقلها عن المعاني والعياشي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، فراجع ص ٣٦١.

(٢) راجع ص ٣٧٢ ، رواية الصدوق (ره) عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ.

٣٨٩

وقد ورد هذه اللّفظة و (كهيعص) في الدعاء مكرّرا (١) ، إما مقسما بهما ، أو جعلهما مدخولي حرف النداء. والظاهر أنّ لهما شأنا ومكانا لمن كان من أهله.

وهذا ممّا يؤيّد كون مدلولهما من حقائق الاسماء الالهيّة.

وممّا أشرنا إليه في (عسق) من اجتماع القدرة والعلم يمكن استخراج وجه آخر لدلالة فواتح السور على زمان الملك في الجملة ، وهو : أنّ كلّ موضع كان بعض الحروف دالّة على الملك أو القدرة أو القوّة أو ما شاكلها ، فهو يقتضي ظهور معانيها في مظاهر باقي الحروف المجتمعة معه. فهيهنا يدلّ على ملكية العالم السميع ، وفي سائرها على هذا القياس. وحينئذ لا يلزم أن يكون كلّ فاتحة بل خصوص ما كان بعض تلك الحروف دالّة على أشباه الملك والقدرة ، ولكن ربّما يترائى من خبر «أبي لبيد» (٢) عموم الحكم لجميع فواتح السور.

ثّم إنّ الظاهر أنّ ما ذكرناه من كون حروف التهجّي دالّة على حقائق الاسماء هو مبنى علم الحروف وأحكامه وآثاره الّتي يرتّبونها ؛ إذ لو لا ذلك لكان ترتّب تلك الآثار والخواصّ والاحكام بعيدا.

وربّما يظهر للناظر في تفصيل ذلك العلم ما يشهد لما ذكرنا ويوضحه.

ثمّ إنّ تلك الاسماء الالهيّة تنقسم إلى اسم أعظم هو بمنزلة الكلّ في وحدة ، وإلى أسماء جمال ورحمة وكرم ، وأسماء جلال وقهر وانتقام ، وإلى أسماء متعلّقة بالابداء كاسم المبدء ، وإلى [أسماء] متعلّقة بأحكام الاعادة كالمعيد ، وإلى أسماء

__________________

(١) كدعاء «اللهم يا شاهد كل نجوى» نقله المحدث القمي (ره) في مفاتيح الجنان عن الاقبال والمصباح ، وفيه : «وأسئلك باسمك الذي شققت به البحار و... وبحق طه ويس وكهيعص وحمعسق و...».

(٢) إشارة إلى خبر العياشى المتقدم عنه ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «وليس من حروف مقطعة حرف تنقضى أيامه إلا وقائم من بني هاشم عند انقضائه.» فراجع ص ٣٥٩ و ٣٦٠.

٣٩٠

كلّيّات وأسماء جزئيّات بالاضافة إلى تلك الكلّيّات ، كما يشهد لذلك ما سبق في تفسير آحاد حروف التهجّي.

وممّا قدّمنا هنا مضافا إلى بعض ما سبق يظهر وجه ما روي أنّ فواتح السور حروف اسم الله الاعظم (١) ، فانّ الظاهر أنّ تلك الفواتح دالة على ما عداه من الاسماء ، فانّ الظاهر أنّ الدالّ عليه إمّا الالف المعبّر عنه بلام الف لا ، أو خارج عن الحروف ، ونسبتها إليه نسبة التفصيل والاجزاء بالنسبة إلى الكلّ ، كما نبّهنا عليه سابقا ، فهي بمنزلة الحروف للكلمة ، ومجموع تلك الحروف المفردة لو أخذت مؤلّفة مرتبطة كانت دالّة على ذلك الاسم الاعظم ؛ لأنّ الالف واللام والميم وعدّة من الحروف الدوالّ على الاجزاء إذا اجتمعت دلّت على الكلّ. وقد سبق شطر من الكلام في لفظ «بسم» ولفظ «الجلالة» فراجع ، وقس عليها غيرها.

ولعلّ في الاقتصار في هذه الفواتح على أربعة عشر حرفا دلالة على أنّ أصول الحروف المنسوبة إلى الجمال والرحمة الّتي هي المقصود الاوّل هو بهذا العدد. وبحكم إصالة تشابه العوالم يثبت أنّ الانسان الاكمل المقصود ابتداء بقول مطلق منحصر في الاربعة عشر المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ فافهم.

هذه جملة ممّا خطر بالبال في هذا المقال ، ولعلّ ما فات منّا أو أخطأنا في ذلك أكثر ممّا أصبنا فيه الحقّ والحقيقة ، والله العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) قد مضى بعض الاخبار الواردة في هذا المعنى ورواية الصدوق (ره) المؤيدة له فيما سبق ، فراجع تعليقة ١ ص ٣٥٧.

٣٩١

[في حقيقة الكتاب والمتّقين والارتباط بينهما]

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)

عن تفسير الامام عليه‌السلام يعني :

«القرآن الّذي افتتح ب (الم) هو (ذلِكَ الْكِتابُ) الّذي أخبرت به موسى فمن (١) بعده من الانبياء ، وهم أخبروا بني إسرائيل : أنّي سأنزل (٢) عليك يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابا عربيّا عزيزا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

(لا رَيْبَ فِيهِ) ، لا شكّ فيه لظهوره عندهم ، كما أخبرهم أنبيائهم أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ينزل عليه كتاب لا يمحوه الباطل يقرأه هو وأمّته على سائر أحوالهم.» (٣)

وروى القمّي باسناد لا يخلو عن قوّة ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

«الكتاب عليّ عليه‌السلام لا شكّ فيه : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، قال : تبيان لشيعتنا.» (٤).

وروى العيّاشي في المرسل عنه عليه‌السلام في قوله : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) قال :

__________________

(١) خ. ل : «ومن».

(٢) في المخطوطة والصافي والبرهان ونور الثقلين : «سأنزله».

(٣) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ١ ص ٣٥٩.

(٤) تقدم في المقدمة الاولى ، فراجع ص ٢٠.

٣٩٢

«كتاب عليّ لا ريب فيه ـ الحديث.» (١)

والظاهر كما ذكره بعضهم أنّ : «إضافة الكتاب إلى عليّ بيانيّة ، يعني :

أن ذلك إشارة إليه عليه‌السلام ، والكتاب عبارة عنه ، والمعنى : أنّ ذلك الكتاب الّذي هو عليّ لا مرية فيه.» (٢) فيوافق رواية القمّي ، بل لا يبعد اتّحاد الروايتين ، كما يشهد له بعض القرائن. وعلى كلّ حال فهذا تأويل والاوّل تفسير ، وقد سبق وجه التطبيق بين الكتاب والامام في المقدّمات (٣).

ونقول هنا : إنّ القرآن إذا استولى على مملكة القلب بأمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، ومعارفه وأحكامه ، وترغيبه وترهيبه بحيث صار هو المتصرّف في الانسان ، وكان مصداقا للوصف الّذي وصف أمير المؤمنين عليه‌السلام «العبد الّذي هو من أحبّ عباد الله عليه من أنّه أمكن الكتاب من زمامه ، فهو قائده وإمامه يحلّ حيث حلّ ثقله ، وينزل حيث كان منزله» على ما ببالي من لفظه ، فالانسان حينئذ قرآن بنفسه لفناء كلّ شيء كان من نفسه فيما جاء من طرف القرآن ، فليس هناك إلا القرآن وأحكامه وآثاره وما جاء من طرفه. وحينئذ فكلّ وصف وصف به القرآن من أنّه حقّ لا باطل معه ، وأنّه لا ريب فيه ، وأنّه هدى للمتّقين وغير ذلك ، فهو وصف لذلك العبد الموصوف ، فلاحظ وتدبّر.

هذا مع أنّ الكتاب غير مخصوص باللّفظيّ والتدويني ، بل هيهنا كتاب تكوينيّ ، بل كتب تكوينيّة يطابقه الكتاب التدويني ، كما نقل عن أمير المؤمنين

__________________

(١) العياشي ، ج ١ ، ص ٢٥ ، مرسلا عن سعدان بن مسلم ، عن بعض أصحابه ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٨ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٣ ، ح ٢.

(٢) الكلام للفيض (ره) ، فراجع الصافي ، ج ١ ، ص ٥٨.

(٣) راجع المقدمة الاولى ، ص ١٨ ـ ٢١.

٣٩٣

عليه‌السلام (شعر) (١) :

دوائك فيك وما تشعر

ودائك منك وما تبصر (٢)

وأنت الكتاب المبين الّذي

بأحرفه (٣) يظهر المضمر

وعن الصادق عليه‌السلام :

«الصورة الانسانيّة هي أكبر حجّة الله على خلقه وهي الكتاب الّذي كتبه الله بيده.» (٤)

وقيل : إنّ «إطلاق الكتاب على الانسان شائع في عرف أهل الله وخواصّ أوليائه.» (٥)

وبيان ذلك في خصوص الانسان : أنّ الانسان بعد التصفية الكاملة والتحقّق بحقيقة التقوى يجد في لوح نفسه معارف وعلوما ، فكأنّ نفسه لوح وتلك العلوم والمعارف نقوش مكتوبة عليها. ولعلّه المراد من الصورة الانسانيّة الموصوفة بأنّه أكبر حجّة الله ، وذلك لأنّ مثل ذلك العلم الثابت في لوح النفس أقوى من جميع الحجج على ذلك الانسان ؛ إذ ليس سائر العلوم مثله في القوّة والاستيلاء والثبات عليه ، فالحجّة به أتمّ وألزم من غيرها ، ولا تكليف إلا بعد البيان ، ومثل ذلك الانسان المتحقّق بذلك المقام مقيم للحجّة على سائر عباد الله الّذين ليس لهم ذلك وذلك الكتاب ما كتبه الله بقدرته ليس ما كتبه الناس ، وهو المبين الّذي يبيّن المضمرات الغائبة عن هذا العالم ، ولذلك المقام عندنا آية وهو العقل بالنسبة إلى أحكامه الغير الاكتسابيّة. فانّه لو لاحظته حقّ الملاحظة وجدت هذه العلوم

__________________

(١) ديوان الامام علي ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٥٧.

(٢) في المخطوطة : «لا تبصر».

(٣) خ. ل : «بآياته».

(٤) نقله الفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، ص ٥٨.

(٥) هو كلام الفيض (ره) ، تجده في الصافي ، ج ١ ، ص ٥٨.

٣٩٤

راسخة في جوهر العقل ثابتة فيه ، كأنّه لوح ، وهذه الادراكات منقوشة عليه. وكما أنّ كلّما حكم به العقل حكم به الشرع وبالعكس على ما أثبته أهل الاصول كذلك الكتاب المذكور مطابق للقرآن لا يخالف أحدهما صاحبه. وكما أنّ العقل لا يقبل الريب في أحكامه كذلك ذلك الكتاب لا يدخله ريب ولا شكّ ، وهو ظاهر لصاحبه بنفسه ، أو هو الصاحب لنفسه وظاهر لغيره بآياته ودلائله.

وحينئذ فاطلاق الكتاب على عليّ عليه‌السلام المطابق للقرآن مطابقة تامّة ، لا افتراق بينهما كما يظهر من أخبار الثقلين وغيرها ، ولا ريب فيه له ولا لغيره من أولى الالباب ، الّذين ينظرون بألبابهم في شأنه وكمالاته وصفاته المظهر لكونه كذلك صحيح وأولى بالصحّة من كلّ شيء.

ولعلّ وجه استخراج حال ذلك الكتاب العلويّ من لفظ الكتاب المراد منه القرآن أنّ هذا الكتاب في مقامه الظاهريّ بمنزلة صورة ظاهريّة لذلك الكتاب المعنويّ ، الّذي (هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)(١) وهم الائمّة عليهم‌السلام. فالاحكام المترتّبة على تلك الصورة يسري إلى حقيقته بالتأويل ، فيكون مفاد التأويل هو ما ذكر في الرواية.

أو يقال : إنّ للكتاب مقامات. أحدها نفس أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فاذا ثبت الحكم للكتاب بعنوان مطلق ثبت لجميع مواطنه ومواقعه وعوالمه ، فيكون من جملة مفاد الكلام أنّ «كتاب عليّ عليه‌السلام لا ريب فيه ـ الخ.» وذلك الكتاب هو أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يدخل قلبه ريب ولا شكّ أبدا ، وليس في شأنه شكّ ولا ريب لأولى الالباب مع ما ظهر منه.

و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وإمام لهم يأتمّون به ويهتدون به ، بل صدق هذه الجمل عليه في هذا المقام أوضح من مقام الكتاب الظاهر للناس.

__________________

(١) العنكبوت / ٤٩.

٣٩٥

فلعلّ في ذلك إشارة إلى التأويل المذكور لأولى الالباب.

[في معنى الرّيب]

ثمّ إنّ الريب هو الشكّ وأصله : قلق النفس واضطرابها ، كما روى الزمخشري عن المجتبى عليه‌السلام أنّه قال :

«سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [يقول] : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فانّ الشكّ ريبة ، والصدق طمأنينة.» (١)

قال الزمخشري : «أي : فانّ كون الامر مشكوكا فيه ممّا تقلق له النفس ولا تستقرّ به ، وكونه صحيحا صادقا ممّا تطمئنّ له وتسكن.» (٢)

وظاهره أن المراد كون الاعتقاد سببا لسكون النفس ، والشك سبب للقلق.

ولعلّ الاظهر أن يفسّر بأنّ الطمأنينة إذا حصلت في النفس من الخبر دلّت على كونه صادقا في إخباره ، وإن ارتفعت عنه وحدث الريب فهو موضع ريبة وتهمة ، كما يؤيّده ما روي في المشهور عندهم أنّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة. وكان مفاد الخبر حينئذ أنّ سكون النفس وطمأنينته على الخبر علامة صدقه. ولعلّ مرجعه الاحالة إلى ذوق النفس وطبعه ، فشرط ظهور العلامة سلامته من الامراض المغيّرة لمزاجه وطبعه.

وكيف كان ، فنفي جنس الشكّ في الكتاب لا ينافي ما ظهر من الاشقياء المرتابين ؛ لأنّ المنفيّ كون الريب فيه لا في النفس المائلة عن الاستقامة ؛ إذ الكلام الّذي يشهد بلفظه ومعناه من جهات كثيرة بأنّه الحقّ الثابت كيف يكون الشكّ ، أو ما يوجب التهمة مستقرّا فيه ، وقد استقرّ فيه من كلّ وجه ما ينفي الشكّ

__________________

(١) الكشاف ، ج ١ ، ص ١٩ ؛ وهكذا في أنوار التنزيل ، ص ٨.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ١٩.

٣٩٦

والتهمة عنه؟ بل الكلام الّذي استقرّ فيه الريب هو ما يكون متّصفا بأضداد صفاته.

وكذا إذا لوحظ في المريب معنى اضطراب النفس إذ الكلام المشتمل على ما يسكن به النفس بحقيقته ، ويوجب الاطمينان ورفع القلق عن النفس في جميع الشؤون عند استقراره في القلب ، كيف يتأمّل في نفي استقرار الريب فيه؟ وإنّما الّذي أوجب الريب في المرتابين ما استقرّ في نفوسهم الخبيثة من العوج والانحراف وما غشي أعينهم من أغشية الهوى والعصبيّة ، والميل إلى الباطل ، والاعراض عن التأمّل في الكتاب.

وكيف يصحّ التأمّل في نفي الريب في الشمس الطالعة ، مع أنّ العميان والمسجونين في السجن المظلم ، لا يرونه ويتردّدون فيه ، مع ظهور أمر القرآن ما أقوى منها لأولي البصائر؟

وربّما نذكر جملة من وجوه ذلك فيما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.

[في معنى الهداية وأنّ المتّقين هم المهتدون وهم الشّيعة]

(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)

عن الصدوق باسناده عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال في الاية : «بيان لشيعتنا.» (١) وروى العيّاشي عنه عليه‌السلام فيه أنّه قال : «المتّقون شيعتنا.» (٢) وقد تقدّم صدره.

والاوّل أيضا باسناده عن يحيى بن أبي القاسم قال :

«سألت الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «الم» إلى قوله

__________________

(١) راجع تعليقة ١ من ص ٣٥٧.

(٢) راجع مصادر روايته الاخيرة المذكورة في ص ٣٩٣ ، تعليقه ١.

٣٩٧

(يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، فقال : المتّقون شيعة علي عليه‌السلام ـ الحديث.» (١)

وفي تفسير الامام عليه‌السلام :

«هدى بيان من الضلالة للمتّقين الّذين يتّقون الموبقات ، ويتّقون تسليط السفه على أنفسهم ، حتّى إذا علموا ما يجب عليهم عمله (٢) عملوا بما يوجب لهم رضا ربّهم.» (٣)

وعنه عليه‌السلام أيضا :

«ثمّ قال : «هدى» بيان وشفاء «للمتّقين» من شيعة محمّد وعليّ ـ عليهما وآلهما السلام ـ. إنّهم اتّقوا أنواع الكفر فتركوها ، واتّقوا الذنوب الموبقات فرفضوها ، واتّقوا إظهار أسرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسرار أزكياء عباده الاوصياء بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فكتموها ، واتّقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقّين لها ، وفيهم نشروها.» (٤)

وقال القميّ :

«الهداية في كتاب الله على وجوه ، فهذا هو البيان.» (٥)

__________________

(١) الاكمال ، ج ٢ ، باب ما روي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ من النص على القائم ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ ، ص ٣٤٠ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٣ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٣.

(٢) في المخطوطة والمعاني والبرهان : «علمه».

(٣) خ. ل : «بما يجب لهم رضا ربكم» ، والحديث فراجع تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٢٢ ـ ٢٤ ؛ والمعاني ، باب معنى الحروف المقطعة ، ص ٢٤ ، ح ٤ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٤ ، ح ٩.

(٤) نفس المصادر.

(٥) القمي ، ج ١ ، ص ٣٠ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٦.

٣٩٨

أقول : الظاهر أنّ الهدى مصدر على فعل كالسرى ، بمعنى الدلالة والبيان ، سواء أوصل إلى البغية أو لا ، على ما يظهر من تلك الاخبار : قال الجوهري : «الهدى : الرشاد والدلالة.»

ويعضده قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ.)(١)

وذهب بعضهم إلى الاختصاص بالموصل إليها بقرينة وقوع الضلالة في مقابلته ؛ قال الله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى.)(٢) وقال : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.)(٣)

ويقال : مهدي في موضع المدح كمهتد ، ولانّ اهتدى مطاوع هدى ، ولن يكون المطاوع في خلاف معنى اصله.» (٤)

وفيه أنّ لفظ الاشتراء في الاولى ولفظة «لعلى» في الثانية اقتضى الدلالة على قبول الدلالة وحملها ، والقبول القلبي هو مقابل للضلالة في الاعتقاد ، والقبول العمليّ للضلالة العمليّة ، فالوصول الاعتقاديّ لازم للاول والعملي للثاني.

وأمّا كون مهديّ مدحا ، فدلالته على الهداية العلميّة باعتبار ظهور حصول الهداية له واعتقاده بمتعلّقها ، وعلى العمليّة لو كانت ، فهو لاجل كون الظاهر منه هو القبول الكامل ، فيترتّب عليه العمل.

وأمّا كون «اهتدى» مطاوع «هدى» ، فهو صحيح على ما ذكرنا ؛ لأنّ قبول الدلالة هو حصول الدلالة له ، فيكون موصلا في مقام العلم فقط ، أو مع العمل أيضا ؛ ألا ترى أنّ الائتمار مطاوع لأمر ، مع أنّه لا يشترط في كونه أمرا حصول

__________________

(١) البقرة / ١٨٥.

(٢) البقرة / ١٦ و ١٧٥.

(٣) سبأ / ٢٤.

(٤) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٢٠.

٣٩٩

الائتمار؟ مضافا إلى ما قيل من أنّ مقابل الضلالة الاهتداء لا الهدى ، وأنّ إفادة المهديّ المدح لأنّه من المعلوم أنّ الوسيلة إذا لم يفض إلى المقصود كانت كالعدم ، وأنّ لزوم اهتدى لهدى كليّة ممنوع ؛ إذ يصحّ في العرف أن يقال هدى ، فلم يهتد ؛ قال عزّ من قائل :

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى.)(١)

وحينئذ فالظاهر عدم اختصاصه بالموصل ، بل هو البيان والدلالة الّتي من شأنها أن يتوصّل بها إلى البغية ، سواء استجمع من له الهداية شرائط القبول وقبل وسلك على منواله أم لا.

ثمّ المتّقي اسم فاعل من وقاه فاتّقى ، والوقاية فرط الصيانة ومنه فرس واق وهذه الدابّة تقي من وجاها إذا أصابه ضلع من غلظ الارض ورقّة الحافر ، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. (٢)

قال الجوهري : «لمّا كثر استعماله على لفظ الافتعال توهّموا أنّ التاء من نفس الحرف ، فجعلوه إتّقى يتّقي بفتح التاء فيهما مخفّفة ، ثم لم يجدوا له مثالا في كلامهم يلحقونه [به] ، فقالوا : تقى يتقي ، مثل قضى يقضي ـ إلى أن قال : ـ والتقيّ : المتّقي ، وقد قالوا ما أتقاه لله سبحانه.»

وحينئذ فالتقوى والتقى والتقي وغيرها كلّها من الوقاية الّتي بمعنى فرط الصيانة والحفظ ، فلا بدّ من كونه متعلّقا بأمر ضارّ ، فيختلف باعتبار المواطن والمواضع ، فاذا استعمل في مقام الدين والشريعة وملاحظة الغاية كان معناه أصل المادّة بجميع تصريفاتها فرط الصيانة عمّا يضرّ من تلك الحيثيّة ، ولمّا كان للمضرات درجات من الكفر ، والكبيرة والصغيرة ، والتوسّع في أسباب الدنيا الموجب للثقل

__________________

(١) فصلت / ١٧.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ٢٠.

٤٠٠