مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

إلى الجهاد عاجلا ، كما عن ابن عباس (١).

وقيل : «إنّه مثل للدنيا شبّه ما فيها من الشدّة والرخاء بالصيّب الّذي يجمع ضرّا ونفعا ، وأنّ المنافق يدفع عاجل الضرر ولا يطلب آجل النفع» (٢).

[في تشبيه الحقّ بالمطر وبيان حقيقة متعلّقاته من الرّعد وغيره]

ولعلّ الاولى في وجه التطبيق بين المشبّه والمشبّه به أن يجعل المطر النازل من السماء إلى الهدى والحقّ والدين الّذي نزل من عند الله سبحانه ، ومن عالم الامر إلى هذا العالم لاحياء النفوس القابلة له المطيعة المنقادة ؛ كما قال سبحانه : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)(٣).

وهو ماء الحياة الروحانيّة الّذي من شرب منه لم يمت ، وحيي حياة طيّبة في أدوم السرور وأسبغ الكرامة وأتمّ العيش ؛ لكنّه إنّما يحيي الارض الساكنة تحته ، القابلة له ، الشاربة منه ، الخاشعة القابلة للحياة الّتي ليست صلبة كالحجر ، ولا مستعلية كالجبال ، ولا سبخة لا تخرج النبات ، وهي المحياة به المنتفعة به ، ولا تستقرّ بما فيه من الرعد والبرق والظلمات والصواعق ، بل هي عطشانة لا تطلب إلا الماء ، وليست لها التفات إلى تلك الامور ، ولا لها ضرر بالنسبة إليها ؛ لكن الّذين لم يتّصفوا بالصفات المذكورة للأرض خارجون (٤) عن ذلك الحكم بقدر بعدهم عن تلك الصفات وما يقتضيه طبيعة الارض. وذلك الهدى والعلم إذا صوّر بصورة حسيّة كان صورته ماء ، ولذا يرى في المنام بصورة الماء لو كان المرئيّ فيه هو

__________________

(١) قد ترى هذه الوجوه من التطبيق في مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٧ ؛ والتفسير الكبير ، ج ١ ، ص ٢٩٨ ؛ والكشاف ، ج ١ ، ص ٤٠ ، وغيرها من كتب التفسير.

(٢) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٧ ،

(٣) الانفال / ٢٤.

(٤) في المخطوطة : «خارجين».

٥٨١

نفس الهدى والعلم من حيث هو ، وبصورة المطر النازل من السحاب إن كان المرئيّ ، في النوم هو الرشحات النازلة منه الواردة على القلب.

ثمّ إنّ ذلك الحقّ والهدى لمّا نزل من عالم القدس ، وظهر في هذا العالم الظلماني لانقاذ أهله (١) ممّا هم فيه من الضلالة بصورة ألفاظ القرآن وألفاظ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والامام عليه‌السلام ، وسائر أنواع ما أظهر به الحقّ للناس من فعل واقع موقع بيانه ، أو تقرير أو غيرهما ، عرضه الظلمة الثابتة لهذا العالم ، كما أنّ الظلمات الّتي كانت في السحاب والمطر إنّما نشأت من نفس ظلمة هذا العالم الّتي كانت ثابتة له لو لا إشراق أنوار الكواكب عليه. فمن كان قلبه مظلما بظلمة باطن الدنيا ظهر له ذلك الحقّ في الظلمات الّتي هي مأويه ومستقرّه ؛ كالمنافق ، فتعلّق به منه شبهات وتخييلات وتمويهات أوجبت عدم إيمانه بها ، ومن كان خارجا بقلبه عن حكم ظلمة عالم المادّة والطبيعة وما يتفرّع عليها من الهوى والكفر والفسوق والعصيان ، الّتي رأسها الدنيا وحبّها ، وكان متّصفا بصفات الارض المتقدّمة ، منقادا لأمر الله سبحانه ، خاشعا له ، متّبعا للذكر ، قابلا للحقّ ، ساكنا تحت الامر والحكم ، شاربا ، وليس قلبه قاسيا ، ولا نفسه متكبّرة ، ولا فاسد الطينة ، خبيث المنشأ ، عطشانا لا يطلب إلا الحقّ ، لا همّ له إلا فيه ، فهو خارج عن حكم الظلمة ، ولا يضرّه ما يضرّ هؤلاء الواقعين فيها.

وتلك الشبهات الظلمانيّة تستولي على أهله على حسب مراتبهم ، فمنهم من يمنعه عن إدراك الحقّ أصلا ، ومنهم من لا يمنعه إلا عن فهم المتشابهات الّتي عرضها التشابه في هذا العالم في الانظار الواقعة بحسبه ، لا للراسخين في العلم وبينهما مراتب متوسّطة.

وفي ذلك الحقّ النازل من سماء عالم القدس رعد وصوت قويّ يقرع أسماع

__________________

(١) في المخطوطة : «أهلها».

٥٨٢

الغافلين والنائمين في مراقد الغفلة والطبيعة والدنيا قرعا قويّا ، ويزعجها إزعاجا شديدا مهولا مخوفا ؛ كالتخويفات والانذارات الواقعة فيه بالمخوفات العاجلة والآجلة ، وذكر أسماء الغضب والجلال ووصف القدرة وبيان الوقائع الماضية المشتملة على ورود النقمة على الطوائف السالفة وغير ذلك ، وهي تقرع أسماعهم قرعا قويّا ، ويوقظهم لو كانوا أحياء سامعين ، ويزعجها لطلب النجاة من تلك الاهوال والمخاوف ، وطلب دار السلام ، وبرق وبشارات ، ومنافع عاجلة وآجلة ، وبيان رحمة ولطف ، وبيان ألطاف سابقة وضعت على الماضين وما يشمل ذلك ، وهدايات تظهر في عين الظلمات ، وتردع الظلمة عن اولئك المنافقين الواقعين فيها ؛ لكنّها لا تدوم ولا تثبت فيها ، وليسوا قابلين لها قبول تأثّر وانفعال ، فكأنّما برق تألق بالحمى ثمّ انثنى ، فكأنّما لم يرجع ، كما أنّ الرعد الواقع على تلك القلوب القاسية لم يسكن فيها ، ولم يحلّ بها ، بخلاف المؤمنين الّذين رسخت فيهم الانذار والتخويف والبشارة والهداية ، فخرج الحال لهم عن حال الرعد والبرق في انتفاء الثبات وغيره.

وكذا فيه صواعق وإنذارات قويّة يكاد يهلك بصوتها ونارها هؤلاء المنافقون من التخويفات البليغة الاخرويّة والدنيويّة الّتي هي أشدّ الصواعق عليهم ؛ إذ الدنيا هي معبودهم ومقصودهم وقبلة قلوبهم ، وهم يسدّون أسماعهم عن الاصاخة إلى الحقّ والهدى بأعمالهم الّتي يعملونها ويكتسبونها بأيديهم حتى لا يتأثر بتلك الانذارات القويّة ، ويحذرون أن يميتهم إمّا صورة لشدّة استيلاء الخوف عليهم المهلك لهم ظاهرا ، أو يميت نفوسهم المنافقة عن حياتها الخبيثة الشهوانيّة ، الّذي هو الموت الاراديّ قبل الموت الطبيعي ، الّذى يشير إليه ما ربّما يروى عنهم عليهم‌السلام من قولهم عليهم‌السلام : «موتوا قبل أن تموتوا» ، أو يقعوا في القتل بسبب الاطاعة الصوريّة ؛ كأوامر الجهاد وغيرها ممّا فيه تعريض النفس للموت ، فهم يمنعون

٥٨٣

أنفسهم عن استماع الحقّ المشتمل عليه استماع قبول وائتمار حذرا عن ترتّب الموت عليه.

وهذا بخلاف المؤمنين الّذين قبلوا تلك الانذارات ، وخافوا خوفا أمات نفوسهم ، وعرضوا أنفسهم للمهالك في سبيله ، بل صاروا بحيث لو لا الاجل الّذي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب كما وصف به أمير المؤمنين عليه‌السلام المتّقين بذلك فيما ببالي من كلامه المذكور في النهج (١) ، بل أمات بعضهم كما صنع ذلك الخطبة ب «همّام» المصغي لها ، الّذي قال عليه‌السلام عند موته به أنّه : «هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها» على ما ببالي.

(وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) المستترين عن الحقّ بأغشيتهم ، لا يخرجون عن تحت حكم قضائه وقدره ومشيّته وإرادته وقدرته بحيلة من حيلهم ، ولا في حال من أحوالهم.

وأنت بعد التأمل فيما قدمناه في سائر الآيات تقدر على إجراء هذا المثال في سائر مراتب النفاق ، فتدبّر في ذلك.

وأمّا الهيئة التركيبيّة والكيفيّة الحاصلة من مجموع تلك المفردات المنضامّة المتلاصقة ، فربّما يقال : إنّه لمّا وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم ، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبّهت حيرتهم وشدّة الامر عليهم بمن أخذته السماء في اللّيلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. وهذا في مقابلة الامن والسلامة والهدى والاستقامة والفلاح الحاصلة للمؤمنين ، هذا.

وعن تفسير الامام عليه‌السلام أنّه قال العالم عليه‌السلام :

«ثمّ ضرب الله عزوجل مثلا آخر للمنافقين ، فقال : مثل

__________________

(١) راجع النهج ، خ ١٩٣ ، ص ٣٠٣.

٥٨٤

ما خوطبوا به من هذا القرآن الّذي أنزل عليك يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مشتملا على بيان توحيدي ، وإيضاح حجّة نبوّتك ، والدليل الباهر على استحقاق أخيك عليّ عليه‌السلام الموقف الذي وقّفته ، والمحلّ الّذي أحللته ، والرتبة الّتي رفعته إليها ، والسياسة الّتي قلّدته إيّاها ، فهي كالصيّب فيه ظلمات ورعد وبرق.

قال : يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنّ في هذا المطر هذه الاشياء ومن ابتلي به خاف ، فكذلك هؤلاء في ردّهم لبيعة عليّ عليه‌السلام وخوفهم أن تعثر أنت يا محمّد على نفاقهم ، كمثل من هو في هذا المطر والرعد والبرق يخاف أن يخلع الرعد فؤاده ، أو ينزل البرق بالصاعقة عليه. وكذلك هؤلاء يخافون أن تعثر على كفرهم فتوجب قتلهم واستيصالهم ؛ يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يخلع [قلوبهم من الصواعق حذر الموت ، كما يجعل هؤلاء المبتلون بهذا الرعد أصابعهم في آذانهم لئلا يخلع] صوت الرعد أفئدتهم. وكذلك يجعلون أصابعهم في آذانهم إذا سمعوا لعنك لمن نكث البيعة ، ووعيدك لهم إذا علمت أحوالهم ؛ «يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت» لئلا يسمعوا لعنك ولا وعيدك ، فيتغيّر ألوانهم ، فيستدلّ أصحابك أنّهم المعنيّون باللّعن والوعيد لما قد ظهر من التغيير والاضطراب عليهم ، فتقوى التهمة عليهم ، ولا يأمنون هلاكهم بذلك على يدك وفي حكمك.

ثمّ قال : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) مقتدر عليهم ، ولو شاء

٥٨٥

أظهر لك نفاق منافقيهم ، وأبدى لك أسرارهم ، وأمرك بقتلهم» (١).

وفيه تأييد لجملة ممّا قدّمناه بعد تذكّر جملة ممّا ذكرناه سابقا في تفسيره للآيات السابقة وبعض القواعد المتقدّمة ، فلا تغفل عن ذلك.

__________________

(١) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٥٠ ـ ٥٢ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٦.

٥٨٦

[تحقيق حول الخطف والشيء وبيان قدرة الله سبحانه]

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ)

[في معنى الخطف ووجه خطف أبصار المنافقين]

«الخطاف» على ما في الصحاح هو : الاستلاب ، وفسّر بالاخذ باستلاب ، وبالاخذ بسرعة ، وهما قريبان من التفسير الاوّل.

وفي تتمّة الرواية السابقة :

«وهذا مثل قوم ابتلوا ببرق فلم يغضّوا عنه (١) أبصارهم ، ولم يستتروا (٢) منه وجوههم لتسلم عيونهم من تلألئه ، ولم ينظروا إلى الطريق الّذي يريدون أن يتخلّصوا فيه بضوء البرق ، ولكنّهم نظروا إلى نفس البرق يكاد يخطف أبصارهم ، فكذلك هؤلاء المنافقون يكاد ما في القرآن من الآيات المحكمة الدالّة على نبوّتك ، الموضحة عن صدقك في نصب عليّ عليه‌السلام إماما ، ويكاد ما يشاهدونه منك يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أخيك عليّ عليه‌السلام من المعجزات الدالات على أنّ أمرك وأمره هو الحقّ [الّذي] لا ريب [فيه] ، ثمّ هم مع ذلك لا ينظرون في دلائل ما يشاهدون من آيات القرآن وآياتك وآيات أخيك عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ؛ يكاد ذهابهم عن الحقّ في

__________________

(١) في المخطوطة والبرهان : «عنها».

(٢) في التفسير : «لم يستروا» ، استظهره المصنف (ره) في الهامش.

٥٨٧

حججك ، فيبطل عليهم سائر ما قد علموه من الاشياء الّتي يعرفونها ؛ لأنّ من جحد حقا واحدا أدّاه ذلك الجحود [إلى] أن يجحد كلّ حقّ ، فصار جاحده في بطلان سائر الحقوق عليه كالناظر إلى جرم الشمس في ذهاب نور بصره» (١).

وكأنّه يدلّ على أنّ المشبّه بالبرق هو الوجه الثاني من الوجهين المتقدّمين أعني : الهدايات الظاهرة في ألفاظ القرآن والنبي والامام عليهما‌السلام ، وفي أفعالهما وسيرتهما وما أشبه ذلك ، وأنّ اختطاف ذلك البرق بصائرهم لأنّهم لم يكونوا ناظرين إليها نظر المستهدي الطالب للحقّ والسلوك فيه ، بل هم معرضون عن طلب النجاة والفلاح لأنفسهم ، وسلوك الصراط المستقيم المؤدّي إلى كلّ خير ، والنجاة من كلّ شرّ ؛ وإنّما ينظرون إلى نفس تلك العلامات ملتزمين بتركها متأبّين عن قبولها ؛ كالمسافر المعرض عن طلب الطريق الفاتح بصره نحو البرق ، فانّه في معرض ذهاب البصر ، كذلك المنافقون الجاحدون للنبوّة أو الولاية أو الشاكّون فيها نظروا إلى تلك الآيات من حيث هي مع إعراضهم عن قبولها ، فتكاد تلك الآيات أن يخطف بصائرهم بالكلّيّة وتسلبهم عقولهم وألبابهم. وذلك لأجل خروجهم بذلك عن مقتضى الفطرة الصحيحة القاضية بتطلّب الفلاح والنجاة لصاحبها ، الّذي هو أعزّ النفوس عنده ، وقبوله بعقله والتزامه إيّاه. فاذا وقع إدراكه على طريقه وأبى وجحد وأقدم على الحرمان من جميع الخيرات ، والوقوع في كلّ شرّ استكبارا وعنادا ، وتكرّر ذلك في حقّه بترادف ظهور الآيات ، وتواتر الاصرار على الجحود والانكار ، أدّى ذلك إلى تغيّر الفطرة الاولى في الطلب والقبول والالتزام بمقتضى تعوّد مخالفتها في أهمّ مقتضياتها ، فصار عدوّا لنفسه لا يطلب خيرها ولا دفع شرّها

__________________

(١) راجع المصادر المذكورة فى تعليقة ١ ص ٥٨٦.

٥٨٨

إذا كانا من الامور الحقيقيّة الباقية لا الداثرة الفانية ، ولا يقبل ذلك عند ورود موجب العلم والادراك ، ولا يلتزم به ، فصار منسلخا عن البصيرة الّتي من شأنها القبول والاتّصاف بالعلم ، وداعية الطلب قبل ورود الموجب ، وداعية الالتزام بعد القبول ، كما هو الشأن في جميع القوى الانسانيّة والحيوانيّة ، فانّها تقوى بالاعمال ، وتضعف أو تنعدم بالاهمال ، خصوصا عند العمل على خلاف مقتضياتها وأضدادها ، فانّ العادة كالطبيعة الثانية قاهرة على الطبيعة الاولى واردة عليها ؛ ألا ترى إلى أنّ بعض المشتغلين لوعظ الناس وذكر المصائب لأجل التكسّب بهما وطلب المال والجاه ، إذا كان بناء أمره من أوّله إلى محض الحفظ والذكر وترك التأثّر ، إذا داوم على ذلك يصير بحيث لا يمكن له تأثّر بوعظ ولا ذكر مصيبة ولو أجهد نفسه؟ لأنّه كلّما يرد على نفسه منهما شيء كان مسبوقا بورود نظائر كثيرة له مقترنة بعدم التأثّر ، فلا يكون له وقع وتأثير في النفس أصلا ، حتّى كأنّه منسلخ عن مقتضى التأثّر رأسا.

وأيضا فانّه إذا جحد النبوّة أو الولاية بعد ظهور الآية فقد أقدم على الاعراض عن الآخرة والواقع رأسا ، والامور الراجعة إليهما هي الاصل في مدركات البصائر ، فلم يبق لبصائر هم مجال نظر وتأمّل فيما من شأنها ، فكأنّهم انسلخوا عنها ، بل وقع ذلك بورود الغطاء وضرب حجاب الجحود عليه وإن بقيت الشأنيّة ، وقد عرضوا تلك النعمة الجسمية بالكفران وترك صرفها فيما خلقت لأجلها ، لأخذ الله سبحانه إيّاها عنهم بعد إتمام الحجّة بظهور الآيات والبيّنات. فمن طرفها صاروا في معرض خطف البصائر ، وكاد أن يقع ذلك عليهم.

ثمّ من بعد التمادي في ذلك الحال ينجرّ الامر إلى الختم والطبع والغشاوة الخاطفة للبصائر ، وقد سبق بيان أحوالها. ويجري نظير هذا البيان في جميع مراتب الجحود الواقع باختلاف العلم مع الحال ، أو أحدهما مع العمل ، كما يشهد له

٥٨٩

في الجملة ما ورد من أنّ :

«العلم يهتف بالعمل فان أجابه وإلا ارتحل [عنه]» (١).

وقوله سبحانه :

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)(٢).

وغير ذلك ، والتفصيل موكول إلى محلّه.

وأيضا فانّه إذا عاند الآيات والبيّنات بعد ظهورها ووضوحها استحقّ بذلك اللّعن والخذلان ، والتخلية بينه وبين الشيطان الغويّ ، وتركه في الظلمة ، وسلب نور البصيرة عنه ، هذا.

ولو شبّه البرق بالبشارات الواردة عليهم فلعلّ مقاربتها لخطف أبصارهم لاجل أنّها من البشارات المتعلّقة بالعاجلة الّتي هي بأنفسها كالبرق أيضا في عدم الثبات والبقاء ، والمنافقون لكونهم معرضين عن الآخرة ، وتوحّد همّهم في الدنيا ، إذا سمعوا بشرى عاجلة تطلّعت نفوسهم إليها شوقا بحيث كاد أن تطير عقولهم لأجلها ؛ كالكاملون في الايمان بالقياس إلى ذكر أوصاف المبدء والمعاد بخلاف المؤمنين الّذين لا يأسون على ما فاتهم منها ، ولا يفرحون بما آتاهم.

__________________

(١) هو من حكم أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، فراجع نهج البلاغة ، ح ٣٦٦ ، ص ٥٣٩ ؛ وكذا رواه المجلسي (ره) في البحار ، ج ٢ ، باب استعمال العلم والاخلاص في طلبه ، ص ٣٣ ، ح ٢٩ ، وص ٤٠ ، ح ٧١ ، عن عوالي اللئالي ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وعن منية المريد ، عن أبى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ؛ وقال في ذيله : «يهتف بالعمل أي : العلم طالب للعمل ، ويدعو الشخص إليه ، فان لم يعمل الشخص بما هو مطلوب العلم ومقتضاه فارقه».

(٢) التوبة / ١١٥.

٥٩٠

[في إيمان المنافقين عند الرّاحة وكفرهم عند الشّدائد]

(كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ)

إمّا متعدّ فيكون المعنى : كلّما نوّر لهم ممشى ومسلكا مشوا فيه ، أو لازم بمعنى : كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره. فينبغي عليه حذف مضاف أو التزام توسّع في نسبة ، كما أنّ المفعول على الاوّل محذوف من الكلام. والمشي : جنس الحركة المخصوصة.

(وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ)

يحتمل فيه اللّزوم والتعدية كالاضائة ، واللّزوم هو الظاهر لكثرة استعماله على ما ذكر ، واستغنائه عن الحذف.

(قامُوا)

وقفوا وثبتوا في مكانهم. وفي تتمّة الرواية السابقة عند الجملة الاولى :

«إذا ظهر ما اعتقدوه أنّه الحجّة مشوا فيه ثبتوا عليه ، وهؤلاء كانوا إذا أنتجت خيولهم الاناث ونساؤهم [الذكور] ، وحملت نخليهم ، وزكت زروعهم ، ونمت تجاراتهم ، وكثرت الالبان في ضروعهم قالوا : يوشك أن يكون هذا ببركة بيعتنا لعليّ عليه‌السلام ، إنّه مبخوت بذلك ينبغي أن نعطيه ظاهر الطاعة لنعيش في دولته. (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) ؛ أي : إذا أنتجت خيولهم الذكور ونساؤهم الاناث ، ولم يربحوا في تجارتهم ، ولا حملت نخيلهم ، ولا زكت زروعهم وقفوا وقالوا : هذا بشؤم هذه البيعة الّتي بايعناها عليّا عليه‌السلام ، والتصديق الّذي صدّقنا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهو نظير ما

٥٩١

قال الله عزوجل : يا محمّد «إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قال الله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ» (١) بحكمه النافذ وقضائه ، ليس ذلك لشؤمي ولا ليمني» (٢).

وأقول :

لمّا كان من جملة تلك الآيات المشبّهة بالبرق البركات والخيرات المترتّبة على الهدى والحقّ ودين الاسلام كما يشهد به ملاحظة حال أهل المدينة وغيرهم قبل الهجرة ، وملاحظة أحوالهم المتأخّرة عنها حيث أرخت الدنيا عليهم عراسيها ، وأقبلت عليهم بجميع شؤونها من كثرة المال ، وبسط الجاه والرخاء والسعة ، وارتفاع أسباب الفساد الّتي كانت قبله ، وسائر البركات والخيرات ، مضافا إلى المعجزات الخاصّة ، التي ظهر في نصر الاسلام وإصلاح أمور المسلمين المتعلّقة بدنياهم ، وإلى سبق الاخبار بوقوعها من القرآن أو كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكون وقوع المخبر به على حسب الاخبار السابق دليلا على صحّة النبوّة.

ولمّا كان المنافقون معرضين عن الآخرة مقصوري الهمم على أمور الدنيا فلا تضيء لهم الحجج إلا ما كان من هذا القبيل ، وإضائته لهم ظهور تلك الآثار الدنيويّة عليهم ، وهم يمشون في ضوئه ، ويسيرون في ظاهر أحكام الاسلام متمسّكين به طلبا لتلك الخيرات العاجلة ، الّتي ظهرت لهم أنّ وصولها إليهم ببركة إظهارهم الاسلام ، والتزامهم بأحكامه ، الّتي من جملة عظامها قبول الولاية ظاهرا والاقرار اللّسانيّ بها ، وكذا ما ظهر لهم كونه من طرف كلّ حكم من أحكام الاسلام ، وكلّ شأن من شؤونه ، كما يشاهد كثيرا من ترتّب الخيرات على الصدقات ، وإقأمة

__________________

(١) النساء / ٧٨.

(٢) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ١ ص ٥٨٦.

٥٩٢

المراثي على سيّد شباب أهل الجنّة وغيرهما.

وتلك الآثار الدنيويّة المترتّبة على آحاد أحكام الدين في طرفي الموافقة والمخالفة من أعظم البراهين على صحّة الدين بعد الاطلاع على مجاريها ، وتدقيق النظر فيها ؛ إذ ينكشف للعاقل عند ذلك أنّه لو لم يكن أمرا حقّا ثابتا في الواقع ، لم يكن ليترتّب عليها شيء من ذلك ؛ مضافا إلى شهادة الآثار الباطنيّة الظاهرة لأهل البصيرة الباطنيّة عليها ، وإلى ما مرّ من انقلاب حال المسلمين بحسب دنياهم انقلابا فاحشا ؛ لكن تلك البيّنات لا تؤثّر في قلوب المنافقين وباطنهم ، وإنّما تؤثّر في مشيهم على طبقها ، وثباتهم على الالتزام الظاهريّ بما ترتّب عليه تلك الاثار المطلوبة من أصل الاسلام ، أو قبول كلمة الولاية ، أو سائر أحكام الحقّ والدين ، فلم توجب تحقّق الايمان لهم كما أوجب في حقّ المؤمنين ، بل أوجب سلوكهم على حسبها ظاهرا.

ولمّا كانوا ناظرين إلى تلك الآيات بأنفسها طالبين لتلك الآثار من حيث ذواتها ، لكونها من مصالح دنياهم لا من جهة كونها دلائل على أنّه الحقّ وو الصدق ؛ لأنّهم غير طالبين له كما مرّ مثل ذلك في وصفهم ، لزمه انقلاب حالهم إذا لم يظهر لهم تلك الآثار ، أو ظهر لهم ما يضادّ مقاصدهم الدنيويّة ، وتثاقلهم عن قبول أحكام الدين والثبات عليه لفتور دواعيهم ، وانتفاض أغراضهم ، وعروض الشبهة لهم في كون الاسلام بأحكامه موجبا لترتّب المنافع الدنيويّة ، ودفع المضارّ العاجلة الذين هما الغايتان لفعلهم.

ثمّ المناسب لحال المنافقين في الاصل أن يحملوا ما شاهدوا ترتّبها على الاسلام وأحكامه على أنّه من قبيل البخت واليمن والبركة ، الّتي يعتقدون أمثالها في كثير من الافعال والاشخاص وغيرها ، كما يشاهد في اعتقاد الناس نحو ذلك في الاعصار والامصار ، فلا يجعلونها حجّة وبرهانا لكونه الحقّ النازل من عند الله

٥٩٣

سبحانه لجحودهم ذلك ، بل يجعلون المقامين من البخت والشؤم ، فيلزمهم المشي عند ظهور آثار ما يرونه بختا ، والوقوف والتثاقل عند خلافه.

وهذا يجري نظيره في حقّ كلّ عامل يعمل بالدين لأجل المنافع الدنيويّة في كلّ مقام ، ولا ينظر إلى كونه وصلة إلى الآخرة سواء اعتقد كونه حقّا في الواقع موصلا إلى الجزاء الاخرويّ أم لا ؛ كالمجاهد لأجل الغنيمة ، والحاجّ للتجارة ، ومعطي الزكاة والخمس لأجل بركة المال وعدم تلفه ، والساعي في ترويج الدين للمال والجاه ، والمحصل للعلم لأحدهما وغير ذلك ، ومقيم مجلس العزاء للبركة ودفع البليات وقضاء الحاجات. فانّه كلّما ظهر لهم ترتب مقاصدهم على ما فعلوه مشوا على الطريقة التي فعلوها. وإذا افتقدوا تلك الآثار قاموا وثبتوا عنه ، هذا.

ولو جعل البرق مشبها بالبشارات العاجلة كما احتملناه سابقا ، فالامر في الجملتين أوضح وأظهر ، كما يظهر بملاحظة ما تقدّم.

ولعلّه بهذه الملاحظة ذكر بعضهم في وجه المشابهة هنا أنه : «كلّما دعوا ـ يعني : المنافقين ـ إلى خير وغنيمة أسرعوا ، وإذا وردت شدّة على المسلمين تحيّروا لكفرهم ، ووقفوا كما وقف أولئك في الظلمات متحيرين» (١).

وأمّا ما قيل من : «أنهم اليهود لما نصر المسلمون ببدر قالوا : هذا الذي بشّر به موسى عليه‌السلام ، فلما نكبوا بأحد وقفوا وشكوا» (٢) ، فبعيد جدّا حيث أنّ مساق هذه الجمل في صفة المنافقين وبيان حالهم لا الكفار.

نعم ، لو جعلهم المنافقين المتردّدين باطنا ، المظهرين للايمان ، المصغين إلى كلام اليهود ، أو المتخيلين نظير ما صدر منهم ، أو القائلين به في خفاياهم ، لم يكن

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٩.

(٢) نفس المصدر.

٥٩٤

خاليا عن وجه.

وأما ما قيل هنا من أنهم : «إذا آمنوا صار الايمان لهم نورا ، فاذا ماتوا عادوا إلى ظلمة العقاب» (١) ، فهو أيضا بظاهره بعيد ؛ إذ إظهار اسلام مع الكفر الباطني الذي اتصف به المنافق ليس نورا ، ولا يضيء لهم شيئا ، مع عدم ظهور المناسبة بين قيام أصحاب الصيب ، العود إلى ظلمة العقاب.

ولعلّه أراد بذلك إجراء نظير الجملتين في سائر مراتب النفاق ، الواقعة برزخا بين الايمان الخالص والكفر المحض.

فالمناسب حينئذ أن يقول : إنّهم يسيرون تارة في ضوء الايمان ، ويمكثون أخرى ، كما في المثل المعروف : «أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى» ؛ إذ لا ثبات لحالهم ودواعيهم ومقاماتهم ، كما مرّ بيانه في ذيل الآيات السابقة.

وربما يجعل الجملتان تمثيلا لشدة الامر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب ، وما هم فيه من غاية التحيّر والجهل بما يأتون ، وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة (٢) ، مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوها فرصة ، فخطّوا خطوات يسيرة ، فاذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة.

ويجري نظير هذا البيان في سائر أقسام النفاق ، بل في غير ما خصّ الايمان الّذي أخلص نفسه لله فاستخلصه ، وصار من معادن دينه وأوتاد أرضه ؛ كما ورد هذا الوصف في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما ببالي (٣). فانّ من عدا ذلك المؤمن لا يخلوا عن تحيّر في أمر دينه ، وجهل يرشده ، وغيّ (٤) ولو في بعض الموارد و

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) خفق البرق : لمع (منه ره).

(٣) راجع نهج البلاغة ، خ ٨٧ ، ص ١١٩ ؛ وكلامه ـ عليه‌السلام ـ هو : «قد أخلص لله فاستخلصه ، فهو من معادن دينه ، وأوتاد أرضه».

(٤) في المخطوطة : «غيه».

٥٩٥

الاحوال ، وعن سعي ناقص بخطوات قليلة ، وسكون أحيانا عن سلوك الصراط المستقيم ، والوقوف متقيّدا عند تقلّب الاحوال ، والله المستعان.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)

[في أنّ الله قادر بإذهاب بصر المنافقين وإظهار كفرهم]

كأنّ المعنى أنّه لو شاء أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ، وحذف المفعول في «شاء» تعويلا على دلالة الجزاء عليه شائع ، حتّى قيل : إنهم «لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب» (١).

وكأن الاولى أن يجعل هذا أيضا من تتمّة أحوال أصحاب الصيب ، فيكون الاذهاب بالسمع بقصيف الرعد ، وشدّة صوته بالزيادة في شدّته ، أو واقعا على وجه يترتب عليه الذهاب ، أو جعله مذهبا بمشيّة الله سبحانه ، أو بسبب آخر ، أو بنفس المشية بلا سبب أصلا ، وكذا في إذهاب البصر بالبرق أو غيره.

ويشبه أن يكون إيراد هذه الجملة تنبيها على أنّ ما يفعلونه حذار البرق والرعد ليس مخرجا لهم عن قضاء الله سبحانه وقدره ومشيّته وحكمه عليهم ، ولا مغنيا لهم عن الله شيئا ، وأنّ الحكم لله وحده ، فلا ينبغي الاعتماد على الحذر وتدبير العبد لنفسه ، ولا طلب مسابقة الله في قضائه والفرار من حكمه ، بل ينبغي التوكل عليه سبحانه والاعتماد عليه والتسليم له.

وفي تتمّة الرواية السابقة :

«ثمّ قال الله عزوجل (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) حتّى لا يتهيألهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت وأصحابك المؤمنون ، وتوجب قتلهم» (٢).

__________________

(١) الكشاف ، ج ١ ، ص ٤٣.

(٢) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ١ ص ٥٨٦.

٥٩٦

ولعلّه بيان لما يفيده هذه الجملة الواقعة في المثال في صفات المشبه أو إثبات لمثله فيه ، وأنّه كما أن الله سبحانه لو شاء أذهبها عن أصحاب الصيب بما فيه من البرق والرعد ، فيبقون في تلك الاهوال والشدائد مأخوذين عنهم أسباب التخلّص ؛ إذ المبدء للخلاص هو الادراك والعمدة في أسبابه السمع والبصر ، كذلك لو شاء لذهب بها عن المنافقين حتّى لا يتمكنوا من الحيلة والتحرز عن وقوع سبب الهلاك عليهم باظهار الاسلام والالتزام بأحكامه ، وسائر ما كانوا يجعلونه وقاية لهم ، وجنة لدفع ما كان يعامل الكفار بمثله. ولعلّه مراد من فسره بأنه لو شاء لأظهر على كفرهم ، فأهلكهم ودمّر عليهم.

ويحتمل خروج هذه الجملة عن حكم ما قبله ، فيكون المراد بها المنافقون ابتداء. والاول أقرب ، والمآل على كلّ منهما واحد لا يتفاوت كثير تفاوت على الظاهر.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

[حقيقة الشيء ومصاديقه]

«الشيء» ما صحّ أن يعلم ويخبر عنه (١).

وعن سيبويه : «أنّه أول الاسماء وأعمها وأبهمها ؛ لأنه يقع على الموجود والمعدوم.» (٢) وهذا التعميم منسوب إلى محققي المتكلّمين ، بل قال جماعة : «إنّ الشيء أعمّ العامّ ، كما أنّ الله أخص الخاص ، يجري على الجسم والعرض والقديم ، وعلى المعدوم والمحال» (٣).

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٨ ؛ والكشاف ، ج ١ ، ص ٤٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٨.

(٣) راجع الكشاف ، ج ١ ص ٤٣.

٥٩٧

واعترض بأن المحال ليس شيئا اتفاقا ، وأجيب بأنّ : ذلك الخلاف في الشيئية بمعنى التقرر والثبوت في الخارج ، لا في إطلاق لفظ الشيء. فانه بحث لغوي ، مرجعه إلى النقل والسماع ، لا يصلح محلا لاختلاف العقلاء الناظرين في المباحث العلمية. والظاهر من طريقة الحكماء أنّ الشيئيّة تساوق الوجود ، وأن ما ليس بموجود ليس بشيء.

وفي المجمع بعد أن اختار الاول أيده بذيل هذه الآية وقال : «فان كل شيء سواه محدث ، وكل محدث فله حالتان : حالة عدم ، وحالة وجود ، وإذا وجد خرج عن أن يكون مقدورا للقادر ، لأن من المعلوم ضرورة أن الموجود لا يصح أن يوجد ، فعلمنا أنه إنما يقدر عليه في حال عدمه ليخرجه من العدم إلى الوجود ـ ثمّ قال : ـ وعلى هذه المسألة يدور أكثر مسائل التوحيد» (١). وذكر فى آخر كلامه في تفسير الآية أنّه : «قادر على الاشياء كلّها على ثلاثة وجوه : على المعدومات بأن يوجدها ، وعلى الموجودات بأن يفنيها ، وعلى مقدور غيره بأن يقدر عليه ويمنع منه» (٢).

وهذا الكلام لا يلائم ما سبق منه إلا أن يقرر في خصوص القدرة على الايجاد بأن يقال كما أورده بعضهم : من أنّه لو كان الشيء هو الموجود كما يزعمون ، لما كان متعلّقا للقدرة ، لأنها عبارة عن الصفة المؤثرة على وفق الارادة ، وتأثيرها هو الايجاد ، وإيجاد الموجود محال.

وهو أيضا فاسد ، وكيف يخرج الموجود عن تحت القدرة والحال أن وجوده قائم بقدرته ، وأثر له؟ وكيف ينفك الاثر عن المؤثر؟

بل التحقيق أن الممكن له حالة واحدة افتقارية إلى موجده في حال عدمه

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٨.

(٢) نفس المصدر ، ص ٥٩.

٥٩٨

وحدوثه وبقائه من دون تفرقة في نحو الافتقار. فأنتم الفقراء إلى الله بقول مطلق ، وبكل اعتبار وفي كل حال ، والله هو الغني الحميد (١).

وببالي أن في دعاء الحسين عليه‌السلام في يوم عرفة :

«أنا الفقير في غناي ، فكيف لا أكون فقيرا في فقري»؟ (٢).

وأما الشبهة المذكورة ، فالجواب عنه ما ذكره بعضهم من أن المحال إيجاد الموجود بوجود سابق. وهو غير لازم ، واللازم إيجاد موجود بوجود هو أثر ذلك الايجاد ، وهو ليس بمحال.

وأمّا المقدور ، فان أريد به ما تعلّقت به القدرة فهو لا يكون إلا موجودا ، وإن أريد ما يصلح أن يتعلّق به القدرة يكون معدوما. وهو المعنيّ بقولهم : «إن الله قادر على جميع الممكنات ، وأن مقدوراته غير متناهية».

وهذا الكلام قريب من الصواب بعد إرادة الشأنيّة المقابلة للفعلية من صلوح التعلّق في كلامه ، فانّ الممكن لا ينعدم عنه صلوح التعلّق بعد وجوده ، بل هو بعد على ذلك الصلوح السابق ، وأنّما كمل صلوحه بالفعلية ما دام باقيا بابقاء الحق إياه ، وإقامته في الاعيان ، فاذا انسلخ عنه ذلك ارتفع الكمال والفعلية ، كيف وذلك الصلوح والقابليّة إنّما ثبت لذات الممكن من حيث ذاته ، لا بعلّة أخرى ، فكيف يزول عنه في حال الوجود الّذي هو وقت تقوّم الذات وتحققه؟

وقد تقرر في محلّه أن علّة الاحتياج إلى المؤثّر هو الامكان الذاتي ، الّذي لم يسلب عنه بالوجود ، بل هو موصوف بالامكان حال وجوده ، كما كان موصوفا حال حدوثه ، وباعتبار ما قبله. وحقيقة الامكان هو صلاحية الوجود ؛ لكن الممكن

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى : «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (فاطر / ١٥).

(٢) راجع الاقبال وسائر كتب الادعية.

٥٩٩

لا يصلح للكون بنفسه وبلا علّة ؛ إذ هو ظاهر الامتناع ، بل الذي يمكن أن يصير موجودا بايجاد قادر عليه ما دام هو موجدا له ، فكيف يخرج عن تحت القدرة حال تأثير ذلك القدرة فيه ، وخروجه عن حكم القدرة سبب امتناع وجوده؟

ومن هذا البيان ظهر بقاء عموم الآية في الممكن حال الوجود من حيث وجوده ومن حيث عدمه ، ومن حيث تقليبه وتصريفه في كلّ حيثية من حيثياته ، وكلّ شأن من شؤونه.

ثمّ إنّهم التزموا بعد عدم تخصيصهم الشيء بالموجود بأنّ الآية مخصّصة بالممكنات ، وأنّ المراد بالشيء ما سوى الواجب والممتنع ، وكذا مقدور قادر آخر على ما نسب إلى جمهور المعتزلة من إنكار كونه مقدورا للحق سبحانه ، وأنه يمتنع أن يكون مقدور واحد بين قادرين.

والتحقيق أنّه لم يرد على الآية تخصيص خارج أصلا ، وأنّه باق على مفاده الذي ينساق إلى الذهن منها مع قطع النظر عن الخارج ، لا أنّ العقل حكم بورود التخصيص عليه. وبيانه أن الشيء على ما صرحوا به هو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه كما تقدم ، واعترف جماعة منهم بذلك صريحا ، وهو الظاهر من ملاحظة العرف واللّغة أيضا ؛ لكن من البيّن أنه لو لم يفرض للشيء تميّز في حدّ نفسه في ذهن أو خارج أو في نفس الامر ، لم يصح أن يكون معلوما ولا مخبرا عنه ، ولا له مفهوم ولا معنى. فالشيئية فرع التميز والتحدد بحدوده ، بحيث يمتاز به عمّا عداه ولو بوجه من وجوهه واعتبار من اعتباراته ، حتّى يصحّ وقوع العلم والادراك به ، والخبر عليه ، ويكون متحصلا في مرتبة نفسه ، ومعنى مغائرا لسائر المعاني ، ومفهوما في مقابلة سائر المفاهيم. فلو لم يكن كذلك لما كان لادراجه تحت عنوان الشيء وجه أصلا ، ولا يصح أن يشار إليه ويحكم عليه بأنّه شيء ، ومندرج تحت الشيء أم لا.

٦٠٠