مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

فيك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ ، المقداد أخوك في الدين وقد قدّمتك ، فكأنّه يعينك حبّا لك ، وبغضا على أعدائك وموالاة أوليائك. لكن ملائكة السموات والحجب أشدّ حبا لك منك لعلي عليه‌السلام وأشدّ بغضا على أعدائك منك على أعداء عليّ عليه‌السلام فطوباك ، ثمّ طوباك.

ثمّ يقول لأبي ذرّ : مرحبا بك يا أبا ذر! أنت فيك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ» قيل : بماذا فضّله الله بهذا وشرّفه؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّه كان يفضّل عليّا عليه‌السلام أخا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوّالا ، وله في كلّ الاحوال مدّاحا ولشانيه وأعاديه شانيا ، ولأوليائه وأحبّائه مواليا ؛ سوف يجعله الله عزوجل في الجنان من أفضل سكّانها ، ويخدمه من لا يعرف عدده إلّا الله من وصائفها وغلمانها وولدانها».

ثمّ يقول لعمّار بن ياسر : أهلا وسهلا يا عمّار! نلت موالاة أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من وادع رأفة لا تزيد على المكتوبات والمسنونات من سائر العبادات ما لا يناله الكادّ (١) بدنه ليله ونهاره ؛ يعني : اللّيل قياما ، والنهار صياما ، والباذل أمواله وإن كانت جميع أموال الدنيا له. مرحبا بك! فقد رضيك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام أخيه مصافيا ، وعنه مناويا حتّى أخبر أنّك ستقتل في محبّته ، وتحشر يوم القيامة في خيار زمرته ؛ وفّقني الله لمثل عملك وعمل أصحابك ممّن

__________________

(١) الكاد : المشقة (قاموس).

٥٢١

توفّر على خدمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ عليه‌السلام ، ومعاداة أعدائهما بالعداوة ، ومصافاة أوليائهما بالموالاة والمشايعة ؛ سوف يسعدنا يومنا هذا إذا التقينا بكم.

فيقول سلمان وأصحابه : ظاهرهم كما أمر الله تعالى ويجوزون عنهم.

فيقول الاوّل لأصحابه : كيف رأيتم سخري بهؤلاء؟ وكيف [أكفّ](١) عاديتهم عنّي وعنكم؟

فيقولون له : لا تزال بخير ما عشت لنا ، فيقول لهم : فكهذا فلتكن معاملتكم لهم إلى أن تنتهزوا الفرصة فيهم مثل هذا ، فانّ اللّبيب العاقل من تجرّع على الغصة حتّى ينال الفرصة.

ثمّ يعودون إلى أخدانهم المنافقين المتمرّدين المشاركين لهم في تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أدّاه إليهم عن الله عزوجل من ذكر تفضيل أمير المؤمنين عليه‌السلام ونصبه إماما على كافّة المكلّفين ، قالوا لهم : إنّا معكم على ما وطّأتكم عليه أنفسكم من دفع عليّ عن هذا الامر إن كانت لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كائنة ، فلا يغرّنّكم ولا يهولنّكم ما تسمعونه منّا من تفريطهم ، وتروننا نجترئ (٢) عليه من مداراتهم ، فانّما نحن مستهزؤن بهم» (٣).

__________________

(١) في البحار : «كففت».

(٢) في المخطوطة والبرهان : «مني ... تروني أجترئ».

(٣) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٤٥ ـ ٤٧ ؛ والبحار ، ج ٨ (ط كمبانى) ، باب كفر الثلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم ، ص ٢١٩ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٢ ـ ٦٣.

٥٢٢

[في شأن نزول الآية]

أقول : لا منافاة بين كون «عبد الله بن ابيّ [بن] سلول» مورد النزول ، كما سبق في الرواية الاولى وتكرّرت في تفاسير العامّة ذكره ، وبين كون الثلاثة الّذين أظهروا الايمان والرضا بالولاية ، أو مطلق الناكثين للبيعة ، أو خصوص التسعة ، أو القائل منهم ما سبق موردا لنزول الآية ؛ إذ يحتمل أن يكون الآية واردة لبيان حال المنافقين بأسرهم ومعاملتهم مع المؤمنين من تكلّف الكذب لهم والاستهزاء بهم ، ولقائهم بوجوه المصادقين ، وإيهامهم أنّهم معهم. فاذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدّقوهم بما في قلوبهم ، وهذا من شأن مطلق المنافقين يمشي مع كلّ من الطائفتين بلسان مغاير للسانه مع الآخر سواء كانوا معاندين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كابن ابي ، أو لأمير المؤمنين عليه‌السلام بالاصالة كهؤلاء الناكثين ؛ مع أنّه لا يبعد من أحوالهم أن يكونوا جامعين بين عداوته عليه‌السلام وعداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله استقلالا ؛ كابن أبيّ وأصحابه وإن كانوا في إظهار خلافه والموافقة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومتابعته في ظاهر الحال جادّين مجتهدين.

وبالجملة فلا يبعد من ملاحظة الآيات شمولها لمطلق المنافقين ، الّذين لم يؤمنوا سواء المانع لايمانهم إبائهم عن الولاية بعد ظهور الحجّة وانقطاع المعذرة ، أو غيره بعد أن كانوا ثابتين على النفاق مع الرسول والمؤمنين.

وعليه فيصحّ أن يكون المراد بالقائلين مطلق من صدر منه القولان ، ويشمل كلا الفريقين ، بل لعلّه أقرب إلى مفاد اللّفظ من إرادة شخص خاصّ. وربّما يجري نظيره في حقّ سائر أقسام النفاق الّتي أشرنا إليها سابقا ، فانّ كثيرا منهم يمشون بين الناس بلسانين مختلفين وكيفيّتين متضادّين ، بل ربّما يعاشرون مع كلّ فرقة وأهل طريقة بمذاقهم ، ويظهرون موافقتهم في ذلك ، بحيث يظنّ

٥٢٣

بهم أنّهم من هؤلاء ليروّج بذلك أمرهم.

[في معنى اللّقاء والخلوّ والشّيطان وأنّ الثاني هو الشّيطان الاكبر]

وحينئذ فنقول : يقال : لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريبا منه ؛ وخلوت بفلان وإليه ، إذا انفردت معه. واحتمل في الآية أن يكون من «خلا» بمعنى : مضى ، كما في «وخلاك ذمّ» أي : عداك ومضى عنك ، ومن خلوت به إذا سخرت به ، وهو من قولك : خلا فلان بعرض فلان يعبث به ، ومعناه حينئذ : وإذا أنهوا السخريّة بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدّثوهم بها. ولعلّ الاوّل أظهر.

وفسّر الشياطين هنا بالّذين ماثلوا الشياطين في تمرّدهم ، وهو بظاهره أعمّ من الرؤساء وغيرهم ، وخصّه بعضهم بالرؤساء والأكابر من المنافقين ، فيكون القائلون بأنّا مصاحبوكم وموافقوكم على أمر دينكم أصاغرهم أو من الكافرين ، فيحتمل كون القائلين مجموع المنافقين.

وذكر في وجه التخصيص بالرؤساء أنّهم القادرون على الافساد في الارض.

ويحتمل إرادة الناس الّذين يوسوسون في صدور غيرهم ، ويلقون إليهم ما يضرّ بدينهم وآخرتهم وصلاح أمورهم ، الّذين يضلّون غيرهم بغير علم سواء كانوا أكابر أو أصاغر ، فانّ الاصاغر ربّما يغوون جماعة من أهاليهم وأولادهم وأمثالهم ، فيكون مماثلتهم للشيطان باعتبار إضلالهم الناس كالشياطين ، أو باعتبار أنّ الشياطين اتّخذهم أشراكا ، فباض وفرّخ في صدورهم ، وتكلّم بألسنتهم ، وأغوى النّاس بهم ؛ وقد ورد قريبا من ذلك في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة في صفة جماعة ، فراجع (١).

__________________

(١) وهو كلامه ـ عليه‌السلام ـ يذم فيه أتباع الشيطان ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا ، واتخذهم له أشراكا ، فباض وفرخ في صدورهم ، ودبّ ودرج ـ

٥٢٤

ويحتمل أن يؤخذ وجه المماثلة هو التشبّه بصفات الشيطان في مرتبة نفسه من حيث عناده وتمرّده وثباته في الكفر.

وفوق هذه الانظار نظر آخر ، وهو أنّه قد ورد في بعض الاخبار أنّ الثاني ـ لعنه الله تعالى ـ كان شيطانا (١) ، وربّما يحكى رواية : أنّه كلّما ذكر الشيطان في القرآن فهو الثاني (٢).

ولعلّ دقّة النظر في المقام تؤدّي إلى أنّ الانسان بحسب الصورة قد ينسلخ من معنى الانسانيّة ، ويتحقّق بالحقيقة الشيطانيّة في باطنه ، ويكون مسوخا بالشيطان في الباطن ، كما يتحقّق المسخ الباطني للانسان بصورة الحيوانات على ما سنذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ فيما بعد ، فيكون خارجا عن حدود الانسانيّة وداخلا تحت حقيقة الشيطانيّة وإن غايره صورة وشكلا.

والظاهر أنّ الثاني ـ لعنه الله ـ من أقوى أفراد هذا العنوان ، وكذا نظائره من كثير من المتوغّلين في الكفر والنفاق ، الّذين صاروا أئمّة يدعون إلى النار ، هذا.

__________________

 ـ في حجورهم ، فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزلل ، وزين لهم الخطل ، فعل من قد شركه الشيطان فى سلطانه ، ونطق بالباطل على لسانه.» فراجع نهج البلاغة ، خ ٧ ، ص ٥٣.

(١) كخبر العياشي (ره) في تفسيره ، ج ٢ ، ص ٢٢٣ ، ح ٨ ، عن حريز ، عمن ذكره ، عن أبى جعفر ـ عليه‌السلام ـ في قول الله تعالى : «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ...» (ابراهيم / ٢٢) قال : «هو الثاني ، وليس في القرآن شيء «وقال الشيطان» إلا وهو الثاني.» والروايات في هذا المعنى كثيرة ، قد جمعها المجلسي (رض) في البحار ، ج ٨ (ط كمباني) ، باب كفر الثلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم ، فراجع.

(٢) قد مضى في التعليقة السابقة.

٥٢٥

[في معنى الاستهزاء وأنّه ملازم للنّفاق]

وأصل الاستهزاء هو السخريّة والاستخفاف ، وأصله على ما قيل : «الخفّة من الهزء ، وهو قتل السريع.» (١) ولعلّ إيرادهم الجملتين معا مع شياطينهم بالجملة الاسميّة مؤكّدة ب «إنّ» وأداة الحصر واقتصارهم مع المؤمنين بالجملة الواحدة الفعليّة لأنّ نفوسهم لا تساعدهم في الثاني على أزيد من ذلك ، أو لأنّه لا يروح عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة ، والجملة الثانية مؤكّدة للاولى معنى ، وكأنّه دفع اعتراض متوهّم ، وهو أنّه ما بالكم إن صحّ أنّكم معنا توافقون أهل الاسلام ، هذا.

وربّما يجري نظير مفاد الآية في كلّ منافق بالمعنى المتقدّم ، وذلك لأنّ النفاق على ما ذكر هو كون الظاهر راجحا على الباطن ، والفرع أزيد من الاصل ، سواء كان الاصل فاسدا رأسا أو ناقصا ، ومن كان على هذه الصفة فهو في الظاهر الذي هو موضع الملاقات مع الناس والمعاشرة مع المؤمنين مظهر لشؤون الايمان بقوله أو فعله أو حاله وصفته ، وفي باطنه الّذي هو موضع ملاقاته للشياطين ، واتّصاله بهم مظهر للثبات على ما كان عليه ، والموافقة معهم باعتقاده أو جحوده أو خلقه وملكته السبعة ، فهو ثابت الباطن مع الشياطين لم يتحوّل منه إلى غيرهم ، وله معهم خلوة باطنيّة ، ومضيّ وتجاوز إليهم. وفي ذلك المقام يظهر أنّ ما ظهر منه في الظاهر هو استهزاء لا حقيقة له ، ولا ثقل له لكونه فرعا بلا أصل ، وصورة بلا روح ، بل سخريّة لنفسه لو انكشف حاله لعارف بصير لضحك منه ضحك من اطّلع على أفعال أهل السخريّة ، وسخريّة لمن أظهر عنده ذلك لو كان لأجل الناس ، بل لعلّه يندرج تحت من اتّخذ آيات الله هزوا على ما ببالي من ورود رواية في شأن

__________________

(١) الكشاف ، ح ١ ، ص ٣٥ ؛ وأنوار التنزيل ، ص ١٤.

٥٢٦

من قرأ القرآن ولم يحجزه عن مخالفة الله سبحانه ، الّتي يترتّب عليها العقاب أنّه ممّن اتّخذ آيات الله هزوا ، أو قريبا من هذا المضمون (١).

وهذا بخلاف صفة المؤمنين المخلصين ، فانّهم لا خلوة لهم مع الشياطين ، بل يدفعونهم ويجاهدونهم ويخرجونهم إن اجتازوا عليهم ولا لهم مضيّ وتجاوز إليهم ، وأعمالهم ليست استهزاء وسخريّة ، بل من عين الحقيقة ، وهي ثقيلة متّصلة بأصولها.

ولعلّ في التعبير هنا بلفظ (إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) إشارة إلى البيان المذكور ، فانّ لهم شياطينا يخلون إليهم بالبيان المتقدّم ، فتدبّر.

ثمّ إنّه ما أشبه صنيع الناكثين بيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام بالتفصيل المتقدّم بحال كثير من الناقصين في الايمان ، المقتصرين على الايمان الظاهري أو قليل من الباطني ، حيث إنّهم إذا لقوا أهل الصلاح والسداد والكمال في الايمان أثنوا عليهم بكلّ وجدوا ، وأظهروا نهاية الموافقة معهم في طريقتهم وعقائدهم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم كان صفتهم على ما تقدّم ، وكثيرا ما يصرّحون بنظير ما قالوه مع المشاركين لهم في النقصان ، كما مرّت الاشارة إلى نظائره.

__________________

(١) قال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «من قرأ القرآن فمات فدخل النار ، فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا.» فراجع نهج البلاغة ، ح ٢٢٨ ، ص ٥٠٨ ؛ وهكذا رواه العياشى (ره) فى تفسيره ، ج ١ ، ص ١٢٠ ، ح ٣٧٩ ، عن عمرو بن جميع رفعه اليه ـ عليه‌السلام ـ.

٥٢٧

[بحوث حول استهزاء الله بالمنافقين]

[وإمهاله ومدده على طغيانهم]

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)

«يجازيهم جزاء استهزائهم في الدنيا والآخرة» كذا في ذيل الرواية السابقة الطويلة» (١).

وعن ابن شهر آشوب بعد نقل ما سبق عن التفسير عن محمّد بن الحنفيّة أنّه قال ابن عباس :

«وذلك أنّه إذا كان يوم القيامة أمر الله الخلق بالجواز على الصراط ، فيجوز المؤمنون إلى الجنّة ، ويسقط المنافقون في جهنّم [فيقول الله : يا مالك ، استهزىء بالمنافقين في جهنّم] فيفتح مالك بابا من جهنّم إلى الجنّة ويناديهم : معاشر المنافقين ، هيهنا هيهنا ، فاصعدوا من جهنّم إلى الجنّة ، فيسبح المنافقون في بحار جهنّم سبعين خريفا حتّى إذا بلغوا إلى ذلك الباب ، وهمّوا بالخروج أغلقه دونهم ، وفتح لهم بابا إلى الجنّة من موضع آخر ، فيناديهم من هذا الباب : فاخرجوا إلى الجنّة ، فيسبحون مثل الاوّل ، فاذا وصلوا إليه أغلق دونهم من موضع آخر ، وهكذا أبد

__________________

(١) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٣ ص ٥٢٢.

٥٢٨

الآبدين» (١).

وعن تفسير الامام عليه‌السلام أنّه قال العالم عليه‌السلام :

«فأمّا استهزاء الله بهم في الدنيا ، فهو أنّه مع إجرائه إياهم على ظاهر أحكام المسلمين لاظهارهم ما يظهرونه من السمع والطاعة والموافقة لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتعريض لهم ، حتّى لا يخفى على المخلصين من المراد بذلك التعريض ويأمر بلعنهم.

وأمّا استهزاؤه بهم في الآخرة ، فهو أنّه عزوجل إذا أقرّهم في دار اللّعنة والهوان أو عذّبهم بتلك الالوان العجيبة من العذاب ، وأقرّ هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله صفيّ الملك الديّان اطّلعهم على هؤلاء المستهزئين بهم (٢) في الدنيا حتّى يروا ما [هم] فيه من عجائب اللّعائن وبدائع النقمات ، فتكون لذّتهم وسرورهم بشماتتهم بهم كما [كان] لذّتهم وسرورهم بنعيمهم في جنّات ربّهم. فالمؤمنون يعرفون أولئك الكافرين المنافقين بأسمائهم وصفاتهم ، وهم على أصناف :

منهم : من هو بين أنياب أفاعيها تمضغه.

ومنهم : من هو بين مخاليب سباعها تعبث به وتفترسه.

ومنهم : من هو تحت سياط زبانيتها وأعمدتها ومرزباتها (٣)

__________________

(١) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٢ ص ٥١٩.

(٢) في المخطوطة : «كانوا بهم».

(٣) الارزبة بالكسر والتثقيل عصاة كبيرة من حديد يتخذ لتكسر المدر ، وفي لغة «مرزبة» بكسر الميم مع التخفيف والعامة تنقل مع الميم (مجمع).

٥٢٩

يقع من أيديها عليه يشدّد في عذابه ، ويعظم حزنه ونكاله.

ومنهم : من هو في بحار جحيمها (١) يغرق ، ويسحب فيها.

ومنهم : من هو في غسلينها وغسّاقها تزجره فيها زبانيتها.

ومنهم : من هو في سائر أصناف عذابها.

والكافرون والمنافقون ينظرون فيرون هؤلاء المؤمنين الذين كانوا بهم في الدنيا يسخرون لما كانوا من موالاة محمّد وعليّ وآلهما ـ صلوات الله عليهم ـ يعتقدون ، فيرونهم :

منهم : من هو على فرشها يتقلّب.

ومنهم : من هو على فواكها يرتع.

ومنهم : من هو في غرفها أو في بساتينها ومتنزّهاتها يتبحبح (٢) والحور العين والوصفاء والولدان والجواري والغلمان قائمون بحضرتهم ، وطائفون بالخدمة حواليهم ، وملائكة الله عزوجل يأتونهم من عند ربّهم بالحباء (٣) والكرامات وعجائب التحف والهدايا والمبرّات ، يقولون : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.)(٤) فيقول هؤلاء المؤمنون المشرفون على هؤلاء الكافرين المنافقين : يا فلان ويا فلان ويا فلان ، حتّى ينادوهم بأسمائهم : ما بالكم في مواقف خزيكم ماكثون؟ هلمّوا إلينا نفتح لكم أبواب الجنان

__________________

(١) في المصادر : «حميمها».

(٢) البحح : الفرح والتبحبح ، وهو التمكن في الحلول والمقام (مجمع).

(٣) الحباء : العطية ، يقال : حباه حبوة وحباء أي : أعطاه.

(٤) الرعد / ٢٤.

٥٣٠

لتتخلّصوا من عذابكم وتلحقوا بنا في نعيمها. فيقولون يا ويلنا أنّى لنا هذا؟! فيقول المؤمنون : انظروا لهذه الابواب. فينظرون إلى أبواب من الجنان مفتّحة تخيّل إليهم أنّها إلى جهنّم التي فيها يعذّبون. ويقدرون أنّهم يتمكّنون أن يتخلّصوا إليها ، فيأخذون في السباحة في بحار جحيمها (١) ، وعدوا من بين أيدي زبانيتها ، وهم يلحقونهم [و] يضربونهم بأعمدتهم ومرزباتهم وسياطهم فلا يزالون كذلك يسيرون هناك. وهذه الاصناف من العذاب تمسّهم حتّى إذا قدروا أن يبلغوا تلك الابواب وجدوها مردومة عنهم ، وتتهدّدهم (٢) الزبانية بأعمدتها ، فتنكّسهم إلى سواء الجحيم ، ويستلقي اولئك المنعّمون على فرشهم في مجالسهم يضحكون منهم مستهزئين بهم ، فذلك قول الله عزوجل : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وقوله عزوجل : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ.)» (٣)

وعن الصدوق باسناده عن ابن فضّال ، عن الرضا عليه‌السلام قال :

«سألته عن قول الله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)؟

فقال : إنّ الله لا يستهزئ ولكن يجازيهم جزاء الاستهزاء.» (٤)

__________________

(١) في المصادر : «حميمها».

(٢) في المصادر : «تدهدههم» والتدهده : التدحرج.

(٣) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٣ ص ٥٢٢.

(٤) رواه رحمه‌الله في العيون ، ج ١ ، باب ١١ ، ص ١٠٣ ، ح ١٩ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٤ ، ح ٥ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٥ ، ح ٢٣.

٥٣١

[في بيان حقيقة استهزاء الله سبحانه والمراد منه]

أقول : لمّا كان الاستهزاء والسخريّة من قبيل الباطل والجهل والعبث ، كما يشهد له ما حكاه سبحانه : (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(١) وكان الله سبحانه منزّها عن مثل ذلك ، لزم أن يتصرّف في اللّفظ بما يخرجه عن الدخول تحت هذه العناوين ، إمّا بأن يراد منه جزاء الاستهزاء ، فيكون إطلاقا للفظ الاستهزاء على جزائه كما في قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٢) ، وقوله سبحانه : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(٣) ، كما هو المترائى من جملة من الروايات (٤) ؛ وإمّا بأن يراد منه إنزال الهوان والحقارة بهم ؛ لأنّ غرض المستهزء هو الخفّة والزراية بمن يهزء به ، وإدخال الهوان والحقارة عليه ، ويؤيّده الاشتقاق كما مرّ.

وقال بعضهم إنّه : «قد كثر التهكّم في كلام الله سبحانه بالكفرة ، والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم ، والدلالة على أنّ مذاهبهم حقيقة بأن يسخر منها الساخرون ، ويضحك الضاحكون» (٥) وأن يكون المراد منه معاملة مشابهة في الصورة لما يفعله المستهزئ ، وذلك باجراء أحكام المسلمين عليهم ظاهرا مع التعريض بهم حتّى لا يخفى أمرهم على المخلصين في الدنيا ، وإظهار صورة النجاة لهم بحيث يتخيّلون أنّ به نجاتهم ، وحصول اليأس بعد الطلب والتعب في الآخرة بالتفصيل المتقدّم.

__________________

(١) البقرة / ٦٧.

(٢) الشورى / ٤٠.

(٣) البقرة / ١٩٤.

(٤) كالروايات المتقدمة في بيان حقيقة مخادعة الله مع المنافقين ، وأنها ليست إلّا جزاء لمخادعتهم اليه ، فراجع.

(٥) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٥.

٥٣٢

ولعلّ الذي يقتضيه دقيق النظر أنّ حقيقة الاستهزاء وروح معناه هو : إظهار ما يوجب خفّة المستهزء به ، وركاكة حالته ، وكونه على حالة يصحّ أن يصير مضحكة للناس ؛ وكشف هذه الحالة عنه استهانة بشأنه وازدراء بقدره وتحقيرا لأمره. وهذا المعنى لا يلزم أن يكون في صورة لفظ خاصّ لظهور تحقّقه بالافعال أيضا ، بل هي أقوى منه ، ولا كونه في صورة الباطل واللّعب وإن كان المتحقّق في الخارج عند العرف نوعا منه.

وهذا المعنى قد تحقّق على المستهزئين من المنافقين حال نفاقهم واستهزائهم ؛ لأنّه ظهر (١) منهم أمر يوجب خفّتهم وركاكة [حالتهم] ، وكونهم على صفة يليق بأن يضحك منه.

وكشف هذه الحالة عنهم استهانة بشأنهم لله ولرسوله وللمؤمنين ، الّذين يرون أعمال العباد ، وللملائكة الّذين يحفظون أعمالهم ، ولسائر شهداء الله على خلقه من المكان والزمان والجوارح وغيرها. وهذا الاظهار والكشف والاستهانة مستمرّة ، ويتجدّد حدوث ظهوره أحيانا لسائر الناس بالتعريضات الّتي ترد عليهم كما قال سبحانه :

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ.)(٢)

وظهور هذه الحالة يكمل بعد الموت ، فيظهر باطن أمره لنفسه ولغيره من مجاوريه هناك ، ويتمّ كمالا يوم يقوم الاشهاد وتبلى السرائر ، يوم تشهد عليهم أرجلهم وأيديهم وجوارحهم ، ويرد عليهم الهوان والحقارة والزراية باطنا في المقام المعنويّ الثابت لكلّ أحد على حسب حاله في الدنيا عاجلا. وربّما يظهر أثره

__________________

(١) في المخطوطة : «أظهر».

(٢) التوبة / ٦٤.

٥٣٣

بضرب الذلّة والمسكنة في الدنيا عليهم ، ويتمّ ظهوره عند الموت إلى نفخة الصور ، ويتمّ كمال ظهوره في القيامة الكبرى.

وكلّ هذه ممّا أورده الحقّ عليهم من الاظهار وإدخال الهوان العينيّ الخارجي ، كما يدخل المستهزئ من العباد الهوان الصوريّ الاعتباري ، ويظهره بلفظه ، بل حدوث هذه الحالة الاستهزائيّة لهم مستندة إلى الاسباب الالهيّة استنادا به يتمّ الامر بين الامرين : الجبر والتفويض. فهم المستهزؤن بأنفسهم ، والله قاض به عليهم على وجه يليق بجنابه ، وهو جاعل فعلهم الّذي هو الاستهزاء أمرا حقيقيّا لازما لهم في الباطن ، ظاهرا عليهم في البرزخ والقيامة كسائر أعمال العباد ، وحامله عليهم ، وملزمه على عنقهم.

ولمّا كان الجزاء مناسبا للجرم وموافقا له بحسب المعنى ، أو ظهورا لنفس العمل بالحقيقة العينيّة البرزخيّة في البرزخ ، والحقيقة الكاملة في المعاد الاكبر وظهور وقوعه على عامله بعد ما كان ثابتا معناه في غيب الدنيا عليه ، على تفصيل ربّما نذكر هنا في خلال التفسير ـ إن شاء الله سبحانه ـ كان اللازم أن يظهر سورة عملهم في مقام الجزاء واقعا عليهم ؛ (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١) (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها). (٢)

فالمناسب أن يقع جزاء الاستهزاء هو نحو ممّن ذكر تفصيله في الرواية ، وعن ابن عباس ، الّذي لا يبعد من حاله أخذه أمثال هذه المعاني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أمير المؤمنين عليه‌السلام لمكان شدّة اختصاصه به ، وملازمته له على ما يظهر ممّا يحكى عن حاله.

__________________

(١) الاعراف / ١٤٧ ؛ والسباء / ٣٣.

(٢) الغافر / ٤٠.

٥٣٤

[كيفيّة استهزاء الله سبحانه بالمنافقين في الآخرة]

ولمّا كانوا في الدنيا يرون أبواب الجنّة الّتي منها يتمكّن الانسان من دخول الجنّة ، وهو الايمان بأغصانه وشؤونه المتقدّمة ؛ إذ به يدخل العبد الجنّة بحسب المعنى ، وكانوا متقرّبين إلى صورها وساعين في تحصيلها بحسب الصورة ، ويطلبون بذلك النجاة الدنيويّ الصوري وهم في تلك الاحوال مستغرقون في بحار الكفر والذنوب منهمكون فيها ، وكان المناسب أن يرى هؤلاء المنافقون أبواب الجنّة هناك مفتوحة ، كما كانت مفتوحة في نظرهم في الدنيا ، وأن يتقرّبوا إليها ويسعوا في تحصيلها ، ويطلبوا النجاة بسببها وهم في النار معذبون ، وفي عذابها مستغرقون على حسب أحوالهم المختلفة حسب اختلاف حالاتهم في الدنيا.

ولمّا لم يكن ما يرونه في الدنيا بابا واقعيّا لعماء أبصارهم عن معاينة الواقع وإنّما الذي يدركونه صورة الباب ، أو كان ولم يدخلوها بالحقيقة ، وكان الدخول الحقيقي هو الموصل إلى المقصود والمنجي من المحذور ، وإنّما تشبّثوا بصورة الداخل فيها ، لزم أن يكون ما شاهدوه هناك صورة أبواب الجنان أو حقيقتها ، ولكن غير مفتوحة إليهم ، وليسوا ممّن يدخلها حقيقة ، فلم يتمكّنوا من حقيقة الدخول فيها ، ولا من حقيقة الخروج من النار ، كما كانوا مستقرّين في معنى النيران في الدنيا ، كما أنقذ المؤمنون منها في قوله سبحانه : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها.)(١) فيبقون في النار ، ولا يحصل لهم محيص واقعي ، كما لم يحصل في الدنيا ، وعند الوصول إلى المواضع التي قدّروها أبواب منجية يجدونها مردومة كما كانت أبواب الخيرات مردومة عليهم في الدنيا في الحقيقة وإن كانت مفتوحة بحسب الصورة.

__________________

(١) آل عمران / ١٠٣.

٥٣٥

وهذه الحالة يتجدّد حدوثه لهم حينا بعد حين ، كما كانت أعمالهم في الدنيا يتجدّد حينا بعد حين على هذه الصفة ، بل يستمرّ عليهم للزوم أعمالهم لهم في الدار الباقية.

ولعلّه لذلك عبّر عن استهزاء الله سبحانه بهم على صيغة المضارع ، مع أنّ حكاية قولهم كانت بصيغة الجملة الاسميّة.

ثمّ لمّا كانت انفتاح أبواب الصور في الدنيا لهم بتوسّط المؤمنين ، إذ هم الذين يبلّغونهم الدين ويظهرونه لهم قولا وفعلا ، مع استغراقهم في باطن النيران كانت مناسبة الجزاء قاضية بأن يكون انفتاح تلك الابواب هناك من نحو طرف المؤمنين أيضا.

وأيضا لمّا كان من العدل أن يجزى كلّ سيئة بمثلها والاعتداء بمثل ذلك الاعتداء ، وكانوا مسيئين معتدين على المعتدين بالاستهزاء ، صحّ في عدله سبحانه أن يوقع عليهم مماثل فعلهم ، الذي ارتكبوها بالنسبة إلى المؤمنين ، حتّى يظهر حكم العدل منه سبحانه. وفي هذا تسلية للمؤمنين في تحمّل استهزائهم ؛ إذ لا قدر له بالقياس إلى ما يرد على أنفسهم ، بل في نفس كون الحقّ في مقام المقابلة والمجازاة كفاية في السلوة عند العارفين.

ولعلّ بالتأمّل فيما ذكر تقدر على استخراج سائر الخصوصيّات ، فلاحظ وتدبّر ، وعسى أن تجد فيه ما أخطأ فيه النظر القاصر ، والله الهادي.

(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

«يمهلهم فيأتي بهم برفق ، ويدعوهم إلى التوبة ، ويعدهم إذا تابوا (١) المغفرة. يعمهون ، وهم يعمهون لا يرعوون عن قبيح ، ولا يتركون أذى لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ

__________________

(١) خ. ل : «أنابوا».

٥٣٦

عليه‌السلام [ما] يمكنهم ايصاله إليهما إلا بلغوه.» كذا في ذيل الرواية السابقة من قبل (١).

[في معاني المدّ والطّغيان والعمه]

وقال القميّ فيه : «أي : يدعهم» (٢) كأنّه فسّر المد بالدعة ، وأصله إمّا «من مدّ الجيش وأمدّه إذا زاده ، وألحق به ما يقوّيه ويكثره ، وكذلك مدّ الدواة وأمدّها زادها ما يصلحها ، ومددت السراج والارض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد ، ومدّه الشيطان في الغي إذا واصله بالوساوس حتّى يتلاحق غيّه ، ويزداد انهماكا فيه.» ، أو من «مدّ الله في عمره ، ومدّه في غيّه ؛ أي : أمهله وطوّل له» على ما نصّ عليه الجوهري وإن أنكر في الكشّاف (٣) ذلك ، وذكر : «أنّ الذي بمعنى أمهله إنّما هو مدّ له مع اللام كأملى له» بعد أن استدلّ على تعيين الاوّل بقرائة «ابن كثير» و «ابن محيص» ويمدّهم من الامداد ، وقرائة «نافع» واخوانهم يمدّونهم ، مع أنّه لم يستعمل أمدّ من المدّ ، بل من المدد على ما ذكره بعض المحشّين عليه في تعميم وجه الاستدلال والاخير غير تامّ الدلالة بعد كون الظاهر وحدة القرائة الواقعيّة وأنّ الاختلاف من قبل الرواة ، فلا يثبت ببعض القرائات حال البعض الآخر.

وما ذكره من عدم كونه متعدّيا بنفسه بعد مخالفته لظاهر كلام الجوهري غير ثابت على أنّ الحمل على الحذف والايصال أيضا ممكن وإن كان خلاف الظاهر.

ومنه يظهر النظر في السؤال والجواب الّذين أوردهما (٤) بقوله : «فما حملهم

__________________

(١) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٣ ص ٥٢٢.

(٢) القمي ، ج ١ ، ص ٣٤ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٣٥.

(٣) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٥.

(٤) نفس المصدر ، ص ٣٦.

٥٣٧

على تفسير المدّ في الطغيان بالامهال ، وموضوع اللّغة كما ذكرت لا يطاوع عليه» فأجاب بأنّه : «استجرّهم إلى ذلك خوف الاقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسند إلى الشياطين ، ولكنّ المعنى الصحيح ما طابقه اللّفظ ويشهد لصحّته ، وإلا كان منه بمنزلة الاروى من النعام. ومن حقّ مفسّر كلام الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها ، وما وقع به التحدّي سليما عن القادح ، فاذا لم يتعاهد أوضاع اللّغة ، فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل.»

وبالجملة فالظاهر عدم خروج شيء من المعنيين عن قانون اللّغة على ما عرفت ويؤيّده ظاهر الثاني منهما ما تقدّم عن تفسير الامام عليه‌السلام وتفسير القميّ وإن أمكن تطبيقهما علي أخذه من المدد بتصرّف في معنى المدد ، ولعلّ المعنى الاوّل أقرب إلى ظاهر الآية.

والطغيان أصله : التجاوز عن الحدّ على ما قال الجوهري : «طغا يطغا ويطغو طغيانا أي : جاوز الحدّ ، وكلّ مجاوز حدّه في العصيان طاغ ، وطغي بالكسر يطغى مثله. وأطغاه المال أي : جعله طاغيا ، وطغى البحر : هاجت أمواجه.»

وفسّر الطغيان في الآية جماعة ب «الغلوّ في الكفر ، ومجاوزة الحدّ في العتوّ.» (١)

ولعلّ ما فسّره بعضهم به من الغيّ والكفر أولى منه ؛ إذ كلّ كفر وعتوّ طغيان وتجاوز عن الحدّ ، سواء غلى فيه وتجاوز عن الحدّ فيه أم لا. ولعلّهم لم يريدوا التقييد أيضا ، أو جعلوه منصرفا إلى الفرد الكامل ، وفيه تأمّل أيضا.

و «العمه» على ما في الصحاح «التحيّر والتردّد» ، وقال : «أرض عمهاء : لا أعلام بها. وذهبت ابله العمّهى إذا لم يدر أين ذهبت.»

__________________

(١) راجع نفس المصدر.

٥٣٨

وذكر جماعة أنّ : «العمه مثل العمي إلا أنّ العمي عامّ في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصّة وهو التحيّر والتردّد ، لا يدري أين يتوجّه.» (١)

[في بيان حقيقة إمهال الله المنافقين ومدده على طغيانهم]

ثمّ إنّه إن أخذ يمدّ في الاية من المدّ بمعنى الامهال والاملاء فلا إشكال في نسبة ذلك إلى الله سبحانه ؛ إذ لو [لا] إمهاله وأناته وتمكينه إيّاهم ما قدروا على الطغيان والكفر والغي ، ولم يقع منهم ذلك.

ولعلّ السرّ في إعطاء المهلة لهم في هذه الحالة إتمام الحجّة عليهم ، خصوصا مع انضمام ما مرّ من دعوتهم إلى التوبة ووعد المغفرة على تقدير الانابة والتوبة.

وإن أخذ من المدد فربّما يتوجّه سؤال ، وهو أنّه : كيف يعطيهم المدد في الطغيان وهو من فعل الشياطين ، كما يظهر من قوله سبحانه : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ.)(٢)؟

وأجيب بالحمل على أنّهم لمّا منعهم الالطاف الّتي يمنحها المؤمنين ، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه ، بقيت قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها تزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين ، فسمّي ذلك التزايد مددا ، وأسند إلى الله سبحانه لأنّه مسبّب عن فعله بهم بسبب كفرهم ، وعلى منع القسر والالجاء ، وعلى إسناد فعل الشيطان إلى الله سبحانه ؛ لأنّه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده ، وقد سبق في البحث عن الختم على القلوب والاسماع ما يظهر منه الحال في الجواب عن الاشكال. (٣)

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) الاعراف / ٢٠٢.

(٣) ص ٤٤٦ ـ ٤٥٣.

٥٣٩

ونقول :

إنّ الّذي يظهر من حال الممكن أنّه لا يستغني في حال من حالاته عن ربه من دون فرق بين حالتي حدوثه وبقائه ، وأنّه في الحالين محتاج إلى إقامته إيّاه في الاعيان من دون تفاوت ، والعبد إنّما يطغى بعد فرض وجوده واتّصافه بالقدرة والعلم والشعور وغير ذلك من صفاته ، وبعد فرض وجود الاسباب المطغية له ، وكلّ هذا من مدد الحقّ سبحانه عليه حدوثا وبقاء ، وليس من شرط المدد أن لا يصلح إلا لخصوص ما يمدّه بحيث لا يكون مددا لغيره ، بل يجوز أن يكون صالحا لأمرين متضادّين ، فاذا صرف الممدّ له المدد في أحدهما صحّ أن يقال : إنّ الممدّ أمدّه في ذلك وإن لم يعين عليه ، ولم يكن متعيّنا الامر الّذي صرفه فيه.

ولمّا كان كل ما في الكون ممّا يتعلّق بالانسان من نفسه وقواه وأعضائه وسائر الاسباب المهيّئة له صالحة لفعل الطاعة والمعصية ، ومجموع ذلك مدد للمكلّف في طاعته ومعصيته ، فاذا صرف العبد ذلك في المعصية ، وجعله وسيلة إلى العصيان ، فقد أمدّه الحقّ في معصيته وطغيانه.

ثمّ إنّه إنّما يفعل بالله وبحوله وقوّته ، وهو مفتقر في فاعليّته إلى ربّه ، وهذا أيضا مدد له. والطغيان الذي يصدر منه أيضا موجود من الموجودات ، محتاج في تحقّقه إلى وصول المدد إليه ، وله أصل كلّيّ تحت الجهل الكلّيّ منفصلا عن هذا العالم بأسرها ؛ كسائر جنود الجهل إن لم نعمّم الطغيان لجميعها ، وإلا فأصله نفس الجهل الكلّيّ وجنوده بأسرها ، والطغيان الحادث في كلّ نفس يستمدّ من ذلك الطغيان الكلّيّ ويتحقّق بسببه. والجهل وجنوده كلّها ممّا خلقه الله سبحانه وأبقاه في عالمه (١) بناء على إثبات ذلك العالم ، كما لعلّه سيجيء بيانه في مطاوي

__________________

(١) راجع رواية الكليني (ره) في الكافي باسناده عن سماعة بن مهران ، عن أبي عبد الله ـ

٥٤٠