مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

عدّت لا يحصيها العادّون ؛ إذ من أعظم أسباب الحب الاحسان ، ولأن الرب المتكفل لجميع مصالح المربوب ، الكافي له عن كلّ ما سواه ، حقيق بأن يعبده المربوب وأهل لذلك ، بل ليس من شأنه عند العقل إلا عبادته. فقد جمع هذا الاسم مجامع أسباب العبودية وغاياتها التي لأجلها يعبد العابدون إذا لوحظت الربوبية لكل واحد موجبة لعبادته ، ويكون مقابلة الجمع بالجمع على سبيل التوزيع ، وإذا لوحظ بالنسبة إلى كلّ منهم عموم ربوبيته للجميع كان مقويا للايجاب السابق ، فان من شأنه الاحسان المطلق ، والربوبيّة لكلّ شيء أحقّ بالمحبّة والخوف والرجاء ، وبأن يعبده واحد من مربوبيه ، من المربوب الّذي يفرض له ربّ واحد مقصور الربوبية على ذلك الواحد بحسب العقل إذا لم يكن ربوبيّته لكلّ منهم شاغلا له عن ربوبية الآخر ، ومانعا عن كمالها موجبا لنقصانها ، كما هو شأن من لا يشغله شأن عن شأن ، ولا يزيده كثرة العطاء إلا جودا وكرما ، ولا تفني خزائنه المسائل (١).

ويظهر كيفيّة اقتضاء الربوبيّة للمحبّة والرجاء والخوف وأهليّة العبادة من ملاحظة حال المربوبين بالقياس إلى مظاهر شؤون الربوبيّة ، ووسائطها الواقعيّة التي يترائى منها أنّها المتّصفة بالربوبيّة القائمة بشؤونها في أنظار الناقصين.

ألا ترى حال الخدّام بالنسبة إلى مولاهم المعطي لهم ما يحتاجون إليه ، والمرئوسين بالنسبة إلى رئيسهم الّذي ينعم عليهم ويدفع عنهم جملة من المخاوف ، والاولاد الصغير بالنسبة إلى الوالدين ، والزوجة بالنسبة إلى زوجها ، والمريض

__________________

(١) قال ـ عليه‌السلام ـ في دعاء الافتتاح : «الحمد لله الفاشي فى الخلق أمره ـ إلى أن قال : ـ الذي لا تنقص خزائنه ، ولا يزيده كثرة العطاء إلا جودا وكرما.» فراجع كتب الادعية.

٦٢١

بالنسبة إلى الطبيب ، والفقير بالنسبة إلى الغني المتكفّل لحاله ، والرعيّة بالنسبة إلى السلطان والحاكم الشفيقين المحسنين العادلين المتحننين على من تحت حكمهما ، وسائر من أحسن إليهم أو دفع عنهم الضر بالنسبة إلى المحسن والدافع للضرر؟ فانّك تجدهم محبّين لهم ، راجين لهم ، خائفين منهم ، خاضعين لديهم ، منقادين لهم ، منقطعين إليهم بقلوبهم ؛ مع أنّهم ليسوا نافعين ولا دافعين للضرّ ، بل الله سبحانه المعطي الدافع ، وهم وسائط مسخّرة تحت حكم قضائه وقدره في عين اختيارهم كما نبّهنا عليه سابقا. وهم مع ذلك معاوضون على الحقيقة يريدون بفعلهم عوضا من مال أو جاه أو جزاء أو شكور ومدح أو دفع ذمّ أو جالبون به سكون الداعي القلبي الذي يزجرهم عليه.

فانظر الآن إلى معاملتك مع ربّك الواقعي ، كيف تعامله وتعبده وتنقادله ، وقايس ذلك بحال المذكورين وغيرهم بالنسبة إلى وسائط الربوبيّة ، حتّى يظهر لك حقيقة انحرافك طريقة الصواب وجادّة الانصاف ، وأنّه لا يمكن القيام بما يستحقّه سبحانه من حيث الربوبيّة فضلا عن سائر الجهات ، ولو بذلت كلّ مجهودك ، وصرفت غاية وسعك ؛ إذ جميع ما كانوا يفعلونه للوسائط مستند إلى جهالتهم بحقيقة الامر ، والتباس مصداق المحسن والدافع وغيرهما الواقعيّة بالصوريّة. فان كنت موحّدا لا ترى لك إلا ربّا واحدا جامعا لجميع شؤون الربوبيّة فجميع ما كان يصدر منهم بالنسبة إلى جميع الوسائط كان ينبغي صدوره منك بالنسبة إلى الحقّ سبحانه فضلا عن سائر الجهات الموجبة للطاعة ، فتبصّر ، هذا.

[معنى الخلق وكيفيّة اتّصاف الربّ به]

و «الخلق : التقدير ؛ يقال : خلقت الاديم إذا قدّرته قبل القطع. ومنه

٦٢٢

قول زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثمّ [لا] يفري

وقال العجاج : ما خلقت إلا فريت ، ولا وعدت إلا وفيت.» كذا ذكر الجوهرى.

وصرح جماعة بأنّ الخلق هو التقدير أيضا وهو المعنى المناسب لكثير من إطلاقات هذه المادّة المذكورة في اللّغة ؛ كاطلاق الخليقة على الطبيعة والخلقة على الفطرة ، وكأنّه باعتبار ملاحظة وجودها في مقام تقدير ذلك الشيء ، وكونه مقدرا بها تقديرا معنويّا. والخليق والمختلف في مقام التوصيف على تامّ الخلق المعتدل ، وكأنّه لكون تقديره على الوجه الذي ينبغي أن يكون عليه ، وكونه مقدرا بالمقدار الذي يصلح ، كان غيره خارجا عن التقدير ، والحدّ واقع بدونه ، وكما يقال : فلان خليق بكذا بمعنى : أنّه جدير به وقد خلق لذلك ، كأنّه ممّن يقدر فيه ذلك ، وترى فيه مخاملة. وخلق الافك واختلفه وتخلّقه أي : افتراه ، ومنه قوله سبحانه : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً)(١) على ما ذكروه (٢) ، وكأنّه لأنّ الكاذب هو الّذي قدره الكذب في نفسه ، وجعله من دون أن يكون له حقيقة. وكاطلاق الخلاق على النصيب ، وكأنّه لأنه المقدار الّذي قدّر له ، إلى غير ذلك.

فالظاهر أنّ أصل معنى الخلق هو التقدير ، وإطلاقه على ما ذكر وغيرها باعتباره فيها.

وعن بعض الاعلام : «قد يظنّ أنّ الخالق والبارئ والمصور ألفاظ مترادفة ، وأنّ الكلّ يرجع إلى الخلق والاختراع ، وليس كذلك ، بل كلّما يخرج من العدم إلى الوجود مفتقر إلى تقديره أولا ، وإيجاده على وفق التقدير ثانيا ، وإلى

__________________

(١) العنكبوت / ١٧.

(٢) راجع الصحاح.

٦٢٣

التصوير بعد الايجاد ثالثا. فالله تعالى خالق من حيث هو مقدر ، وبارئ من حيث هو مخترع ، وموجد ومصور من حيث أنّه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب» (١).

وقال غيره : «الخالق هو المقدر لما يوجده ، والبارئ المميّز بعضه عن بعض بالاشكال المختلفة ، والمصور الممثّل» (٢).

وأمّا ما ذكره في الكشّاف هنا من أنّ : «الخلق هو إيجاد الشيء على تقدير واستواء ؛ يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس» (٣) ، فلعلّه أراد بذلك جعل الشيء ذا مقدار واستواء وتصييره كذلك ، فيكون في معنى التقدير مرادفا له إن عمّم الوجود بالخارجيّ والذهني ، فانّ جعل المقدار للشيء وتقديره إمّا في مقام التصوير في الوجود الذهني ، أو في الاعيان والخارج في الوجود الخارجي ، وسائر أنحاء الوجود بمنزلة أحدهما هنا.

وأمّا ما سبق من إثبات التميّز للأعيان الثابتة قبل وجودها فهو وراء أنظار أهل العربيّة واللّغة ، وأخصّ منه أن خصص بالوجود الخارجى. ولعلّه باعتبار استظهار أنّه المراد من لفظ الخلق في الآية ، ويشهد لما ذكر ذيل كلامه ؛ إذ ليس في القول المذكور اعتبار الايجاد بل التقدير والتسوية كما ذكره أيضا.

وقال ابن بابويه في توحيده بعد أن ذكر أنّ الخلق في اللّغة تقديرك الشيء مستشهدا بأنّه يقال في مثل : «إنّي [إذا] خلقت فريت لا كمن يخلق ولا يفري ، وفي قول أئمّتنا عليهم‌السلام : إنّ أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين ، وخلق عيسى من الطين كهيئة الطير هو خلق تقدير أيضا ، ومكون الطير وخالقه في

__________________

(١) راجع مجمع البحرين ، ذيل كلمة «خلق».

(٢) نفس المصدر.

(٣) الكشاف ، ج ١ ص ٤٥.

٦٢٤

الحقيقة هو الله عزوجل» (١). انتهى.

ولمّا كان الظاهر من تقدير الشيء وجعل المقدار له هو التقدير في الخارج ، وكان ذلك ملازما للوجود لا انفكاك بينهما من الطرفين ؛ إذ ما لم يوجد في الخارج لم يكن له مقدار فيه ، وكلّ موجود في الخارج ممّا يصلح لعروض المقدار له بالمعنى العرفيّ فهو ذو مقدار في الخارج ولا يوجد بدونه ، وكان الايجاد والتقدير أمرا وحدانيّا في الخارج لا تمايز بينهما إلا بحسب الاعتبار ، شاع إطلاق لفظ الخلق على الايجاد ، بحيث صار كأنّه المتبادر من لفظ الخلق عند الاطلاق. بل لا يبعد صيرورته حقيقة عرفية في ذلك ، وكونه منقولا إليه.

ومن ذلك البيان يظهر الوجه في تخصيص الخلق بالعالم المقداري ، وقصره على ذوات المقادير والهيئات في مقابلة عالم الامر المجرد عن المقادير والاشكال ، وإن كان ربّما يطلق على غيره كالعقل أيضا اسم الخلق.

ويظهر لك وجه الجمع بين الكلمات المتقدمة وبين العرف ومجاري إطلاقات لفظ الخلق الظاهرة في إرادة الايجاد منه. ولعلّ إلى حاصل ما تقدم يشير عبارة الكشّاف المتقدمة.

ثمّ إنّه ذكر في الكشّاف بعد السؤال عن المراد «بربّكم» أنّه : «كان المشركون معتقدين ربوبيتين ؛ ربوبيّة الله ، وربوبية آلهتهم ، فان خصوا بالخطاب فالمراد به اسم مشترك فيه ربّ السموات والارض والالهة التي كانوا يسمونها أربابا. وكان قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة موضحة مميّزة ، وإن كان الخطاب للفرق جميعا ، فالمراد به ربّكم على الحقيقة ، و (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة جرت عليه على طريق المدح والتعظيم ، ولا يمتنع هذا الوجه في خطاب الكفرة خاصة إلا أنّ الاول أوضح وأصح» (٢).

__________________

(١) راجع التوحيد ، باب أسماء الله تعالى ، ص ٢١٦.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ٤٥.

٦٢٥

وقال بعض الافاضل في بيانه : «أنّه لا خفاء في أنّ قولنا للعبيد : «عظّموا سيّدكم» أمر لهم بتعظيم من يعتقدون أنّه سيّدهم ، فقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا) إن كان خطابا لجميع الفرق فالمراد ب «ربكم» هو الله ، لأنّه المتفق على ربوبيّته فيما بينهم ، فيكون (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة مادحة ، وإن كان خطابا للمشركين فيحتمل أن يكون المراد هو الله تعالى ويكون الصفة مادحة ؛ لأنّهم يعتقدون أنّه ربّ الارباب ، وأنّ آلهتهم شفعاء عند الله ، وأن يكون المراد مالككم وإلهكم ، ونحو ذلك ممّا يصدق على الاله الحق وعلى آلهتهم الباطلة. فيكون الصفة مخصصة ، إلا أنّ إطلاق الربّ على غير الله كان شائعا متعارفا فيما بينهم ، حتّى أنّ السحرة لمّا قالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) دفعوا الاحتمال بقولهم : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ). والتخصيص والتوضيح هو الاصل في الصفة ، فلهذا كان هذا الوجه أوضح وأصحّ».

أقول :

قد تقرر في علم الاصول أنّ الالفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة النفس الامريّة ، لا ما يعتقده المخاطب أنّه معنى للفظ إذا كان خطائه في المصداق ، بل مطلقا وإن كان ربّما يطلق اللّفظ على ما توهمه المخاطب مصداقا للفظ ، كما هو الظاهر في قوله سبحانه : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً)(١). لكنّه خلاف الاصل لا يصار إليه إلا بدليل ، بل مقتضى إصالة الحقيقة وإبقاء الالفاظ على حالها وترك التصرف فيها أن يراد باللّفظ معناه الواقعيّ بمصاديقه الواقعيّة ، سواء كان للمخاطب اعتقاد مطابق للواقع أو مخالف له ، أو لم يكن له اعتقاد أصلا.

وأمّا ما ذكره من أنّ «قولنا : عظموا سيدكم ، أمر لهم بتعظيم من يعتقدون أنه سيّدهم» ، ففيه أنّه لا خفاء في أنّه بنفسه ليس كذلك ، بل هو أمر لهم بتعظيم

__________________

(١) طه / ٩٧.

٦٢٦

السيد الواقعي المنكشف باعتقاد المتكلّم ؛ لكن ملاحظة السكوت في مقام بيان الحكم بعد العلم بأنّ المخاطب لا يفهم منه سوى ما اعتقده مصداقا للمعنى ، وأنّه لا يتهيّأ للقيام بالمأمور به إلا بحسب اعتقاده ، وعلم المتكلّم باعتقاد المخاطب وخطائه فيه ، وظهور الامر في كون الغرض منه الامتثال المتعذر في حقّ الجاهل المركب ، إلا إذا كان التكليف على معتقده ، وظهور المخاطبة في إرادة البيان ، لا الايقاع في مخالفة الواقع ، اللازم للاقتصار على الامر المعلّق على العنوان ، الذي غلط المخاطب فيه ، ربّما توجب صرف اللّفظ عن ظاهره وحمله على خلاف معناه الاصلي ؛ لكنّه إنّما يكون إذا لم يبين الخطاء في المصداق أصلا ، لا متصلا ولا منفصلا ، لا بحال ولا بمقال ، مع انضمام الخصوصيات المشار إليها. فلا ربط لذلك بالآية حيث إنّه لم تقم تلك القرينة الصارفة هنا ، فلا تصدق اللّفظ على ما ظنوه أربابا وإن شاع إطلاقه فيما بينهم بعد كون الاستعمال مبتنيا على خطأ وقع منهم في المصداق ؛ إذ لا يصير ذلك سببا لخروج اللّفظ عن معناه لوقوع تلك الاستعمالات كلّها على تبعيّة الوضع بحسبانهم ، فليس اللّفظ مطلقا حتّى يحتاج إلى التخصيص ، ولا يكون الصفة مخصّصة كما ذكره الفاضل المذكور ، ولا اشتراك في الاسم واقعا كما ذكره في الكشاف حتّى يحتاج إلى المميّز. فلا يصح جعل الصفة هنا مخصّصة ولا مميّزة وإن صحّ جعلها موضحة رافعة لتوهم المخاطبين وبيانا لهم ، ودفعا لغلطهم في المراد من اللّفظ. وكما يصحّ ذلك عند خطأ جميع المخاطبين كذا يصحّ عند خطأ بعضهم ، بل عند إمكان وقوع الخطأ ، فلا فرق بين اختصاص الخطاب بالمشركين وعموم الخطاب كما رجحناه سابقا.

وأمّا ما ذكره الفاضل المذكور من أنّ معناه على الثاني : «الرب المتفق على ربوبيّته فيما بينهم» فهو بظاهره خارج عن مقتضى القواعد اللّفظية رأسا ؛ إذ ظاهره دعوى كون الالفاظ دالة على المعنى المجمع عليه بين المخاطبين دون

٦٢٧

ما انفرد به طائفة منهم ، فيكون معنى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أقيموا الصلاة المجمع على كونها صلاة صحيحة دون ما اعتقده جماعة كذلك ؛ كالقائلين بالاعميّة. ولم يحضرني (١) الان نظير لهذا الخطأ الظاهر من أحد إلا أن يدعي خصوصيّة للمقام ترك بيانها في كلامه. فلعلّ المتجه حينئذ جعل الصفة موضحة على الوجهين لا جاريا مجرى المدح والتعظيم فقط ، مع نكتة أخرى ، وهو الاشعار بالحيثية التعليلية ، فانّ صفة الخلق بمعنى الايجاد من أعظم العلل الموجبة لعبادة المخلوق لخالقه وعبوديته ، ومن ذا أحقّ بالعبادة والمعبودية من الخالق الموجد له على مقداره وحدّه ، الذي أعطاه نعمة الوجود والتميز والتشخص التي بمنزلة الاصل لسائر النعم والموضوع لتلك الامور العارضة؟ بل إذا لاحظ العقل عنوان الخالقية والمخلوقية حكم باستحقاق الموصوف بالاولى المعبوديّة ، وأنّه ينبغي للموصوف بالثانية عبادته. وإذا جردت مرآة العقل عن الاوهام والاغشية ودققت النظر ، ظهر لك صدق هذه الدعوى وإن قطع النظر عن كون الخلق نعمة موجبة للشكر.

بل الظاهر أنّ هذه القضية أقوى وأثبت عند العقل من وجوب شكر المنعم وإن كانت تلك أظهر لكثرة مصاديقه بحسب الانظار الظاهريّة الموجبة لظهور حالها بخلاف هذه ، لتوافق كثير من الانظار على أنّه لا خالق سوى الواحد الحق.

[في المراد من المخلوقين من قبل]

فان قلت : هذا إنّما يجري في اعتبار صفة خلق المخاطبين على سبيل التوزيع عند مقابلة الجمع بالجمع ، فما تقول في أخذ خلق الذين من قبلهم هيهنا؟ وهل هو أيضا من جهات المعبوديّة أم لا؟

قلت : إن أخذ القبليّة هيهنا بحسب الرتبة فقط أو مع القبلية الزمانية

__________________

(١) فى المخطوطة : «يخطرنى».

٦٢٨

حتّى يكون السابقين ، الآباء والامّهات بالنسبة إلى الابناء ، فالوجه في مدخليّته هنا ظاهرا ؛ إذ خلق الاصول من مقدمات خلق الفروع ، فهو نعمة على الفروع ولو بالواسطة ، بل الانعام على الآباء موجب لشكر الابناء ؛ كما ربّما يشير إليه قوله : (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ)(١) وجملة من المخاطبات الواردة على بني إسرائيل باعتبار الانعام على آبائهم وغير ذلك. ويمكن إدخاله في بيان تفرد الحقّ سبحانه في مقام خلق الابناء حيث أنّه لو لم يكن خالقا للأصول لم ينحصر الشؤون المتعلّقة بالخلق فيه سبحانه ، بل لخالق الاصول أو لأنفسها نصيب من هذا المقام ، فلمّا بيّن خلقه لهم ظهر اختصاص الحقّ سبحانه بهذه الحيثية ، وأنّه ليس لغيره نصيب فيها ، ولا له شائبة من استحقاق المعبودية من تلك الجهة.

وإن أخذ القبلية زمانية محضة كان ارتباطه بمقام الامر بالعبادة باعتبار أنّ خالق جميع الاشخاص السابقة واللاحقة أحق بأن يعبده بعض مخلوقيه مما يفرض متفردا بخلق الواحد ، كما نبهنا على نظيره في الربوبية.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ حق الله سبحانه على المخلوقين من حيث إعطاء الخلق لمّا ظهرت في هذا العالم بتوسط الابوين فصارا واسطتين ومجرائين له ، استقر حكم العقلاء باثبات الحق لهما على الولد ، وأنه ينبغي له مراعاتهما والخضوع لهما والتبعية لهما ، ولو لم يكن لهما إحسان اختياري إليه أصلا ، وكان المتكفل لتربية الولد شخص أجنبيّ لم يكونا سببين في تربيته ، مع أنهما لم يتوسطا إلا لقضاء شهوة استولت عليهما وحداهما وبعثهما إلى الافعال التي أجرى الله بها خلق الولد من دون أن يكونا قاصدين ليكون الولد في كثير من الاوقات ، بل ربما يكونان قاصدين لخلافه ، كارهين لتكونه لأسباب وهمية وجهات خيالية ، فكيف يكون

__________________

(١) النمل / ١٩ ؛ والاحقاف / ١٥.

٦٢٩

حق من هو الخالق بالحقيقة ، الذي ليس له في الخلق حاجة ، ولا يعود عليه فيه منفعة أصلا لا عاجلا ولا آجلا ، وهو غني عن الخلق وعن جميع ما يرتبط بهم ويصدر منهم ، بل كان فعله جودا محضا ومقدمة لاعطائات أخر؟ لا يزيده كثرة العطاء إلا جودا وكرما.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

في تتمّة ما تقدّم عن تفسير الامام عليه‌السلام أنّه قال :

«لها وجهان ، أحدهما : [خلقكم] وخلق الذين من قبلكم لعلّكم كلّكم تتّقون ؛ أي : لتتّقوا كما قال الله عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(١) والوجه الآخر : (اعْبُدُوا [رَبَّكُمُ] الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي : اعبدوه لعلّكم تتّقون النار. ولعلّ من الله واجب ، لأنّه أكرم من أن يعني عبده بلا منفعة (٢) ، ويطمعه (٣) في فضله ثمّ يخيبه ؛ ألا ترى كيف قبح من عبد من عباده إذا قال لرجل : أخدمني لعلّك تنتفع بي ولعلّي أنفعك ، فيخدمه ثمّ يخيبه ولا ينفعه؟ فالله عزوجل أكرم في أفعاله ، وأبعد من القبيح في أعماله من عباده» (٤).

__________________

(١) الذاريات / ٥٦.

(٢) خ. ل : «الى منفعة».

(٣) خ. ل : «يطيعه».

(٤) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٢ ص ٦١٩.

٦٣٠

[في معنى الترجّي وما يتعلّق به وكيفيّة نسبته إلى الله تعالى]

أقول : لعلّ على الاول متعلّق ب «خلق» ويراد بالتقوى الافعال والتروك الاختياريّة بالوجوه المتقدمة ، وربّما يعبّر عنها بالعبادة ؛ وعلى الثاني متعلّق ب «اعبدوا» ويراد بالتقوى التحفظ عن دخول النار وصيانة النفس عنها ، وهو غاية لتلك الامور الاختياريّة التي ربّما يعبّر عنها بالعبادة ، مقدور بواسطتها لا بنفسها. وبينهما ربط لا يكاد يدرك بالانظار الظاهرية ، وقد بيّنّا في المقدمات بيان كيفيّة تعدّد المعاني للكلام الواحد من دون لزوم محذور استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ، فراجع إليه. فلا يلزم حمل تعدد الوجه على تعدد الاحتمال ، حتّى لا يليق صدوره عن المعصوم العالم بواقعيات المرادات المقدس عن الشكوك والاحتمالات.

ويمكن جعل أحد الوجهين من قبيل تفسير الظاهر والآخر من تفسير ظاهر الظاهر بالمعنى المتقدم ، وأن يجعل أحدهما تفسيرا والآخر تأويلا وأخذا بلازم الكلام ؛ إذ لو كانوا مخلوقين لأجل التقوى كانوا ملتزمين بالاتصاف بها لأجل التحرز عن المضار الباقية ؛ إذ المخلوق لأجل غاية يلزم عليه الاتيان بالغاية التي خلق لأجلها والاتصاف بها ، وإلا كان مهملا لنفسه مضيعا لها ، ويحقّ لخالقه المؤاخذة على الترك بعد علمه بالغاية.

وإذا كان الغاية التقوى ، والتقوى على ما عرفت فرط الصيانة عمّا يضرّبه ، فبملاحظة الوصف العنواني ومدخليّته يظهر أنّه ملتزم بملازمة طريقة لا تقع مضرة فيها ، حذرا عن الوقوع في تلك المفاسد والمهالك ، وهي النيران الباطنية وسائر موجبات الآلام الغيبيّة المنتهية إلى النيران الحسّيّة الجسمانية في القيامة. فالمخلوقون ملتزمون بالاتيان بالعبادة التي هي طريق النجاة لكي ينجوا من كلّ

٦٣١

هلاك وشرّ.

ومن هذا البيان يظهر لك وجه ارتباط جملة «لعلّكم» بالحث والامر بالعبادة على الوجه الاول كظهوره علي الوجه الثاني ؛ إذ صيانة النفس عن المهالك خصوصا مهلكة الوقوع في نار الآخرة من أعظم البواعث على التزام ما ينجي منها وهو العبادة ، ومن أوضح الجهات العقليّة لوجوب الطاعة وترك المخالفة ، حتّى ربّما ظنّ جماعة ممّن عاصرناهم من مشائخ الاصوليّين أن مناط وجوب طاعة الله سبحانه عقلا هو التحرز عن الضرر المخوف ، وهو وإن كان عندنا فاسدا ، كما يظهر من التأمّل فيما فصّلناه هنا وفي كلمة الجلالة وغيرها ، لكنّه مؤيّد لكونه من أوضح الجهات العقليّة.

ولك تصوير الملازمة من الطرف الآخر وجعل الوجه الاول مدلولا التزاميا للثاني. وذلك لأنّهم إذا كانوا مأمورين بالعبادة والطاعة لخالقهم كانوا مخلوقين له ؛ إذ لا يليق أمر المخلوق بغير غاية خلقه التي خلق لأجلها ، أو باعتبار أنّهم إذا كانوا مأمورين بالعبادة لتحصيل النجاة وكانوا مخلوقين لذلك ؛ إذ لم يخلقوا عبثا ولا لمنفعة تعود إلى خالقهم ولا للهلاك ، فتعين كونهم مخلوقين للفلاح والخير الخالص كما برهن عليها في محلّه. فاذا كان طريق ذلك هو العبادة كانوا مخلوقين لها.

ثمّ لا يخفى عليك أن للتقوى حقيقة واقعيّة يصحّ أن تجعل غاية للأمر بالعبادة ، وهي مناط الوقاية الباطنيّة عن المهلكات الباطنيّة ، وكأنّها بذر ومعنى للنجاة الحسيّة عن النيران المحسوسة في النشأة الآخرة. ولعلّه يتضح لك شرح ذلك فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ.

ويمكن إدراجه في بعض مراتب اللّفظ المتقدم ؛ إذ هو تقوى عن نار معنوية ، فيصحّ إدراجه تحت باطن اللّفظ وإن خرج عن ظاهر قشره ، فلا تغفل.

٦٣٢

ثم إنّ في كلمة «لعلّ» وما شابهها في المقام ونظائره من سائر الآيات الكريمة إشكالا اختلفت الانظار فيه ، وهو : أنّ كلمة «لعلّ» مغناه الحقيقي مقصور على الترجي والاشفاق ، كما يظهر من جماعة (١) ، ونسب إلى جمهور أئمّة اللّغة. تقول : لعلّ زيدا يكرمني ، ولعلّه يهيننى ، وقال الله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٢) ، (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)(٣).

وفي الصحاح : «لعلّ كلمة شكّ». وهو أعمّ منهما ؛ إذ الترجّي هو توقع محبوب ، والاشفاق ترقّب مكروه ، وربما يخلوا الشيء المشكوك حصوله من المحبوبيّة والمبغوضيّة. ويمكن حمل التخصيص بهما على ذكر الافراد الغالبة حيث إنّ المذكور بعده غالبا أمر يتعلّق به غرض المخاطب خوفا أو رجاء ، وهو قريب جدا في مثل ما وقع من «ابن هشام» هنا حيث انّه ذكر في معناها التوقّع ، ثم قال : وهو ترجّي المحبوب والاشفاق من المكروه» (٤) ، وحمل كلام الجوهري على بيان الجنس إجمالا ، لا أنّ معناه إظهار مطلق التردد ؛ لكنّ الاول أقرب بظاهر النظر في العرف حيث لا نجد فرقا بين تعلّقه بالمبغوض وبما ليس مبغوضا ولا محبوبا وإن كان فرق في مواردها ، فهو بالنسبة إلى الترجي وتوقّع المحبوب وبين غيره حيث إنّه ربّما ينساق إلى الذهن من كلمة «لعلّ» خصوص الترجّي.

وذكر بعض الافاضل : «أنّ التوقّع على الوجهين يعني : في المحبوب والمكروه ، قد يكون من المتكلّم ، وقد يكون من المخاطب ، وقد يكون من غيرهما ،

__________________

(١) كالزمخشري والرازي والسيبويه ، فراجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٤٥ ؛ ومجمع البيان ، ج ١ ، ص ٦٠ ؛ والتفسير الكبير ، ج ١ ، ص ٣١٩.

(٢) طه / ٤٤.

(٣) الشورى ١٧.

(٤) ذكره في المغني ، الباب الاول ، كلمة «لعل».

٦٣٣

كما يشهد به موارد الاستعمال». وكأنّه نظير كلامه المتقدّم في بيان عبارة الكشاف حيث حمل اللّفظ على حسب معتقد المخاطب.

فان أراد هنا أنّ المحبوبيّة والمكروهيّة قد تكونان من المتكلّم ، وقد تكونان من المخاطب ، وقد تكونان من غيرهما ، فيكون مراده من التوقّع هو الانتظار الملازم لتعلّق همّ المتوقّع به ، وإمّا لكونه محبوبا له أو مبغوضا له ، فهو غير بعيد ، كما لم نستبعد في صورة انتفائهما رأسا إطلاق كلمة «لعلّ».

وإن أراد كون التوقّع بالمعنى الاول المساوي للترديد يكون من كلّ واحد منهم ، فان أراد صحّة الاطلاق ولو مع تصرف مخرج للّفظ عن أسلوبه الاصليّ فصحيح في الجملة ، وإن أراد كونه بحسب قانونه الاصليّ أعمّ ، ففيه ما عرفت نظيره ، وأنّ المتبادر من الكلمة هو إنشاء التوقّع أو إظهاره من نفس المتكلّم ، لا إيجاد توقّع الغير ابتداء أو الكشف عنه ؛ كما أنّ معنى الامر والنهي والاستفهام وغيرها هو خصوص طلب المتكلّم واستفهامه لا غير.

ويمكن إرجاع كلامه إلى ما سنذكره ، والذبّ عن الاعتراض به. وحينئذ فنقول : إنّ الشكّ والترجّي والاشفاق كلّها ممّا يمتنع عليه سبحانه العالم بكلّ شيء أزلا وأبدا بذاته الغنيّ المطلق ، الذي لا ينفعه ولا يضره شيء بالضرورة العقليّة ، القادر على كلّ شيء لا يخرج عن تحت حكمه وإرادته التكوينيّة شيء من دون توسّط حالة منتظرة. المقدّس عن عروض الحوادث وتغيّر الاحوال عليه ، الذي إليه يرجع كلّ خوف ورجاء ؛ لأنّه منتهى كل شكوى ومنتهى مطلب الحاجات ، ومن عنده نيل الطلبات ، فكيف يكون راجيا أو مشفقا وهما مع الشك والتردد من خواص الافتقار والنقصان اللازمين لدائرة الامكان؟

وأمّا ما ذكره جماعة منهم : «الاخفش» و «الكسائي» و «ابن الانباري» من أنّ : «لعلّ» يجيء للتعليل ، وأنّه قد يكون مرادفا لكي ، فقد ردّ بأنّ جمهور

٦٣٤

أئمّة اللّغة اقتصروا في معناها الحقيقيّ على الترجي والاشفاق ، وبأنّ عدم صلوحها لمجرد معنى العلّيّة والغرضيّة ممّا وقع عليه الاتفاق. ألا تراك تقول : دخلت على مريض كي أعوده ، وأخذت الماء كي أشربه ، ولا يصحّ لعلّ؟

والّذي يظهر لي في حلّ الاشكال عن المقام ونظائره أنّ كلمة «لعلّ» وما شابهها تستعمل تارة في الترديد الفعليّ من المتكلّم وانتفاع جزمه بأحد طرفي النقيضين ، وأخرى في الترديد من جهة ولحاظ خاصّ دون أخرى ، ولا من حيث مجموع الجهات ، كما أنّ المستدل إذا أثبت بطلان ما اعتقده الخصم دليلا ربّما يقول : فلعلّ مطلبك باطل ، مع أنّه جازم به ، لكنّ الاطلاق صحيح بحسب هذه المرتبة من النظر والبحث.

وببالي ورود مثل هذا الاطلاق في مناظرة الامام عليه‌السلام للزنديق المنكر للصانع بابداء الاحتمال ب «لعلّ».

وقريب من ذلك ملاحظة صلاحيّة الشيء في حدّ نفسه لشيء بحيث لا يتعين بحسب ملاحظة وقوع ذلك الشيء ولا عدم وقوعه ، سواء كان ذلك الشيء الغير المتعين غاية له ، كما يقال : غرست الشجرة لعلّه يثمر ، وإن كان جازما لوقوعه سابقا أو لاحقا أو عدمه كذلك ، أم لا كما يقال : هذا مريض لعلّه يشفى أو يموت إذا كان المقصود بيان أنّ شأن المريض في حدّ ذاته صالح للأمرين معا ، من دون نظر إلى أمر خارج عن ذلك ، وأنّه بملاحظة الامور الخارجية هل تعين أحدهما أم لا؟ وأنّ المتكلّم هل هو متردد فعلا أم لا؟

وحينئذ فيكون المستفاد من الكلمة هو نفس صلاحيّة متعلّقة للوقوع ، وأنّه في معرض ذلك ، وبحيث لو نظر فيه الناظر تردد في وقوعه وعدمه لعدم تعيّن أحدهما في حدّ نفسه.

ولعلّ مراد من أثبت معنى التعليل لكلمة لعلّ مردافة ل «كي» اداء

٦٣٥

الغائيّة الصلوحيّة لا الغائيّة الاستلزاميّة الجزميّة ؛ إذ لا يساعده العرف.

وحينئذ فنقول : إنّ علم الحقّ سبحانه للأشياء لمّا كان محيطا بمراتب الامكانات الذاتيّه والاستعداديّة على درجاتها ، والفعليات وما نسبته إلى آخر بالصلوح والامكان ، وما نسبته إليه نسبة اللّزوم أو الامتناع. وإلى ما له غاية يصل إليها على وجه التحتم من حيث ملاحظة ذي الغاية ، وإلى ما له غاية صلوحيّة من شأنه الوصول إليها على اختلاف درجات الشأنيّة ، وكان البيان واللّفظ تابعا للمعلومات مظهرا لها على حسب حالها ، لزم أن يعبّر عمّا عدا الفعليات واللّزوميات والغايات المحقّقة بكلمة تدلّ على ذلك الصلوح والشانيّة والامكان والغاية الاحتماليّة ليعلم السامع هذه المرتبة العلميّة. فمن جملتها كلمة «لعلّ» في مقام الغائيّة الاحتماليّة ، وفي مقام بيان كون الخبر في معرض الوقوع ومن شأنه ذلك ، بحيث إذا نظر إلى ذلك الصلوح والشأنيّة الناظر لتردد في الوقوع وعدمه.

ولعلّه إليه يرجع كلام من جعل «لعلّ» في الآية ونظائرها بمعنى : «كي» بارادته كونهم مخلوقين على وجه يصلح لترتب التقوى عليه ، وقول من قال هنا : أنّه عزوجل خلق عباده لتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات ، وأزاح العلّة في إقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين ، ووضع في أيديهم زمام الاختيار ، وأراد منهم الخير والتقوى. فهم في صورة المرجوّ منهم أن يتّقوا لترجّح أمرهم ، وهم مختارون بين الطاعة والعصيان ، كما ترجّحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل.

ويجري نظيره على تقدير جعله متعلّقا ب «اعبدوا» ، فانّ عبادة العابدين لا ينبغى أن تكون سببا لجزاهم بالنجاة من النار ، أو بحصول التقوى المعنويّة من المهلكات بحيث يتكلّمون على أعمالهم ، ويحدث فيهم حالة الامن من مكر الله سبحانه وعذابه. وإنّما هي سبب يصلح لترتب التقوى عليه ومن شأنه ذلك برحمة الله.

٦٣٦

فالّذي ينبغي للعابدين محض الرجاء ، وهو غاية أعمالهم ، لا الجزم بحصول الغاية ، فانّه غرور كما يظهر ممّا فصّل في كتب الاخلاق. فغاية الامر بالتقوى هو صلاحيتها لترتّب التقوى عليه ، كما يقال : اتّجر لعلّك تربح إذا كان المتكلّم عالما بالمآل.

ثمّ إنّه ربّما يكون في إظهار الله سبحانه كون الشيء في معرض الوقوع متعلّقا بايصال نعمة على عباده إطماع لهم ، وإرجاء لهم في حصوله ، ويكون تعريضا بالوعد ، ويجري إطماع الكريم الرحيم مجرى الوعد المحتوم. ومن ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم المنجزة بقول «عسي» و «لعلّ» والاحالة والرمزة وأشباهها ؛ مع أنّه لا يشكّ الطالب ما عندهم عند ظهورها في وصوله إلى مقصوده.

وربّما يشهد لذلك ما تقدم من أنّ لعلّ من الله واجب ، وما في بعض الاخبار على ما ببالي من أنّ «عسى من الله موجبة». فانّ الظاهر إرادة ما ورد منها في مقام الاطماع الذي جائت في مواضع عديدة من القرآن.

وإذا تعلّقت بانزال بلاء كانت تحذيرا وتخويفا ، وفي هذين المقامين يكون كلمة «لعلّ» آلة لاحداث الرجاء والخوف في المخاطب ، وكاشفا عن حال القضية في نفس الامر ، وأنّه بحيث يرجى ويخاف.

ويشبه أن يكون مطابق هذا المعنى في الكتاب التكويني هو إيجاد الامر على وجه الصلوح والشأنيّة للوقوع ، وتعلّق الرجاء والخوف به ، وانبعاثهما عنه ، وهو بمنزلة الاصل للحالتين الحادثتين في النفوس الجريئة. وإذا تعلّقت بفعل من أفعال المكلّفين أفادت محبوبيّة ما تعلّق به فعلا وتركا ، كما في قوله سبحانه : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) عقيب ذكر التفقه والانذار عند الرجوع إلى قومهم (١).

__________________

(١) إشارة إلى قوله سبحانه في سورة التوبة ، آية ١٢٢ ، وهو : «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.»

٦٣٧

[تحقيق حول الأرض والفراش والسّماء والبناء]

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً)

[في معنى الفراش وبيان وجه إطلاقه على الأرض وكيفيّة جعلها فراشا] عن ابن بابويه باسناده عن العسكري ، عن آبائه ، عن السجّاد عليه‌السلام في الآية :

«جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم ، ولم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الريح فتصدّع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم ، ولا شديدة اللّين كالماء فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ؛ ولكنّه عزوجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون ، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم ، وجعل فيها ما ينقاد به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم. فلذلك جعل الارض فراشا لكم.

ثمّ قال عزوجل : (وَالسَّماءَ بِناءً) ؛ [أي :] سقفا من فوقكم محفوظا يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم. ثمّ قال تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني : المطر ينزله من على ليبلغ قلل جبالكم وقلالكم وهضابكم (١) وأوهادكم ،

__________________

(١) الهضبة ـ بالفتح فالسكون ـ : الجبل المنبسط على وجه الارض ، والجمع هضب وهضاب.

٦٣٨

ثمّ فرقه رذاذا ووابلا وهطلا وطلا ليتشفّه أرضوكم ، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة ، فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم.

ثمّ قال عزوجل : (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) ؛ يعنى : ممّا يخرجه من الارض رزقا لكم.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي : أشباها وأمثالا من الاصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شيء.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، أنّها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربّكم تبارك وتعالى» (١).

أقول :

«فتصدع هاماتكم» على بناء التفعيل من الصداع ، و «أعطبه» : أهلكه ، و «الرذاذ» كسحاب : المطر الضعيف أو الساكن المطر الدائم الصغار القطر كالغبار ، و «الوابل» : المطر الشديد الضخم القطر ، و «الهطل» : المطر الضعيف الدائم ، و «الطلّ» : المطر الضعيف ، أو أخفّ المطر وأضعفه ، أو الندى ، أو فوقه ودون المطر. كل ذلك نقل عن الفيروز آبادي (٢).

وأصل الفراش اسم لما يفرش ؛ كالبساط لما يبسط ، والمهاد لما يمهد.

وفي شواذ القرائة بدل «فراشا» بساطا كما عن «يزيد الشامي» ، ومهادا كما عن طلحة (٣). والثاني قريب من الاول ، كما أنّ الاول مرادف للمعروف بحسب

__________________

(١) العيون ، ج ١ ، باب ١١ ، ص ١١٢ ، ح ٣٦ ؛ وتفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٥٥ ؛ والصافى ، ج ١ ، ص ٦٦ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٧.

(٢) راجع القاموس.

(٣) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٤٦.

٦٣٩

المادة ؛ إذ أصل الفرش هو البسط ، فيقال : فرشت الشيء أفرشه فراشا بسطته ، ويقال : فرشه أمره إذا وسّعه إياه ، والفرش الفضاء الواسع ، والفرش في رجل البعير : اتساع قليل ، وافترش الشيء أي : انبسط ، وافترش ذراعيه : بسطهما على الارض. وافترش لسانه إذا تكلّم كيف شاء أي : بسطه ، وتفرش الطائر : رفرف بجناحيه وبسطهما. كلّ ذلك على ما ذكره الجوهري.

والسعة متقاربة مع البسط مفهوما لتضمن البسط توسيعا ، فكأنّ الاصل في معناه هو البسط ، وإطلاقه على غيره باعتباره ، كما يظهر من ملاحظة جملة أخرى من إطلاقه أيضا لمعنى البسط ، كما أنّ ما فيه أيضا من أنّ الفرش المفروش من متاع البيت ظاهر المناسبة لمعنى البسط ؛ إذ هو معدّ لأن يبسط ، وكأنّ هذا الاعتبار الاخير أعني : المفروش ، هو الظاهر من لفظ الفراش في المقام ونظائره ، لا مطلق ما يبسط ، كما أنّ لفظ البساط أيضا كذلك. ولذلك ذكر بعضهم أنّ : «معنى جعلها فراشا وبساطا ومهادا للناس أنهم يقعدون عليها وينامون ، ويتقلبون كما يتقلّب أحدهما على فراشه وبساطه ومهاده» (١).

ولعلّ إليه الاشارة بالتفسير ب «جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم» فيما تقدم ؛ إذ الفراش بهذا المعنى هو المفروشات المعدة لأن يبسط ويتقلّب عليها بالقعود والاضطجاع وغيرهما ، فلا بدّ فيها من تحقّق الملائمة للطبائع والموافقة للأجساد ، وأن لا تكون فيها كيفيّة منافرة أو ضارّة من الحرارة والبرودة المفرطين ، والرائحة الشديدة المنافرة ، وأن تكون بحيث يمكن الاستقرار عليها لا كالماء ، وأن يكون ليّنة في الجملة لا كالحجر الصلب ، وأن تكون بحيث تصلح للتقلّبات المقصودة فيها. وذلك لأنّه لا يعدّ للافتراش إلا ما له مناسبة وصلاحيّة له من

__________________

(١) نفس المصدر.

٦٤٠