الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

البقرة ، إذ الإنتاج في مختلف الحقول الحيوية المعيشية ولا سيما في حقل الإيلاد ، هو في الذكور ـ لأقل تقدير ـ ضعف الإناث.

والقصاص على ذلك الأساس فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان هو العقاب الرادع عن الجريمة ، فمن تهوى نفسه في الإقدام على جريمة يعلم في الحقل الرباني أنه مأخوذ

به كما هو دون نظر إلى مركزه أو جنسه أو طبقته.

ذلك القصاص العدل هو القضاء المستروح للفطر والضمائر ، ذاهبة بحزازات النفوس وجراحات القلوب ، مسكّنة فورات الثأر الجامحة التي يقودها الغضب الأعمى ، مما لا بديل عنه من سجن وما أشبه ، إلّا أن ترضى نفس بالدية فلا بديل إلّا هيه (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ).

وهنا التصدق مرحلي ، أن يتصدق بقصاص الجريمة إلى الدية ، ثم بالدية إلى بعضها ، ومن ثم إلى طليق التصدق ، ولا مجال للتصدق إلّا مجالاتها المناسبة التي تقتضيه ، وأما المجرم الذي يحمله السماح على الإجرام أم لا يتوب به ، فالسماح عنه إجرام ، إذ ليس التصدق بالقصاص في شرعة الله إلا تأديبا أديبا للمجرم ، فحين لا يؤدب به فليأدب بنفس القصاص.

فمثلث الحكم : القصاص ، والتصدق عنه إلى الدية ، أم العفو ، هو مما أنزل الله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) كذلك الحكم (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

ذلك ، وهل إن القصاص بالمماثل يختص بصورة العمد ، أم وسواه؟ آية البقرة تختص المماثل بالعمد : (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ..) إذا ف (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) في صورة العمد تعني أصل النفس وفي الخطأ ديتها ، وفي الأعضاء قيمها حسب المقرر في السنة ، وفي الجروح تكاليف برءها.

ثم ترى (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) تعنى كفارة المتصدق ـ فقط ـ وهو صاحب الحق ، أم والذي عليه الحق؟ المحور الأساس هو صاحب الحق

٣٨١

حيث يشجّع على ذلك التصدق حتى يكون كفارة له ، ومن ثم هو كفارة لمن عليه الحق أيضا بذلك التصدق إن تاب عما فعل.

ولأن «من تصدق» تعم إلى المتصدقين غير المعصومين ، المعصومين أيضا ، بل هم أحرى بذلك التصدق ف «كفارة له» لهم ليست إلا ترفيع درجة ، ومهما لا تصح «فارة له» لخصوص ترفيع درجة ، فقد تصلح شاملة له من شملتهم من غير المعصومين.

ثم «ومن تصدق» ترغيب للتصدق كأصل وضابطة ، ومما يستثنى منها التصدق للعامد غير التائب عما تعمد وهو يشجع في مواصلة الجريمة ، فإن التصدق له معاونة على الإثم والعدوان وترك الإنتصار أمام الظالم ، فقد تخصص هذه الضابطة بغيره ، مهما تاب أو يتوب بذلك التصدق أو يصدّ عن مواصلة الجريمة وإن لم يتب.

فهنا حق لصاحب الحق وهو القصاص ، وحق لسائر المسلمين ، مهما سقط حق صاحبه بما يتصدق ، فليس ليسقط حق الآخرين الذين تستجر لعنة من عليه الحق إليهم حين يسبب التصدق له مواصلته في الجريمة.

وهنا (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) تنديد بهؤلاء الذين لا يحكمون بهذه الأحكام المستفادة من القرآن فضلا عن أن يحكموا بضدها!.

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٤٦).

«وقفّينا» أن جعلنا خليفة النبوة (عَلى آثارِهِمْ) أولاء (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) وهم الأنبياء الإسرائيليون «بعيسى بن مريم» فإنه منهم وهو خاتمهم.

فلا تعني هذه التقفية ختم النبوات كلها بعيسى بن مريم كما يهواه هاو في

٣٨٢

هوّات الجهالات (١) حيث «هم» في «آثارهم» لا مرجع لها إلّا (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) إذ يحكمون بالتوراة ، وبعد ختام شريعة التوراة التي يحكم بها النبيون الإسرائيليون وآخرهم المسيح (ع) يصرح بالشرعة القرآنية المقفّى بها كافة الشرائع عن بكرتها : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٢).

وآيات التقفية ـ الثلاث ـ وهذه منها ـ لا تقفّي بالمسيح كافة الرسل ، إنما هم الرسل الإسرائيليون ، وذكراهم كلهم تهيئة لذكرى هذه الرسالة غير الإسرائيلية ، المهيمنة عليها كلها.

فآية البقرة : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) (٨٧) لا تعني بالرسل كلهم ، وإلّا لخرج المسيح عن الرسل حيث قفت الآية الرسل كلهم من بعد موسى ، فهم رسل إسرائيليون لم يبق منهم إلّا خاتمهم وهو المسيح (ع) ولم يقفّ به ـ كذلك ـ كل الرسل حيث النص (قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) لا «قفينا بالمسيح الرسل» بل إن رسالة موسى وتقفيته بالرسل الإسرائيليين وخاتمهم المسيح (ع) هي توطئة لذكرى الرسالة الأخيرة غير الإسرائيلية وكما هيه بفصل آيتين : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى

__________________

(١ ، ٢). كالاستاذ حداد البيروتي حيث يقول في كتابه «القرآن والكتاب» في القرآن كله في النصوص كلها التي يرد فيها ذكر المسيح ظاهرتان : الأولى يقفي القرآن على كل الرسل بالمسيح ولا يقفي على المسيح بأحد (٢ : ٨٧) (٥ : ٤٩) (٥٧ : ٤٧).

هو يذكر (٤٧) بديلا عن (٢٧) مما يدل على أنه لم يراجع القرآن نفسه إنما ينقل ما يتقوله نقلا عن أضرابه ، فيا ليته راجعه حتى يعرف بتأمل قليل خطأ المنقول عنه!.

(١ ، ٢). كالاستاذ حداد البيروتي حيث يقول في كتابه «القرآن والكتاب» في القرآن كله في النصوص كلها التي يرد فيها ذكر المسيح ظاهرتان : الأولى يقفي القرآن على كل الرسل بالمسيح ولا يقفي على المسيح بأحد (٢ : ٨٧) (٥ : ٤٩) (٥٧ : ٤٧).

هو يذكر (٤٧) بديلا عن (٢٧) مما يدل على أنه لم يراجع القرآن نفسه إنما ينقل ما يتقوله نقلا عن أضرابه ، فيا ليته راجعه حتى يعرف بتأمل قليل خطأ المنقول عنه!.

٣٨٣

الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٩٠) ومنهم من يقفّي بالمسيح (ع) كافة المرسلين سنادا إلى هذه الآيات التي هي تقدمة لذكرى جميلة عن محمد (ص) خاتم النبيين.

وهكذا الآية الثالثة في حقل التقفية : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ ... ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (٥٧ : ٢٧) فهنا «برسلنا» تعم الرسل الإسماعيليين إلى الرسل الإسرائيليين لمكان «ذريتهما» ومنهم إسماعيل ، ثم التقفية بعيسى بن مريم تختص بالرسل الإسرائيليين.

ثم تقفي الآية التالية لها بهذه الرسالة السامية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ... لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٣).

فما أجهله من يستند إلى القرآن نفسه لنكران الرسالة القرآنية بالآيات التي تصرح بهذه الرسالة السامية بعد الرسالات كلها ، كأصل أصيل بينها وهي لها تقدمات كلها!.

ذلك ، والتقفية على آثار الرسل الإسرائيليين بعيسى بن مريم إخبار بأن المسيح هو من هؤلاء النبيين الذين أسلموا ، الحاكمين بالتوراة ، وأن الإنجيل لا يحمل شرعة مستقلة عن التوراة ، اللهم إلّا شذرا من تحريم طيبات حرمت على اليهود عقوبة وقتية : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ومن آثارهم بعد الخاصة التوراتية هذه الآثار الرسالية العامة وفي قمتها أثر الدعاية التوحيدية وسائر الدعايات المحلّقة على كل الرسالات دونما استثناء.

(وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وقد وصف هنا بمواصفات خمس : (١ فِيهِ هُدىً ـ ٢ وَنُورٌ ـ ٣ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ـ ٤ وَهُدىً ـ ٥ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

ومن لطيف الوفق بين الموعظة واللسان أن كلّا يذكر (٢٥) مرة في

٣٨٤

القرآن ، مما يلمح بأن اللسان كأنه فقط للموعظة! وهكذا يجب أن يكون لسان الإنسان كإنسان فضلا عمن يحمل الإيمان.

وهنا المحور الأصيل من الخمس (هُدىً وَنُورٌ) كما التوراة ، ولكنه هدى أحكامية ونور لها حيث ينير الدرب على السالكين مسلك الشرعة التوراتية ، خالصة عن كل تحريف وتجديف ، وهكذا يكون الإنجيل (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) تصديقا عمليا في شرعة الإنجيل إلى جانب التصديق العقيدي أن التوراة النازلة من الله هي وحي الله.

وهنا «هدى» مرة ثانية قد تعني الهدى الجديدة الجادة التي تحملها الإنجيل في حالته التصفوية لشرعة التوراة المحرّفة عن جهات من أشراعها ، ثم (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) لمكان واجهة العظة الشاملة التي تتغلب على الإنجيل ، حيث تحتل الأغلبية الساحقة من آياته.

ولقد كان لزاما لشرعة الإنجيل بعد التوراة هذه الهيمنة الخلقية حيث تواجه ـ أول ما تواجه ـ قلوبا قاسية جاسية صلدة صلتة من اليهود.

ولقد يشهد الإنجيل بآياته عامة وخاصة ، أن شرعة الناموس ـ وهي شرعة التوراة ـ غير منسوخة بالإنجيل إلّا في أحكام عقابية مؤقتة.

فقد يقول السيد المسيح (ع) كما في إنجيل متى ٥ : ١٧ ـ ١٩ ـ : «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى ، وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات».

وفي إنجيل لوقا ١٠ : ٢٥ ـ ٢٦ : «وإذا ناموسي قام يجر به قائلا : يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له : ما هو مكتوب في الناموس».

٣٨٥

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤٧).

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أهل الإنجيل هم الآهلون لتفهّمه ، المتخرجون من الحوزة الاستحفاظية الإنجيلية ، كما على أهل التوراة ربانيين وأحبارا أن يحكموا بالتوراة بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ، فليحكموا كل بما أنزل الله دون ما أنزله غير الله من تحريف وتجديف ، ودون ما تهواه أنفسهم تأويلا لما أنزل الله ، فليحكم أهل الإنجيل في كل الأحكام بما أنزل الله في التوراة حيث الإنجيل يأمرهم بإتباع شريعة الناموس إلّا شذرا فيه : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وليحكموا بما أنزل الله فيه من البشارات الواردة بحق محمد (ص) وقرآنه العظيم. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) حيث فسقوا عن شرعة الله إلى أهواءهم.

وترى حين لا حكم للإنجيل وسواه من كتب السماء بعد نزول القرآن فكيف يؤمر أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه؟!.

ذلك ، لأنهم لو حكموا بما أنزل الله فيه لأصبحوا مسلمين ، فإن مما أنزل الله فيه البشارات المحمدية ، ثم هم إذا لا يؤمنون بهذه الرسالة فليؤمنوا بكتابهم الذي هم به معترفون ، وهذه حجة إقناعية ثانية حين لا يهتدي الخصم إلى الحق المرام.

ذلك ، والتلحيقة المتكررة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) هي ضابطة عامة دون اختصاص بحقل خاص ، فقد يعم المسلمين بأحرى من الكتابيين ، إذ كلّما كان الكتاب أعظم فليكن الحكم به أعزم ، فترك الحكم به ـ إذا ـ ألعن.

قول فصل في الحكم :

هذه التلحيقات الثلاث في هذه الآيات الثلاث هي من أشد التنديدات

٣٨٦

بالذين لا يحكمون بما أنزل الله وهم في موقف الحكم بما أنزل الله ، متخرجين عن حوزته الاستحفاظية توراتية وإنجيلية وبأحرى منهما الحوزة الاستحفاظية القرآنية.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (... هُمُ الظَّالِمُونَ) (... هُمُ الْفاسِقُونَ) فمثلث الشرطية هذه تحلّق حكم الكفر والظلم والفسق على كل هؤلاء الذين لا يحكمون بما أنزل الله ، حيث هم سكوت في مجالات الحكم عن أن يحكموا بما أنزل الله مهما لم يحكموا بغير ما أنزل الله ، فإن حكموا بغير ما أنزل الله فهم أنذل وأرذل حيث هم ـ إذا ـ أكفر وأظلم وأفسق من هؤلاء الساكتين عن الحكم بما أنزل الله.

وبصيغة واحدة (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٦ : ٥٧) وذلك يعم كافة الأحكام بين عباد الله ، من أحكام خاصة هي الأقضية بين المتنازعين ، والأحكام العامة الشاملة لكافة المسئوليات الشرعية.

وما رسل الله عليهم السلام إلّا حملة لأحكام الله حيث يحكمون وحيا بما أنزل الله ، ثم من يخلفهم من خلفاءهم المعصومين عليهم السلام ، ومن ثمّ العلماء الربانيون المتخرجون من الحوزة الاستحفاظية فيما أنزل الله أيّا كان ، وأحفظ الحوزات الاستحفاظية للذين يحكمون بما أنزل الله هي الحوزة القرآنية السامية ، وعلى ضوءها حوزة السنة المحمدية (ص). فكل حكم بغير ما أنزل الله ـ أيّا كان سنده وسناده ـ هو حكم الجاهلية مهما اختلفت دركاته : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥ : ٥٠).

فحكام الشرع في الحوزات الإفتائية العامة ، أو الحوزات القضائية الخاصة ، ليس لهم أن يصدروا في أحكامهم إلّا (ما أَنْزَلَ اللهُ) شرط تخرّجهم عن الحوزة الاستحفاظية القرآنية علميا عقيديا وعمليا ، فغير الحائز على شروط الحكم غير جائز له أن يحكم ، فحتى إن أصاب فمصيره إلى

٣٨٧

النار ، والحائز على شروط الحكم وإن اخطأ معذورا لم يكن محظورا ولا محبورا ، فلا يحكم حاكم إلّا بكتاب الله تعالى أو سنة رسول الله (ص) وإلّا فليسكت ، ف «العلم ثلاثة كتاب وسنة ولا أدري» (١) و «القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة ، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة» (٢).

فالقصد من «يعلم» الأول هو العلم بجوره في قضاءه ، ومن «يعلم» الثاني هو علم القضاء بتوفر شروطه وإن أخطأ حيث العصمة في القضاء خاصة بأهل العصمة ، كما أن «لا يعلم» في «قضى بجور وقضى بالحق» هو كذلك علم القضاء وصلاحيته له.

إذا فثالوث أهل النار هم غير المستأهلين للقضاء حيث «لا يعلم ... لا يعلم» والمستأهل له علميا ولكنه يقضي بالجور على علمه بجوره وعلمه بشؤون القضاء ، ثم واحد الجنة هو القاضي بالحق وهو مستأهل له حيث تخرّج عن الحوزة الاستحفاظية القرآنية بشروطها الثلاثة.

إذا فباختصار واحتصار«الحكم حكمان حكم الله عز وجل وحكم أهل الجاهلية»(٣)فحكم الله من المعصومين هو حكمه كما حكم دون أي خطأ قاصر أو مقصر ، ومن العلماء الربانيين هو الحكم بالكتاب والسنة مهما أخطأوا قاصرين وإن لم يكونوا فيه محبورين كما ليسوا بمحظورين.

فالخطأ المقصر هو المحظور ، تقصيرا في الجلوس على منصب القضاء أو

__________________

(١) أصول الكافي باب العلم عن الإمام الصادق (ع).

(٢) وسائل الشيعة باب القضاء عن الإمام الصادق (ع).

(٣) وسائل الشيعة ج ١٨ ح ٧.

٣٨٨

تقصيرا في الحكم ، وقد يعنيه «أي قاض قضى بين إثنين فأخطأ سقط أبعد من السماء»(١).

وقد يروى عن النبي (ص) قوله : «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس فإما إلى الجنة أو إلى النار».

ومن الشروط المحتومة للمتخرج عن الحوزة الاستحفاظية القضائية التدرّب في القضاء على أضواء أقضية القضاة المعصومين وكما يروى عن الإمام الصادق (ع): «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن أنظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه» (٢).

ولقد نسمع أقضى القضاة عليا عليه السلام يقول لشريح : «يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي» (٣) وفي توسعة بالضرورة القضائية زمن الغيبة ـ ل «وصي نبي» قد تعني بعد المعصومين أقرب العلماء الربانيين إليهم حيث هم نوابهم زمن غيابهم عليهم السلام ، إذا فلا يحق القضاء لكل رطب ويابس!.

وإذا كان القاضي زمن المعصوم فعليه أن يعرض قضاءه عليه تجنّبا عن الأخطاء القاصرة (٤) ف «اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبي) أو وصي نبي» (٥).

__________________

(١) المصدر ص ١٨ باب ٣ ح ١٨.

(٢) المصدر ١٨ ص ٤ ح ٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٧ وروضة المتقين ٦ : ١٨ رواه الكليني والشيخ في القوي عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (ع) عنه (ع).

(٤) في التهذيب باب من إليه الحكم الحديث ١ و ٢ «لما ولى أمير المؤمنين (ع) شريحا القضاء اشترط عليه ألا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه».

(٥) الوسائل باب القضاء عن علي عليه السلام ، وفي الكافي باب ادب الحكم ح ٦ والتهذيب باب ـ

٣٨٩

وإليكم جماع شروط الحكم بين الناس من كتاب علي أمير المؤمنين (ع) إلى مالك الأشتر حين ولّاه مصر : «اختر للحكم بين الناس ١ أفضل رعيتك في نفسك ـ ٢ ممن لا تضيق به الأمور ـ ٣ ولا تمحكه الخصوم ـ ٤ ولا يتمادى في الزلة ـ ٥ ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه ـ ٦ ولا تشرف نفسه على طمع ـ ٧ ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ـ ٨ وأوقفهم في الشبهات ـ ٩ وآخذهم بالحجج ـ ١٠ وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم ـ ١١ وأصبرهم على تكشف الأمور ـ ١٢ وأصرمهم عند اتضاح الحكم ـ ١٣ ممن لا يزدهيه إطراء ـ ١٤ ولا يستميله إغراء ، وأولئك قليل.

ثم ١ أكثر تعاهد قضاءه ـ ٢ وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس ـ ٣ وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك ـ ٤ فأنظر في ذلك نظرا بليغا فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا».

فهذه شروط في اصطفاء القضاة ، فيهم أربعة عشر ، وفيمن يصطفيهم متعاهدا إياهم أربعة.

وفي كلام له (ع) آخر نسمع مواصفات القضاة السوء حيث يقول : «إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان رجل وكله الله إلى نفسه ، فهو جائر عن قصد السبيل ، مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هدى من كان قبله ، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته ، حمال خطايا غيره رهن بخطيئة.

__________________

ـ آداب الحكام في الصحيح عن الصادق (ع) إذا كان الحاكم يقول لمن عن يمينه ولمن عن يساره ما تقول ـ ما ترى؟ «فعلى ذلك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ألا يقوم من مجلسه ويجلسهما مكانه».

٣٩٠

ورجل قمش جهلا ، موضع في جهال الأمة ، عاد في أغباش الفتنة ، عم بما في عقد الهدنة ، قد سماه أشباه الناس عالما وليس به ، بكّر فاستكثر من جمع ، ما قل منه خير مما كثر ، حتى إذا ارتوى عن آجن ، واكتنز من غير طائل ، جلس بين الناس قاضيا لتخليص ما التبس على غيره ، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّا لها حشوا من رأيه ثم قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل نسيج العنكبوت ، لا يدري أصاب أم أخطأ ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ ، وإن أخطأ رجى أن يكون قد أصاب ، جاهل خبّاط جهالات ، عاش ركّاب عشوات ، لم يعضّ على العلم بضرس قاطع ، يذري الروايات إذراء الريح الهشيم ، لا مليء والله بإصدار ما ورد عليه ، ولا هو أهل لما فوّض إليه ، يحسب العلم في شيء مما أنكره ، ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره ، وإن أظلم أمرا اكتتم لما يعلم من جهل نفسه ، تصرخ من جور قضاءه الدماء ، وتعج منه المواريث ، إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلّالا ، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه ، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر» (١).

ذلك (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) إنما يحكم بكفره وفسقه وظلمه حين يعلم أنه تارك لحكم الله وهو في موقف تبيانه ، فهو كفر عملي ، وأما من يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم فهو كفر عقيدي ، وأما الذي لا يعلم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٢٨ في كتاب الإحتجاج عن معمر بن راشد قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول قال رسول الله (ص) وقد ذكر الأنبياء صلوات الله عليهم ، «وإن الله عز وجل جعل كتابي المهمين على كتبهم الناسخ لها ...» وفيه في روضة الكافي بسند متصل عن علي بن عيسى رفعه قال : «إن موسى (ع) ناجاه ربه تبارك وتعالى فقال في مناجاته أوصيك يا موسى وصية الشفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم ومن بعده بصاحب الجمل الأحمر الطيب الطاهر المطهر فمثله في كتابك إنه مؤمن مهيمن على الكتب كلها ...».

٣٩١

ويحكم على جهله ، فهو أيضا كافر عمليا ، وكما الكفر دركات كذلك الحكم بغير ما أنزل الله كتركه دركات لا تحسب بحساب واحد.

ذلك ، وتلاوة الكتاب حق تلاوته هي أن يمحور القرآن كأصل أصيل في الأصول الإسلامية ، فالفتاوى التي لا تتبنى القرآن هي داخلة في الحكم بغير ما أنزل الله ، فإن كلّ مغاير لما أنزل الله مهما كان حديثا يروى أو إجماعا يدعى كل ذلك داخلة في غير ما أنزل الله.

٣٩٢

الفهرس

سوره المائدة :

هي آخر ما نزلت ناسخة غير منسوخة............................................... ـ

مسارح العقود ـ لفظية وسواها ـ على مرّ الزمن والعقود المستجدة واضرابها ، شمول «العقود» كل القرارات المصوصة كتاباً وسنة وسواها كعقد التأمين وما أشبه.......................................................... ١١ ـ ١٩

ما هي بهيمة الانعام والرباط بين حلها والايفاء بالعقود؟.................................

حكم الصيد وأنتم حرم محرمين أو داخل الحرم................................. ١٩ ـ ٢٦

ما هي شعائر الله؟ والشهر الحرام وحرمته؟................................... ٢٧ ـ ٣٥٧

التعاون المفروض والمفروض في ضفة الإيمان................................... ٣٨ ـ ٤١٨

المحرمات الاصيلة في حقل الأكل ـ احكام الميتة والدم ولحم الخنزير ... في قول فصل. ٤٢ ـ ٥٣

ماذا يستثنى بـ ... «إلاّ ما ذكيتم» وهل يشترط الإسلام في الذابح ـ فروع حول التذكية ٥٣ ـ ٦٥

ما هي الرباط بين آية اكمال الدين وحرمة المحرمات والوفاء بالعقود........................

قول فصل حول «الغدير» في الكتاب والسنة................................. ٦٧ ـ ٨٣

ما هي الجوارج المكلبة؟ وشروط الصيد؟...................................... ٨٤ ـ ٩٦

طهارة أهل الكتاب ـ الذاتية ـ وحلية نكاح الكتابيات دواماً ومتعة................ ٩٦ ـ ١١٣

٣٩٣

الطهارات الثلاث في بحث فصل ، ونقاش الفقهاء حولها ـ ونقد الفتاوي المخالفة للكتال سنة وشيعة   ١١٧ ـ ٢٠٧

النقباء في بني اسرائيل وغيرهم............................................ ٢١١ ـ ٢٢٣

إغراء العداوة والبغضاء بين النصارى والقاءهما بين اليهود إلى القيامة وأبعادها زمن المهدي (ع) ٢٢٧ ـ ٢٣٩

لقرآن بان لآصول التحرفات ف کتاب السماء............................ ٢٢٩ ـ ٢٣٦

خرافة ألوهية المسيح وبنوتة الألهية في قول فصل............................ ٢٣٨ ـ ٢٤٩

ما هي «فترة من الرسل» والحجة الرسالية فيها؟............................ ٢٤٩ ـ ٢٦٢

ماذا تعني «جعلكم ملوكاً» الشاملة لحامة بني اسرائيل!....................... ٢٦٢ ـ ٢٦٥

التيه وما فيه بمعداته ومخلفاته............................................. ٢٦٧ ـ ٢٨٠

نبأ ابني آدم ف قول فصل............................................... ٢٨٤ ـ ٣٠٩

«من قتل نفساٌ بغر نفس» وابعادها وفروعها.............................. ٣٠٩ ـ ٣١٣

جزاء المحاربين ورسوله والساعين في الأرض فسادا.......................................

في قول فصل.......................................................... ٣١٣ ـ ٣٣٣

«ابتغوا اليه الوسيلة»؟ هل الغاية تبرر الوسيلة؟............................. ٣٣٤ ـ ٣٤٠

السرقة وحدودها وأبعادها؟.............................................. ٣٤١ ـ ٣٥٢

الحوزة الاستحاظية الكتابية ـ الحاكمون بالكتاب هم ـ فقط ـ النبيون والربانيون والاحبار ٣٦٣ ـ ٣٧٣

النفس بالنفس والعين بالعين............................................. ٣٧٣ ـ ٣٨٢

هل التفقية بالمسيح هي ختم الرسالات به؟................................ ٣٨٢ ـ ٣٨٦

قول فصل في الحكم.................................................... ٣٨٦ ـ ٣٩٢

٣٩٤