الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

العذاب المستحق أيا كانت الفدية لو كانت بيد الكافر والظالم والمجرم غير المستجيب لربه ، وليست الشفاعة من باب الفداء حتى تستحيل ، ثم وليست لأمثال هؤلاء الكفار الذين لا يستحقون إلّا النار ، لحد لا خروج لهم منها :

(يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٧).

فإرادة الخروج من النار بأية محاولة هي طبيعة الحال لمن في النار ، ولكن (ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) حيث استحقوا الخلود الأبد (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) في النار.

أترى مقيم العذاب دليل للأبدية اللانهائية المزعومة المفتراة على الله؟ كلّا ، فإن (ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) تنفي فقط خروجهم عن النار ، ولا تثبت الأبدية اللّانهائية للنار حتى يؤبدوا هم في هذه اللّانهائية ، وكما و (لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) تقيمهم في النار ما داموا هم ودامت النار ، فقد يأتي هناك يوم لا نار فيه ولا أهل نار ، حيث ذاقوا وبال أمرهم المحدد بحدود أعمالهم بخلفيّاتها المحدودة ، ثم المزيد على العذاب المستحق ظلم (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) و (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ف (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فإنما هو فقط (جَزاءً وِفاقاً) لا مزيد فيه على مستحق السيئة.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٩).

آية منقطعة النظير تحمل جزاء السرقة ونكالها في الشرعة القرآنية بصورة مجملة جميلة وضاءة ، نسبر غور البحث عن مختلف مواضيعها في جهات عدة ، على ضوء السنة المباركة الإسلامية الموضّحة لما أجمل فيها ، المحدّدة غير محدودها ، كما يناسب سفر التفسير.

٣٤١

فمن الواجهة الأدبية الفاء في «فاقطعوا» لا بد وأنها لجزاء الشرط المحذوف المعروف من «السارق» ك «إن سرقا» ولكنه تحصيل للحاصل «السارق ـ إن سرق»! أم جواب «أمّا» المحذوفة عن المبتدء : «وأما السارق ...» فالموصول بصلة مبتدء ، ثم «فاقطعوا» خبره ، ولولا تقدير «أمّا» لما كان للفاء مكان فإنها لا تأتي على خبر المبتدء ، إلّا على جزاء الشرط : أن «الذي سرق فاقطعوا ...» أو «من سرق فاقطعوا ...» أو يقال : نفس «الذي ـ أو ـ من» المستفادة من السارق كاف في إدخال الفاء على الفعل ، فإنه في معنى الشرط ، أو هو الشرط ، أم هو جواب «أما» والوجهان صالحان أدبيا ومعنويا.

ثم السرقة هي أخذ ما ليس له خلسة وخفية ، واسترق السمع إذا تسمّع مستخفيا ، وسرقت عينه إذا نظرت خلسة ، وكذلك سائر السرقة من نفس أماهيه ، فالأصل فيها أخذ ما ليس له خلسة ، نفسا أو مالا أو كلاما أو نظرة وما إليها مما يسرق أو يسترق.

ومن البرهان قرآنيا على أن استلاب النفس خلسة سرقة : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (١٢ : ١٧) إذ يعني أنهم سرقوا يوسف من أبيه ، فإن أخذه من أبيه ليسرح ويلعب ، بنية إخفاءه عنه قتلا أو نفيا ، هو من الأخذ خلسة ومن أسوءه.

وقد تلمح أو تدل (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أن (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) تعني ـ فقط ـ سرقة المال والنفس ، لأنهما ـ فقط ـ يسلبان باليد ، وليس قطع الأيدي ، إلّا قطعا لما يسرق به ، فاليد السارقة تقطع.

ولأن السارق المسلح ، وقاطع الطريق ، مذكور بحكمه في آية المحاربة من ذي قبل ، فلا تشمله هذه الآية ، وكذلك السارق القاتل ، فلا تعني آية «السارق» إلّا السارق بغير سلاح ولا قتل أو قتال ، كما لا تعني المغتصب

٣٤٢

أموال الناس دون خلسة ولا قوة وإنما بحيلة كيفما كانت ، فلا يحكم على آكل أموال الناس بسائر الباطل بميسر أو ربا بأنه سارق ، نعم الذي يبخس في المكيال هو من السارقين حيث يأخذ المال بصورة خفية ، إلّا أن يقال يشترط في السرقة كون المال وأخذه في خفاء ، والباخس في المكيال يأخذ المال الجاهر في خفاء ، ولذلك أفرد له عنوان آخر هو التطفيف أو بخس المكيال.

فلأن أشرّ ألوان التجاوز إلى أموال الناس أن تكون مستورة مخبوءة فتؤخذ في سرّ أكلا بالباطل ، بصورة باطلة في بعدين ، سرا في أخذه وسرا في المال ، فهو مثلث من الجريمة.

وليس هكذا ما يؤكل باطلا علانية ودون قوة كالربا ، أم سرا والمال جاهر كالبخس ، وعلى أية حال فأكل الأموال بالباطل محرم في شرعة الله مطلقا ، سواء أكان بقوة أم حيلة سرا أو جهرا ، أخذا سريا أو جهريا (١).

والمخابئ تختلف حسب اختلاف الأموال فمخبأ الحيوان الإسطبلات ومخبأ الجواهر الصناديق أو المحافظ المتعودة الأخرى.

ولأن السنة المستمرة المحمدية (ص) تقول كلمة واحد أن قطع الأيدي يحض سرقة المال ، في سرها وسره ، فليتقيد إطلاق «السارق والسارق» بسرقة المال ، أو يقال إن حدّ سرقة المال يجري ـ بأحرى ـ في سرقة النفس ، والسنة جارية في الأكثرية المطلقة من السرقة ، فحين يسرق عبد أو أمة يجرى حد سرقة المال دونما خلاف ، فكيف لا يجري في الحر والحرة وهما أمول من كل الأموال! وسارق الأنفس أخطر على البيئة المؤمنة من سارق المال.

إلّا أن يقال إن الإنسان أيا كان ليس في مخبأ حتى يسرق ـ إذا ـ فله

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٥٠٣ عن أبي بعير عن أحدهما (ع) قال سمعته يقول قال أمير المؤمنين (ع) لا أقطع في الدغارة المعلنة وهي الخلسة ولكن أعزره.

٣٤٣

حكم آخر غير حكم سرقة المال ، وقد يقال : مخبأ الإنسان بيته أو بيئته التي يعيش فيها ، فإذا اختلس عن مخبئه ومأمنه فقد سرق ، وأقل ما يجري عليه منه الحد حد سارق المال (١).

أم إن قطع أيدي سراق النفوس أن تقطع أيديهم وذرائعهم إلى سرقتها سجنا أو نفيا أمّاذا ، توسعة في الأيدي ، وقد توسع الأيدي إلى كل الوسائل للسرقة من قلم أو بصر أو شمّ وأضرابها ، فالسارق بقلمه يختلس من الكاتب كتابته جهارا.

أو يقال : كل سارق يؤدّب حسب جريمته ، ولكن سارق المال بحدودها تقطع يده ، والآية لا تقيد «السارق» بالمال وإنما الذي سرق أيا كان سرقته؟.

فلكل جانحة وجارحة استراق كاستراق العين الذي يعبر منه بخائنة الأعين : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) واستراق السمع : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) واستراق الجسد كان يلمس غير ذات محرم خلسة ، واستراق الجنس كان يزني بذات بعل خفية ، واستراق الأكل كأن يأكل زيادة عن حدّه خلسة ، واستراق الكلام كأن يأخذ إقرارا منه عنهم خلسة ، واستراق العلم كان ينقل عن غيره دون أن ينسبه إليه ، كل ذلك

__________________

(١) في سارق الإنسان : الوسائل ١٨ : ٥١٤ عن طريف بن سنان الثوري قال سألت جعفر بن محمد (ع) عن رجل سرق حرة فباعها قال : فيها أربعة حدود أما أولها فسارق تقطع يده ، والثانية إن كان وطأها جلّد الحد وعلى الذي اشترى إن كان وطأها وإن كان محصنا رجم وإن كان غير محصن جلد الحد وإن كان لا يعلم فلا شيء عليه وعليها هي إن كان استكرهها فلا شيء عليها وإن كانت أطاعته جلدت الحد.

وفيه عنه أبي عبد الله (ع) أن أمير المؤمنين (ع) أتي برجل قد باع حرا فقطع يده وفيه عن عبد الله بن طلحة قال سألت أبا عبد الله (ع) عنه الرجل يبيع الرجل وهما حران يبيع هذا هذا وهذا هذا ويفران من بلد إلى بلد يبيعان أنفسهما ويفران بأموال الناس قال : تقطع أيديهما لأنهما سارق أنفسهما وأموال الناس.

أقول : فالسارق نفسه والسارق انفس الناس والسارق أموال الناس تقطع يده.

٣٤٤

استراق ، ولكن سرقة المال هي المعروفة من السرقة فسرقة النواميس الخمس نفسا وعقلا ودينا وعرضا ومالا كلها محرّمة ، فمن يستلب صالح العقيدة خلسة فهو أشنع السارقين ، ومن يسترق العقل أو العرض أو المال كذلك ، فكل استراق وسرقة بالنسبة لأي من النواميس الخمسة محرمة في شرعة الله ـ وحدود البعض معلومة والبعض الآخر غير معلومة ـ وقطع اليد يختلف حسب اليد السارقة وبعد السرقة!.

ومن هم الموجّه إليهم ذلك الخطاب «فاقطعوا» وأضرابه من الأوامر السياسية أو الحقوقية أماهيه من الأمور الجماعية للكتلة المؤمنة؟.

أهم كلهم؟ ومورد تحقيق الأمر هو منهم كالسارق والزاني والقاتل وأضرابهم!.

أم سواهم من المؤمنين أيا كانوا؟ وليست لهم كلهم تلك الصلاحية الخطيرة علميا ومعرفيا وعمليا ، ولا أنهم بحاجة للتدخل في هذه الأمور بجملتهم ، ولا يتيسر لهم فإن لكل شغلا شاغلا! وأن توجيه هذه الأوامر إليهم أجمع ، على اختلافهم في نظراتهم واتجاهاتهم وأحاسيسهم ، إنه فوضى جزاف!.

فلتكن موجّهة إلى جماعات خصوص ، كلّ كما يناسب صالح المؤمنين ومحتدهم وصلوح المأمورين.

إذا (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) موجه إلى حكام الشرع المتوفرة فيهم شروطات الحكم والقضاء ، حكما بالقطع ، ثم قطعا بأنفسهم أو أمرا به.

ولأن (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) تتطلبان ثبوتهما ، ولا تثبت السرقة إلّا بإقرار أو بينة ، وكما عن رسول الله (ص) إنما أقضي بينكم بالأيمان والبينات ، حصرا فيهما ، فلا موضوعية لعلم الحاكم ، وقد نحتمل أكيدا أن الحد ليس لأصل الجريمة ، وإنما للوقاحة فيها لحدّ يراها شاهدان عدلان.

ومن شرائط الحد في السرقة الدخول بغير إذن في مدخل السرقة ،

٣٤٥

فالداخل بإذن مؤتمن وإن أخذ المال كان خائنا لا يقطع بل يضرب.

ذلك ، وكما أن حد السرقة بحاجة إلى شهود أنه سرق من حرز دون ضرورة ولا حقّ ، كذلك هو محدود بربع دينار ، فمهما سمي المختلس أقل من ربع دينار سارقا فقد اختص الحد به «ولو قطعت أيدي السراق فيما هو أقل من ربع دينار لألفيت عامة الناس مقطعين» (١).

وترى «أيديهما» تعني اليدين لمكان الجمع ، وهما أيضا من الكتفين لإطلاق اليد؟.

لو كان القصد كلا اليدين لجيء بصيغتها «أيديهم» كما القصد في «الكعبين» فقد جيء ب «المرافق» جمعا حيث القصد المرافق الأربعة لليدين ، فإن لكل يد مرفقين ، وجيء ب «الكعبين» حيث القصد الكعب الأول من كل رجل دون الكعاب كلها ، وهنا «أيديهما» جمع وجاه جمع (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) حيث الموصول يشمل السارقين والسارقات ، فقد يكفي صدق اليد في الواجب قطعة.

وصحيح أن اليد تطلق على كلها من الأكتاف إلى رؤوس الأصابع ، ومن المرافق إليها ، ومن الأزناد إليها ، ومن الأكف ، ثم الأصابع فقط ، إطلاقات خمس للأيدي ، والخامسة عند الإطلاق هي أظهرها ، وهي القدر المتيقن منها ، فالاكتفاء بها وقوف عند الحد المتيقن ، والتجاوز عنها بحاجة إلى قرينة قاطعة.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٢٨ بسند متصل عن محمد بن مسلم قال قلت لأبي عبد الله (ع) في كم يقطع السارق؟ فقال : في ربع دينار ، قال قلت له : في درهمين؟ قال : في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ ، قال فقلت له : أرأيت من سرق أقل من ربع دينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق وهل هو سارق عند الله في تلك الحال؟ قال : «كل من سرق من مسلم شيئا قد حواه وأحزره فهو يقع عليه اسم السارق وهو عند الله سارق ولكن لا يقطع إلا في ربع دينارا وأكثر ولو قطعت ...».

٣٤٦

فحين يقال للسائق قف عند الإشارة وفي الطريق إشارات عدة ، فهل له التجاوز عن الأولى إلى سواها ثم الوقوف عند الأخيرة ، ولو كان الموقف غير الأولى لأشار إليها؟!

إذا فقطع اليد في السارق ، المجمل فيه النص ، يحمل على أقل مصاديقها ، والحدود تدرأ بالشبهات ، وهنا جمع بين الشبهة الحكمية والموضوعية ، فلا ندري المعني من القطع ، فلا ندري إذا من أين القطع؟.

ثم اليد كلها ـ إلّا الأصابع ـ هي موضوعة لأحكام عدة ، كالسجدة حيث الكف من المساجد السبعة ، وهو إلى المرفق موضع لغسل الأيدي في الوضوء ، والشارع يراعي في حدوده سائر أحكامه ، فلا يأمر بقطع اليد كلها ، وهو قطع لمغسل الوضوء (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ، ولمسجد في الصلاة (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٧٢ : ١٨) (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٩٠ محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن زرقان صاحب ابن أبي داود عن ابن أبي داود أنه رجع من عند المعتصم وهو مغتم فقلت له في ذلك ـ إلى أن قال ـ : فقال إن سارقا أقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي عليهما السلام فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع فقلت : من الكرسوع لقول الله في التيمم (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) واتفق معي على ذلك قوم ، وقال آخرون : بل يجب القطع من المرفق قال : وما الدليل على ذلك؟ قال : لأن الله قال (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) قال : فالتفت إلى محمد بن علي عليهما السلام فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ قال : قد تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين ، قال : دعني ما تكلموا فيه أي شيء عندك؟ قال (ع) اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين ، قال : أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه فقال : أما إذا أقسمت عليّ بالله إني أقول : إنهم اخطأوا فيه السنة فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف قال : ولم؟ قال : لقول رسول الله (ص) السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ـ

٣٤٧

ثم المناسبة بين الحكم : «فاقطعوا» والموضوع : «أيديهما» وعلة القطع : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بعلة السرقة ، كل ذلك تحكم أن مورد القطع هي الأصابع فقط ، فإن بهما السرقة ، ولولاها لا يستطيع السارق أن يسرق شيئا إلّا بأمره ، وليس الأمر بالسرقة محكوما بحكمها.

وهذه الحكم الثلاث تتأيد بمتواتر الروايات عن الرسول الله (ص) والأئمة من عترته عليهم السلام كما وهي تؤيدها ، تجاوبا مربعا تفسّر به آية السرقة وما أجمعه وأجمله!.

فلا تقطع إلّا أصابع ، وهي من اليمنى لأنها هي السارقة في الأكثرية المطلقة (١) ، وقد تنصرف اليد عند إطلاقها إليها ، ويترك الإبهام والراحة فإنهما من مواضع الوضوء ووسائله(٢).

وقد يستثني (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) السارق لعذر فيما يضطر إليه حين يدور الأمر بين الحفاظ على النفس والحفاظ على أموال الآخرين غير المضطرين إليها.

__________________

ـ (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وما كان لله لم يقطع ، قال : فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف ـ الحديث.

(١) الوسائل ١٨ : ٤٩١ عن أمير المؤمنين (ع) أنه كان إذا قطع السارق ترك الإبهام والراحة فقيل له يا أمير المؤمنين تركت عليه يده؟ فقال لهم : فإن تاب فبأي شيء يتوضأ؟ لأن الله يقول : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ـ إلى قوله ـ : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وفي الكافي عن أبي عبد الله (ع) أنه سئل عن التيمم فتلا هذه الآية (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ...) وقال: (فَاغْسِلُوا .. إِلَى الْمَرافِقِ) قال : فأمسح على كفيك من حيث موضع القطع وقال : وما كان ربك نسيا.

(٢) الوسائل ١٨ : ٤٨١ من الرضا (ع) فيما كتب إليه من العلل وعلة قطع اليمين من السارق لأنه يباشر الأشياء غالبا بيمينه وهي أفضل أعضائه وأنفعها له فجعل قطعها نكالا وعبرة للخلق لئلا يبتغوا أخذ الأموال من غير حلها ولأنه أكثر ما يباشر السرقة بيمينه ...

٣٤٨

والقدر المتيقن حسب السنة المتواترة من نصاب المسروق ربع دينار (١) فالخمس مشكوك مهما وردت به أحاديث فهو مردود بالمعارضة ولأن الحدود تدرء بالشبهات.

وبينة السرقة عدلان أنه أخذ النصاب أو ما فوقه من حرز ، وحرز كل شيء بحسبه ، فليس على حدّ سواء ، و «كل مدخل يدخل إليه بغير إذن فسرق منه السارق فلا قطع عليه ، يعني الحمامات والخانات والأرحية والمساجد» (٢).

وتثبت بالإقرار مرتين دون تخويف ولا إجبار ، وإلّا فلا حدّ ولا تهمة.

وترى (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) تختص بقطع الأيدي الجارحة ، أم تعم كافة أيادي السرقة؟ (جَزاءً بِما كَسَبا) قد تشهد للاختصاص ، إذ ليس في سائر القطع نكال! ، أم إن مختلف القطع لأيدي السرقة بمختلف السرقة ، كله جزاء ونكال ، صدا عن هذه الحرية الظالمة ، فلتقطع كافة أيادي الظلم والتطاول بحقوق الآخرين بالوسائل الصالحة المسموحة في شرعة الله.

ولأن حد السرقة في حقل المال لا يثبت إلّا بشاهدين أو الإقرار مرتين ، فإن أقر مرة واحدة يضمن فيما أقر دون حد ، حيث الضمان يكفيه إقرار ، والحد لا يكفيه إلّا شهادة ، أو إقرار مرتين.

ولأن السرقة التي فيها الحد هي ـ فقط ـ المحرمة ، فلا حدّ ولا حرمة ولا ضمان إذا سرق حقه أو بديلا معادلا لحقه المغتصب حين لا سبيل لاسترجاعه إلا بالسرقة ، وإنما هي سرقة قدر معين من أموال الناس من حرزها دون ضرورة فيها ولا حقّ ، فهذه السرقة هي التي فيها الحد (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ).

__________________

(١) كما في الدر المنثور ٣ : ٢٨١ ـ أخرج البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله (ص) قال : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا.

(٢) روضة المتقين ١٠ : ١٧٩ في القوي كالشيخين السكوني قال قال علي (ع) : ...

٣٤٩

فالفقراء الذين لا يؤتون حقوقهم ، أو المهضومون في حقوقهم ، لهم استرجاعها بأية وسيلة ممكنة مسموحة ، قطعا لظلامات الأغنياء.

فجوّ الحرمان الذي يسقّط جماعة عن ضروريات الحياة ويرفع آخرين إلى ترفها في كل طرفها ، ذلك الجو من قضاياه الأتوماتيكية السرقة ، فليست السرقة الملعونة التي فيها الحد جزاء ونكالا من الله إلّا الّتي تحصل ترفا وتطرّفا ، لا الحالة الضرورية الّتي تضطر إلى سرقة ، أم والحاجة المدقعة لسدّ ثغور الفقر الجامح الجانح ، المانح كصورة عادية للسرقة.

ففقر المال إضافة إلى فقر الحال مآله السرقة ، فلا بد من خلق جو الإيمان والاطمئنان ، وإزالة الطبقية الظالمة العارمة حتى لا يخلد بخلد مسلم أن يستلب أموال الآخرين.

فأما بعد الموعظة الكاملة الواصلة إلى الناس ككل ، وبعد وصول كلّ إلى حقه الوافي لضرورة عيشته ، أما بعد هذين فهنا السرقة الملعونة ، اللاحقة لحد الحدّ ، مهما شمل حد السرقة أية سرقة غير مسموحة ، وقد تشمل (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) كل هؤلاء الذين يستلبون حقوق المؤمنين ، بأخذ ربا أو بخس مكيال أو حكرة أم تمنّع عن إنفاق مفروض ، مهما عني من (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) هنا غير ما يعنى في السرقة المرسومة ، فلتقطع أيدي المتطاولين في حقوق الناس بأية وسيلة صالحة ، ليكون الجو الإسلامي جو الحق الطليق حتى يأمن المؤمنون على نواميسهم دونما تطاول.

ذلك وإليكم حكمة بالغة في حرمة السرقة الملعونة عن الإمام الرضا (ع): «حرم الله السرقة لما فيه من فساد الأموال وقتل النفس لو كانت مباحة ، ولما يأتي في التغاصب من القتل والتنازع والتحاسد ، وما يدعو إلى ترك التجارات والصناعات في المكاسب واقتناء الأموال إذا كان الشيء المقتنى لا يكون أحد أحق به من أحد ، وعلة قطع اليمين من السارق لأنه يباشر

٣٥٠

الأشياء بيمينه وهي أفضل أعضاءه وأنفعها له ، فجعل قطعها نكالا وعبرة للخلق لئلا يبتغوا أخذ الأموال من غير حلها ، ولأنه أكثر ما يباشر السرقة بيمينه» (١).

وهل السارق التائب عن سرقته يحدّ كغير التائب؟ قد يقال : نعم قضية السرقة ، فنحن مع حرفية النص ندور معها حيثما دار.

ولكنه لا حيث الجزاء والنكال ليسا إلا ردعا عن الذنب ، والتائب عن الذنب كمن لا ذنب له ، فإنه مرتدع قبل نكال وقبل قبضه (٢) ثم :

(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٩).

__________________

(١) نور الثقلين : ٦٢٧ في عيون الأخبار في باب ما كتب به الرضا (ع) إلى محمد بن سنان في جواب مسائله : ... وفيه عن أبي هلال عن الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال : قلت له أخبرني عن السارق لم تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ولا تقطع يده اليمنى ورجله اليمنى؟ فقال : ما أحسن ما سألت ، إذا قطعت يده اليمنى ورجله اليمنى سقط على جانبه الأيسر ولم يقدر على القيام فإذا قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى اعتدل واستوى قائما ، قلت له : جعلت فداك وكيف يقوم وقد قطعت رجله؟ قال : إن القطع ليس حيث رأيت يقطع ، إنما يقطع الرجل من الكعب ويترك له من قدمه ما يقوم عليه ويصلي ويعبد الله ، قلت : من أين يقطع اليد؟ قال : يقطع الأربع الأصابع وتترك الإبهام يعتمد عليها في الصلاة ويغسل بها وجهه للصلاة ، قلت : فهذا القطع من أوّل من قطع؟ قال : قد كان عثمان بن عفان حسّن ذلك لمعاوية.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٢٨ ـ أخرج عبد الرزاق في المصنف عن ابن جريح عن عمرو بن شعيب قال : أوّل حد أقيم في الإسلام لرجل أتي به رسول الله (ص) فشهدوا عليه فأمر النبي (ص) أن يقطع فلما حف الرجل نظر إلى وجه رسول الله (ص) كأنما سفى فيه الرماد فقالوا يا رسول الله (ص) كأنه اشتد عليك قطع هذا؟ قال : وما يمنعني وأنتم أعون للشيطان على أخيكم ، قالوا فأرسله ، قال فهلا قبل أن تأتوني به إن الإمام إذا أتي بحد لم يسغ له أن يعطله.

٣٥١

نص في غفره ، حيث يعم الغفر عن نكاله في الأخرى إلى الأولى ، بل الأولى هنا أولى بالغفر من الأخرى ، حيث الدور هنا نكال الأولى وجزاءها (١). ذلك ، ولكن الغفر عن حاضر العذاب إنما يشملهم (قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أن يتوبوا من قبل ، فلا حدّ ـ إذا ـ عليهم ، ثم المحدود إذا تاب تاب الله عليه عن عذاب الآخرة.

وأجابه عن سؤال : كيف يسقط الحد هنا بتلك التوبة يندد بالمتسائلين :

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٠).

فإنه (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه حسب المصلحة الربانية التربوية هنا ، والعقوبة في الأخرى (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) كالسارق التائب ، الدافع لما سرق لأهله ، لمكان «أصلح» تلو «تاب بعد ظلمه» حيث التوبة في حق الناس لها واجهتان اثنتان.

توبة إلى الله مما ظلم وهو الاستغفار عما ظلم ، وتوبة إلى المظلوم وهو هنا رد ما سرق منه ، ذلك ، ولا بد أن يفتش عن علل السرقة هل هي التقصير من الشعب والدولة عن كفالة المعوزين؟ فلا حدّ ـ إذا ـ في هذه السرقة! أم إنه يسرق وهو مكفي الحاجة الضرورية من سعيه حسب المقدرة

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٨١ ـ أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمران امرأة سرقت على عهد رسول الله (ص) فقطعت يدها اليمنى فقالت : هل لي من توبة يا رسول الله (ص) قال : نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فأنزل الله في سورة المائدة : «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وفيه أخرج عبد الرزاق عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان قال أتي رسول الله (ص) برجل سرق شملة فقال : ما أخال سرق أسرقت؟ قال : نعم ، قال : اذهبوا به فاقطعوا يده ثم احسموها ثم ائتوني به فأتوه به فقال (ص) : تبت إلى الله؟ فقال؟ إني أتوب إلى الله ، قال : اللهم تب عليه.

٣٥٢

أو من بيت المال ، فهي ـ إذا ـ سرقة غير معذورة ، فإنها تطاول على أموال الآخرين دون حق ، وبطالة عن الحصول على المال الحلال ، وخلق جو اللاأمن بين المسلمين الآمنين ، فأما حين توجد شبهة في سبب السرقة ، فعلها لضرورة أم حق أماهيه فلا حد إذ تدرء الحدود بالشبهات (١).

ثم ولا حدّ على المؤتمن على مال إذا خان فيه ، ولا المأذون بدخول مكان إذا أخذ منه مالا غير محرز ، ولا على الثمار في الحقل حتى يؤويها الجرين ، ولا على المال خارج الحرز أيا كان ولا ما أشبه مما لم تتوفر فيه شروط الحد سارقا ومسروقا وظرفا للسرقة.

فأين ـ إذا ـ الهمجية في سنّ حد السرقة وما سواها من جرائم ، وهو حدّ من شيوع اللاأمن بالنسبة للأعراض والنفوس والأموال ، فحين تقطع يد واحدة سارقة متعمدة مقصرة ، أفهذا أقسى للجماعة المسلمة أم تحرير الأيادي السارقة تستمر في السرقة ، ولا يعالجها السجن ، فإن عقوبة السجن إضافة إلى أنها لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة إلّا مدة السجن ، قد يتعقد نفسيا أكثر فيعقد على سرقة أكثر أم ويتعلم من سائر السجناء فنونا أخرى في السرقة ، ونفس بقاءه في السجن تعطيل له عن السعي وراء المعيشة ، وعبء على بيت مال المسلمين.

ذلك ، ووصمة الحد تصد السارق عن تكرار السرقة ، كما وهي نبهة لمن يهون في سرقة ، ثم اليد المقطوعة علم بارز للغافلين ، وعلم للذين يعيشون مع السارق لكي يأخذوا حذرهم عنه كيلا تتكرر الجريمة.

ولا ينقضي العجاب من هؤلاء المتفرنجين المعترضين على حد السرقة

__________________

(١) لذلك لم يقطع عمر في عام الرمادة حينما عمت المجاعة ، ولم يقطع كذلك في حادثة خاصة عند ما سرق غلمان ابن حاطب ابن أبي بلتعة ناقة من رجل من مزينة فقد أمر بقطعهم ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم درأ عنهم الحد وغرم سيدهم ضعف؟ الناقة تأديبا له.

٣٥٣

وغيرها من جريمة ، أنه لا يتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية المتحضرة ، ويكأن هذه المدنية لا ترجح صالح الطمأنينة الجماعية على تلكم العقوبات الرادعة الشخصية! فهي كأم هي أرحم من الضئر للولد ، وما دامت عقوبة الحد كشوط أخير في الرّدع عن الجرائم ـ ملائمة مصلحة للفرد وصالحة للجماعة فهي ـ إذا ـ أفضل العقوبات وأعدلها.

ذلك ، وبالنظر إلى أن الحد ليس إلّا بعد البيان والبينة ، وفي غير الملابسات العاذرة ، ضرورة أماهيه مما تعذر المجرم أم تخفف جريمته ، فلا علاج لمشكلة الجرائم العامدة العاندة إلّا الحدود المرسومة في شرعة الله ، وفي كلمة واحدة : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

أجل وإن العقوبة نكال من الله حيث تردع عن ارتكاب الجريمة من ارتكبها فارتبك بها ، أو من تحدث نفسه بها ، ونوال للجماعة المؤمنة حيث توفر لها الطمأنينة ، ولم تطبق هذه العقوبات بداية الإسلام إلا زهاء قرن من الزمان إلا وقد طهرت المجتمع عن أوزارها وأوضارها.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ

٣٥٤

فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ

٣٥٥

وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤٧)

لقد كان الرسول (ص) بطبيعة الرسالة القدسية يحزنه الذين يسارعون في الكفر ، مسارعة ضد دعوته الإيمانية ، وكل داعية يتحسر حين يرى المدعوين يسارعون ضده ، فهنا الله تعالى يسلي خاطر الرسول (ص) أن (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) لأنه ما قصر في دعوته وهم (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) (٣ : ١٧٦).

أفحزنا عليهم ـ بعد ـ على تقصيرك في الدعوة؟ وما قصّرت! أم على أن يضروا الله شيئا؟ ولن يضروا الله شيئا؟ أم أن يمكروا بك إبطالا لرسالتك ودعوتك (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٦ : ١٢٣) فإنما

٣٥٦

يحزن على مسارعة الكفر من واحدة من هذه وما أشبه ، فلا دافع ـ إذا ـ لحزنك يا حامل الدعوة متصبرا على كل أذى وكل لظى في هذه السبيل الشائكة المليئة بالأشلاء والدماء ، فإن الله ناصرك ومولاك ، نعم المولى ونعم النصير ، ومن أخطر المسارعين في الكفر هم المنافقون (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) حيث يفسدون داخل الصفّ الإسلامي ، ولكن أية محاولة ماكرة منهم ، ناكرة للحق ، تواجه بصدّ سديد من الله ومن أهل الله ، فلا يؤثر مكرهم إلّا فيمن هم كأمثالهم ، وأما المؤمنون الصامدون فهم لا يزدادون في هذه العرقلات إلّا إيمانا وعلى ربهم يتوكلون.

وكيف (قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) وليس القول إلّا بالأفواه؟.

ذلك لأن طبيعة الحال في القول إخباره عن القلب ، وأن القول يعم قول الأفواه إلى قول القلوب والأعمال ، فهم (قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) دون قلوبهم ، قولة فاضية عن واقعها (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) بما قالوا بأفواههم.

ذلك (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) وعلها عطف على (الَّذِينَ قالُوا ...) بحذف «هم» مبتدء ل «سماعون» تبريرا لرفعها ، ولكنها ـ إذا ـ «ومن الذين هادوا هم سماعون ...» فقد استقلت عما قبلها فلا عطف ، فالأرجح أن واوها للاستئناف ، أن المنافقين الأوّلين يسارعون في الكفر ، وهؤلاء الكفار متوغلون في الكفر إذ لا يؤمنون بما آمنوا به من شرعة التورات ، أم (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) عطف يعني ومنهم منافقون كمن سواهم ، ثم وصف المنافقون ككل ب «سماعون ...» صفة ل (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) وعلّه أصلح الوجوه كما هو أصح في أدب اللفظ والمعنى حيث الذين حزّنوه هم هذان الفريقان من المنافقين بثالوث المواصفات «سماعون ... يحرفون ... يقولون» وذلك الثالوث هو من أنحس النفاق وأتعسه.

فهؤلاء الحماقى الأنكاد اختصوا أسماعهم بسماع الكذب والسماع

٣٥٧

للكذب فإن «للكذب» يعمهما : كذبا مسموعا وكذبا مقولا لهم وكذبا في تكذيبهم للرسول (ص) حيث يلائم وطبيعتهم الشريرة المتخلفة عن جادة الصواب ، وهم (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) حيث ينقلون لهم عنك أكاذيب ليشوّهوا بذلك سمعتك الرسالية ، ويصدون عنك السالكين إليك. إذا فهم سماعون لكذب الكاذبين ليكذبوا الرسول ، وسماعون لصدق الرسول ليكذبوه فليس غايتهم في كونهم سماعين لأي كذب أو صدق إلّا الكذب ، أن يكذبوك فيما ينقلون ، كما وهم «سماعون» ما يسمعون (لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) فإنهم لهم عيون وجواسيس ، فالقوم الذين أتوك ليسوا ليصدقوهم في أكاذيبهم التي ينسبونها إليك ، فإنهم غيّب وهم كأمثالهم في الكفر يتلقون أقوالهم عنك بكل قبول وإقبال ، تجاوبا للجمعين في تكذيب وتشويه سمعتك.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) تحريفا لكلم الله بعد ما أخذت مواضعها من ألفاظها ومعانيها ، وتحريفا لكلامك عما تعنيه لفظيا أو معنويا كما هو دأبهم الدائب.

(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) حيث هم يتطلبون أن ينحو الرسول (ص) منحاهم فيما يتحاكمون إليه فينافقون في أمرهم : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) الذي تهوون (فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) حكمه ، فهم يخالفون التوراة الحاكمة ضد ما هم يهوون ، ويخالفون الرسول (ص) حيث يتحاكمون إليه إن خالفهم فيما يهوون ، فهؤلاء من المنافقين بين الذين هادوا ، وقد وردت في الآثار شأن نزول هذه الآيات بمختلف التعبير(١).

__________________

(١) فقد روي أنها نزلت في قوم من اليهود ارتكبوا جرائم ـ زنا أو سرقة اماهيه ـ ثم ارتبكوا في اجراء الحكم حيث كان المجرم من الشرفاء وهم لا يسوون بينهم وبين سواهم فتآمروا على رسول الله (ص) أن يستفتوه فيها فإن أفتى لهم بالعقوبات التغرية المخففة ـ خلافا على التورات والقرآن ـ عملوا بها كأنها حجة لهم عند الله حيث افتى بها رسول من الله وإن حكم ـ

٣٥٨

(وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) حيث لا ينصره في تلك الهزاهز التي اختلقها عامدا عاندا (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) وأما من يريد نجاته حيث ينصره في المهالك إذ يدق أبواب الهدى ، فقد تملك له من الله شيئا من التماس المغفرة والشفاعة.

«أولئك» السماعون للكذب المحرفون الكلم من بعد مواضعه المنافقون مع الرسول هم (الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) (١) وكفاهم ذلا وضلا أن يكلهم الله إلى أنفسهم ، تتوارد على قلوبهم الأهواء من أنفسهم ومن شياطين آخرين ، ف (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) القلوب المقلوبة المفصولة عن هدى الله ، المغلوبة بطوع الأهواء (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أعظم من الدنيا وأعزم إذ ليست الدنيا دار جزاء.

ومن غريب الوفق توافق الدنيا والآخرة بمختلف صيغهما في القرآن مما يدل على التوازن بينهما فهما جناحان اثنان لا بد للطائر إلى مقامات القدس أن يطير بهما ، والعدد الوفق بينهما (١١٥) مرة!.

ذلك وهكذا يكون دور الذين يدّعون الإسلام ثم يحاولون تبديل حكم إلى آخر تنقّبا له بنقاب الفتوى ، مفتشين عمن يفتي لهم وإن لم يرضوه مفتيا في سائر الأحكام ، فهؤلاء اليهود المكذبون بالرسول هنا يظهرون أنفسهم

__________________

ـ فيها بالحق وهو التسوية بين الشريف والدني لم يأخذوا بحكمه (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).

(١) في تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : إن الله إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده وإذا أراد الله بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله ثم تلا هذه الآية (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ...) وقال : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) وقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).

٣٥٩

مظهر القبول بما يفتي لهم وهم بعد ناكرون لرسالته ، وذلك نفاق مزدوج عارم ، نفاقا في تهودهم إذ لا يرضون التوراة لهم حكما فيما لا يهوون ، ونفاقا في استفتاءهم الرسول (ص) كأنهم من أمته رافضين التوراة إلى شرعة القرآن.

وهنا ندرس أن «ليس كل من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقا بالنجاة مما هلك به الغواة ، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتوحيد وإقرارها بالله ونجا سائر المقرين بالوحدانية من إبليس فمن دونه في الكفر وقد بين الله ذلك بقوله : (الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) فالإيمان بالقلب هو التسليم للرب ومن سلم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره (١).

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٢).

هؤلاء المنافقون من اليهود وسواهم هم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) سمع الكذب وسمعا للكذب تنقلا ونقلا وتطبيقا (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وهو لغويا القشر المستأصل ، والسحت أيا كان مستأصل للآخذ والمأخوذ منه ولا سيما سحت الرشا حيث يستأصل إيمان المرتشي وحق أهل الحق كما ويستأصل الأمن عن الحياة الإنسانية الأمينة ، وذلك الاستئصال دركات حسب دركات الباطل فيه ومن أنحسها الرشا والربا.

فالسحت هو الحرام رشا وسواها بديلا عن تحريف الكلم من بعد مواضعه (فَإِنْ جاؤُكَ) بتلك الحالة المنافقة فأنت بالخيار إيجابا في الحكم بينهم وسلبا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٣٢ في كتاب الإحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين (ع) حديث طويل يقول فيه.

٣٦٠