الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

وترى «الميتة» طليقة تشمل كل ميتة من حيوان مهما استثني عنها حيوان الماء الميت خارجه أمّن حيوان البر كالجراد المأكول؟.

وذكر الميتة هنا في حقل الأنعام قد يختصها بها فلا إطلاق! ولكن «الميتة» هي في نفسها طليقة لا يقيدها ما سبقها من الأنعام ، وقد ذكرت في البقرة بعد (طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) وكما ذكرت في النحل بعد (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) مهما كانت هنا وفي الأنعام في حقل الأنعام ، واللّام في «الميتة» ظاهرة في عهد الذكر حيث ذكرت في آيات قبل المائدة ، دون خصوص عهد الأنعام.

فإنما العبرة على أيّة حال بطليق اللفظ دون المورد سابقا أو لاحقا ، ثم الإطلاق مؤيّد بالسنة (١) وعلّ ظاهر طليق التحريم الموجّه إلى الميتة ذاتها هو حرمة كافة الانتفاعات منها مهما كان الأكل أبرزها وأحرزها ، ولكنه لا يمانع طليق الحرمة في طليق الانتفاعات اللهم إلّا ما يخرجه الدليل كلمحة (لَحْمُ الْخِنْزِيرِ) إلى خصوص الأكل ، والآيات الطليقة في حل كافة الانتفاعات مما في الأرض ، وكذلك الروايات (٢) ثم وحرمة الميتة لا تحرّم إلا ما تحل فيه الحياة الحيوانية كاللحم والعظم (١) ، دون الشعر فإن حياته نباتية ،

__________________

(١) كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال سألته عن آنية أهل الذمة؟ فقال : «لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير» (الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٢ ح ٦).

وصحيحة حريز عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء وأشرب فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا توضأ ولا تشرب» (الكافي ٣ : ٤ رقم ٣).

ورواية جابر عن أبي جعفر عليهما السلام ، قال أتاه رجل فقال له : وقعت فارة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر عليهما السلام : لا تأكله ، فقال له الرجل : الفارة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها؟ قال فقال أبو جعفر عليهما السلام : «إنك لم تستخف بالفارة إنما استخففت بدينك إن الله حرم الميتة من كل شيء» (الإستبصار ١ : ٢٤ رقم ٦).

(٢) ومما يدل على الجواز حسنة الحلبي أو صحيحته حيث أجاز الإمام في بيع اللحم المختلف ذكيّة بميّتة ممن يستحل الميتة(الوسائل ج ١٢ ص ٦٧ و ٦٨ ح ١ و ٢).

٤١

__________________

ـ أقول : والكلام في الميتة هو الكلام في كل الأعيان النجسة ، والروايات متعارضة فيها فيرجع إلى إطلاقات مثل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) خرجت الانتفاعات المحرمة وبقيت الباقية في ظل الحل الطليق.

وفي رواية السكوني «ثمن الميتة من السحت» وتقابلها لو عنت ثمن الميتة في كل الانتفاعات رواية الصيقل قال : كتبوا إلى الرجل جعلنا الله فداك إنّا نعمل السيوف وليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها ونحن مضطرون إليها وإنما غلافها من جلود الميتة والبغال والحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها فيحل لنا عملها وشرائها وبيعها ومسها بأيدينا وثيابنا ونحن نصلي في ثيابنا ونحن محتاجون إلى جوابك في المسألة يا سيدنا لضرورتنا إليها فكتب : اجعلوا ثوبا للصلاة.

ورواية تحف العقول إنما حرّم بيع الميتة وغيرها من النجاسات لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه فجميع تقلبه في ذلك حرام.

وفي مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي صاحب الرضا (ع) في الصحيح قال سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي احياء أيصلح أن ينتفع بها؟ قال : نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها.

ومما استدل به على حرمة كافة التصرفات في الميتة ، ما في الفقه الرضوي عن الرضا (ع) قال : أعلم يرحمك الله تعالى أن كل مأمور به على العباد وقوام لهم في أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره مما يأكلون ويشربون ويلبسون ويملكون ويستعملون فهذا كله حلال بيعه وشراءه وهبته وعاريته وكل أمر يكون فيه الفساد مما قد نهي عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وإمساكه لوجه الفساد مثل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك فحرام ضار للجسم وفساد للنفس.

(مستدرك الرسائل ب ٣ من أبواب ما يكتسب به ح ١ فقه الرضا ص ٣٣).

(١) هنا مما يحير العقول أن فقهاءنا احتسبوا العظم مما لا تحله الحياة كما في العروة الوثقى للسيد اليزدي رحمه الله ص ٣٠ ـ الرابع الميتة من كل ماله دم سائل حلالا أو حراما وكذا أجزاءها المبانة منها وإن كانت صغارا عدا ما لا تحله الحياة منها كالصوف والشعر والوبر والعظم والقرن والمنقار والظفر والمخلب والريش والظلف والسن.

ذلك وفي أحاديثنا استثناء كل نابت وإن كان في بعض عدّ العظم مما لا تحله الحياة ، والمقصود من النابت ما ليست فيه روح حيوانية وإلا فاللحم من أنبت النابت.

ذلك فالأقوى أن العظم والسن من الميتة نجس ، وقد استثنى من الميتة في نجاستها ما ليس له دم ، وفي الدم ما ليس سائلا أو المتخلف.

٤٢

ونجاستها خاصة بماله دم والمشكوك محكوم بالطهارة.

وقد تلمح حرمة لحم الخنزير إلى حلّ سائر الانتفاعات من الميتات ، فإنها أدنى منه محظورا ، أو أنه يفسر تحريم الميتات بتحريم أكلها ، ومما يؤيده أن مصبّ الحكم تحليلا وتحريما هو الأكل فإنه أبرز الانتفاعات المتوقّعة من الأنعام وغيرها من ذوات اللحم ، إذا فلا إطلاق في تحريم الانتفاعات ، ومتعارض الروايات معروضة على الآية.

وهذا يختلف عن مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) حيث المحور في الحلّ والحرمة بين قبيلي الرجال والنساء هي المرغوبات الأنثوية منهن للرجال ، وهي تعم كافة الصلات الأنثوية بهن ، وأبرزها الاستيلاد مهما كان بنكاح أو زرق نطفة.

وعلّ في ذكر الموضوعات هنا دون خصوص الأكل لمحة لحرمة بيعها وشراءها وكلما ينحو منحى الأكل ثم لا محظور فيما لا رباط له بالأكل.

والحاصل أن في ذكر لحم الخنزير ـ دون نفسه ـ دليل على أن مصب التحريم هو الأكل ، أم كل محاولة فيه تنحو منحى الأكل ، فكذلك ـ وبأحرى ـ سائر المحرمات في الآية فإنها كلّها أهون من الخنزير بكثير ، فكافة المحاولات الناحية منحى الأكل فيها محرمة.

وحين يظهر من الآية ـ فقط ـ حرمة التصرفات في حقل الأكل ، فسائر التصرفات ـ إذا ـ غير محرمة ، وعلى ذلك تعرض الروايات المتعارضة تحليلا وتحريما لسائر التصرفات.

والقول إن عدم تحريم سائر التصرفات في الميتة وسواها لا يعارض تحريمها في السنة؟ مردود بأنه نسخ لاختصاص التحريم بحقل الأكل ، المستفاد من هذه الآية وأضرابها ، فكل توسعة أو تضييق في نطاق الآيات نسخ حين يكون فاصل وقت العمل وواقعه حاصلا ، فلا تصح توسعة نطاق

٤٣

التحريم في أمثال هذه الموارد إلى سائر التصرفات بالروايات. تأمل.

وهل «الميتة» ـ هي فقط ـ ما ماتت بعد حياة ، أم والتي لم تحل فيه الحياة سواء المستعدة لحلول الحياة وسواها؟ (كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) تؤيد المستعدة للحياة وأن لم تحل فيها الحياة بعد ، حيث «الميتة» أعم مما حلت فيه الحياة أو لمّا تحل ، وهي تختلف عن «ماتت» الدالة على حلول الحياة قبل ، وأما غير المستعدة للحياة فلا تسمى ميتة ، و «الميتة» لغويا هي مخففة عن «الميّتة» وهي مصاحبة الموت ، وعل تاء التأنيث فيها اعتبارا بالأنعام أم وكافة الميتات اعتبارا بطليق «الميتة» الشامل لغير الأنعام ، فهي الحيوان الميتة.

والموت الذي يسبب التحريم هو الذي موضعه محلّل ذاتيا كبهيمة الأنعام وكافة ذوات اللحوم المحللة ، وأما المحرمة فليس موتها سببا لأصل التحريم ، بل هو سبب لتضاعفه ، إذا فكافة الميتات الحيوانية محرمة ، حلّها بالنص ومحرمها بالأولوية القطعية ، أو شمول الميتة لها.

فرع : إذا شك في جلد وسواه أنه من الميتة أم لا ، فإن كان في يد مسلم حكم له بالتذكية إلّا إذا تأكد أنه أخذه دون تحرّ عن كافر ، فإذا احتمل كونه من المزكّاة حكم بطهارته لأصالة الطهارة ، وعدم زكاته لأصالة عدم التذكية ، والقول إن الأصل عدم كونه ميتة حيث حرمت الميتة فلا بد من إحرازها ، مردود ب «إلا ما ذكيتم» حيث تفرض إحراز التذكية. والتحريم في هذه الإحدى عشر لا يعني ـ فيما يعنيه ـ النجاسة ، اللهم إلّا في لحم الخنزير (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) ذلك لأن النجس لا يحرم ملاقاته فإنما يحرم أكله ولكن حرمة الأكل أعم من نجاسة المأكول وعدمها.

ذلك وإن الجاهلية كانت تحلل الميتة مع تحريمها بعض الذبيحة قائلة : إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ وقتيل الله محرم لا لأنه قتيل الله ، بل لما فيه من الضرر والفساد الذي ماتت بسببه ، مع أن قتيل الإنسان أيضا قتيل الله إذ (ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

٤٤

ومن الحكم الحكيمة في تحريم الميتة ـ إضافة إلى سنادها إلى مرض لا تصلح معه حياة ـ أن الدم تحبس في عروقها وتتعفن وتفسد ، وهذه مضرة ثانية ، وقد أثبت علم الصحة بعض ما في الميتة والدم من الأضرار ، إذا فلا تبذير في حرمة أكلها بل الأكل هو التبذير تبذيرا للحالة الصحية وتعريضا لمختلف الأمراض بالجراثيم الكامنة في الميتة.

فروع حول الميتة :

١ المأخوذ من يد المسلم أو سوق المسلمين محكوم بالتذكية إلا إذا علم سبق يد الكافر ولم يحتمل تحري المسلم عن ذكاته.

٢ المأخوذ من يد الكافر أو سوقه محكوم بالحرمة إلا إذا علم سبق يد المسلم غير المسبوق بيد الكافر ، وأما النجاسة فلا لقاعدة الطهارة ، ولا تعارضها أصالة عدم التذكية إلا بناء على صحة الأصل المثبت ، والتلازم بين الموت والنجاسة تلازم واقعي ، وأما في الحكم الظاهري فلا ، إذا فهو محكوم بالحرمة والطهارة.

٣ الحيوان الميت قبل ولوج الروح فيه مشمول ل «الميتة» لأنها طليقة تعم إلى الميتة عن الحياة الميتة قبل الحياة.

٤ ما لا تحله الحياة الحيوانية حلال وطاهر ، ومما تحله الحياة العظم ، والروايات المتعارضة في العظم معروضة على الآية المختصة للموت بما هو عن الحياة الحيوانية لا والنباتية.

٥ الأجزاء المبانة من الحي مما تحله الحياة هي كالمبانة من الميت ، لأنها ميتة ، اللهم إلا الجلود المبانة بطبيعة الحال ، أم عند الدلك ، لأنها مما تعم بها البلوى ولا نجد في رواياتنا الحكم عليها بحكم الميتة.

٦ فأرة المسك طاهرة على الأقوى لمكان سابق استعمالها عند المعصومين عليهم السلام وسائر المؤمنين دون تجنب.

٤٥

٧ تجوز كافة الانتفاعات من الميتة وسائر الأعيان النجسة ، مقصودة طاهرة وسواها ، حيث الآيات الأربع إنما حرمت ـ فقط ـ أكلها.

٢ «والدم» لو خلي وطبعه تشمل كل دم على الإطلاق وإن لم يكن من حيوان فضلا عن حيوان البحر ، ولكنها مقيدة في الأنعام بصورة حاصرة بالدم المسفوح : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ..) (١٤٥) إلّا أن يقال إن حرمة الدم بصورة طليقة تشمل كلما لا يؤكل لحمه إلى ما يؤكل ـ وبأحرى ـ مسفوحا وغير مسفوح ، أو الدم الذي ليس له مسفوح كالسماك المحرمة وما أشبه.

والقول إن طليق الدم هنا في نطاق الحرمة ينسخ مقيّده في الأنعام حيث المائدة هي آخر ما نزلت ، مردود بأن الأنعام مكية وقد حصرت حرمة الدم بالمسفوح منه ، ثم «الدم» في مكية أخرى وهي النحل (١١٥) (١) وبأحرى في مدنيتي : البقرة (١٧٣) والمائدة ، لا تنحو إلّا نحو ما حرم منه في الأنعام السابقة ، فاللّام فيها بعد الأنعام هي لعهد الذكر دون ريب.

فالتنكّر في المحرمات في «الأنعام» وتعريفها في «المائدة» وسواها مما يبرهن على ذلك العهد ، إذ اللّام هي بطبيعة الحال تقصد معنى زائدا على الجنس المستفاد من المنكر ، فلو كان المحرّم هو ـ فقط ـ جنس المذكورات في الأنعام دون قيد لذكرت في الثلاثة الأخرى دون اللّام ، مع أن المنكر يفيد الجنس أكثر من المعرّف ، فلتكن اللّام في هذه الثلاثة لعهد الذكر وهو المذكور في الأنعام ، فلا إطلاق ـ إذا ـ ل (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) فالقصد من «الدم» هو المسفوح لا سواه.

ومع التنزل بعناية الجنس من اللّام فالاحتمال الراجح ، أو الوارد ـ لأقل

__________________

(١) في احتمالي نزول النحل قبل الأنعام أو بعد لا يختلف الحكم في قيد المسفوح ، فإن كانت قبل قيدته الأنعام وإن كانت بعد فلامها لعهد الذكر كسائر الدم المذكور في القرآن.

٤٦

تقدير ـ لهذه العناية ، يسقط «الدم» عن إطلاقها ، ولا بد للناسخ من نص أو ظهور ، حيث المهمل يبيّن ولا يبيّن إلّا مهمل الضابطة المترصّد تبيانه وقد بينت ب (دَماً مَسْفُوحاً).

وأخيرا قضية المعني في «حرمت» هي ماضي الحرمة وليست هنا إلا (دَماً مَسْفُوحاً) إضافة إلى تأكد الإنشاء بلسان الإخبار ، وأمضى المضيّ في التحريم هو أقله في أولى آيات التحريم وهي آية الأنعام.

وكل ذلك يتأيد بأن (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) تأمرنا بالوفاء بكل العقود في مثلث الزمان ، ومن ماضيها العقد المعني من (دَماً مَسْفُوحاً) ولزامه الوفاء بالقيد ، اللهم إلّا إذا لحقه نص ينسخه فهو يحل سابق العقد ، تأمل.

إذا فلا إطلاق في «الدم» المحرم حتى يتمسك به نسخا بالمائدة ، فقد انحصر محرم الدم في المسفوح منه ، فالحيوان الذي ليس له دم مسفوح بريا فضلا عن البحري لا يحرم دمه لكونه دما ، إلّا أن يحرم من ناحية أخرى.

والدم المتخلّف في الذبيحة حلّ فهو ـ إذا ـ طاهر حيث النجس لا يحل أكله ، وكذلك ـ بأحرى ـ دم البيضة والدماء الطالعة من شجرة وما أشبه حيث لا تسفح دماءها ، ثم المحرمات المذكورة ليست إلّا في حقل الحيوان.

فالدم غير المسفوح حلّ وهو ـ بأحرى ـ طاهر ، حتى ولو كانت نصوص أو عمومات من الروايات تدل ـ وليست لتدل ـ على عامة التحريم ، حيث المعيار هو نص التحريم المقيد حصرا في آية الأنعام.

ولا فرق بين التخلف في الأجزاء المحللة من الحيوان أو المحرمة حيث المعيار في الحرمة والنجاسة كونه مسفوحا ، ثم المتخلف لا يحل ويطهر إلّا في المأكول لحمه فإن قيد المسفوح وارد في حقل الأنعام ، ثم الروايات العامة والطليقة في نجاسة الدم تشمل دماء الحيوانات ككل (١).

__________________

(١) في الدر المنثور ٣ : ٢٥٦ ـ أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي ـ

٤٧

وإذا شك في دم أنه مسفوح أو غير مسفوح فالأصل هو الحل والطهارة حيث المسفوح هو الثابت حرمته ولا إطلاق حتى يستند إليه فيقال إنما الحلال هو غير المسفوح (١) وتفاصيل أحكام الدم راجعة إلى آية الأنعام فراجعها.

فروع حول الدم :

١ الجنين الخارج من بطن أمه ميتا هو طاهر الدم وحلّه كما هو طاهر اللحم وحلّه إذ ليس له دم مسفوح حيث لا يذبح فإنما ذكاته ذكاه أمه.

٢ الصيد الذي ذكاته بآلة الصيد وإن كانت من الجوارح ، لا يحرم وينجس دمه المتخلف كسائر الذبائح سواء.

٣ ملاقاة الدم في الباطن لا تنجس الملاقي لأنه ليس من المسفوح ، ثم لم تثبت نجاسة الدم وما أشبهه قبل الخروج.

٤ الدم غير المسفوح حلّ وطاهر والقول بأنه محرم لكونه من الخبائث خلاف نص الآية المحلّلة إياه ، فلو كان من الخبائث المحرمة لم يختص التحريم بالمسفوح منه (٢).

__________________

ـ أمامة قال : بعثني رسول الله (ص) إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شعائر الإسلام فأتيتهم فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة دم واجتمعوا عليها يأكلونها قالوا : هلم يا فكل ، قلت : ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم عليكم هذا وأنزل الله عليه ، قالوا : وما ذاك؟ قال : فتلوت عليهم هذه الآية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ...).

(١) ومما يحير العقول ما في العروة الوثقى للسيد الطباطبائي اليزدي ص ٢٢ المسألة (٣) : المتخلف في الذبيحة وإن كان طاهرا لكنه حرام إلا ما كان في اللحم مما يعد جزء منه.

(٢) وسائل الشيعة ١٦ : ٣٧٩ ـ أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في الإحتجاج عن أبي عبد الله (ع) أن زنديقا قال له : لم حرم الله الدم المسفوح؟ قال : لأنه يورث القساوة ويسلب الفؤاد الرحمة ويعفن البدن ويغير اللون وأكثر ما يصيب الإنسان الجذام يكون من أكل الدم ، قال : فالغدد؟ قال : يورث الجذام ، قال : فالميتة لم حرمها؟ قال : فرقا بينها وبين ما ذكر اسم الله عليه والميتة قد جمد فيها الدم وترجع إلى بدنها فلحمها ثقيل غير مريء لأنها يؤكل لحمها بدمها ...

٤٨

وقد يروى عن النبي (ص) أنه قال : «أحلت لي ميتتان ودمان» (١) فالمقصود من «ميتتان» الجنين الميت بذبح أمه ، والسمك الميت خارج الماء ، وأما الدمان فهما الدم غير المسفوح المتخلف في الذبيحة ، والدم الذي ليس في موقف السفح كدماء غير الحيوان أو الحيوان الحل الذي لا يسفح دمه كالسمك.

ف «الدم» مهما كان طليقا في حقل سائر الحيوان ولكنها الدم المسفوح من بهيمة الأنعام ففي ذلك الحقل الدم المسفوح هو المحرم وفي سائر الحقل كل دم من كل حيوان محرّم إلا ما أحل كالسمك والروبيان وما أشبه مما ليس له دم مسفوح.

فمثلث الدم ، من بهيمة الأنعام ومن سائر الحيوان ومن سائر الدم مهما كان يشمله «الدم» في الآيات الثلاث ، ولكن الدم من غير الحيوان خارج عن الإطلاق حيث الآيات تتحدث في حقل الحيوان ، والدم في بهيمة الأنعام مقيد بآية الأنعام بالمسفوح ، والدم في سائر الحيوان حرام كنفس الحيوان مهما شمله إطلاق الدم نسبيا هنا أم لم يشمله.

٣ (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)

هنا قد تلمح (لَحْمُ الْخِنْزِيرِ) دون طليق «الخنزير» أن مصب الحرمة في هذه المذكورات هو الأكل ، وأما سائر الانتفاعات التي تنحو نحو الأكل فلا تحرم ، وهي لمحة لامعة قد تجعل طليق (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) وما أشبه ، مقيدة بأكلها ، مهما حرم بيعها وشراءها ـ أيضا ـ لأكلها ، لسقوط القيمة من هذه الجهة.

__________________

ـ أقول وفي الوسائل ٤٥٢ باب تحريم استعمال جلد الميتة وغيره مما تحله الحياة ، أحاديث متعارضة في الجواز وعدمه وقد يحمل عدمه على البيع دون إعلام وما أشبه والأصل هو الآية.

(١) آيات الأحكام للجصاص ٣ : ٣٧١.

٤٩

وقد ذكرت حرمة لحم الخنزير في البقرة (١٧٣) والنحل (١١٥) ويختص في الأنعام ب (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (١٤٥) مما يشدد تحريمه.

ولمحة أخرى في (لَحْمُ الْخِنْزِيرِ) التدليل على ذاتية حرمة لحم الخنزير وإن ذبح على الوجه الشرعي ، وأن حرمة سائر المذكورات من ذوات اللحوم عرضية لموت أو إهلال لغير الله به أو استقسام بالأزلام أو ذبح على النصب ، فلا تدل (لَحْمُ الْخِنْزِيرِ) على حلية أو طهارة سائر أجزاءه ، لا سيما وأن الكلام ليس حول النجاسة ، بل المحور الأصيل هو الأكل.

ذلك ، ثم الدليل على نجاسة الخنزير بكل أجزاءه (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) في آية الأنعام لرجوع الضمير إلى الخنزير ، وحتى إذا رجع إلى لحمه فلا ريب في عدم الفرق بين لحمه وسائر أجزاءه لمكان الرجاسة الذاتية لها ، ولكن «الرجس» لا تعني فيما عنت النجاسة العينية ، بل هي نجاسة الأكل هنا أكثر من غيره أم وسائر القذارات عملية أم خلقية أماهيه.

وليس تحريم لحم الخنزير ـ فقط ـ للجراثيم الخليطة به حتى إذا نظفوها عنه حلّ ، إنما لأنه لحم الخنزير مهما جهلنا بالغة الحكمة فيه ، ومنها تأثيره السيّء على الأرواح ـ انعكاسا لخلق الخنزير ـ من الدياثة وزوال الغيرة.

وإضافة إلى أن لحم الخنزير أضرّ أكل على الطعام والشهوات وأشرهه ، إنه يورث نفس الخلق اللئيمة التي هو عليها ، ثم الثابت في علم الصحة أن الدودة الوحيدة (ترشين) لا تكون إلا من أكل لحم الخنزير.

ولقد نرى انعكاس الدياثة على هؤلاء الغربيين المستحلين للحم الخنزير رغم أن الكتابات التي يقدسونها وحيا تحرمه كما تحرم الميتة والدم (١).

__________________

(١) في سفر اللاويين من التورات الإصحاح الحادي عشر : ٧ ـ والخنزير .. «فهو نجس لكم ٨ من لحمها لا تأكلوا وجثتها لا تلمسوا إنهما نجسة لكم».

ومثلها في سفر التثنية ١٤ : ٨ ، وفي شعياء ٦٥ : ٤ ، وفي إنجيل لوقا ١٥ : ٥ أن تربية الخنزير ـ

٥٠

٤ (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)

ذلك ومثلها في آية الأنعام والنحل ، ثم في البقرة (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) وهو ما ذكر عليه عند ذبحه غير اسم الله ، والإهلال في الأصل هو رفع الصوت استهلالا لما يرام من بادئة خير ، يقال : أهل بالحج إذا لبى به ، واستهل الصبي إذا صرخ عند ولاده.

وقد كانوا يرفعون أصواتهم عند الذّبح باسم اللّات والعزى فحرمه الله وحرم الذبيحة المستهلة به ، فإنّ ذكر اسم الله هو أهم الشروط الأصيلة في الذّبح (١) ولا يختص اسم غير الله بأسماء الأصنام والأوثان والطواغيت ، بل وأسماء الرسل وسائر الصالحين فإنها تشملها «اسم غير الله».

وليس ذكر اسم غير الله ـ فقط ـ هو المحرّم والمحرّم للذبيحة ، بل المفروض ذكر اسم الله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ...) (٦ : ١٢١) وقد تشمل (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) ما ينوى ذبحه لغير الله مهما لم يهل باسمه حيث الإهلال هو البداية في أمر سواء افتتح بذكر شيء أم لم يفتتح كما الاستهلال لا يضمن كلاما ، وقد يعني (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) صوّت ، وهو أوّل صوت للموت ، فحين يصوت الذبيحة لغير الله فقد أهل لغير الله له ، وذلك بالنسبة للمشركين ، وأما المسلمين فلهم (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ... وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) فالتحريم الأغلظ موجّه إلى ما أهل به لغير الله ، ثم ما لم يذكر اسم الله عليه ولكلّ أهله.

__________________

ـ والحفاظ عليه شغل العصاة المتخلفين ، وفي الشعياء ٦٥ : ٤ و ٦٦ : ٧ ـ إن أكل لحم الخنزير كان من شريرة الأفعال اليهودية ، والبطرس الحواري في ٣ : ٢٢ من إنجيله يمثل طبيعة الخنزير الشريرة في رجعه بطبيعة العصاة أنهم كمثله يرتجعون إلى أفعالهم القبيحة ويلتذون بها.

(١) نور الثقلين ١ : ٥٨٥ فيمن لا يحضره الفقيه روى عبد العظيم بن عبد الله الحسين عن أبي جعفر محمد بن علي الرضا عليهما السلام أنه قال : سألته عما أهل لغير الله به؟ قال : ما ذبح لصنم أو وثن أو شجر حرم الله ذلك كما حرم الميتة ...

٥١

بل وما لم يذكر أو ينو الله ولا غير الله قضية عامة النهي ، وأن ما أهل لا لله فقد أهل لغير الله.

٥ «والمنخنقة» وهي التي تموت بخنق كيفما كان وبأي سبب كان ، بريا أو بحريا فإنها من الميتة ، ولقد كان خنق البهائم سنة جاهلية إدخالا لرأسها بين خشبتين ، أو شدا بحبل على عنقها وجرّا لها حتى تخنق وما أشبه ، وكما تفعله الجاهلية المتحضرة ، فالإخناق يعمه بكل أسبابه وأساليبه دون اختصاص بوجه خاص.

٦ «والموقوذة» وهي المقتولة بضرب حتى تموت ، سواء أكان الضارب إنسانا أو حيوانا أم سواهما.

٧ «والمتردية» وهي التي تتردى أو تردّى من عل أو في بئر حتى تموت.

٨ «والنطيحة» وهي الميتة بنطح كما كان التناطح لعبة جاهلية (١).

٩ (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) وطبعا دون كله ، حيث المأكول كله ليس ليؤكل بعد حتى يحرّم (٢) فإنما هو ما أكل بعضه السبع فمات به ، وهذه الخمس هي من المصاديق التي قد يخفى كونها من الميتة ومعها غيرها مما زهق روحه

__________________

(١) المصدر نفس الحديث قال فقلت قوله عز وجل (والمنخنقة ...) قال : «المنخنقة التي انخنقت بأخناقها حتى تموت والموقوذة التي مرضت وقذها المرض حتى لم يكن بها حركة والمتردية التي تتردى من مكان مرتفع إلى أسفل أو تتردى من حبل أو في بئر فتموت والنطيحة التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت وما أكل السبع منه فمات ...»

(٢) المصدر عن عيون الأخبار عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام أنه قال : في قوله : «حرمت ...» قال : الميتة والدم ولحم الخنزير معروف ، (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) يعني ما ذبح للأصنام ، وأما المنخنقة فإن المجوس كانوا لا يأكلون الذبايح ولا يأكلون الميتة وكانوا يخنقون البقر والغنم فإذا انخنقت وماتت أكلوها ، والمتردية كانوا يشدون أعينها ويلقونها من السطح فإذا ماتت أكلوها ، والنطيحة كانوا يناطحون بالكباش فإذا ماتت أحدها أكلوه ، وما أكل السبع ، فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب والأسد فحرم الله عز وجل ذلك ....

٥٢

دون ذبح شرعي ، كالمصلوبة والغريقة أماهيه.

ذلك ، ولأن هذه الخمس الأخيرة قد لا تموت بخنق أو وقذ أو ترد أو نطح أو أكل سبع عاجلا ، فقد تبقى هناك فرصة لذبحها ، ولذلك يستثنى عنها :

(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي تممتم ذكاته وذبحه ، فلا تعني التذكية أصل الذبح ، بل هي تتميم الذكاة والذبح بشروطه ، وأصلها من الحدة والسرعة ، فالوصول السريع بحدّة واستعجال إلى أخريات حياة الذبيحة لذبحها وهي حية ، هي التذكية ،.

وهل الاستثناء راجع إلى (ما أَكَلَ السَّبُعُ) فقط أم إلى الخمس أو الست ، أم إنّ الكل أمثلة معروفة لزهاق الروح فالأصل بقاء الروح لحد يمكن ذبح الحيوان تتميما لزهاق روحه؟.

الصحيح هو الأخير ، فأما مرجع الاستثناء بعد الجمل المتعددة فهو بطبيعة الحال كلها ، إذ لو كان المرجع ـ فقط ـ الأخيرة أماهيه منها لكانت قضية الفصاحة العادية فضلا عن القمة القرآنية ذكر الاستثناء بعد خصوص المرجع كأن يقال (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ليكون الاستثناء نصا في خصوصه دون اشتباه (١).

وهكذا ـ كضابطة ـ مرجع كل الاستثناءات بعد عدة جملات هو هيه دونما استثناء إلا بدليل قاطع يخصه ببعضها.

وهنا زيادة بيان لكامل الشمول هي ألا خصوصية ل (ما أَكَلَ السَّبُعُ) حتى تختص به (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) حيث الزكاة هي تتميم إزهاق الروح ، سواء

__________________

(١) رجوع هذا الاستثناء إلى كل هذه الخمس ظاهر الأمرين ، ثانيهما أن التذكية تعمها كلها ما دامت فيها الحياة ، وأولهما يعم كافة الاستثناءات أنها راجعة إلى كل الجمل السابقة إذ لو اختص ببعضها لحض البعض به صراحا ، فهنا إن كان «ما ذكيتم» خاصة بالأخيرة لكان صحيح العبارة وفصيحها «وما أكل السبع إلا ما ذكيتم والمنخنقة و...».

٥٣

أكان مما أكل السبع أم سائر الست أما أشبهها كالغريقة والمهدوم عليها.

قول فصل حول التذكية :

هذه الآية هي الفريدة التي تحمل التذكية ، فهنا ـ إذا ـ المجال الوحيد للبحث والتنقير حول شروطات الذبح المشروع كتابا وسنة وهي تنتظم في مسائل :

١ هل تشترط الحياة المستقرة في هذه الخمس حتى تحل بتذكيتها ، أم يكفي «عين تطرف أو قائمة تركض أو ذنب تمصع» (١).

طليق «ما ذكيتم» تشمل الحياة غير المستقرة إلى المستقرة ، لصدق تتميم الذكاة وإزهاق الروح في غير المستقرة كما المستقرة ، بل ومصبّ التذكية هو الحياة غير المستقرة ، فإن كانت البهيمة المصدومة بإحدى هذه الست أم

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٥٧ ـ أخرج ابن جرير عن علي (ع) قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها.

وفي نور الثقلين ١ : ٥٨٥ عن الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (ع) قال : لا تأكل من فريسة السبع ولا الموقوذة ولا المتردية إلا أن تدركه حيا فتذكيه.

وفي التهذيب ٣ : ٣٥٢ وتفسير العياشي ١ : ٢٩٢ صحيح زرارة عن الباقر (ع) كل من كلّ شيء من الحيوان غير الخنزير والنطيحة والمتردية وما أكل السبع وهو قول الله عز وجل (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) فإن أدركت شيئا منها وعين تطرف أو قائمة تركض أو ذنب تمصع فقد أدركت ذكاته فكل.

وفي الكافي ٦ : ٢٠٨ خبر ليث المرادي سألت أبا عبد الله (ع) عن الصقور والبزاة وعن صيدها فقال : «كل ما لم يقتلن إذا أدركت ذكاته وآخر الذكاة إذا كانت العين تطرف والرجل تركض والذنب تتحرك ...».

وفي خبر عبد الله بن سليمان عن الصادق (ع): في كتاب علي (ع) إذا طرفت العين أو ركضت الرجل أو تحرك الذنب وأدركته فذكه ، «وفي آخر عنه زيادة فكل منه فقد أدركت ذكاته» (الكافي ٦ : ٣٢).

أقول : وهذه العلامات تشمل حالة الاحتضار فهي ـ إذا ـ كافية للتذكية.

٥٤

سواها تموت بنفس الأسباب آجلا ولكنك ذكيتها ، أي : أدركت ذكاتها ، فقد ذكيتها دون ريب.

ذلك! ولأن أصل التذكية هي إخراج تتمة الحرارة الغريزية الحيوية الحيوانية ، وأن الذكاء هو سرعة الإدراك ، فقد تعني التذكية سرعة إدراك البهيمة مهما اختلف إدراك عن إدراك ، وكأن أصل الذكاة هو التمام والكمال وهو يختلف حسب موارده ، فذكاة العقل تمامه ، وذكاة الشمس حدتها ، فذكاة هذه الست هي تمام حياتها ، إذا فالتذكية هي إتمام الحياة سلبيا فلا مجال هنا لأصالة الإشتغال أن الذمة مشغولة في حقل الذبح بشروط فحين نشك في اشتراط الحياة المستقرة كان الأصل عدم الحلّ في غيرها ، لأن مجال الأصل هو فقدان الدليل وهنا «ذكيتم» ظاهرة كالنص في عناية الحياة غير المستقرة ، ولو كانت ظاهرة في المستقرة ـ ايضا ـ فمجرد شمولها لغير المستقرة كاف في وجدان الدليل.

ف (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) تعني كملتم حياته إزهاقا وأذهبتم بقيتها.

فالذبح قد يكون كالعادة المستمرة أن تبدء بذبح حيوان ، أم متفلتا عنها كان تدرك ذبحها دون مهل لأنها اصطدمت بما يموّتها ، فيكفي ـ إذا ـ إزهاق روحها ، فإنما الذبح هو الذي يحلل الحيوان ، عاديا أو خلافها ، بحياة مستقرة لها أم سواها.

٢ هل تشترط حركة الحيوان بعد الذبح ، أم تكفي تتمة الحياة غير المستقرة قبل الذبح؟ ظاهر «ذكيتم» هو الأخير ، وهنا معتبره عدة تشترط الحركة قبل التذكية ، وعلّها كإمارة للحياة لا أنها شرط أصيل ، فهنا الصحيحة (١) المشترطة إياها بعد الذبح غير صحيحة أو مأولة بأنها إمارة حياة

__________________

(١) وهي صحيحة أبي بصير المرادي سألت أبا عبد الله (ع) عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم عبيط قال : لا تأكل إنّ عليا (ع) كان يقول : «إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل» ـ

٥٥

لها عند الذبح ، فإن كانت متحركة فذكيت فلم تبق لها حراك فهي داخلة في نطاق الآية والمعتبرة الأخرى ، فحين تذكيها عليك أن تعلم أن لذبحك أثرا في موتها ، وعلامته أن تتحرك بعد الذبح ، فإن لم تتحرك فلعلها ماتت بنفس السبب السابق دون تأثير منك ، إذا فاشتراط حركة بعد الذبح ليس لأنها بنفسها شرط لصحة الذبح ، بل هي كصفاء الدم وخروجه كالمعتاد ـ إمارة على تأثير الذبح في إخراج الروح ، فالواجب هو الاطمئنان بأنك ذكيتها ولا تكفي الحركة قبل ذبحها إذ تجوز المقارنة بين زمن موتها وذبحك إياها ، فلا بد ـ إذا ـ من إمارة تدلك على أنك ذكيتها من حركة مّا أو خروج دم صاف كالعادة أماهيه من إمارة مطمئنة.

ولأن كمال التذكية عبارة عن الذبح المشروط بفري الأوداج الأربعة بالبسملة وتوجيه القبلة ، فإدراك الذكاة بحاجة إلى هذه الأربع كلّها ، اللهم

__________________

ـ (التهذيب ٢ : ٣٥٢ والفقيه رقم ٥٢).

أقول : «دم عبيط» دليل أنها كانت ميتة قبل الذبح ، فلا تدل الصحيحة على اشتراط الحركة بعد الذبح كشرط أصيل.

ومثلها خبر حسين بن مسلم قال : كنت عند أبي عبد الله (ع) إذ جاء محمد بن عبد السلام فقال له جعلت فداك يقول لك جدي إن رجلا ضرب بقرة بفأس فسقطت ثم ذبحها فلم يرسل معه بالجواب ودعى سعيدة مولاة أم فروة فقال لها : «إن محمدا جاءني برسالة منك فكرهت أن أرسل إليك بالجواب معه فإن كان الرجل الذي ذبح البقرة حين ذبح خرج الدم معتدلا فكلوا وأطعموا وإن كان خرج متثاقلا فلا تقربوه» (الكافي ٦ : ٢٣٢ وفيه عن الحسن بن مسلم وقرب الإسناد ص ٢١ وفيه عن بكر بن محمد قال : جاء محمد بن عبد السلام إلى أبي عبد الله (ع)).

أقول : «خرج متثاقلا» دليل موتها قبل الذبح وليست الحركة وطرف العين قبل أو بعد الذبح إلا إمارة لبقاء الحياة ، فإنما هو خروج الدم بصورة عادية كما في صحيح الشحام في التذكية بغير حديد «إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس» (الكافي ٦ : ٢٢٨)

وكذلك صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (ع) عن الذبيحة قال : «إذا تحرك الذنب والطرف أو الإذن فهو ذكي» (الكافي ٦ : ٢٣٣ والتهذيب ٣ : ٣٥٢) فإن تحرك الذنب والطرف ليس إلا إمارة الحياة السابقة على الذبح.

٥٦

إلّا عند العذر فقد يكفي ـ إذا ـ فري الأوداج.

وهكذا تكون تذكية ما أهل لغير الله به ولمّا يمت ، فإذا أدركت ذكاته بالبسملة فقد ذكيته ، والحاصل أن تتميم إزهاق الروح بالذبح الشرعي يحلل هذه المذكورات الست وما أشبهها.

٣ هل يشترط كون الذبح في الحلقوم فريا للأوداج الأربعة من قدامها ، أم ويجوز من خلفها؟ إطلاق؟ «ذكيتم» ومعتبرة عدة (١) يحكمان بطليق الذبح في الحلقوم ، و «إنما الذبح في الحلقوم» لا يدل على اشتراط جهة القدام ، بل يجوز من أي من الجهات الدائرة حول الحلقوم ، ولا تنفي هذه الرواية إلّا الذبح في غير الحلقوم كالبطن وما أشبه.

٤ هل يشترط في الذابح أن يكون مسلما ، أم إنّما هو الاسم ولا يؤمن

__________________

(١) من صحيح الشحام قال سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل لم يكن بحفرته سكين أيذبح بقصبة؟ فقال : «اذبح بالحجر وبالعظم وبالقصبة وبالعود إذا لم تصب الحديدة إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس» (الكافي ٦ : ٢٢٨) وفي الوسائل ١٦ : ٣٠٩ عن الصادق (ع): النحر في اللبة والذبح في الحلق ـ وفي لفظ آخر ـ والذبح في الحلقوم.

وفي حسن عبد الرحمن بن الحجاج سألت أبا إبراهيم عن المروة والعود أيذبح بهن إذا لم يجدوا سكينا ، فقال : «إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك» (المصدر).

أقول : إنما الذبح بغير الحديدة هو عند الضرورة كما في حسن الحلبي أو صحيحه عن أبي عبد الله (ع) سألته عن الذبيحة بالعود والحجر والقصبة ، فقال : قال علي (ع): «لا يصلح الذبح إلا بالحديدة» (الكافي ٦ : ٢٢٧) ومثله صحيح ابن مسلم سألت أبا جعفر عليهما السلام عن الذبيحة بالليطة والمروة فقال : «لا ذكاة إلا بالحديدة» (المصدر).

وفي آيات الأحكام للجصاص ٢ : ٣٧٦ روى أبو قتادة الحراني عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال سئل رسول الله (ص) عن الذكاة فقال «في اللبة والحلق ...» وفيه روى أبو حنيفة عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج عن النبي (ص) قال : كل ما انهزم الدم وأفرى الأوداج ما خلا السن والظفر ، وفيه روى إبراهيم عن أبيه عن حذيفة قال قال رسول الله (ص): «اذبحوا بكل ما أفرى الأوداج وهرق الدم ما خلا السن والظفر».

٥٧

عليه إلّا مسلم؟ (١) ، قد يقال (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) خطابا للمؤمنين حصرا للحل في تذكيتهم ، يدل على شرط الإيمان ، فلم يقل : إلّا ما ذكي ، وكما تدل على شرط الإسلام روايات(٢).

ولكن الخطاب في «ذكيتم» لا يختص حل المذكى بالمسلم ، فقد خوطب المسلمون هنا بالتذكية حيث الحكم موجه إليهم ، و «إنما هو الاسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم» والحصر يختص بأصل التذكية لا وفاعلها المسلم ، ولو تعدى حصر الاستثناء هنا عن طليق التذكية إلى إسلام المذكي لكان متعديا أيضا إلى

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٦ : ٣٤١ عن قتيبة الأعشى قال سأل رجل أبا عبد الله (ع) وأنا عنده فقال : الغنم يرسل فيها اليهودي والنصراني فتعرض فيها العارضة فيذبح أنأكل ذبيحته؟ فقال أبو عبد الله (ع): «لا تدخل ثمنها في مالك ولا تأكلها إنما هو الاسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم ...» وفيه (٣٤٢) عن حسين بن المنذر قال قلت لأبي عبد الله (ع) إنا قوم نختلف إلى الجبل والطريق بعيد بيننا وبين الجبل فراسخ فنشتري القطيع والإثنين والثلاثة ويكون في القطيع ألف وخمسمائة وألف وستمائة وألف وسبعمائة شاة فتقع الشاة والاثنتان فتسأل الرعاة الذين يجيئون بها عن أديانهم قال : فيقولون : نصارى ، قال : فقلت : أي شيء قولك في ذبائح اليهود والنصارى؟ فقال يا حسين الذبيحة بالاسم ولا يؤمن عليها إلا أهل التوحيد.

أقول : إنما هو الاسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم مستفيض نقله بعدة طرق وهو وجه وجيه في حمل الروايات المحرمة المطلقة على عدم العلم بالتسمية ، والمقصود ـ طبعا ـ هو التسمية الصحيحة كما عن معاوية بن وهب قال سألت أبا عبد الله (ع) عن ذبائح أهل الكتاب فقال : لا بأس إذا ذكروا اسم الله ولكن أعني منهم يكون على أمر موسى وعيسى عليهما السلام.

(٢) هنا مرسلات تدل على عدم حل ذبائح أهل الكتاب أن «لا تقربوها» كما في خبر سماعة (الكافي ٦ : ٢٣٩) و «لا تأكل من ذبيحته ولا تشتر منه» كما في خبر الحسين الأحمي (الكافي ٦ : ٢٤٠) و «كان علي ابن الحسين ـ صلوات الله عليه ينهى عن ذبائحهم وصيدهم ومناكحتهم» كما في خبر محمد بن مسلم (الكافي ٦ : ٢٣٩) و «لا تقربوها» كما في موثق سماعة (التهذيب ٣ : ٣٥٤).

وهذه كلها مطلقة قد تحمل على عدم العلم بذكر الاسم كما هو قضية الأخبار الآخر ، نعم في خبر زيد الشحّام قال : سئل أبو عبد الله عن ذبيحة الذمي فقال : «لا تأكل أن سمى وإن لم يسم» (الكافي ٦ : ٢٣٨) ولكنه يتيم لا نصير له من كتاب أو سنة.

٥٨

حلّه ـ فقط ـ للمذكي ، فلا تحل المذكاة ـ إذا ـ إلّا للمذكي نفسه دون من سواه!.

ولو كان الإسلام شرطا أصيلا لا بديل عنه لصرح به كما شرط ذكر الاسم ، والروايات المشترطة معارضة بأخرى (١) والمرجع وهو الآية لا يصدق الثانية بل هو طليق متأيدا بالآيات المشترطة ذكر اسم الله حيث لم تشترط معه كون الذابح من أهل الله ، وهي تندد بالذين لا يأكلون ما ذكر اسم الله عليه ، آمرة بأكله.

والروايات النافية لحل ذبيحة الكتابي ناظرة إلى أنه «إنما هو الاسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم» وأما إذا سمعته يسمي فلا بأس كما في روايات أخرى ، والفارق بين المسلم والكتابي والمشرك أو الملحد في الذبح ، أن ذبيحة المسلم حلّ وإن لم تعلم تسميته ، وذبيحة الكتابي لا تحل إلّا إذا سمعته يسمي أم تأكدت منها ، وذبيحة سائر الكفار لا تحل وإن سمعت تسميتهم فإنهم لا يسمون عن صدق ، اللهم إلا استهزاء أم مصلحيّة.

__________________

(١) من الأخبار المجوزة صحيح حلبي سئل الصادق (ع) عن ذبيحة أهل الكتاب ونساءهم؟ قال : «لا بأس به» (التهذيب ٣ : ٣٥٥).

أقول وهذه هي المطلقة الوحيدة بين الأخبار المجوزة تتقيد بالآية المقيدة بذكر الاسم ، ومنها خبر حمران قال : سمعت أبا جعفر عليهما السلام يقول في ذبيحة الناصب واليهودي والنصراني ، لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله تعالى فقلت : المجوسي؟ فقال : نعم إذا سمعته يذكر اسم الله أما سمعت قول الله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (التهذيب ٢ : ٣٥٥) وخبر عامر بن علي قلت لأبي عبد الله (ع) انا نأكل ذبائح أهل الكتاب ولا ندري يسمون عليها أم لا؟ فقال؟ «إذا سمعتم قد سموا فكلوا» (بصائر الدرجات ٩٦) وخبر حريز عن أبي عبد الله (ع) وزرارة عن أبي جعفر عليهما السلام أنهما قالا في ذبائح أهل الكتاب «فإذا شهدتموهم وقد سموا اسم الله فكلوا ذبائحهم وإن لم تشهد وهم فلا تأكلوا وإن أتاك رجل مسلم فأخبرك أنهم سموا فكل» (التهذيب ٣ : ٣٥٥ والإستبصار ٤ : ٨٦).

٥٩

والقول إن ذبيحة الكتابي حل لأن (طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) تطارده الآيات المفترضة لذكر اسم الله وهم لا يذكرون اسم الله ، وكما الآيات في تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير تستثني هذه المذكورات عن «حل لكم» فكذلك فريضة ذكر الاسم.

أجل فيما نشك في حل ذبيحة الكتابي الآتي بشروطها فإطلاق آية الطعام شاهد لحلها إن لم يكن دليل آخر على حلّها ، ولم يستثن في آيات أخرى إلّا ما لم يذكر اسم الله عليه.

وغير صحيح حمل الأخبار المجوزة على التقية حيث المجوزون من إخواننا لا يشترطون ذكر الاسم في حل ذبائح أهل الكتاب ، فإذا ذكروا الاسم فهي حل حيث المدار هو الاسم ، (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ..) (٦ : ١١٩).

فالأخبار المطلقة للتحريم تتقيد بهذه الآيات ، والأخبار المقيّدة حلّها بذكر الاسم موافقة لها ، فأين مجال ترجيح المحرّمة ـ إذا ـ اللهم إلا ترجيحا للشهرة على حجة الكتاب والسنة!.

ذلك ، ومن ثم (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ليس إلّا حصرا نسبيا في حقل هذه الست ، وأما الذبح البدائي فلا تشمله الآية إلّا بطريقة الأولوية ، وليست في الآية لمحة اشتراط الإسلام في الذابح اللهم إلّا الاسم المصرّح به في آيات عدة ، مهدّدة من لا يأكل مما ذكر اسم الله عليه بخلاف الإيمان ، ولا دور لمرجح التقية في ترجيح الروايات المحرمة حتى ولو لم تدل على الحل آية ، حيث الروايات المقيّدة حاكمة على المطلقة ، وواردة عليها ، مبينة لوجه المنع فيها.

وقد يعني الخطاب في (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) رعاية شروط الذبح حيث يراعيها

٦٠