الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

يرجع إليها بعد التحقيق عن موارد الحظر ، ومنها : غير محلي الصيد وأنتم حرم :

(... إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ..).

«ما يتلى» هنا في موقف الاستثناء عن أصل الحل ، و (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) استثناء عن حالة محظورة عارضة كأشدها حيث الصيد حلّ كضابطة ومحرّم للحرم أشد تحريم.

وترى «ما يتلى» كمضارعة لا تشمل ما تلي علينا من ذي قبل؟ إنها كتلاوة تشريعية تحلّق على كافة المستثنيات في مثلث الزمان ، غابرا ومستقبلا وحاضرا ، فليست «يتلى» إلّا مضارعة استمرارية في حقل وحي الاستثناء ، وقد استثني قسم مما يتلى هنا والباقية هي كتفسيرة للميتة وسواها.

وليس (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) من ضمن ذلك الاستثناء ، إنما هي استثناء حال من أحوال الصيد المحلّل ، أم والمحرم ، وسائر الاستثناء المعنيّ من (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) استثناء عن أصل الحل ، وسائر حالات الحظر على هامشه.

وليست (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) حصرا في استثناء الحال ، فإنما هو بيان لأحظر الحالات فيما أحلّ من أصل الصيد أم وحرّم ، فإن حرمة الحرم والإحرام هما من أهم الحرمات حيث تحتل الموقع الأعلى منها تحضيرا وتحظيرا.

ذلك ، وقد يحلّق (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) إلى المحرمات الأصلية من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) عارضية المحرمات ، المتلوة علينا في وحي الكتاب أو السنة المتلائمة مع الكتاب.

ثم وإحلال الصيد هو إخراجه عن عقده لأمنه وأنتم حرم ، وهو محظور في كل حقوله : إحلالا تشريعيا كما أحلوا الميتة وما أهل لغير الله ، أو عمليا

٢١

في أصل الصيد وفرعه ، ومن العملي أن تأمر غيرك بصيد أو تشير له إليه.

ولأن «الصيد» كما هي مصدر كذلك هي اسم للمصيد اسم مفعول ، فتحريم إحلاله يعم عملية الصيد بمقدماته : إشارة وحصرا وأخذا وحفاظا عليه كيلا يفلّ ، أم قتل الصيد وأكله وإيكاله وبيعه وشراءه.

فكافة المحاولات في إحلال الصيد هي محرمة (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) ، صحيح أن المصب الأصيل في تحريم الإحلال بحق الصيد هو أصل الصيد كما تبينه (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) هنا ، كما وقتله هناك في نفس المائدة (٩٥) : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وطعامه : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) (٩٦) ، ولكن ذلك كله ليس ليختص (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) بإحلال صيده وقتله وأكله ، مهما كانت هذه الثلاث هي رؤس الزوايا من (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ).

ذلك ، وقد يتأيد طليق الحظر في إحلال الصيد وأنتم حرم بمتظافر السنة ، فحتى الإشارة إلى الصيد ليصيده المحرم محرّم (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).

وترى (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) تختص حالة الإحرام؟ فيحل ـ إذا ـ إحلال الصيد لغير المحرم في الحرم؟ أو تختص الكون في الحرم فيحل إذا للمحرم في غير الحرم؟.

قد يقال : نعم إذ لم يلحقه ب «أو أنتم في الحرم» أو «أنتم محرمون» ولكنه لا ، حيث الحرم هي جمع الحرام فلا تختص بالمحرمين ، ولو عني ذلك الإختصاص لكان صحيح التعبير : «وأنتم محرمون» أو «أنتم في الحرم».

والشخص الحرام هو أعم من الحرام بإحرامه حيث تحرم عليه محرمات الإحرام ، أو الحرام بدخوله في الحرم حيث تحرم عليه محرمات الحرم ، أو الحرام بصيامه وما أشبه ولكلّ حقله ، وهو هنا كلا الإحرام والكون في الحرم.

٢٢

فكما أن لحالة الإحرام حرمات ، كذلك ـ وبأحرى ـ للحرم حرماته ، بل وقد تكون حرمات الحرم هي ـ كأصل ـ لحرمة الإحرام ، إذ لا إحرام دون دخول في الحرم ، وقد يكون الداخل في الحرم غير محرم.

إذا فطليق التحريم ـ إحراما وداخل الحرم ـ هو الصحيح وكما في الصحيح «ولا أنت حلال في الحرم» (١).

فصيد المحرم في الحرم فيه مضاعفة الحرمة ، ثم صيد المحرم في الحل وصيد الحلال في الحرم كل منهما محرم في بعد واحد.

وهكذا نرى محرّم الصيد بين محرمات الإحرام ـ وهي زهاء ثلاثين ـ يحتل الموقع الأعلى من التحريم ، تحمله آيات أربع من الذكر الحكيم على سبيل التفصيل ، في حين لا تحمل كلّ محرمات الإحرام إلّا آية واحدة على سبيل الإجمال : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) (٢ : ١٩٧).

ذلك! رغم قلة الصيد (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ظرفا وموقعا ، حيث المحرم ولا سيما في الحرم منشغل عن مثل الصيد من أشغال تحتاج إلى فراغ بال ونزوة حال ، فهنا يقال له : أيها الصيد في نفسك ونفسياتك لرب العالمين ، المحرم وفي حرم الله ، كيف تفتكر في صيد وأنت نفسك من الصيد ، أنت لبيّت دعوة ربك فدخلت مدخل زيارته وهو مدرسة الإحرام ، وطبيعة حال الإحرام ولا سيما في الحرم أن تحرّم على نفسك نزواتها ، وكثيرا من حظواتها ، حيث الإحرام تجرّد عن أسباب الحياة المألوفة وأساليبها المعروفة اتجاها إلى الله في بيت الله ، فلتكفّ عن أيّ تعرض لأي حي من الأحياء في حرم الله

__________________

(١) هو صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال : «لا تستحلن شيئا من الصيد وأنت حرام ولا أنت حلال في الحرم ولا تدلن عليه محلا ولا محرما فيصطاده ولا تشر إليه فيستحل من أجلك فإن فيه الفداء لمن تعمده» (الكافي ٤ : ١٣٨١).

٢٣

الآمن ولتخفف عن حظوات الحياة الزائدة كما الصيد ، ارتفاعا في هذه الفترة عن أليف الحياة الحيوانية إلى عريق الحياة الروحية الإنسانية ، تطلّعا إلى الأفق الرفراف الوضيء ، السامق الوبيء.

فروع حول الصيد :

١ هل المحرّم هنا هو المحلّل من الصيد في غيره ، أم يشمل المحرّم إلى المحلّل لصدق الصيد؟.

قد يختص التحريم هنا بالمحلّل حيث الحال : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) استثناء عن (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ومن ثم ف (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ...) (٩٦) لامحة إلى محرم صيد البر وطعامه ، فليس ـ إذا ـ إلا في حقل بهيمة الأنعام المحلّلة كأصل.

ذلك ، ولكن (حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً ..) (٩٦) طليقة في تحريم الصيد وأنتم حرم ، وإثبات التحريم لصيد بهيمة الأنعام في آيتنا لا ينفيه عن صيد غيرها ، وليس (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) من صراح الاستثناء ، إنما هي حال «لكم» حيث (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) فقد تعم غيرها وكما في (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ومما تلي علينا (لَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وليس هو من بهيمة الأنعام.

ومهما يكن من شيء فهو لمحة لثابت الحرمة في صيد بهيمة الأنعام وأنتم حرم ، ثم طليق (حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) حاكم بطليق التحريم.

وقد يتأيد ذلك التحريم بأن صيد الطير غير المحرّم محرم وأنتم حرم بالضرورة ، فهل هي أيضا من بهيمة الأنعام حتى يختص (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) بها؟ فإن بين الصيد وبهيمة الأنعام عموما من وجه.

وقد يكون تحريم الصيد المحرم أصالة في الأولوية حيث لا نحتاج إليه ، فصيده ـ إذا ـ لهو في لهو ، وصيد المحلّل فيه صبغة الحاجة.

٢٤

ثم الأثر الثابت في تحريم قتل الدواب ككلّ هو الآخر من دلالات طليق التحريم (١).

٢ هل الصيد يعم الممتنع عرضيا ، ثم ولا يحرم صيد الممتنع أصليا إذا صار أهليا؟ لأن الصيد اسم لخصوص الممتنع أصليا فلا يشمل الممتنع عرضيا ، ف (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) تعمّ أهليّه إلى اصليّه ، مهما لم تكن فيه عملية الصيد حيث لا يفر ، ولكن يصدق عليه اسم الصيد فقتله ـ إذا ـ محرم مهما لم تجر عليه عملية الصيد مصدريا.

ويعاكسه الأهلي الذي تحول إلى وحشي فرّار ، فإنه لا يسمّى صيدا في نفسه فلا يحرم ـ إذا ـ قتله ، وليس أخذه صيدا مصدريا فلا يحرم أخذه.

ثم الأقسام المحتملة في حقل الصيد بين صيد في أصله وفرعه فمحرم قطعا ، وغيره لا في أصله ولا فرعه ، وهو خارج عن الصيد قطعا ، وما هو صيد في أصله دون فرعه ، فقتله ـ دون ريب ـ قتل الصيد ، مهما لم يكن أخذه صيدا ، وما هو أهلي في أصله دون فرعه ، فقتله ليس قتل الصيد ، وأخذه كذلك ليس صيدا في مصدره.

٣ هل يجوز للمحلّ أكل لحم الصيد؟ (حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ

__________________

(١) كصحيح معاوية الذي عبر بمضمونه في المقنع «إذا أحرمت فاتق قتل الدواب كلها إلا الأفعى ...» (الكافي ١ : ٧٧) وصحيح حريز «كل ما خاف المحرم على نفسه من السباع والحيات وغيرها فليقتله ولو لم يردك فلا ترده» (التهذيب ١ : ٥٥١ والإستبصار ٣ : ٢٠٨ والكافي ٤ : ٣٦٣).

والصحيح عن قول الله عز وجل (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال : «من دخل الحرم مستجيرا كان آمنا من سخط الله تعالى ومن دخله من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج ويؤذى حتى يخرج من الحرم» (التهذيب ١ : ٥٤٧ والفقيه كتاب الحج ٥ ب : ١٤ م).(٨) وتدل على حلّه للمحل صحاح عدة وما يدل على حرمته كروايتين غير صحيحتين هما غير صحيحتين لمخالفة الكتاب والصحاح.

٢٥

حُرُماً) قد تحلله لغير المحرم ككل ، سواء أكان هو الصائد حالة الإحرام أم سواه ، قتله قبل أم هو حيّ ، أم غير الصائد ، فإنما التحريم عمليا وقتلا وأكلا وما أشبه ، يختص بما (أَنْتُمْ(١) حُرُمٌ) (١).

٤ إذا تردد حيوان بين كونه بريا حتى يحرم صيده ، أم بحريا حتى يحل ، فقد يكون الأصل هو الجواز لاختصاص المحرّم منه بالبري وذلك مشكوك ، أم هو الحرمة لطليق التحريم (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) خرج منه صيد البحر (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) فالمشكوك باق تحت عموم الحظر.

أو يقال القصد من (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) هو خصوص صيد البر بدليل النص ، فما لم يتأكد كونه من صيد البر لم تثبت الحرمة ، وهذا أشبه وإن كان الأول أحوط.

٥ الحيوان العائش في كلا البر والبحر هل يحكم عليه بصيد البر؟ وهو بحري أيضا! أم يحكم عليه بصيد البحر؟ وهو بري أيضا!.

إذا صدق عليه ذو حياتين كان صيده في البر صيد البر وصيده في البحر صيد البحر ، أو يقال : إنه خارج عن صيد البر ـ الظاهر في اختصاصه به ـ مهما لم يصدق عليه ـ أيضا ـ خصوص البحر ، فقد يحل صيده في بركان أو في بحر.

أو يقال : صيد البر ليس ليعني الصيد الخاص بالبرّ ، إنما هو الصيد في البر ، برّيا كان أم ذا حياتين ، فكما الصيد البري الخاص صيده صيد البر ، كذلك ذو حياتين إذا صيد في البر ، وإن كان الأحوط ألّا يصاد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ

__________________

(١) وتدل على حله للمحل صحاح عدة وما يدل على حرمته كرد آيتين غير صحيحتين هما غير صحيحتين لمخالفة الكتاب والصحاح.

٢٦

تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢)

«شَعائِرَ اللهِ» هي معالم الله ومذياعات شرعته بين الجموع ، وهل هي جمع «شعر»؟ وهو «شعرات» أو جمع «شعار»؟ وهو «شعارات»!.

إنها جمع «شعيرة» وعلّها من الشّعر أو الشعير والتاء للمبالغة ، والأصل فيهما الإعلام بدقة وشعور ، فإنها تشعر ببالغ العبودية ، والمشعرة هي المعلمة كما الإشعار هو الإعلام ، ولكن إعلام بشعور ودقة بالغة.

فقد تكون العبادة فردية إن أتي بها في جماعة ، وهي تدل دلالة ظاهرة على العبودية كالصلاة والصوم وما أشبه ، وهي ليست من شعائر الله ، إذ ليست جمعية حتى تكون مذياعا ومعلمة باهرة لشرعة الله ، ولا أن دلالتها على العبودية بحاجة إلى دقة وهمامة ، كما ولا تدل على بالغ العبودية لظاهر معناها ومغزاها.

وأما شعائر الله فهي العبادات الجمعية ـ ولا سيما في مؤتمر الحج العالمي ـ التي تدل على بالغ العبودية حيث العبد يأتي بها ولا يشعر ـ في الأكثر ـ معانيها ، فهي أوقع في العبودية إذ لا يؤتى بها ـ بطبيعة الحال ـ إلا خالصة لله حيث لا تعلم مصالحها صراحا ، كما وهي ـ في نفس الوقت ـ تدل بكل دقة وشعور على معانيها العالية الغالية.

إذا فشعائر الله هي الدالات لمن يرونها ويسمعونها على بالغ العبودية لأصحابها ، وعلى بالغ المغزى الجماهيري لمشرّعها ، وعلى بالغ الحاجة إلى تدقيق رقيق لتفهم معانيها ، فهي ـ إذا ـ مذياعات ومعالم مثلثة الجهات تعريفا بجملة الشرعة الربانية ، وهي مستعبدات الله التي أشعرها للناس تبيينا لهم كل مراداته من شرعته بلغة العمل مهما كان وقوفا في مواقفها.

فالعبادات غير الجمعية ، أو الجمعية غير الدالة على طبيعة الشرعة بكاملها ، أو الدالة عليها ، غير دالة على عمق العقيدة لفاعليها ، وعمق

٢٧

المعني منها ، إنها ليست بشعائر الله.

إنما هي مذياعات مختلفة الجهات تشعر الناظرين إليها تلك المشاعر والشعائر.

ولقد نرى ـ في الحق ـ أن الله تعالى بين في شعائر الحج ومشاعره كلّ ما أراد أن يبينه بأحوال في أعمال وأعمال في أحوال دون أي قال إلّا قليلا كمقالات التلبيات وركعتي الطواف ، وإنما اختصت شعائر الله هنا بالذكر في سلب الإحلال ، لأنها أهم الواجبات بما تحمل من شعارات وشعورات ، وأنها في معرض الإحلال أكثر من غيرها لأنها تشبه بوجه شعائر الجاهلية ، فإن مناسك الحج مشتركة بين الموحدين والجاهليّين العرب المشركين.

وأولى شعائر الله في مؤتمر الحج هي الإحرام الذي هو تقدمة لسائر شعائر الله ، وفيه أسرار وأسرار ، تجمع الشعار إلى الشعور والشعور إلى الشعار ، وهكذا تكون كل شعائر الله بدرجاتها ، فالشعار بلا شعور خاو كما الشعور بلا شعار فإنه خاف ، وشعائر الله تجمع الشعار إلى الشعور والشعور إلى الشعار ، لتشعر الناس ما هي عبادة الله وطاعته ومن هم عباده ومطيعوه ، دون شائبة عائبة ، وبكل آئبة صالحة لجماهير المسلمين.

وإحلال شعائر الله هو فك عقدها الذي عقده الله ، تركا لها أو هتكا إياها ، أو الإتيان بها ناقصة ، فإنما المفروض تعظيمها (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٢٢ : ٣٢).

ولأن القرآن يحمل كل شعائر الله فإحلال القرآن وإحلال طلاب القرآن ودراسته ومراسته إحلال لكل شعائر الله ، وهتك لكل حرمات الله ، ولا سيما إذا كان في بيت من بيوت الله ولعمر الله صاحب الكتاب ليس لينقضي العجاب من جموع يهاجمون الثقل الأكبر في بيت الله ، ويهتكون حرمات الله متنقبين نقاب الحفاظ على حرمات الحوزة الإسلامية! وكما قتلوا الإمام

٢٨

الحسين حفاظا على حرمات الإسلام! (١).

والمذكور من شعائر الله هنا ثلاث صراحا هي «الشهر الحرام ـ الهدي والقلائد ـ آمين البيت الحرام» والمطوي فيها في سواها هو شعيرة الإحرام ، وهي مصب الآيتين (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا).

و (الشَّهْرَ الْحَرامَ) هو من الشعائر الزمنية ، وتراه شهرا واحدا هو ذو حجة الحرام ، لوحدة الصيغة ، أنّه الأصل في أشهر الحج الثلاثة والأشهر الحرام الأربعة؟.

بما أن الأشهر الحرم لم تأت جمعا إلا في آية تعديد الشهور : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ ... مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (٩ : ٣٦) وآية السماح للقتال في غيرها : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٩ : ٥) ، ثم نراها مفردة تعني جنس الشهر الحرام الشامل لكل الأشهر الحرم : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) (٢ ـ ١٩٤) ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) (٢ : ٢١٧) ـ (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) (٥ : ٩٧).

لذلك ف (الشَّهْرَ الْحَرامَ) قد لا تعني ـ هنا ـ شهرا واحدا من الأشهر الحرم الأربعة ، وهي : رجب ـ ذو القعدة ـ ذو الحجة ـ المحرم أو من أشهر الحج المعلومات ، وهي : شوال ـ ذو القعدة ـ ذو الحجة ، فإن هذه

__________________

(١) لقد حدث حدث هائل يوم كنا نتحدث عن آية الشعائر هذه أن هاجم جمع غفير من اللابسين ملابس طلاب علوم الدين على الحاضرين في دروس القرآن في بيت الله فهتكوهم وضربوهم وجرحوهم وأحرجوهم حتى أخرجوهم بشعارات خاوية عن كل الشعورات أنهم ضالون متخلفون عن مرسوم الحوزة ، ولأنهم جاعلوا القرآن محورهم الدراسي في الحوزة وفي دخول القرآن في الميدان ميدان لهذه الحوزة التي لا تتبنى القرآن في علومها ودراساتها ، ولأنهم يتلون القرآن حق تلاوته لا كما يتلوه المحرفون معانيه إلى مغازيهم ، ومغازيه إلى معانيهم.

٢٩

الأشهر الخمس كلها حرم لمجموع الحج والقتال ، مهما اختص شوال بحرم الحج واختص رجب والمحرم بحرم القتال.

فقد تعني (الشَّهْرَ الْحَرامَ) هنا خصوص الأشهر الحرم ، أم خصوص أشهر الحج ، أم وباحرى مجموع الخمسة رعاية للحرمتين ، والمحور الأصيل فهيأ هو ذو حجة الحرام ، فقد يعني إفراد (الشَّهْرَ الْحَرامَ) لمحة المحورية لذي الحجة ، مع عناية سائر الخمسة.

فإحلال الأربعة الحرم منه هو القتال فيها ، وإحلال أشهر الحج المعلومات ، منه تحويل الإحرام فيها إلى غيرها ، أو ترك الإحرام فيها (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ).

ذلك! وقد تعني (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) غير رجب من الخمسة ، كما وتلمح لهذه العناية (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) وكيف تجوز القتال في شوال وهو مبتدء الحج؟.

ترى وكيف ينهى المؤمنون عن إحلال شعائر الله وتعظيمها هو قضية التقوى وهي لزام الإيمان؟.

علّ الأصل هنا أن كان المشركون يحجون البيت الحرام ويهدون الهدايا وينظمون حرمة المشاعر وينحرون في حجهم فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم .. (١).

وهكذا نستشعر من موقف بعض المشاعر الأخرى كما (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ..) (٢ : ١٥٨) (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ..) (٢٢ : ٣٦).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٥٣ ـ أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ...).

٣٠

ثم وتحكيما لعرى التعظيم لشعائر الله دون تحرّج وتأثّم لأنها كانت كذلك من شعائر الجاهلية : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٢٢ : ٣٢) ... وكما (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) (٢ : ١٩٩) في وجه عناية المشركين من الناس.

كل ذلك صدّا عن مزعمة المسلمين الجدد : أن شعائر الجاهلية كلها جناح فلتترك في الإسلام ، فالله ينبّههم أن تشابه الشعائر ليس بالذي يسمح لتنازل المسلمين عن شعائرهم الإسلامية المشابهة لها ، لا سيما وأن الشعائر الجاهلية في الحج انتشأت من الشرعة الإبراهيمية فتبّقت بينهم اعتبارا بالحفاظ على بيت مجدهم.

أجل ف (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) إخلالا بها أو تغييرا لها تحويرا لأن المشركين يطبقونها ، فليست شرعة الله لعبة تقبل الغيار لأمثال هذه التخيلات الجاهلة ، فإنما هي المدار ، سواء وافقت سائر الشعائر أم خالفتها.

وما النهي عن قول «راعنا» إلى «أنظرنا» ـ حيث أصبحت راعنا ملعبة اللّي لليهود سبا على الرسول (ص) ـ إلّا صدا عن ملعنة إسرائيلية تغييرا لعبارة إلى أخرى ، وليس تغييرا لشعار ، فالشعائر الإسلامية ليست لتترك على أية حال.

فإحلال الشهر الحرام مظنة أنّه من شعائر الجاهلية ، منه تحليل القتال فيه ـ ككل ـ كما منه الإحرام في غير أشهر الحج الثلاثة ، نسيئا قد كان يعمله الجاهليون.

وإحلال الهدي والقلائد منه تركهما في الحج تمتعا وقرانا ـ لازبا ـ وإفرادا راجحا.

وأما آمين البيت الحرام وهو جمع الآمّ : القاصد ، من : أمّ يؤمّ ، وليست هنا اسم الفعل ، فهل هي حال للذين آمنوا أن يحلوا شعيرة الإحرام

٣١

آمين البيت الحرام ، أو أن يحلوا من شعائر الحج وهم حرم آمين البيت الحرام.

أم هي مفعول ل «لا تحلوا» نهيا عن صدّ الآمين البيت الحرام عن أن يقصدوا حجّاجا أو معتمرين؟.

علّهما معنيّان لصالح العناية الأدبية لفظيا ومعنويا ، فأولاهما نهي عن الإحلال الإخلال بشعائر الله في الحج قاصدين البيت الحرام ، ومنها الإحرام الذي يبدأ من قصد البيت الحرام فلا يحل للداخل في الحرم قصدا إلى حج أو عمرة أم دون قصد أن يحلّه دون إحرام إلّا في موارد استثنائية حسب النصوص (١).

__________________

(١) منها خبر علي بن أبي حمزة سألت أبا إبراهيم (ع) عن رجل يدخل مكة في السنة المرة والمرتين والثلاث كيف يصنع؟ قال : إذا دخل فليدخل ملبيا وإذا خرج فليخرج محلا(الكافي ٤ : ٥٣٤ والفقيه كتاب الحج ب ٦١ ح ٣) وفي صحيح ابن مسلم سألت أبا جعفر عليهما السلام هل يدخل الرجل مكة بغير إحرام؟ قال : «لا إلا مريضا أو من به بطن» ومثله صحيح عاصم بن حميد (التهذيب ١ : ٤٩٣ و ٥٨١ والإستبصار ٣ : ٣٤٥).

ومنها حسن معاوية بن عمار قال قال رسول الله (ص) يوم فتح مكة : «إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لي إلا ساعة من نهار» (الكافي ٤ : ٢٢٦ والفقيه كتاب الحج ب ٤ ح ١٩).

وفي صحيح رفاعة إن الحطابة والمجتلبة أتوا النبي (ص) «فسألوه فإذن لهم أن يدخلوا حلالا» (التهذيب ١ : ٤٩٣ والإستبصار ٣ : ٣٤٥).

ومما يدل على جواز دخول الحرم دون إحرام إذا مضى شهر عن إحرامه الأول ، «لكل شهر عمرة» كما في المستفيضة وموثق إسحاق سألت أبا الحسن (ع) عن المتمتع يجني فيقضي متعته ثم تبدو له الحاجة فيخرج إلى المدينة أو إلى ذات عرق أو إلى بعض المعادن؟ قال : يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه لأن لكل شهر عمرة وهو مرتهن بالحج ، قلت : فإنه دخل في الشهر الذي خرج فيه ، قال : كان أبي مجاورا هاهنا فخرج يتلقى بعض هؤلاء فلما رجع فبلغ ذات عرق أحرم من ذات عرق بالحج ودخل وهو محرم بالحج (الكافي ٤ : ٤٤٢).

٣٢

كما لا يحل للمحرم أن يحلّ عن إحرامه قبل قضاء مناسكه التي هي شرط التحلل عن الإحرام ، يحلّ بغية التحلل عن محرمات الإحرام ، أو التحلل عن واجب الحج أو العمرة الواجبان به ، أم أي إحلال بالنسبة لأصل الإحرام ، أم شروطه ، أو سائر شعائر الحج الواجبة به.

والقول إن واجب الإحرام لكل داخل في الحرم لا يناسب (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) لخروج غير القاصد حجا أو عمرة ، مردود بأن قصد البيت الحرام أعم من قصد الحج أو العمرة ، فإنه طليق قصد الحرم ، والقصد من (الْبَيْتَ الْحَرامَ) هو الحرم كله تعبيرا عنه بأصله ، ك (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) حيث القصد منه الحرم وزيادة.

فالمفروض على (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ـ ككلّ ـ عقد الإحرام لعمرة أو حج ، إلّا لمن يتكرر دخوله الحرم قضية شغله ، أو المريض ، أو الذي أحرم في شهره ، ففاصل شهر هنا ممّا يفرض الإحرام إلّا لعذر كما فصّل في المستفيضة.

ثم على وجه المفعولية ل (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) فمصبّ النهي هم القاصدون البيت الحرام ألّا تصدوهم عنه لحج أو عمرة أم سواهما.

وهل «الآمّين» هنا بعدهم ـ فقط ـ المشركون كما يقال (١) فالآية ـ إذا ـ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٥٣ ـ أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخة عن ابن عباس في الآية قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ويهدون الهدايا ويعظمون حرمة المشاعر وينحرون في حجهم فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله : (تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) وفي قوله (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) يعني لا تستحلوا قتالا فيه (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) يعني من توجه قبل البيت فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت جميعا فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذا (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وفي قوله (يَبْتَغُونَ فَضْلاً) يعني أنهم يترضون الله بحجهم.

٣٣

منسوخة ب (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (٩ : ٢٨)؟.

والمائدة ـ ككل ـ ناسخة غير منسوخة ، و (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) لا تقبل النسخ ب (وَلَا آمِّينَ) لمكان (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) فلا تناسخ بينهما إطلاقا.

ثم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) لا تناسب المشركين المبتغين ـ فقط ـ أصنامهم ، فذلك إذا نهي في وجه المفعولية عن صدّ المسلمين عن البيت الحرام على أية حال.

والقول : إن صدّ المسلم مسلما عن البيت الحرام غير وارد ولا سيما بين المسلمين الأول والجدد إذ لم يكن بينهم شنآن ، مردود بأن ذلك النهي كسائر الأمر والنهي القرآني يحلّق على كلّ الزمن الرسالي الإسلامي منذ بزوغه إلى يوم الدين ، ومهما لم يكن في البداية صد هكذا ، فقد نرى صدا في زماننا من قبل السلطة الزمنية في الحجاز.

ثم وعناية المعنيين من «آمين» وأنها كانت في البداية تقصد بعض الصد ، مما يجعل شمول النهي بالنسبة للمسلمين الآمين واردا دون إيراد ، لا سيما مع عناية «آمين» أنفس القاصدين المعنيين بالخطاب مع سائر الآمّين.

وترى كيف تتناسب صيغة الغياب في «يبتغون ...» وجه الحالية في «آمّين» حيث الفصيح ـ إذا ـ «تبتغون ..»؟

«تبتغون» تختص وجه الحالية و «يبتغون» المفعولية ، وعناية الجمع تقتضي صيغة الغياب قضية شمول الغيّب على المفعولية ، إضافة إلى وجه الحالية.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)

أمر الاصطياد لا يدل على واجبه بعد الحلّ خروجا عن كلا الإحرام

٣٤

والحرم لمكان «حللتم» بعد (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) الشامل لهما ، ولا راجحه أو مسموحه طليقا حتى يستدل بإطلاقه لحلّه في صيد اللهو ، فإنما هو أمر عقيب حظر يرتجع حكم الاصطياد الذي كان قبل كونكم حرما.

ثم «حللتم» دون «أحللتم» مما يلمح صارحا أن الخروج عن الإحرام ليس ـ فقط ـ بتقصد دون شروط ، فلا يجوز هدم الإحرام قبل انقضاء مناسكه ، إنما «إذا حللتم» خروجا عن الإحرام بعد انقضاء المناسك المفروضة حاله.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا).

«لا يجرمنكم» من الجرم : القطع ، وهو قطع الثمرة قبل إيناعها إسرافا أو تبذيرا ، فكل عملية مسرفة أو مبذّرة جرم ، ـ والاسم جرم ـ ولا يسمح له (شَنَآنُ قَوْمٍ) وسواه.

وهذه كضابطة ثابتة أن جرم قوم لا يسمح أن تجرموا أنتم كما جرموا إلا اعتداء بمثل ما أعتدي فيما يسمح.

والشنآن هي عداوة ذات حركة وجولان ، وهي أعم من كونها إضافة إلى الفاعل أن يشنؤكم أم إلى المفعول أن تشنؤهم ، ام كليهما على البدل أن تتشانئوا.

وتراه شنآنا بين المؤمنين والمشركين حتى يناسب النهي عن الاعتداء صدا لهم عن المسجد الحرام كما صدوكم ، وإن كانوا (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ..) (٤٨ : ٢٥)؟.

فذلك تقريب غريب ل «آمين» للمشركين ألّا تصدوهم عن المسجد الحرام وإن صدوكم ، والاعتداء بالمثل ضابطة سارية المفعول حتى وإن كان دخول المشركين المسجد الحرام مسموحا!.

٣٥

و (شَنَآنُ قَوْمٍ) هنا هو شنآن المشركين ضد المؤمنين (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهنا مصبّ النهي هو إحلال الشهر الحرام ، أن تحلوا فيه قتالهم بعد الفتح أن صدوكم عن المسجد الحرام قبل الفتح ، ومن ثم شنآن بين المؤمنين أنفسهم إن صد بعضهم بعضا عن المسجد الحرام ، أن يصدّوا الصادّين صدا بصد ، فإنه محظور.

ثم والاعتداء غير مسموح إلّا بمثله المسموح ، دون طليق الاعتداء بمثل وسواه ، زائدا وسواه ، فلا يعتدى على المهاجمين من المشركين بحرب بدائية عند المسجد الحرام ، كما لا يعتدى على مؤمنين بينكم وبينهم شنآن أن تصدّوهم عن المسجد الحرام كما صدوكم.

فكما لا يجوز الاعتداء زائدا على ما اعتدي ، كذلك الاعتداء بمثل ما اعتدي في المحظور ، كأن تزني بامرأة من زنى بامرأتك ، أو تفتري على من افترى عليك وما أشبه.

وإحلال الشهر الحرام بقتال فيه وإن كان مماثلا لإحلال المشركين الشهر الحرام ، ولكنما الإحلال في حد ذاته غير محلّل اللهم إلّا دفاعا حاضرا : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (٢ : ١٩١).

فإخراج المشركين كما أخرجوكم عن المسجد الحرام مسموح ، مرة اعتداء بالمثل ، وأخرى (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) وإن لم يخرجوكم عن المسجد الحرام ، فأما إخراج المؤمنين فلا ، مهما أخرجوكم واعتدوا عليكم.

ولكن قتال المشركين اعتداء بمثل ما اعتدوا دون حاضر الدفاع فلا ، فإنه إحلال الشهر الحرام والمسجد الحرام ، ولكلّ منهما حرمته ، فضلا عن جمعهما.

٣٦

ذلك ومن غريب الوفق العددي بين المسجد والدين ـ ما يدل على تلازمهما ـ أن كلّا يذكر بصيغة في القرآن (٩٢) مرة ، حيث المساجد هي مجتمعات إسلامية شاملة كافلة لكافة التعاونات الإيمانية ، ولا سيما المسجد الحرام ، فإنه مؤتمر إسلامي فيه قيام للناس ، فقد (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ).

ثم وهذه ضابطة ثابتة أن شنآن قوم ولا أي سبب من الأسباب لا يسمح باعتداء عليهم ، اللهم إلّا بمثل ما اعتدي شرط السماح فيه ، بشنآن وسواه.

وهكذا يؤدّب المؤمن حتى وجاه عدوّه ألّا يعتدي عليه في فورة الغضب ودفعة الشنآن ودفئته ، ولا سيما في نزوة الغلبة وحظوة الفتح المبين.

ونرى رسول الهدى (ص) كيف عامل المشركين عند الفتح ، حيث تناسى كل غابر من شنآن المشركين وعداءهم العارم ، وعاملهم معاملة الأخوة الحنونة غير المنونة قائلا «اذهبوا فأنتم الطلقاء»!.

أجل ـ لا دور هنا لحمية الجاهلية الجهلاء ، ولا نعرة العصبية الحمقاء ، وهنا المسافة الشاسعة بين درك الجاهلية بحذافيرها وبرك الإيمان بأفقه السامق الوضيء!.

أجل! وإن جو الإيمان ككل ولا سيما في الشهر الحرام والبلد الحرام ، هو جوّ لطليق الأمان ، حتى للمشركين وسائر الحيوان وحشا وسواه ، اللهم إلّا دفاعا مفروضا عند الهجمات ، اعتداء كما يعتدى دون تجاوز عن قضية الدفاع.

وهكذا استطاعت التربية الإسلامية السامية أن تروض نفوسا شاردة ماردة من قوم لدّ على الانقياد لتلك المشاعر القومية وتعظيم الشعائر الإلهية البهية ، فولّدت البشرية ولادة جديدة جادّة منقطعة النظير.

ذلك ، ولأن صدهم إياكم عن المسجد حين يقابل بالاعتداء عليهم

٣٧

بالهجوم انتقاميا عليهم في الشهر الحرام وفي الحرم ، هذا تعاون على الإثم والعدوان لذلك تذيّلت الآية بالتالية الآمرة بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان.

وهنا ضابطتان اثنتان إيجابية وسلبية تجتثان كافة الاعتداءات المحظورة عن حقل الإيمان:

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ٢.

«البر» هو الخير الواسع من البرّ : الواسع ، والتقوى هي الاتقاء عن الشر واسعا وسواه ، فكما على المؤمن تحقيق الخيرات وترك الشرور شخصيا ، كذلك هما عليه جماعيا ، تعاونا بكافة القوات والإمكانيات عقليا وعلميا وعمليا ، نفسيا وماليا وما أشبه ، على البر والتقوى على أية حال ، دعوة إلى الخير ، وأمرا بمعروف ونهيا عن منكر وجهادا مترامية الأطراف في سبيل الله.

(وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ) وهو كل ما يبطئ عن الثواب كالخمر والميسر وما أشبه ، «والعدوان» بما يورثه ، وأصدق مصاديقه كأنجسها الخمر والميسر حيث يورثان العداوة والبغضاء ، فكل تعاون على الخمر تعاون على الإثم والعدوان ، ومنه بيع العنب ممن تعلم أنه يعمله خمرا ، كحمل الخمر وبيعها وكل محاولة لها ، وقد لعن رسول الله (ص) في الخمر كل معين ومعاون (١).

(وَاتَّقُوا اللهَ) في كل سلب أو إيجاب فرديا وجمعيا (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) على غير المتقين الطغاة.

ذلك! و «البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك» (٢) وكذلك «البر

__________________

(١) راجع تفسير الآية «مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها» (٤ : ٨٥) من الفرقان.

(٢) الدر المنثور ٢ : ٢٥٥ ـ أخرج أحمد وعبد بن حميد في هذه الآية والبخاري في تأريخه عن وابصة ـ

٣٨

حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس (١) ، كما «الإثم حواز القلوب وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع» (٢).

__________________

ـ قال أتيت رسول الله (ص) وأنا لا أريد أن أدع شيئا من البر والإثم إلّا سألته عنه فقال لي يا وابصة أخبرك عما جئت تسأل عنه أم تسأل؟ قلت يا رسول الله (ص) أخبرني قال جئت لتسأل عن البر والإثم ثم جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول يا وابصة التفت نفسك؟ البر ...

(١) المصدر أخرج جماعة عن النواس بن سمعان قال سئل رسول الله (ص) عن البر والإثم فقال : ... وفيه عن أبي أمامة أن رجلا سأل النبي (ص) عن الإثم فقال : ما جال في نفسك فدعه قال فما الإيمان قال : من ساءته سيئة وسرته حسنة فهو مؤمن.

(٢) المصدر أخرج البيهقي عن ابن مسعود قال قال رسول الله (ص) الإثم ... وفيه أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال قال رسول الله (ص) «ما من رجل ينعش لسانه حقا يعمل به الا أجرى عليه أجره إلى يوم القيامة ثم بوأه الله ثوابه يوم القيامة» وفيه أخرج البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله (ص) قال : إن داود (ع) قال فيما يخاطب ربه عز وجل يا رب أي عبادك أحب إليك أحبه بحبك؟ قال يا داود أحب عبادي إليّ نقي القلب نقي الكفين لا يأتي إلى حد سوء ولا يمشي بالنميمة تزول الجبال ولا يزول احبني وأحب من يحبني وحببني إلى عبادي ، قال يا رب إنك لتعلم أني أحبك وأحب من يحبك فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال : «ذكرهم بآلائي وبلائي ونعمائي ، يا داود إنه ليس من عبد يعين مظلوما أو يمشي معه في مظلمة ألا اثبت قدميه يوم تزل الأقدام» وفيه أخرج أحمد عن أبي الدرداء عن النبي (ص) قال : «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة» وفيه اخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال : «من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقى الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» وفيه أخرج الطبراني في الأوسط والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله (ص) قال : «من أعان ظالما بباطل ليدحض به حقا فقد برىء من ذمة الله ورسوله» وفيه اخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر قال قال رسول الله (ص): «من أعان على خصومة بغير حق كان في سخط الله حتى ينزع» وفيه عن أوس بن شرحبيل قال قال رسول الله (ص): «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام» وفيه أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر سمعت رسول الله (ص) يقول : «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره» وفيه عن واثلة بن الأسقع يقول سألت رسول الله (ص) أمن المعصية أن يحب الرجل قومه؟ قال : لا ولكن من المعصية أن يعين الرجل قومه على الظلم.

٣٩

وكلما كان البر والتقوى أقوى فالتعاون عليهما أبر وأتقى ، كما كلما كان الإثم والعدوان أشجى فالتعاون عليهما أطغى وأغوى.

ورأس البر وزمامه ودعامته هو التعاون على تقرير القرآن في الوسط الإسلامي دراسة وتفهما وتطبيقا ونشرا وتأسيس دولة الحق على ضوءه.

كما أن دعامة التقوى هي الاتقاء عما يناحر القرآن وما يصد عنه فإنهما من الإثم والعدوان. فأي إثم آثم ، أو عدوان أعدى ، من تنحية القرآن عن حوزاته ووسطه الإسلامي، وكما افتعله الاستحمار الاستعمار وجاوبه المسلمون إلّا من هداه الله ورعاه حيث راعاه.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ..) (٣).

هنا عرض عريض لمحرمات عدة هي إحدى عشرة لم تعدّ في سائر القرآن ، اللهم إلّا (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وهذه مما يتلى عليكم المستثنى عن (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

١ فلقد سبقت حرمة الميتة والدم في البقرة (١٧٣) والأنعام (١٤٥) والنحل (١١٥) وهذه هي الرابعة والأخيرة ، وقد زودت بسائر الميتات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب والمستقسم بالأزلام ، حيث الميتة هي بمفردها تعني ما مات حتف أنفه ، فكان من المفروض أن تزوّد بما في حكمها من القتيلة بغير سبب شرعي ، ولولا هذا البيان لخفي تحريمها علينا ، فهنا مربع من الحيوان المحرم ، الميتة حتف أنفها ، الميتة بسبب إنساني وسواه كالخنق والوقذ والتردّي والنطح وأكيل السبع ، والذبيحة بسبب غير مشروع ك «ما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام» والمحرم ذاتيا كالخنزير.

٤٠