الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

كان الله معه فلا شيء ضده أم هو هباء منثور لا وجود له أمامه ولا أثر ، إذا فلن يضل عن سواء السبيل ، فإن هذه المعية الربانية تهديه كما هي تكفيه ، فإن قربه من الله يطمئنه ويسعده ، مضمونة له الحياة السعيدة.

(إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) دون (قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) فإقام الصلاة تعني معنى زائدا على القيام إليها ، أن تقام في كل متطلباتها ظاهريا وباطنيا ، فرديا وجماعيا ، كما هي مسرودة في الكتاب والسنة ، أن تصبح الصلاة صلات متواصلات بالله ناهية عن الفحشاء والمنكر حيث تقام لذكر الله وهو المنعة المنيعة عن كل فحشاء ومنكر.

وقد يعني تقديم إقام الصلاة وإيتاء الزكوة على الإيمان بالرسل وتعزيرهم ، أن الأولين كانا لهم أسهل قبولا مهما لم يؤمنوا تماما ، أم إن القصد من «رسلي» هم غير من هم كانوا به مؤمنين كموسى (ع) فليؤمنوا بالمسيح ومحمد عليهما السلام ، وليؤمنوا بمن قبل هؤلاء الرسل ، أم إن القصد كمال الإيمان برسلهم وأصل الإيمان بكماله بسائر الرسل.

ثم الوجه في تأخير (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أنه قضية إقام الصلاة وإيتاء الزكوة والإيمان بالرسل ، أن يقطعوا عن أنفسهم لله ما يصح ويمكن قطعه ، قطعا لأنفسهم ونفائسهم في سبيل الله ، الشامل لكامل الجهاد بكل أبعاده في هذه السبيل.

فليس إقراض الله قرضا حسنا ليختص بقرض المال ، بل وبأحرى قرض النفس والحال ، أن يقطع الإنسان كافة علاقاته في الله ، وينقطع كليا إلى الله ، فلا ينحو إلى سواه على أية حال وذلك هو القرض الحسن مهما كان درجات.

(وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) وهي زكاة كل شيء يمكن أن يزكى علما وفهما وتعقلا ومالا وحالا على أية حال ، وهي من المال هو الزائد عن حاجيات الحياة

٢٢١

الضرورية ، فلا تختص بالزكوة المخصوصة المعروفة في كمها وعديد الأموال المزكاة.

فحين تؤتى الزكاة إيتاء وافيا كافيا لحاجيات المحاويج فلا يفضى المجتمع الإسلامي إلى ترف في طرف وإلى شظف في طرف ، اختلالا في التوازن الاقتصادي فاختلالا في الحياة الجماعية بأسرها.

(وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) في مثلث الزمان ، ولا سيما الموعود في كتابات السماء الرسول الأعظم محمد (ص) .. فهو إيمان بكل الرسل في مثلث الزمان الرسالي ، (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) تعزيز التعزيز ، شخصيا في عقيدة الإيمان ، وجماعيا في التعريف بهم أمام الجماهير ، وفي كل ما يتطلّبه التعزيز فإنه لغويا هو الرد ، فله مصداقان متعاكسان مشتركان في الرد ، فقد يرد عن المعزر ما يضر به ويؤذيه ، فهو المراد هنا من تعزير الرسل ، أو يرد المعزّر عن القبيح وهو التعزير في التأديب أن يعزر المتخلف ردا عن تخلفه.

إذا فليس هو التوقير فإنه ناحية إيجابية والتعزير تنحو الناحية السلبية ولذلك جمع بينهما في (تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (٤٨ : ٩).

فقضية الإيمان برسل الله ليست هي مجرد عقيدة باطنية ، أم وطقوس عملية ، بل وهنا زاوية ثالثة هي تعزيز الرسل دفاعا عنهم في مضطرب الدعوات والدعايات.

فدين الله منهج مثلثة الجهات في كل الحياة ، والزاوية الثالثة هي العماد لبقاءها وحماية لعمودها.

(وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وهو القطع لله إلى الله وإلى عباد الله ما بالإمكان قرضه من مال أو حال.

لئن طبقتم هذه الست من قضايا الإيمان ـ وهي رؤوس زوايا الإيمان ـ

٢٢٢

إذا ف «إني معكم» و (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..) كما إني معكم أنتم الرقباء بعد تطبيقكم هذه الشروط.

فهنا جزاء متقدم (إِنِّي مَعَكُمْ) وآخر مؤخر «لأكفرن» وبينهما شروط ستة ، أو «إني معكم» تختص بالنقباء قضية نقابتهم ومن قضاياها تحقيق الشروط الستة ، ثم الجزاء المؤخر يختص بسائر بني إسرائيل إن حققوا تلك الشروط.

أو «إني معكم» تعني المعية الرحيمية للنقباء والذين يحققون شرائط الإيمان ـ الستة ، وتعني الرحمانية وهي معية العلم والقدرة للفريقين إيمانا وكفرا.

(فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ) وهم بنو إسرائيل دون نقباءهم (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) حيث توفرت عليهم الحجة الرسولية بالرسول والرسالية بالنقباء.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ١٣.

(فَبِما نَقْضِهِمْ) بني إسرائيل دون نقباءهم ، فإن بعيث الله لا ينقض ميثاقه ، وأخذ هذا الميثاق كان ـ فقط ـ على بني إسرائيل إذ قوبلوا بنقبائهم.

ودور «ما» هنا علّه دور التأكيد والإبهام لفرض الإكبار لميثاقهم والتحقير لنقضهم إياه ، أم هي موصولة صلته (نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) فبالذي نقضوا من ميثاقهم ، أم موصوفة وصفها الجملة ، فلا تبقى دون معنى على أية حال.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) في المواد الست «لعناهم» تبعيدا عن ساحتنا الربوبية حيث لن تشملهم «إني معكم» في حقلها الرحيمي الخاص

٢٢٣

بالمؤمنين ، ومن مصاديق ذلك اللعن مسخ جماعة منهم قردة خاسئين كأصحاب السبت (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٢ : ٦٥) : ومن (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) (٥ : ٦٠) فالقردة من اليهود والخنازير من النصارى.

ومنها صمّ آذانهم وعمى أبصارهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٤٧ : ٢٣) أمّا أشبه من لعن لعنوا به أكثر اليهود وقسم من النصارى بما نقضوا من مواثيق الله.

(وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) لما قست عن ذكر الله والإيفاء بميثاق الله ، فهذه القسوة الربانية المسيّرة هي ختم على قلوبهم بقسوتها المخيّرة ، فلا يصح تأويل (جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) ب : أخبرنا بقساوة قلوبهم ، فإن عبارته الصالحة نفس عبارته ، دون «جعلنا» الذي يعبر عن جعل رباني بقساوة القلوب ، زيغا بزيغ : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، ومن قضايا هذه القساوة المزدوجة : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) ولا سيما كلم البشارات المحمدية تحريفا لها لفظيا بكل أبعاده ، ومعنويا قصدا إلى تجميدها عن دلالتها على الرسول محمد (ص) ، فالمواضع اللفظية والمعنوية هي مجالات مختلف التحريفات والتجديفات الإسرائيلية ، يعيشونها طوال تاريخهم النحس النجس.

(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ومما ذكروا به ذكرى الرسالة المحمدية (ص) وهي لهم حظوة أمام المشركين حيث كانوا يستفتحون عليهم ، وحظوة لهم فإن فيها تكملة الرسالة الإسرائيلية ، فقد نسوا ذلك الحظ الرفيع الحظيظ حيث نزلوه إلى الحضيض. (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى) عملية أو قولة أو طوية ونية (خائِنَةٍ مِنْهُمْ) بحق الحق في شرعة الله ، فلهم مواقف خيانية متواترة لا تزال ، أم «خائنة» مبالغة خائن : كثير الخيانة.

فرغم أن الدولة الإسلامية مكّنت لهم الحياة الرغيدة ، لكنهم كانوا في المدينة ـ ولا يزالون ـ عقارب وحيات وثعالب وذئبانا تضمر دوما كل كيد

٢٢٤

وخيانة ، فإن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد وتآمروا عليهم مع كل عدو لهم شرس.

وقد تتحمل (خائِنَةٍ مِنْهُمْ) احتمالات عدة كالتالية :

تقديرا لموصوف بإثبات الصفة المعرّفة به ، كالفعلة الخائنة والنية الخائنة والقولة الخائنة والنظرة الخائنة وكل محاولة خائنة يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة ، مما تجعلهم كأنهم في كيانهم «خائنة». أم إن «خائنة» مبالغة في الخيانة للموصوف الأول ، أو الثلاثة الأخرى ، والجمع أجمل ، فإن خيانتهم في نقض الميثاق مبالغة ، ودون اختصاص بناحية دون أخرى ، فإنهم «خائنة» بكل كيانهم!.

(إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) الثابتين على ميثاق الله (فَاعْفُ عَنْهُمْ) لا عفوا عن بكرته حيث لا يعفى عن هذه الخيانات في شرعة الله ، فالعفو عنها خيانة بشرعة الله ، ثم ليس العفو عن العصيان أيا كان بيد الرسول (ص) إلّا ما كان ظلما بحقه شخصيا وبشروطه ، وأما الظلم رسوليا ورساليا فليس للرسول أن يعفو عنه لأنه حق جماهيري لا يختص بمحمد (ص) بل هو حق الرسول والرسالة الربانية الذي لا يعفى عنه.

إنما (فَاعْفُ عَنْهُمْ) عفوا ظاهرا ألا تجابههم بقسوة متجاهرة عاجلة ، نظرة المجابهة الآجلة أم توبة لهم نصوحا ، وذلك العفو المؤقت لامح في آيات ك (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (٤٢ : ٣٤) حيث يعف عن كثير وجاه الإيباق بما كسبوا ليس إلّا تأجيلا لكثير بعد تعجيل القليل.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ) هكذا «واصفح» عنهم كأنك لم ترهم ولم تسمعهم ما نقضوا من ميثاقهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وترى العفو هنا والصفح عن هؤلاء الخونة إحسان؟ وهما إساءة بحق الحق! إنه إحسان بحقهم إمهالا لهم علّهم يثوبون ، ولا سيما حين يرون ألا

٢٢٥

قسوة في هذه الرسالة الجديدة تجاههم على قوتها وضعفهم ، ثم وهو إحسان بحق الحق فإنه يظهر ويتبلور أكثر مما إذا كانت القسوة عاجلة ، فإمهال الخائن إحسان ما لم يكن فيه إهمال بحق الحق.

إذا فليست الآية منسوخة بأخرى في غير المائدة هي (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١) حيث المائدة ناسخة غير منسوخة ، وهم بعد ليسوا بمشركين حتى تشملهم آيتهم هذه.

وقد تعني (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) هؤلاء القلة غير الناقضة للميثاق ، فاعف عن سيئاتهم واصفح؟ ولكن العفو عن السيئة كيفما كانت ليس من شأن الرسول ، اللهم إلّا أن يعني عاملهم معاملة المعفو فإن الله عاف عنهم.

ذلك ، فهذه من سمات اليهود اللعينة التي لا تفارقهم ، لعنة بادية على سيماهم ، بادئة في أولاهم إلى أخراهم ـ إلّا من هدى الله وهم قليل ـ.

لعنة تنضح بها جبلتهم الطريدة من الهوى ، المليئة من الردى ، وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة ، المالئة من حشاشة الزحمة ، الناعمة في الملمس عند الكيد والوقيعة.

هذا وقد ذكرت اللعنة بمختلف صيغها كعديد الكراهية (١٣) مرة مما يساعد على المعني من الكراهية أنها هي التي تستجر اللعنة ، خلافا للمصطلح المختلق أن الكراهية هي ما دون الحرمة ، وقد ذكرت كلما ذكرت في موقف غليظ الحرمة تكليفا ، والاستحالة واقعا ، ومن الأولى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (١٧ : ٣٨) والمذكور من ذي قبل هو من أكبر المحرمات وأكبر الواجبات ، ف «سيئه» المكروه هو من المحرمات الكبيرة اللعينة.

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٠١ عن تفسير القمي قال منسوخة بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ...).

٢٢٦

فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) ١٤.

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) صنفان ، منهم من وقف على القال تاركا للحال والفعال اللذين هما قضية كونهم نصارى للمسيح (ع) ، ومنهم من نصره في مثلثة الأقوال والأفعال والأحوال ، فالأولون (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) كما أخذنا ميثاق بني إسرائيل (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) كما هم أولاء نسوا ، ولا سيما البشارات المحمدية التي يحرفونها عن مواضعها.

ولماذا (فَنَسُوا حَظًّا) دون «طرفا أو بعضا» مع أن كل الوحي حظ؟ علّه للإشارة إلى أن موضع نسيانهم في حقل وحي الكتاب هو أهم ما في الكتاب من صالح التوحيد وعصمة الرسالة وصالح المعاد ، وأضرابها في مهام الفروع ، ومن الحظ المنسي البشارات المحمدية (ص).

وذلك النسيان هو نسيان التناسي المعمّد حيث تتلوه (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) فلو لم يكن نسيانا وعصيانا لم يغر بينهم العداوة والبغضاء ، ثم تكفي نسبة النسيان إليهم أنه فعلهم باختيار.

(فَأَغْرَيْنا ..) كما «ألقينا» بين اليهود : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٥ : ٦٤).

هذان نصان لا حول عنهما في إغراء العداوة بين النصارى الناسين حظا مما ذكروا به ، وإلقاءها بين اليهود الملعونين بما قالوا وما فعلوا وافتعلوا.

فالإغراء هو الإلهاج من غرى : لهج ولصق ، وأصله من الغراء وهو ما يلصق به : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي

٢٢٧

الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) (٣٣ : ٦١).

إذا فإغراء العداوة بين النصارى المتخلفين هو إلصاقها بهم ، فهم إذا لصق العداء فيما بينهم وكانوا هم طول تأريخهم متعادين مع بعضهم البعض ، لا تهدأ فورتهم ضد بعض ، ولا ثورتهم على بعض.

والإلقاء لغويا هو طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ، وعرفيا هو اسم لكل طرح ، وهنا في إغراء العداوة بين النصارى وإلقاءها بين اليهود ـ الذين نسوا حظا مما ذكروا به ـ ما يدل على بقاء لليهود والنصارى إلى يوم القيامة ، فليس كما يقال إن أهل الكتاب يؤمنون زمن المهدي القائم من آل محمد عليهم السلام.

ولكن السيطرة العالمية لهذه الدولة المباركة تضعف سواعدهم فهم ـ إذا ـ من أهل الذمة في دولة الإسلام ، فالمؤمنون منهم يؤمنون والكافرون منهم لا يستطيعون أي سلب أو إيجاب ضد الدولة الإسلامية.

وأقل الإيمان هناك من أهل الكتاب ـ كما فصلنا البحث عنه عند (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (٤ : ١٥٩) ـ أن يؤمنوا كلهم أن المسيح ليس إلها ولا ابن الله ، ولا أنه صلب ، إزاحة لكافة المعالم الشركية في هذا البين ، وكما تدل عليها آيات بينات ، فالصالحون من أهل الكتاب يؤمنون بهذه الرسالة الأخيرة ، أم ولأقل تقدير لا يعارضونها ، ويستسلمون لحق الرسالة الكتابية عندهم ، ومن ثم هم قد يؤمنون زمن المهدي (ع).

«أما أنهم سيذكرون ذلك الحظ» (١) في هذه الدولة الكريمة اعترافا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٠١ في الكافي عن أبي عبد الله (ع) على ضوء هذه الآية «أما أنهم وسيخرج مع القائم منا عصابة منهم ...».

٢٢٨

بالرسالة الإسلامية ، المحرفة عندهم بشائرها ، وإن لم يدخلوا في ظل الإسلام بالتمام.

ولقد نرى من العداوة المغراة بينهم طول تاريخهم حروبا طاحنة حتى انتهت إلى حروب عالمية بينهم أنفسهم مما تهددهم بالفناء والدمار.

ولقد سال من دماءهم على أيدي بعضهم البعض ما لم يسل في حروبهم مع غيرهم في التاريخ ، سواء أكان لخلافات مذهبية أو على السلطات الزمنية أو الروحية ، أو الخلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ذلك ، وإغراء العداوة والبغضاء وإلقاءهما ليس يختص بالهود والنصارى لأنهم هود ونصارى ، بل هو بما نسوا حظا مما ذكروا به ، فكذلك المسلمون إذا نسوا ما نسوه وكما نرى بينهم حروبا مهما كانت أقل بكثير منهم أولاء حيث نسوا حظا أقل منهم.

ولكي يتذكروا بأهم حظ نسوه يخبرهم الله بواقعه الذي يعيشونه مخاطبا أهل الكتاب كلهم :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ١٥ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ١٦.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ) والكتاب مفردا يلمح أولا أن التوراة والإنجيل يحملان شرعة واحدة فلا مزيد في الإنجيل إلّا أنظمة خلقية عالية تحتاجها اليهود القساة العصاة ، ونزرا من تحليل ما حرم عليهم عقوبة وابتلاء.

وثانيا أن كتب السماء كرسالات السماء هي سلسلة واحدة بين الله والمرسل إليهم ، وحدة في العمق والاتجاه مهما اختلفت فيها طقوس عملية قضية الابتلاء والاكتمال ، ومن ثم فالكتاب جنس يشمل كل كتاب.

٢٢٩

(قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) جاءكم أولا لأنكم أهل الكتاب ، عارفون لغة الكتاب وطبيعته ، فأنتم أحرى بتصديقه من الأميين الذين لا يعرفون وحي الكتاب.

وهنا «رسولنا» دون «رسولي» أو «الرسول» أو «محمد» تعبير قاصد إلى أمرين هامين يتبنيان كيان هذه الرسالة الأخيرة ، ولذلك لم تأت هذه الصيغة إلّا لرسولنا (ص) (١).

فجمعية الصيغة تعني جمعية الصفات ، فهذه الرسالة الأخيرة هي حصيلة الجمعية الربانية في صفاته الحسنى ، فهي تحمل بلاغا جامعا لجمعية الربانية الإلهية المنبثة في سائر الرسالات وزيادة هي قضية خلودها.

ثم إفراد الرسول في هذه الجمعية يلمح بأنه هو الرسول فقط ، فسائر الرسل هم يعبّدون الطريق لهذه الرسالة السامية ، كما و «رسوله» أيضا تختصه دون سواه ، ووحيه أمام سائر النبيين كأنه الوحي لا سواه حين يقرن بسائر الوحي ، حيث أتت بصيغة الوصية وجاه وحيه (ص) : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ..) (٤٢ : ١٣).

إذا ف (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) قد تعني : قد جاءتكم كل الرسالات الربانية بمجيء هذا الرسول.

(يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) بيانا سلبيا لما حرّفتم من كتابات الوحي ، حيث السلب مقدم على الإيجاب في سلك الهداية وسائر التطهير. و «ما تخفون» يعم إخفاء أصل من الكتاب أم معنى منه ، فقد أخفى النصارى توحيد الحق وحق التوحيد بسائر الكرامات الربانية والرسالية والأحكامية ، وأخفي اليهود ـ كمزيد ـ شطرا من أحكام التوراة مصلحية

__________________

(١) لقد جاء «رسولنا» هنا وفي (٥ : ١٩ و ٩٢ و ٦٤ : ١٢) ثم لم تأت لغيره.

٢٣٠

الحفاظ على مصالحهم المادية أو الروحية! ، وكما أخفوا جميعا يدا واحدة البشارات المحمدية في التوراة والإنجيل ، تحريفا لفظيا أو تأويلا معنويا إخفاء لهذه الرسالة السامية.

فهو بقرآنه المبين وبرهانه المتين يبين كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ، ويعف عن كثير مما كنتم تخفون من الكتاب ، أو ومن ذنوبكم إذا آمنتم بهذه الرسالة ، فإن الإيمان الصالح كفارة عما سلف قبل الإيمان.

فالعفو هنا يعم العفو عن ذنوب إن آمنوا إلى جانب عدم البيان لقسم من إخفاءهم من الكتاب.

فالبشارات المخفية غير المبينة في هذه الرسالة نصا تتبين بمثل (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٧ : ١٥٧) و (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (٢ : ١٤٦) فهما وأمثالهما كصورة عامة.

ومن الخاصة (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) (٤٨ : ٢٩).

ومما أخفوه غير البشارات في شؤون التوحيد والنبوة والمعاد والأحكام ، نجد في القرآن بيانا له تصريحا أو تلويحا ، فالقرآن مهيمن على ما بين يديه من كتاب ، يبين تحريفه ويبين واجب الشرعة والديانة الربانية بأصولها وشطر شطير من فروعها (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٦٨ ـ أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال لما أخبر الأعور سمويل بن صوريا الذي صدق النبي (ص) على الرجم أنه في كتابهم وقال : لكنا كنا نخفيه فنزلت (يا أَهْلَ الْكِتابِ ...) وفيه أخرج ابن جرير عن عكرمة قال ان نبي الله (ص) أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال : أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى والذي رفع الطور بالمواثيق التي أخذت عليهم هل تجدون الرجم في كتابكم؟ فقال : إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله (يا أَهْلَ الْكِتابِ ...).

٢٣١

ذلك (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) عفوا بيانيا صراحا ، لا عفوا عن ذنب الإخفاء فإنه ليس له أي عفو من هذا القبيل لا جليل ولا قليل ، فبدلا من أن يبين كل ما أخفوه ، يبين كثيرا منه صراحا وكثيرا بسائر التلميح ككل الآيات التي تبين حقائق لا تتبدل فطريا أو عقليا أو واقعيا أو علميا حفاظا على بيانه الرسالي عن تطويل دون طائل ، ومن فضح أهل الكتاب بكل ما أخفوه ، فقد تكفيهم حجة بيان كثير مما أخفوه ، ثم تبيان غيره بتلميح ليعرفوا تصرفاتهم الخيانية في كتب الوحي فيرجعوا ـ ضروريا ـ عن غيهم إلى هذا النور المبين.

أترى تضادا بين «كثيرا» هنا و «أكثر» في أخرى (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢٧ : ٧٦).

كلّا لأمور شتى ، منها التبيين هنا والقصّ هناك وهذا أعم من ذاك ، ومنها أن الذي هم فيه مختلفون كثيران اثنان والمبين منهما أكثر مما عفي عنه تبيينا.

أم وترى تضادا بين بيان الكثير الأكثر وطليق التبيين لما اختلفوا فيه في ثالثة : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٦ : ٦٤)؟.

كلا ثم كلّا! حيث الذي اختلفوا فيه هنا غير ما هناك ، فهنا المختلف فيه بين المشركين وهو مادة الإشراك مهما شمل موادا لأهل الكتاب ، وهناك مختلقات أهل الكتاب ، وقد بين القرآن أكثر الذي هم فيه يختلفون صراحا ، ثم الكثير معروف من تبيين حقائق ناصعة مسرودة في الذكر الحكيم ، فالمبيّن الأول يتبنّى أهم المختلفات المختلقات من إخفاء الكتاب في مثلث التحريف لفظيا بزيادة أو نقصان ، والتحريف معنويا بتفسير خلاف المقصود ، والثاني يتبنى سائر ما أخفوه.

(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) وقضية العطف هنا أن المعني من

٢٣٢

«نور» غير المعني من الكتاب ، فهو «رسولنا» النور ، كما وتدل عليه (سِراجاً مُنِيراً) (٣٣ : ٤٦) مهما كان القرآن معه نورا (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (٤ : ١٧٤) ولكنه مع القرآن نور كما القرآن معه نور (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) فهما كالظرف والمجرور إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.

فلا أصدق تعبيرا عن قرآن محمد ومحمّد القرآن من «نور» نور تشرق به كينونته فتشفّ وتخفّ وترفّ ويشرق به كل شيء أمامه ، وهكذا نجد وفقا بين عديد ذكر النور والقرآن في القرآن وهو (٦٨) مرة!.

ثم إن «رسولنا» هو «نور» كما أن (كِتابٌ مُبِينٌ) نور ، نور في عقليته ، نور في حاله ومقاله وفعاله ، نور في اتجاهاته وتوجيهاته ، فلذلك مثّل به في آية النور : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) فأين هو مثل نوره؟ : «في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال. رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ..» (٢٤ : ٣٧).

ذلك ، وقد تعني «نور» هنا كلا النورين ، كما (كِتابٌ مُبِينٌ) قد تعني كلا الكتابين وهكذا (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٣٦ : ٦٩) فالرسول هنا قرآن مبين ، مما يؤكد كون القرآن الرسول مع القرآن الكتاب ، وكون النور القرآن مع الرسول ، فرقدان لا يتفارقان فيما يحويه القرآن إلّا في خلود القرآن حاضرا دون الرسول.

(نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) ومما يبينه ذلك الكتاب النور أن ما جاء به هو نور رسالي من خالق النور وباعثها ، كما ويبين كل شرائع الدين دون إبقاء.

ومن مواصفات (كِتابٌ مُبِينٌ) :

٢٣٣

(يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ..) وهي سبل الإسلام الذي قضيته السلام ، وكما أن «نور» تشمل الرسول النور والكتاب النور وكذلك الكتاب ، كذلك «به» تعني بالرسول وبالكتاب ، فالرسول يهدي بالكتاب والكتاب بالرسول ، وكلاهما «بإذنه».

وهنا (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) تحلّق على كل من يتحرى عن الحق وإن كان لمّا يصل إليه ، فأولى مراحل إتباع رضوان الله التتبع عنه معرفيا ثم عقيديا وعمليا ، فهي عبارة أخرى عن (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

ثم (سُبُلَ السَّلامِ) هي السبل إلى الله في عديدها ومديدها في مختلف شؤون الحياة ، ولأنها لا تخلوا عن ظلمات آفاقية وأنفسية ، قصورا أو تقصيرا تتحمل الانحراف أو الوقفة على حدّ مّا ، لذلك (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) نور واحد ليست فيها ظلمات هذه السبل ، ثم (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو آخر المطاف للسالكين إلى الله ، فإنه نور مطلق مطبق لا ظلم فيه مهما كان هو أيضا درجات ، كما هدي القرآن هنا في درجات (يَهْدِي بِهِ اللهُ ... وَيُخْرِجُهُمْ ... وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) زوايا ثلاث من هدي النور القرآن بإذن الرحيم الرحمن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ثم هدي القرآن درجات ، أولاها طبيعة الهدى الدلالية (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) وثانيتها واقع الهدى تحريا عنها فوصولا إلى القرآن ف (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وثالثتها واقعها المتكامل لمن اهتدى بالقرآن فهو هنا (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) المسرود فيه ، مبينا لسنة الرسول (ص) (يَهْدِي ... سُبُلَ السَّلامِ) ثم وهذه الأخيرة أيضا مثلثة الدرجات متتابعة تلو بعض ولصق بعض :

«يهدي .. ١ سبل السلام و ٢ يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ٣ ويهديهم إلى صراط مستقيم» وهنا في هذا المثلث «بإذنه» هي سيدة الموقف

٢٣٤

صلة لها ، فلولا إذنه تكوينا استحالت الهدى ، ولولاه تشريعا لم تصلح الدلالة إليها ، فكما الرسول يهدي بالقرآن بإذن الله ، كذلك ـ وبأحرى ـ غيره ، فلا يسمح لايّ كان أن يهدي بالقرآن إلّا على ضوء العلم والعمل بالقرآن ، أن يصبح هو بنفسه كأنه القرآن ثم يهدي به :

١ فسبل السلام أولا هي سبل الله «السلام» سلام من الله مسكوب في هذه السبل ، سلام يحلّق على الحيوة الإيمانية كلها من سلام الفطرة والسجية والعقلية وسلام الصدر والقلب واللب والفؤاد ، سلام في حياة فردية وأخرى جمعية ، سلام في القال والحال والفعال ، وسلام في كل شيء يبدأ من هدي القرآن علما وعملا صالحا فالهدي إلى سبل السلام بحاجة إلى اتباع رضوان الله وهو الجهاد المعني من : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٢٩ : ٦٩).

ومن السلام الآتي ذكره في القرآن «دار السلام» (٦ : ١٢٧) (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (١٠ : ١٠) و (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) (١٥ : ٤٦) والحياة السلام في الأولى هي حياة السلام في الأخرى ، والجامع للسلام ككل هو «الإسلام» إسلام الوجه لله بكل الوجوه.

ومن المؤسف جدا أن القرآن البيان التبيين الهادي إلى سبل السلام أصبح متروكا بين الأمة الإسلامية ، فقد تركه أهل السنة إذ تركوا قرينه المبيّن له : الثقل الأصغر ، فآل إلى تركه نفسه ، وتركه الشيعة مهما خيّل إليهم أنهم تمسكوا بأهل البيت إذ تركوا الثقل الأكبر الذي هو مصدرهم فآل إلى ترك القرآن ، ويكأنهم أجمعوا على رفض القرآن ، والنتيجة أن العلوم الإسلامية انقطعت عن القرآن ، فقد نظمت بأيدي اثيمة وأخرى جاهلة تنظيما بحيث كأنه لا حاجة لها إلى القرآن ، فبإمكان المتعلم علوم الدين أن يتعلمها جميعا ويتضلع فيها وهو لم يرجع إلى القرآن في أصل ولا فرع ، فلم يبق للقرآن إلا التلاوة والإستخارة والإهداء إلى أرواح الأموات ، وأرواح الأحياء منها

٢٣٥

خالية : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً).

٢ ثم (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) إذن تشريعي حيث يهتدي بهدي الرسول (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) وإذن تكويني في ذلك الاهتداء وصولا إلى حق النور ، ففي سبل السلام ظلمات تظلم على السالك سلوكه المسبّل ، وهنا اليد الرحيمة تأخذ بأيدي هؤلاء السالكين سبل السلام فتصبح السبل كلها نورا موصلا إلى سليم السلام.

٣ ومرحلة ثالثة (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والصراط ما يبتلع السالك أو يبتلعه السالك فلا ينحرف عنه قيد شعرة أو ينجرف وهو الصراط الذي نستدعي هديه في صلواتنا ليل نهار.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ

٢٣٦

وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ

٢٣٧

نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦)

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧).

المسيحية انقسمت طوال قرونها في فكرة «الله» إلى مذاهب أربعة : مثلثين وثنوية وموحدين في ألوهية المسيح وموحدين الله في الألوهية ، وهذه الآية تتحدث عن الفرقة الثالثة المؤلهة للمسيح وحده ، وهي بلورة الثالوث والتثنية.

فقد اعتبروه مثلثة الأقانيم ، جواهر ثلاثة هي ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة ، ثم استأصلوا ألوهة أقنوم الأب حيث تنزل إلى الناسوت في قوسه النزولي فأصبح هو الابن تجافيا عن كيانه ككل ، وألوهة روح القدس الوسيط حيث لا يحتاج الابن الذي هو صورة أخرى للأب إلى الوسيط فقالوا (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) و (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٥ : ٧٣) فالأول الأب

٢٣٨

والثاني الروح تجافيا عن ألوهتهما فاختصرا في الابن فهو ـ إذا ـ الله ، وهما عبارتان عن تخيّلة واحدة عن المسيح (ع) أنه هو حقا «الإله» تحولا للإله الأب إلى الإله الابن ، ثم لا أب ولا ابن بل هو الله ليس معه إله ، وهذا هو المعني من (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ) قوسا نزوليا لله ، دون «المسيح هو الله» قوسا صعوديا للمسيح ، فقد قالوا بالحلول والتحول أن الله أصبح هو المسيح ، وقد تشبهها : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) دون «هواه إلهه» حيث نزل الله إلى حيث هواه ، فاعتبر الله هواه فعبدها كما الله.

ذلك وكما خيل إلى جماعة منهم ألوهة مريم على هامش ألوهة المسيح ، فقد تصرح الكنيسة الكاثوليكية «كما أن المسيح لم يبق بشرا كذلك أمه لم تبق من النساء بل انقلبت (وينوسة) : إلهة».

لذلك تراهم كثيرا يحذفون أسماء الله مثل «يهوه» من كتب المزامير ويثبتون مكانها اسم مريم ، كقوله : «احمدوا الله يا أولاد» فالكاثوليك لأجل إظهار عبوديتهم لمريم طووا هذا من الزبور وبدلوه إلى «احمدوا مريم يا أولاد».

وهذه الكنيسة كلما صلي فيها مرة واحدة بالصلاة الربانية : «أبانا الذي في السماء ..» يصلى فيها بالصلاة المريمية عشرون مرة (١).

__________________

(١) عن الأب عبد الأحد داود الآشوري العراقي في كتابه الإنجيل والصليب.

ويقول جرجس صال الإنجليزي في كتابه مقالة في الإسلام عند ما يذكر بدع النصارى ، من ذلك بدعة كان أصحابها يقولون بألوهية العذراء مريم ويعبدونها كأنما هي الله ويقربون لها اقراصا مضفورة من الرقاق يقال لها : (كلّيرس) وبها سمي أصحاب هذه البدعة (كلّيريين) وهذه المقالة بألوهية المسيح (ع) كان يقول بها بعض أساقفة المجمع النيقاوي حيث كانوا يزعمون أن مع الله الآب إلهين هما عيسى ومريم ومن هذا كانوا يدعون المريميين وكان بعضهم يذهب إلى أنها تجردت عن الطبيعة البشرية وتألهت وليس هذا ببعيد عن مذهب قوم من نصارى عصرنا قد فسدت عقيدتهم حتى صاروا يدعونها تكملة الثالوث كأنما الثالوث ـ

٢٣٩

ذلك وكما يصرح القرآن بهذه الخرافة : «وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت

للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ..» (٥ : ١١٦)؟.

والقول بألوهة المسيح (ع) كفر بالله نكرانا لألوهته أو إشراكا فيها ، ولكنهم تخطّوا الإشراك بالله إلى توحيد المسيح في الألوهة.

ذلك ، وردا على ألوهة المسيح (ع) حاسما : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) كما اختلقوا خرافة صلبه وموته على الصليب ، فهل إن الله يهلك بصلب وسواه؟ أم إن ولده الأصيل ونائبه الفصيل يصلب ثم الله لا ينجيه ، أم إذا أراد هو إهلاكه فمن ذا الذي ينجيه؟!.

فلأن إهلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا ، إمكانية وواقعية ، معلوم لدى الكل ، فهذه الإمكانية والواقعية تسلبان عن المسيح وعن أيّ كان الألوهة بأسرها ، وحيدة كما زعموها أم سواها على سواء.

ذلك (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) مسيحا وأمه وسواهما ، فكما له خلق ما خلق كذلك له إهلاكه (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

__________________

ـ ناقص لولاها وقد أنكر القران هذا الشطط لما فيه من الشرك ثم اتخذه محمد ذريعة للطعن في عقيدة التثليث (ص ٦٧ ـ ٦٨ وهذا الكتاب ألفه جرجس صال ردا على الإسلام ونقله هاشم العربي إلى العربية).

ويذكر ابيغان (الفلسطيني في كتابه : الشامل في الهرطقات) بدعة عربية يسميها (الكليرين) من (كليرس) قرص خبز من طحين الشعير كانت تتعاطاها بعض نساء العرب النصارى فيقدمن تلك الأقراص قرابين عبادة لأم المسيح على مثال ما كانت تقدمه نساء العرب الجاهليات للإلهة (اللات).

والمجمع المسكوني الثالث عام ٤٣١ يلقب مريم أم الله!.

أقول : وسوف نأتي على قول فصل حول التثليث على ضوء الآية (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ـ (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ).

٢٤٠