الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

يرتبط ندمه بجهله وعجزه تعليما من غراب.

وهنا يلتقط السياق الآثار العميقة التي تتركها في النفس رواية ذلك النباء بهذا التسلسل ، ليجعل منها ركيزة شعورية للشرعة التي فرضت لتلافي الجريمة في نفس المجرم أو القصاص العدل إن هو أقدم عليها بعد علم بالآم القصاص التي تنتظره (١).

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (٣٢).

وهنا (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ..) وكذلك (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) تتقيدان بآية البقرة : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فلا يقتل

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٤ بسند صحيح عن أبي جعفر (ع) قال قال رسول الله (ص) أوّل ما يحكم الله يوم القيامة الدماء فيوقف ابنا آدم فيفصل بينهما ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد ثم الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول بقاتله فيتشخّب في دمه وجهه فيقول : هذا قتلني فيقول : أنت قتلته؟ فلا يستطيع أن يكتم الله حديثا.

وفيه ص ٥ عن أبي جعفر (ع) قال : ما من نفس تقتل برّة ولا فاجرة إلا وهي تحشر يوم القيامة متعلقة بقائلة بيده اليمنى ورأسه بيده اليسرى وأوداجه تشخب دما يقول : يا رب سل هذا فيم قتلني ، فإن كان قتله في طاعة الله أثيب القاتل الجنة وأذهب بالمقتول إلى النار وإن كان في طاعة فلان قيل له أقتله كما قتلك ثم يفعل الله فيهما بعد مشيته.

وفيه عن أبي عبد الله (ع) قال : لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ـ قال : ولا يوقف قاتل المؤمن متعمدا للتوبة.

وفيه (ع) قال رسول الله (ص) لا يغرنكم رحب الذراعين بالدم فإن له عند الله قاتلا لا يموت.

قالوا يا رسول الله (ص) وما قاتل لا يموت؟ فقال : النار.

٣٠١

الحر بالعبد ولا الذكر بالأنثى ، ومهما كانت آية البقرة مدنية أولى وهاتان مدنيتان في المائدة وهي آخر ما نزلت ، فلأنهما تحكيان حكما سابقا توراتيا فآية البقرة تنسخهما تقييدا.

ثم (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ليس تشبيها في الواقعية مهما كانت بعض النفوس قتلها كقتل الناس جميعا ، إذ لو عني الفرض : لو لم تكن نفس إلّا هذه لكان قتلها قتل الناس جميعا ، فإنه يجري في النفس المستحقة للقتل أيضا ، ولا في الحد إذ لا يمكن في القصاص ، ولا يصح في الدية ولا في العقوبة إذ إن (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) بل المشابهة فقط في الشرف ، فكما أن قتل مؤمن لإيمانه قتل للإيمان ككل ، كذلك قتل إنسان لأنه إنسان قتل للإنسانية شرفيا كما أن تكذيب رسول لأنه رسول تكذيب للرسالات كلها ، وتصديق رسول لأنه رسول تصديق للرسل كلهم ، كذلك القتل والإحياء ، فلا يشمل القتل إلّا عمده القاصد دون الخطأ.

و «أجل» في الأصل هو الجناية التي يخاف منها آجلا ثم استعملت في التعليل ، وهي هنا تعنيهما ، أن هذه الجناية العاجلة ، المخيفة عاجلا وآجلا ، سببت هذه الكتابة على بني إسرائيل القساة البغاة (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) لا ينتهون عن تلك الجريمة النكراء حتى بحق النبيين!.

ف (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) البعيد البعيد عن ساحة الإنسانية ، المتخلف عن حيويتها السليمة ، المخلّف دمارا وبوارا ، «ومن أجل ذلك» الاعتداء الأثيم الظليم على المسالمين المظلومين ، الذين لا يريدون في الأرض بغيا ولا فسادا.

و «من أجل» أن العظة ـ مهما كانت بالغة ـ والتحذير البالغ ، لا يجديان نفعا في نفوس شرّيرة مطبوعة على التخلف العارم ، وأن المسالمة والدعة لا تكفان عن الاعتداء حين يتعمق الشر ويتحمق في النفوس النحسة.

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) كله وما شابه جعلنا جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة

٣٠٢

كقتل الناس جميعا ، كما أن إحياءها هو كإحياء الناس جميعا ، في عظم العقاب والثواب ، مهما كان القود واحدا بواحد في عاجل العقاب.

وليس المكتوب على بني إسرائيل ـ دون من قبلهم ـ بيان أصل الجريمة وعقابها ، بل هو بيان بعدها ، ولكي يبتعدوا هم عنها وهم أعدى الأقوام طول التاريخ الرسالي! (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ) العرض العريض (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)!.

ولأن (نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ) هنا مطلق تعم كل نفس وفساد في الأرض ، فقتل رجل بأنثى مسموح؟ رغم أن «أن الأنثى بالأنثى»! (٣ : ١٧٨).

أو أن (فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) تعم كل عصيان فيها ، وقتل العاصي بأي عصيان خلاف الضرورة من الأديان! أم عصيان متجاوز إلى غير العاصي أيا كان؟ ثم آية المحاربة تنسخه إلى (يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً)؟ وقتل العاصي بأي عصيان خلاف الضرورة في أيّة شرعة إسرائيلية وسواها!.

والحل أن الآية مطلقة مجملة تفسرها آية المحاربة «ويسعون» وآية (الْأُنْثى بِالْأُنْثى).

وتراه مبالغة مفرطة مصلحية السياج على القسوة الإسرائيلية؟ وليست المصلحية غاية تبرّر الوسيلة المفرطة غير الصالحة! بل هي حقيقة وجدت مجالها لأولى وهلة في ذلك الجو القاسي ، و «لفظ الآية خاص في بني إسرائيل ومعناه جار في الناس كلهم» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٧ في تفسير القمي بسند متصل عن أبي جعفر (ع) في حديث طويل قال الله عز وجل: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ...) ولفظ الآية ...

وفي وسائل الشيعة ١٩ : ٧ علي بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلا من تفسير النعماني عن علي (ع) في حديث قال (ع): وأما ما لفظه خصوص ومعناه عموم فقوله عز وجل : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ...) فنزل لفظ الآية في بني إسرائيل خصوصا وهو جار على جميع الخلق عاما لكل العباد من بني إسرائيل وغيرهم من الأمم ومثل هذا كثير.

٣٠٣

وهنا (كَتَبْنا عَلى) ليست كتابة في التورات ، فصيغته الصحيحة «كتبتنا في ..» دون «على» ولا كتابة لأصل الحكم إذ ليس حكم القاتل نفسا واحدة حكم قتل الناس جميعا ، لا قصاصا لاستحالته ، ولا دية فإنها خلاف الضرورة والعدالة ، فإنها ليست جزاء بالمثل! بل هي كتابة لعظم الموقف حتى يستعظموه فيبتعدوه ولكن لا حياة لمن تنادي وهم (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) في قتل وسواه من إفساد ، فهي بيان حقيقة دون مبالغة ، صدا عن الاستهتار الإسرائيلي واستهانته بدماء الأبرياء ، أم وبيانا لعقوبة أخروية إضافة إلى بعد هذه الجريمة هنا.

أترى كيف يصبح قتل نفس واحدة أو إحياءها كما الناس جميعا؟ وهل إن كل واحد من (النَّاسَ جَمِيعاً) كمشبه بهم حكمه حكم هذا الواحد المشبّه فيتسلسل العدد في كل واحد من المشبهين! أم لا؟ فما هو الفارق بين هذا الواحد المقتول والناس جميعا؟!

إن قتل نفس واحدة بغير الحق ، في الحق يعدل شرفيا قتل الناس جميعا ، لأن كل نفس هي ككل النفوس في الحياة الإنسانية ، وحق الحياة واحد ثابت لكل نفس ، فقتل واحدة منها كقتلها كلّها فإنه هتك لحياة الإنسانية كلّها ، المتمثلة في واحدة من نفوسها كما تتمثل في كل نفوسها ، وكذلك عكس الأمر في استحياء واحدة منها فإنه استحياء للنفوس جميعا.

وموقف المشبه ليس كموقف المشبه بهم حتى يتسلسل العدد ، والمقصود من نفس واحدة هو أية واحدة منها ، فقتل الأكثر ـ إذا ـ يضاعف ـ في وجه الشبه ، بأن قتل نفسين ـ مثلا ـ كقتل الناس جميعا مرتين (١) ويكفي في

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٣ الكافي عن حمران قال قلت لأبي جعفر (ع) في معنى قول الله عز وجل : «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ...» قال : قلت كيف كأنما قتل الناس جميعا فربما قتل واحدا؟ فقال : يوضع في موضع من جهنم اليه ينتهي شدة عذاب أهلها لو قتل الناس جميعا لكان إنما يدخل ـ

٣٠٤

التشبيه المشابهة في بعض ما للمشبه به ، لا كله ، وهو بعد الجريمة في بعض مخلفاتها الدنيوية وخلفيتها الأخروية ، ففي الأخرى يعذب شطرا من عذاب من قتل الناس جميعا ، وفي الدنيا كأنه قتل الناس جميعا واقعيا وفي بعد الجريمة ، إلّا في الحد والدية.

ثم إن لكل نفس ذكرا أو أنثى ، استعداد نسل الناس جميعا كما الذكر لأول والأنثى الأولى ، فلولا الأولى لم ينسل الأول الناس جميعا ، كما لو لا الأوّل لم ينسل من الأولى الناس جميعا ، بل لولا الأول لم تكن الأولى الناسلة منه ، فلم يك نسل بأسره.

إذا فمكانة كل نفس بإمكانها النسل هي مكانة الناس جميعا ، الممكن نسلهم من هذه الواحدة ، سواء كالأنثى الأولى ، أم وبأحرى الذكر الأول الناسلة منه الأولى.

وليس القصد من هذا التشبيه أن عذاب قتل نفس واحدة كعذاب قتل النفوس جميعا لمخالفته النص (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٦ : ١٦٠) بل هو تبيين المسؤولية الكبرى أمام النفوس المحترمة ، ودور كل نفس في الحياة ومحتدها ، ولكي يحيد قتلة النفوس عن هذه الجريمة النكراء.

ذلك دور قتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض يستحق صاحبه القتل دونما فوضى جزاف.

وأما إحياءها ، فمنه الدفاع عن نفس معرّضة للقتل ، واستحياءها ـ حين تتعرّض للموت ـ بالوسائل المستطاعة وكما في أحاديث عدة.

__________________

ـ ذلك المكان ، قلت : فإنه قتل آخر؟ قال : يضاعف عليه ، ورواه الصدوق مرسلا وفي معاني الأخبار وعقاب الأعمال مسندا مثله.

٣٠٥

وقد يعم القتل ـ إلى قتل الجسد ـ قتل الروح ، إضلالا لها عن هداها ، وإحياءها هديا لها عن ضلالها ، (١) بل «وذاك تأويلها الأعظم» (٢) ، فإن بإمكان نفس ضالة أن تضل الناس جميعا ، كما بإمكان نفس مهتدية أن تهدي الناس جميعا ، وحصالة ذلك التنظير المنقطع النظير أن الإنسانية هي كنفس واحدة ، وكما خلقت من نفس واحدة ، و (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٣١ : ٢٨) فلتكن نفس واحدة مؤمنة محترمة كما الناس جميعا ، وعلى حد قول الرسول (ص): «المؤمن وحده جماعة» وقد يعني (قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) فيما يعنيه أن لو سمح في قتل النفس بسخاء ودون حدود لكان القاتل يسمح لنفسه قتل الناس جميعا (٣) وقد يتأيد ب (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (٢ : ١٧٩) حيث القصاص سياج صارم عن الإباحية في قتل الناس ، وضمان على حياتهم.

وهذه الحرمة الجماعية لكل نفس محترمة تتساقط إلى عكسها إذا كانت قاتلة بغير حق متعمدا نفسا محترمة أخرى ، أم كانت مفسدة في الأرض على حدودها المقررة في آية الإفساد التالية ، فليس ـ إذا ـ أي إفساد مما يهدر حرمة نفس المفسد فإنه فوضى جزاف ، وإفساد جماهيري بحق الناس ، إذ لا يخلو إنسان من أي إفساد إلّا من شذ!.

قتل نفس بغير حق هو كقتل الناس جميعا ، وإحياءها بحق كإحياء

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٦ عن محمد بن سنان فيما كتب إليه الرضا (ع) من جواب مسائله : حرّم الله قتل النفس لعلة فساد الخلق في تحليله لو أحل وفنائهم وفساد التدبير.

(٢) نور الثقلين ١ : ٦١٩ عن فضيل بن يسار قال قلت لأبي جعفر (ع) قول الله عز وجل في كتابه (وَمَنْ أَحْياها ...) قال : من حرق أو غرق ، قلت : فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال ذاك تأويلها الأعظم.

(٣) نور الثقلين ١ : ٦١٩ الكافي بسند متصل عن سماعة عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له : قول الله عز وجل (مَنْ قَتَلَ نَفْساً ...) قال : من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنما أحيا الناس ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها.

٣٠٦

الناس جميعا ، فمن عفى عن قاتل ولم يكن في عفوه تشجيع ، فقد أحياه فأحيى الناس جميعا ، ومن عفى عن قتّال مشجّعا إياه لقتله فكأنما قتل الناس جميعا ، فإن (الْقِصاصِ حَياةٌ) ، ففي تركه ممات ، وقد يعفى عن قاتل نجّى بريئا عن القتل وتخرج دية المذبوح من بيت المال تهاترا بين الدمين وانتقالا إلى دية (١).

ذلك! (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) رسل إسرائيليون جاءتهم تترى بالآيات البينات (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ) البيان المتواصل الرسالي (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) في القتل وسائر الإفساد ، رغم أن شرعة التوراة هي أولى

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٢٠ في الكافي علي بن إبراهيم عن أبيه قال اخبرني بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله (ع) قال أتي أمير المؤمنين برجل وجد في خربة وبيده سكين ملطخ بالدم وإذا رجل مذبوح يتشحط في دمه فقال له أمير المؤمنين ما تقول : قال : أنا قتلته ، قال : اذهبوا به فأقيدوه به ، فلما ذهبوا به ليقتلوه به أقبل رجل مسرع فقال : لا تعجلوه وردوه إلى أمير المؤمنين (ع) فردوه فقال : والله يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه أنا قتلته ، فقال أمير المؤمنين للأول : ما حملك على إقرارك على نفسك؟ فقال : يا أمير المؤمنين وما كنت أستطيع أن أقول وقد شهد عليّ أمثال هؤلاء الرجال فأخذوني وبيدي سكين ملطخة بالدم والرجل يتشحط في دمه وأنا قائم عليه وخفت الضرب فأقررت وأنا رجل كنت ذبحت بجنب هذه الخرية شاة وأخذني البول فدخلت الخربة فرأيت الرجل يتشحط في دمه فقمت معجبا فدخل عليّ هؤلاء فأخذوني فقال أمير المؤمنين (ع) خذوا هذين فاذهبوا بهما إلى الحسن (ع) وقولوا له : ما الحكم فيها فذهبوا إلى الحسن (ع) وقصوا عليه قصتهما فقال الحسن (ع) قولوا لأمير المؤمنين (ع) ان هذا إن كان ذبح ذاك فقد أحي هذا وقد قال الله عز وجل : «ومن أحياها فكأنما أحي الناس جميعا» يخلى عنهما وتخرج دية المذبوح من بيت المال.

أقول : وهذه استفادة لطيفة من الآية ولكن يبغى عليها سؤال ، كيف يبطل حق القصاص هنا لأولياء المقتول وهو حق شخصي ، فإن لم تكن له أولياء فلمن الدية المؤداة من بيت المال؟ علّ الإمام (ع) تطلب من أولياء الدم أن يعفوا عن قصاص القاتل لمصلحة جماعية استفادها من الآية ولأن قتله نفسا وإحياءه نفسا آخر شخصيا وفي البعد الاجتماعي يتهاتران فلتدفع الدية إلى بيت المال.

٣٠٧

شرعة تفصيلية تشرح فيها أحكام الله وكما (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ..).

ناموس الحياة هو الأساس للأربعة الأخرى من النواميس ، مهما كان الأهم من هذا الأساس هو ناموس الدين والعقل ، ثم بعد الثلاثة ناموس العرض والمال «وخير المال ما أحرز به العرض» وبأحرى وأولى إحراز الثلاثة الأولى.

هذه النواميس حق خاص لكل الناس فطريا وعقليا وشرعيا ، والهبة الإلهية كالعقل والنفس وعرض النفس ، وحصيلة التحصيل كسائر العرض والدين والمال ، الأصل فيها وجوب الحفاظ عليها وحرمة ضياعها أو المس من كرامتها ، على أصحابها وعلى الآخرين ، فالحياة هبة إلهية كهداها (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) فلا يسترجعها من الموهوب لهم إلّا مهديها أو بأمر منه ، وأما الحرية لأصحابها أو الآخرين في النيل منها فخلاف الأصول الأربعة والرابعة هي الأخيرة.

فكما أنت لا تسمح لآخرين أن يتجاوزوا إلى نفسك ، فلا تسمح لنفسك نفس التجاوز إلى الآخرين.

إن الله هبانا أنفسنا ، فلا سماح لغير الله في التجاوز عليها ، اللهم إلّا نفسا بنفس أو فساد في الأرض حسب الضوابط المقررة في الشرعة الإلهية.

والقتل (بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ) قد يكون عمدا أو شبه عمد أو خطأ ، والأوّل هو الموضوع الرئيسي في الآية ، ويتلوه الثاني ثم الثالث ، ويليه الإحياء في هذا المثلث ، وقاية عمدية أو شبه عمد أو خطأ لنفس محترمة ، أم غير واجبة القتل.

والعمد المحض قد يعني ذات المقتول دون وصفه كمن يقتل مؤمنا لا لإيمانه ، أم ووصفه ك (مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ..) يعني لإيمانه وهو قمة العمد وأغلظه ، إذ لا توبة فيه لمكان الارتداد أمّا هيه من مانع التوبة ،

٣٠٨

وجزاء في الآجل أشد الجزاء ـ (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٤ : ٩٣) مهما كان جزاء في العاجل نفس الجزاء لمن قتل مؤمنا متعمدا لا لإيمانه ، والفارق بينهما ـ هنا ـ ألّا ينتقل قوده إلى دية ولا تقبل توبته ، وفي الأخرى ذلك العذاب الأليم.

ثم العمد الثاني هو أن يتعمد بالضرب القتل فقتل به ، وهنا القصاص كحق ثابت لأهل المقتول إلّا أن يعفوا أو يرضوا بالدية بديلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢ : ١٧٩).

ذلك هو العمد المحض ، فهل إذا ضرب بما لا يقتل عادة بقصد القتل فقتل ، أم بما يقتل عادة لا بقصده فقتل كان كقتل العمد؟ لعلّه لا حيث النتيجة تابعة لأخس المقدمات ومنها غير معمدة كوسيلة القتل في المثال الأوّل ، وقصده في الثاني ، وعلّه نعم لا سيما في الأوّل حيث قصد القتل ، فهو قاتل عمدا مهما لم تكن الآلة قاتلة ، وقد تؤيد المعتبرة المستفيضة كالصحيح عن أبي عبد الله (ع) «سألناه عن رجل ضرب رجلا بعصا فلم يرفع عنه الضرب حتى مات أيدفع إلى أولياء المقتول؟ قال : نعم ولكن لا يترك يعبث به ولكن يجاز (يجهز) عليه بالسيف (١) ..

فالضارب بما يقتل عادة وهو يعلم قاتل عمدا وان ادعى عدمه أو أنه لم يعلم ، إلا إذا ساعده ظاهر الأمر ، ثم الضارب بما يقتل عادة لا بقصده قد لا يكون عامدا ، اللهم إلا إذا لم يعلم قصده فمحكوم بظاهر الأمر وقد تشمله الصحيحة.

__________________

(١) ونحوه خبر موسى بن بكير وغيرهما كما في التهذيب ٢ : ٤٨٩ والفقيه باب القود ومبلغ الدية تحت رقم ١ وباب ما يجب فيه الدية ونصف الدية فيها دون النفس تحت رقم ٣.

٣٠٩

ثم الخطأ المحض هو أن الضرب والقتل ليس عامدا ، وأمثل أمثاله الضرب حالة النوم ، ثم الضربة غير القاتلة القاصدة غير المقتول بها ، فإنها خطأ محض دون ريب.

وشبه العمد هو الخليط من عمد وغير عمد ، كمن يضرب بما يقتل عادة دون قصده ، أو مع قصده غير المقتول مما لا دية فيه ، أو يقصد القتل بالضربة غير القاتلة أماهيه ، مما لا يتمحض فيها لا العمد ولا الخطأ ، فهو عوان بين العمد المحض والخطأ المحض.

والقدر المسلم من دية العمد ألف مثقال من الذهب كما في صحيحتي ابن الحجاج وابن سنان (١) على اختلافهما في سائر أقدارها ، وهي ـ بطبيعة الحال ـ ألف مثقال حيث الدينار وقتئذ لم يكن إلا قدره ، وهذه دية ثابتة تقدر كل ما سواها بقدرها إلا المنصوص كالدراهم والآبال والأبقار والشياة ، (٢) والكل

__________________

(١) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال سمعت ابن أبي ليلى يقول كانت الدية في الجاهلية مائة من الإبل فأقرها رسول الله (ص) ثم أنه فرض على أهل البقر مأتي بقرة وفرض على أهل الشاة ألف شاة ثنية وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم وعلى أهل اليمن الحلل مائتي حلة ١ ، قال عبد الرحمن بن الحجاج فسألت أبا عبد الله (ع) عما روي عن ابن أبي ليلى فقال : كان علي (ع) يقول : «الدية ألف دينار وقيمة الدنانير عشرة آلاف درهم وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم لأهل الأمصار ولأهل البوادي الدية مائة من الإبل ولأهل السواد مائتا بقرة أو ألف شاة».

(٢) رواه الصدوق في المقنع إلى هنا وفيه «مائة حلة وفي المختلف مائتي حلة» (الوسائل أبواب ديات النفس ب ١ ح ١).

وصحيحة عبد الله بن سنان قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : من قتل مؤمنا قيد به إلّا أن يرضى أولياء المقتول بالدية فإن رضوا بالدية وأحب ذلك القاتل فالدية إثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار أو مائة من الإبل وإن كان في أرض فيها الدنانير فألف دينار وإن كان في أرض فيها الإبل فمائة من الإبل وإن كان في أرض فيها الدراهم فدراهم بحساب اثنا عشر ألفا (ح ٩).

٣١٠

متقاربة الأقدار ، وقد قدر الدينار بمثقال في موثقه أبي بصير (١) وفي التوراة تفصيل آخر حول القصاص (٢).

__________________

(١) قال فيها : دية المسلم عشرة آلاف درهم من الفضة أو ألف مثقال من الذهب.

(٢) في التورات : الخروج ٢١ : «من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا ١٢ ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعل لك مكانا يهرب إليه ١٣ وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخذه للموت ١٤ ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلا ١٥ ومن سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل قتلا ١٦ ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلا ١٧ .. وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس ٢٣ وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل ٢٤ وكيان بكيّ وجرحا بجرح ورضا برضى ٢٥ .. وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه وأما صاحب الثور فيكون بريئا ٢٨ ولكن إن كان ثورا نطاحا من قبل وقد أشهر على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة فالثور يرجم وصاحبه أيضا يقتل ٢٩ أن وضعت عليه فدية يدفع فداء نفسه كل ما يوضع عليه.

وفي الأعداد ٣٥ : «إن ضربه بأداة من حديد فمات فهو قاتل». إن القاتل يقتل ١٦. وإن ضربه بحجر يد مما يقتل به فمات فهو قاتل. إن القاتل يقتل ١٧ أو ضربه بأداة يد من خشب مما يقتل به فمات فهو قاتل. إن القاتل يقتل ١٨ ولى الدم يقتل القاتل. حين يصادفه يقتله ١٩ وإن رفعه ببغضة أو ألقى عليه شيئا يتعمد فمات ٢٠ أو ضربه بيد بعداوة فمات فإنه يقتل الضارب لأنه قاتل. ولى الدم يقتل القاتل حين يصادفه ٢١ ولكن إذ دفعه بغتة بلا عداوة أو القى عليه أداة قاتلا تعمد ٢٢ أو حجرا مّا مما يقتل به بلا رويّة. اسقطه عليه فمات وهو ليس عدوا له ولا طالبا أذيته ٢٣ تقضي الجماعة بين القاتل وبين ولي الدم حسب هذه الأحكام٢٤ ...

فتكون لكم هذه فريضة حكم إلى أجيالكم في جميع مساكنكم ٢٩ كل من قتل نفسا فعلى فم شهود يقتل القاتل وشاهد واحد لا يشهد على نفس للموت ٣٠ ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل انه يقتل ٣١ ولا تأخذوا فدية ليهرب إلى مدينة ملجئه .. وعن الأرض لا يكفّر لأجل الدم الذي سفك فيها إلا بدم سافكه ٣٤.

وفي التكوين ٩ : ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان. من يد الإنسان أخيه ٥ سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأن الله على صورته عمل الإنسان ٦.

أقول : آية القصاص تنسخ آيات التورات تخصيصا حيث التورات تطلق القتل بالقتل ، ثم لا تسمح بالدية بديل القصاص في قتل العمد.

٣١١

ولأن الذهب هي الثابتة الأصيلة في الأقدار المالية ، فمن كان من أهلها فهيه ، أو من أهل غيرها من المنصوص عليها فكما هيه ، وإلّا فقيمة ألف مثقال ذهب بالعملة المعمولة في كل بلدة ، والمعيار في قيمتها زمن وقوع الجريمة لا زمن الأداء ، إلّا إذا كانت عمدا محضا فزمن الانتقال إلى الدية ، ويرث الدية الورثة. إلّا القاتل إذ لا يرث من الدية ، وتستأدى في سنة.

ودية الخطإ كما يقول الله تعالى : (.. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ..) (٤ : ٩٢).

ثم (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) هنا في المائدة ضابطة عامة تختص بالمتكافئين كما في آية البقرة (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ..) تخصيص التبيين أو النسخ لما كتب في التوراة ، ومهما كانت المائدة آخر ما نزلت ناسخة غير منسوخة ، فإنها هنا ناقلة ما كتب في التوراة وآية البقرة أصيلة قرآنية.

وترى كيف لا يقتل الحر بالعبد ولا الذكر بالأنثى والنفس الإنسانية على سواء في الحرمة ، ولا ميزّة وتفاضل إلّا بالإيمان والتقوى؟.

القصاص هو الملاحقة وتتبع الأثر وفي القتلى هو تتبع الدم بالدم أو الدية فهو ـ إذا ـ أعم من الدية ، أم أن كتب عليكم تعني على القاتلين ، أو حكام الشرع ، أو أولياء الدم ، أو الجميع ثم الانتقال إلى الدية تخفيف إذا رضي أولياء الدم.

وآية البقرة : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، تبيّن تكافؤ الدماء ، فلا يقتل الذكر بالأنثى ، وتقتل الأنثى بالذكر وأحرى ، ولا يقتل الحر بالعبد بل يقتل العبد بالحر وأحرى ، ذلك لأن قيمة الذكر أكثر من قيمة الأنثى كما الحر من العبد ، ودية الدم لا يراعى فيها مراتب الإيمان ، وإنما وزان الأثر الجماعي نوعيا.

وفي قتل جماعة بواحد برد الزائد عن نفس دية نظر ، حيث المكافئة شرط

٣١٢

أصيل في القصاص لقوله تعالى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وآية البقرة لا تنسخها إلّا في (الْحُرُّ بِالْحُرِّ ... الْأُنْثى بِالْأُنْثى) إذا فالذكر يكافئ أنثيين لآية البقرة فلا قود في غير صورة التكافؤ مهما كثرت صحاح الأخبار لجوازه وتقابلها أخرى (١).

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٤) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٤).

هاتان اليتيمتان المنقطعا النظير في كل القرآن توضّحان كل ما أجمل في آيات سماح القتل وجيرانه من حد في الشرعة القرآنية ، توسيعا في زاوية وتضيقا في أخرى لما جاء في الشرعة التوراتية ف (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..) (٥ : ٤٥) الحاصرة سماح القتل بالقتل .. وكذلك (نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) هنا ، المكتوبتان كما هنا وهناك في التوراة ، توسّعان إلى غير القتل في (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) حيث المحاربة لا تستلزم قتل نفس بغير حق ، فقد يحارب الله ورسوله ولا يقتل مؤمنا بل يجرفه إدغالا وإضلالا عن الدين ، كما أن (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) قبل الآية تضيق ب (يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) فالمفسد في الأرض دون سعي لا ينفى عن الأرض فضلا عما فوقه المذكورة قبله.

هنا حدود اربعة تختص بحقلي : محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا ، مما يتطلب بحثا عميقا وفحصا أنيقا حول ألفاظ الآيتين وجملهما ،

__________________

(١) ومنها حسنة أبي العباس وفقا للآية وسنادا إلى الآية (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ).

وكما لا يجوز القود في قاتل واحد بمكافئة إذا عفى بعض اولياء الدم عن نصيبه لقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) ....

٣١٣

فإنهما من الناسخة غير المنسوخة لمكانهما في المائدة ، تحليقا على كل محاربة ضد الألوهية والرسالة ، وكل سعي في إفساد الأرض ، فهما المحوران الأصيلان في هذه الحدود الأربعة المخلّفة عن تخلف المحاربة وسعي الإفساد.

(إِنَّما جَزاءُ) تحصر جزاءهم في الدنيا في هذه الأربع ، فلا أغلظ منها ولا أخف.

و «الذين ..» لا يختص بالمرتدين عن الإسلام فالفطري منه يقتل ولا تقبل توبته ، دون شرط المحاربة ، ولا يجوز الاقتصار في المرتد على الثلاثة الأخرى ، والأولى يكفيها الارتداد ، وهذا النص يقتضي سقوط الحد بالتوبة قبل أن تقدروا عليهم ، ولا يسقط في حق المحارب والساعي في فساد الأرض ، والمرتد مليا يسقط حده مطلقا والفطري لا يسقط حده مطلقا.

ثم ولا يختص بالمسلم لمكان إطلاق النص ، وأن محاربة الله ورسوله وسعي الإفساد بعيدة عن المسلمين إلّا من شذ عن إسلامه.

إذا فنحن مع إطلاق النص حيثما انطلق ، دون تقييد له ولا تخصيص إلّا بقرينة قاطعة متصلة كانت أم منفصلة.

محارب الله ورسوله والساعي في الأرض فسادا أعم من الكافر المطلق والكتابي والمرتد والمسلم ، حيث الوصفان هنا هما موضوع الحكم أيا كان الموصوف.

ثم الساعي في الأرض فسادا قد يكون أعم من المحارب ، حيث الفاسق المعلن بالفسق من المسلمين قد لا يعني من إفساده محاربة الله ورسوله ، إذا فبينهما عموم مطلق ، والمحارب هو أفسد مصاديق المفسد في الأرض ، فليكن الجزاء الأشد بين هذه الأربع بحقه.

ثم محاربة الله لا تعني ـ بطبيعة الحال ـ شهر السلاح ضد الله ، بل هي

٣١٤

محاربة شؤون الألوهية بأية وسيلة من وسائلها الإعلامية أمّا هيه؟ ومنها محاربة المؤمنين بالله لإيمانهم في أي حقل من حقول الحرب حارة وباردة ، فمن يحارب الله في دعاية الإلحاد أو الإشراك به أو المحادة والمشاقة في حكمه أو التكذيب بآياته ، أم أية معارضة هي بصورة مستقيمة قاصدة محاربة الله ، تشمله : (يُحارِبُونَ اللهَ).

كذلك ومحاربة الرسول لا تعني فقط شهر السلاح ضد الرسول (ص) فإن دوره كشخص منته بموته ودوره الرسالي باق إلى يوم الدين ، إذا فمحاربته هي محاربة الرسالة بشؤونها ، وهي راجعة إلى محاربة الله.

إذا فمحاربة المؤمنين لإيمانهم ، ومحاربة الشرعة الإلهية وإن في حكم واحد من أحكامها ، هي محاربة الله والرسول ، مهما كان محارب الرسول قد يدعي الإيمان بالله كالقائل : حسبنا كتاب الله ، تجاهلا عن نص الكتاب بفرض طاعة الرسول في كل ما يفعل أو يقول!.

أو قد يكون بينهما عموم مطلق كما بينهما مطلقا وبين السعي في إفساد الأرض.

أترى من يعصي الله ـ أيا كان وفي أي عصيان ـ هو من المحاربين الله ، وكمن يعصي الرسول (ص)؟ كلّا! حيث العاصي المختجل من عصيانه نادما وسواه ، لا يعني بما يقترفه تخلفا عن حكم الله ، فإنما غلب الشقوة والشهوة هو الحامل له على ارتكاب العصيان ، لذلك لا نجد نصا ولا إشارة من كتاب أو سنة يعتبر أي عصيان محاربة الله أو الرسول ، فإنما نجد أبوابا سبعا جهنمية لمحاربة الله بصيغ عدة كالتالية :

١ تكذيب آيات الله والصدف عنها (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) (٦ : ١٥٧).

٢ الصد عن سبيل الله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا

٣١٥

الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) (٤٧ : ٣٢).

٣ مشاقة الله ورسوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٩ : ٤).

٤ محادّة الله ورسوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٥٨ : ٥).

٥ المجادلة في آيات الله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ...) (٤٠ : ٤).

٦ عدم الحكم بما أنزل الله فضلا عن الحكم بضد ما أنزل الله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥ : ٤٧).

٧ محاربة الله والرسول : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ... لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ..) (٨ : ١٠٨).

وكل هذه الأبواب السبع الجهنمية تختصر في صيغة واحدة «محاربة الله ورسوله» مهما اختلفت دركاتها ، كما الإيمان بالله والرسول صيغة واحدة مهما اختلفت درجاتها وبركاتها.

نجد من الكافرين بالله من لا يحارب الله ، أم ولا الرسول كالكفار المستضعفين الضالين ، وفي حين نجد ممن يؤمنون بالله أو يدعون الإيمان بالله والرسول ، من يحاربون الله والرسول ، إذا ـ فلا تختص هذه المحاربة بضفّة الكفر : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢ : ١٠٦).

فقد تشمل هذه المحاربة وقرينتها كلّ حقولها عقيديّا وسياسيا وأخلاقيا وعرضيا ، علميا وعمليا واقتصاديا ، ومن الأخير : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا

٣١٦

بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ...) (٢ : ٢٧٩) فإن التداوم في أكل الربا مع العلم بحرمتها يقارف الأذان بحرب من الله ، مما يدل على غلظ حرمتها ، فعدم التوبة مع العظة قد يكشف عن أن آكلها قد يكون محاربا لله في اقتراف حرمات الله.

إذا فمن يعصي الله عالما عامدا ، لا فقط قضية الشهوة الغالبة أو الشقوة المتآلبة ، وإنما خلافا لله ، ذلك العصي الردي هو ممن يحارب الله ، محكوما بإحدى الحدود الأربعة قدر المعصية ونحوها ، وهكذا الأمر في معصية الرسول فيما يفعل أو يقول.

وقد يؤذن «فأذنوا» أن محاربة الله في آيتها قد تحوي قصدها إلى فعلها ، فكلّ دون الآخر ليس محاربة الله ، فالمبتدع في دين الله زعما أنه من دين الله لا يحسب من محاربي الله ، كمن يتقصده ولا يأتي به ، فهي ـ إذا ـ عمل قاصد أيا كان ، من معصية مجاهرة وسواها ، مضلّلة وسواها ، دعاية ضد الدين ، أو الدينين لإيمانهم أم قتالهم لنفس السبب.

أم دعوة إلى تخلفات سياسية أو عقائدية أو علمية أو أخلاقية أو اقتصادية أماهيه ، أو غورا فيها قاصدا إلى محادة الله أو الرسول ، كل ذلك ، على اختلاف دركاتها وخلفياتها السيئة ، هي من مصاديق محاربة الله أو الرسول.

فالمبتدع المتقصد والمضلّل هما من أشد المحاربين الله ، فإنه فتنة «والفتنة أشد ـ أكبر من القتل» فيقتل صاحبها حيثما وجد ، كما أن أبا الحسن (ع) أهدر مقتل فارس بن حاتم وضمن لمن يقتله الجنة فقتله جنيد وكان فارس فتانا يفتن الناس ويدعوهم إلى البدعة فخرج من أبي الحسن (ع) هذا فارس يعمل من قبلي فتانا داعيا إلى البدعة ودمه هدر لكل من قتله فمن هو الذي يريحني منه ويقتله وأنا ضامن له على الله الجنة (١).

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٥٤٢ محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي في كتاب الرجال عن الحسين ابن ـ

٣١٧

وقد تصدق المحاربة دون تقصّد للبعد البعيد من شناعة المعصية غير المتحملة في الكتلة المؤمنة كما في اللص المهاجم حين لا يدفع إلّا بقتاله ، كما يروى عن أبي عبد الله (ع) قال : اللص محارب لله ولرسوله فاقتلوه فما دخل عليك فعليّ» (١).

وعلى الجملة ما صدق أنه محاربة الله أو رسوله بقصد أم دون قصد تشمله الآية ، وتجمعها معارضة شرعة الله والمؤمنين بالله لإيمانهم حربا حارة أم باردة ، وقد يعرف القصد من ناحية المعصية نفسها مهما أنكرها مقترفها ، فكل عملية محادة لله ورسوله أو مشاقة أماهيه من الأبواب السبع الجهنمية ، محاربة لله ورسوله على اختلاف صورها وفاعلياتها ومفعولياتها وخلفياتها ، كما تختلف حدودها الأربعة أمّا زادت نحو الجناية (٢).

__________________

ـ الحسن بن بندار عن سعد بن عبد الله عن محمد بن عيسى بن عبيد أن أبا الحسن (ع) ... وعنه عن سعد عن جماعة من أصحابنا عن جنيد أن أبا الحسن (ع) قال له : آمرك بقتل فارس بن الحاتم الحديث وفيه انه قتله.

(١) المصدر ٥٤٣ محمد بن الحسن بأسناده عن أحمد بن محمد عن البرقي عن الحسن السرّي عن منصور عن أبي عبد الله (ع) وفيه عنه عن محمد بن يحيى عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال : إذا دخل عليك اللص يريد أهلك ومالك فإن استطعت أن تبدءه وتضربه فأبدره وأضربه وقال مثله وفيه في المجالس والأخبار بسند متصل عن أبي أيوب قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : من دخل على مؤمن داره محاربا له فدمه مباح في تلك الحال للمؤمن وهو في عنقي.

(٢) الوسائل ١٨ : ٥٣٣ صحيحة بريد بن معاوية قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل (إِنَّما جَزاءُ ...) قال ذلك إلى الإمام يفعل ما يشاء قلت فمفوض ذلك إليه قال لا ولكن نحو الجناية.

وفي صحيحة عبيد بن الخثعمي قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قاطع الطريق وقلت الناس يقولون ان الإمام فيه مخير أي شيء شاء صنع؟ قال : ليس أي شيء شاء صنع ولكنه يصنع بهم على قدر جنايتهم من قطع الطريق فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله وصلب ومن قطع الطريق فقتل ولم يأخذ المال قتل ومن قطع الطريق فأخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله ومن ـ

٣١٨

وكما النواميس الواجب الحفاظ عليها خمسة كذلك الإفساد في الأرض خمس ، ١ إفسادا في الدين علميا أو عقيديا أو أخلاقيا أو عمليا ، في أصل الدين كتابا أو سنة أو في الأفراد.

ثم ٢ إفسادا في العقل ٣ والعرض ٤ والنفس ٥ والمال ، فمن يسعى في الأرض فسادا في أيّ من هذه النواميس فهو مصداق لهذه الآية المباركة ، وكما النواميس تختلف من حيث الكيان ، بل وفي كلّ درجات ، كذلك الحد يختلف نحو الجريمة ، من ١ قتل و ٢ صلب و ٣ تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ٤ وغرق ٥ ونفي عن بلد الإسلام ٦ أم عن بلد الجريمة ٧ أم نفي عن حرية الحياة بسجن ٨ أم نفي عن نفس العمل الذي يفسد فيه.

والمفسد قد يكون في متن لإفساد هذه النواميس أم مساعد بمقدماته أم معاون ، أم ساكت فيحصل الفساد أو يبقى أو يقوى.

والسعي في الإفساد يرتكن أولا على العمل الساعي قولا أم فعلا أم كتابة أماذا ، وإذا كان من العناوين القصدية فلا بد من قصد السعي في الإفساد ليتحقق موضوع الحكم في الآية.

فالمفسد لنفسه مهما سعى ، أو المفسد لغيره دون سعي ، أم بسعي دون قصد في العناوين القصدية ، كما المحارب الله ورسوله دون قصد في القصدية ، هؤلاء ليسوا من مصاديق آية الإفساد مهما كانوا من طليق «المفسدين».

__________________

ـ قطع الطريق فلم يأخذ مالا ولم يقتل نفي من الأرض.

وعن أبي عبد الله (ع) قال سألته عن المحارب وقلت له أن أصحابنا يقولون أن الإمام مخير فيه إن شاء قطع وإن شاء صلب وإن شاء قتل فقال : لا أن هذه الأشياء محدودة في كتب الله فإذا ما هو قتل وأخذ قتل وصلب وإذا قتل ولم يأخذ قتل وإذا أخذ ولم يقتل قطع وإن هو فر ولم يقدر عليه ثم أخذ قطع ألا أن يتوب فإن تاب لم يقطع.

٣١٩

وهذه الآية لا تحصر الجزاء بمن ذكروا فيها ، وإنما الحدود المذكورة فيها تختص بهم ، وإن كانت هناك حدود أخرى أعلى أو أدنى بالنسبة لغيرهم غير المذكورين في الآية. وكما أن (يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) تعميم بعد تخصيص ، كذلك (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) تعميم بعد تخصيص.

فأرض الإفساد إن كانت كل الأرض فالنفي أيضا هو من كل الأرض غرقا أو سجنا ، وإن كانت أرض الإسلام فالنفي أيضا منها ، وإن كانت موطنه فالنفي منها ، وإن كان شغله فالنفي منه ، فليناسب المنفي أرض الإفساد ، وذلك يختص بمن لا يتوب قبل القدرة عليه ، وأما التائب فقد عالج نفسه قبل أن يعالج أو يدفع ضره وشره ، وليحاول في إصلاح الساعين في الأرض فسادا ، ولا سيما الذين لا يعلمون فيفسدون.

وكما أمر الله (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) (١٦ : ١٢٥) فليكن الجو جو التربية الإسلامية ، فالمحارب أو الساعي في الأرض فسادا إذا لم يتب رغم الجو التربوي ، فهو ـ إذا ـ معاند لا علاج له إلّا إحدى المعاقبات الثمان ف (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) لا تعني توبة دون سبب ، بل لا يمكن دون سبب والسبب هو العلم والمعرفة والنصيحة دون الخوف ، حيث التوبة بعد القدرة لا تقبل لأنها إيمان عند رؤية البأس.

وليس القتل والصلب إلّا لمن لا علاج له إلّا الإعدام كما والنفي عن كل الأرض ، ثم هما ليسا إلّا للمحارب أو الساعي في إفساد الدين ، والعقل والنفس ، وأما الساعي في إفساد العرض أو المال فلا قتل فيه ، فإن اختلاف درجات النواميس يحكم باختلاف العقوبات في إفسادها دون ريب.

وقد تعني الأرض المنفي عنها أرض الجريمة نفيا لسعيه في الإفساد سلبا لظرفه ووسيلته ، ومن ذلك إسقاطه عن شغله الذي يتذرع به إلى السعي في الإفساد.

٣٢٠