الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

يختص الاضطرار المحلّل للحرام بالحفاظ على النفس بل والحفاظ على سائر النواميس الخمسة لنفسه أمن هو محسوب عليه.

ثم المضطر باختياره ، أو الباغي والعادي أو المتجانف لإثم ، هؤلاء هم عصاة في اقتراف المحرّم المضطر فيه مهما كان واجبا ، فهو محظور تقصيرا ، ومحبور حفاظا على الواجب حفظه من نفس وصحة أمّاهيه.

والغفر الطليق يختص بغير المقصر ، وأما المقصر على دركاته فلا يغفر له حيث يعذّب بتقصيره ، مهما عذب أيضا إذا لم يتناول المحرم حالة اضطراره ، وليس مورد الاضطرار بالاختيار وما أشبه من موارد ترجيح الأهم على المهم سلبا لحكم المهم ، أو تساوي الحكمين فتساقطهما ثم الحكم بإباحة الطرفين ، فإن حكم المهم يزول عند الاضطرار العاذر وفي سواه يبقى الحكم على حاله كالمضطر الباغي أو العادي أو المتجانف لإثم بنص الاستثناء الخاص ، والعنوان الثانوي إنما يزيل حكم العنوان الاولى في حالة العذر دون تقصير.

فهنا الضابطة «الضرورات تبيح المحظورات» تخصص بالضرورات غير المختارة ، أم «تبيح» إباحة مطلقة في غير المقصرة أصلا وفرعا ، وإباحة جانبية في المقصرة بمعنى بقاء حكم الوجوب والحرمة معا.

فالقول إن واجب الحفاظ على النفس ومحرم اقتراف المحرم حالة الاضطرار المقصر هو الجمع بين الواجب والمحرم وأنه مستحيل أم يرجح أرجح الأمرين.

إنه مردود بأن الوجوب والحرمة متواردان على وجهين ، ثم لا تزول الحرمة المعارضة بأهم منها إلّا إذا كانت غير مقصرة ، فالمضطر الباغي أو العادي أو المتجانف لإثم أو الذي اضطر باختياره معاقب على أي الحالين ، فيعاقب على اقتراف الحرام حفاظا على نفسه ، كما يعاقب على هدر نفسه تركا لذلك المحرم لمكان تقصيره في ذلك التضيق والحرج و (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي

٨١

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) تختص بالجعل التشريعي وأما الذي يحرج نفسه بنفسه فهو الذي جعل على نفسه الحرج تخلفا عن شرعة الله.

دور إكمال الدين وإتمام النعمة بصورة عامة :

هنا إكمال الدين وليس إكمال الشرعة من الدين ، فالقصد من «دينكم» هو الدين كله حيث (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ..) (٤٢ : ١٣).

فكل شرعة من الدين طرف منه يختص بزمن خاص ، فيها سؤل المكلفين به ، ولكن هذه الشرعة الأخيرة تحمل كل ما تحمله الشرايع الأربع وزيادة هي سر الخلود إلى يوم الدين ، فلا تختص ببيئة خاصة وزمن خاص وناس خصوص كسائر الشرائع المؤقتة.

بل إن هذه الرسالة الأخيرة تخاطب الإنسان من وراء كل الظروف والبيئات ، وتتناول حياة المكلفين إلى يوم الدين من جميع أطرافها ، محلقة على كل سؤل دون إبقاء ، واضعة لها المبادئ الكلية والضوابط الشاملة فيما يتطور فيها ويتحوّر بتغير الزمان والمكان ، وكذلك الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان وتحوّرها.

فقد أعلن «يوم الغدير» بواسطة ذلك البشير النذير إكمال الدين بكل أصوله وفروعه ، وسر استمراره ، ومستسر قوته وقراره.

إذا فالمخاطبون ب (لَكُمْ دِينَكُمْ ..) هم كل المكلفين في الطول التاريخي والعرض الجغرافي منذ بزوغ الإسلام إلى يوم الدين.

وهكذا (أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) في إكمال دينكم ، النعمة الخاصة الربانية الرحيمية التي قضيتها إرسال الرسل وإنزال الكتب ، فقد أتممت تلك

٨٢

النعمة الناعمة القائمة بأسرها ، فلم تبق عندي نعمة بالإمكان إنزالها على المكلفين إلّا وقد أنزلتها في هذه الشرعة من الدين التي هي الدين كله بكماله وتمامه.

إذا فما ذا بعد إكمال الدين ـ فيما يحاوله مختلقو شرعة بعده ـ إلا انتقاص ، وماذا بعد إتمام النعمة إلا نقمة وإفلاس.

أجل ، ولكنه لا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين ولا يقدر قدرها إلا من يعرف الجاهلية ويذوق وبالها وويلاتها ، ثم ومن يعرف شرايع الدين قبله بتحرّفاتها عن جهات أشراعها ، وأنها في نفس الوقت وقتية مؤقتة ، وكأنها ـ أو أنها ـ تقدمات وتعبيدات طريق لهذه الشرعة الأخيرة.

فلقد انشأ الإسلام من البشرية أمة تطل من القمة السامقة على كافة المكلفين كلهم في السفح ، في كل جانب من جوانب الحياة.

ذلك الدين المتين ـ بكل أعباءه وقضاياه ـ هو الذي رضيه الله لنا دينا ، مما يحرضنا على الاستقامة قدر جهدنا لإقامته ، وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل أو يرفض ما رضيه الله له ليختار لنفسه غير ما اختاره الله ، أو يغير معالمه الأصيلة إلى طقوس وأذكار خاوية ، وتلك ـ إذا ـ جرعة نكدة ليست لتذهب دون جزاء.

ذلك ، و «من» في «من دينكم» تعني ـ فقط ـ التعدية إذ لو عنت معها معنى آخر كالتبعيض فقد عنت / «يئس الذين كفروا من بعض دينكم» فهو «من من دينكم».

و «دينكم» له مرحلتان ، أصله ، وكونه معكم ، واليأس يشملهما ، فقد يئسوا من زواله أو إزالته من أصله أو عنكم حيث قرر فيكم استمراريته قيادة وقانونا مضمونا في عصمتها.

٨٣

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥)

«يسألونك» هو سؤال عن الرسول برسالته العالمية ، فقد يحلّق على كل سؤال من كل سائل منذ حاضر الرسول إلى يوم الدين.

(ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) منذ خاتمة الوحي ولا سيما بالمائدة حتى آخر زمن

٨٤

التكليف حيث «أحلّ» تشمل كل زمن هذه الرسالة ، ـ إذا ـ فالجواب يحلّق على ما حلّق عليه السؤال :

(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وتقابلها الخبيثات ، طيبات في حقل الأكل والشرب والنكاح وأية تصرفات قالا وحالا وفعالا ، وكما القرآن في سائره يحلّل الطيبات ـ كلمة واحدة ـ ويحرم الخبيثات.

ولأن (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) من المحرمات سبق ، فقد سنح لهم أن يسألوا عما أحل لهم ، ولكنه لا يختص الحل بحقل الأنعام ، كما (وَطَعامُ الَّذِينَ ... وَالْمُحْصَناتُ) يشهدان لعدم الإختصاص.

و «الطيبات» بصورة طليقة هي ما تستطيبه النفس الإنساني غير المنحرف ولا المنجرف إلى دركات الحيوانية ، فهي المستطابة بطبيعة الحال الإنسانية.

ولأن الخطاب في بازغ السورة هو خطاب الإيمان فقد ينضاف إلى المستطاب في حقل الإنسانية المستطاب في حقل الإيمان ، فقد تشمل الخبائث ما يمجه ويستخبثه الإيمان إلى ما يمجه الإنسان كإنسان.

فكما أن الميتة والدم وما أشبه يمجها طبيعة الإنسان بفطرته السليمة ، كذلك ما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب يمجه المؤمن قضية إيمانه السليم ، والمستقسم بالأزلام ينفر عنه لأنه من الميسر ، فلم يحرم الله طيبا على المؤمنين ، فالطيبات ـ كأصل ـ هي ما تستطيبه النفس الإنسانية ، أي لا تستنجثه بطبيعتها الأولية الأصيلة غير الدخيلة ، وهذه الطبيعة الصافية تصبح ضافية أكثر حيث تتبلور أكثر مما كان على ضوء الإيمان ، ومهما كان التكليف شاملا كافة المكلفين ، ولكنه فيما هنا وما أشبه هو على غرار ما تستطيبه النفوس المؤمنة.

فليست «الطيبات» إذا كل ما يستطيبه كل الناس ، وإن شرذمة من

٨٥

النسناس أم وكثرة منهم كثيرة عملت فيهم عوامل الحيونات والشيطنات والإباحيات فتناسوا فطرة الناس فتحللوا إلى طبيعة النسناس.

فكلما تستطيبه الفطرة والحس والعقلية السليمة الإنسانية ولا تمجّه هي من الطيبات ، وما تمجّه هي من الخبائث. والمختلف فيه بين مختلف الفطر السليمة لا تعتبر من الخبائث ، فالميزان في الطيبات والخبائث هو الفطرة والحس والعقلية السليمة ، مثلث من السلامة الإنسانية إضافة إلى قضية الإيمان ، فإن حالة الإيمان هي حالة قدسية تكاملية لإنسانية الإنسان ، يصح أن تكون هي المحور الأصيل لتمييز الخبائث عن الطيبات ، دون الإنسان المنحرف عن إنسانيته ، المنجرف إلى حيوانيته ، فكما لا يمكن تحويل معرفة الحكم الشرعي وموضوعه السليم إلى العقول المتخلّفة المختلفة ، المتفاوتة ، كذلك وبأحرى تحويل معرفة هذين الموضوعين الهامّين لضابطة المحلّلات والمحرمات ، اللهم إلّا إلى الفطر السليمة التي لا تتخلف عن الواقع المرام.

وإذا ترددنا في طيب شيء أو خبثه فالرجوع إلى دلالة شرعية صالحة من علم أو اثارة من علم ، وإلّا فالأصل هو الحلّ حيث الحرمة مختصة بالخبائث والمردد في خبثه وطيبه لا يحكم بخبثه مهما لم يحكم بطيبه ، فيدخل في عامة الحلّ حيث (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢ : ٢٩).

ولقد جاء حل «الطيبات» في عشرين موضعا من القرآن ، و «الخبائث» مرة واحدة (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (٧ : ١٥٧) وأخرى هي الخبيثات : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) (٢٤ : ٢٦) ولكن الأخيرة تعني الأعمال الخبيثة كما حققناه في آية الخبيثات.

وذلك السلب والإيجاب هما كضابطة عامة تحلق على كافة الأقوال والأحوال والأعمال ، اللهم إلا ما أخرجه قاطع البرهان.

٨٦

ومن «الطيبات» في حقل اللحوم هنا (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) وتراها تختص بجوارح الكلاب المختصة بالصيد ، المعلّمة له ، لمحة من «مكلبين»؟

و «الجوارح» تعم الكلب إلى كل سبع جارح معلّم ، فلو عني الكلاب لجيء بلفظها دون عامة «الجوارح» ، والتكليب هو تعليم الكلب الصالح للجوارح ، وأصل الكلب من الكلب : الجرح ، لأنه من الجوارح ، فهو لفظ عام يشمل كل الجوارح ، وهنا «من الجوارح» دون «الكلاب» مما يوسع نطاق الصيد إلى كل ما يكلب من الجوارح دون اختصاص بالكلاب وما تفسير «الجوارح» ب «الكلاب» إلّا تفسيرا بأعود المصاديق التي يعيشها الإنسان وهي الكلاب (١) ، وتخصيص الجوارح بالكلاب ـ وهي عشرات أنواع ، إخراجا للأكثرية المطلقة عن ذلك الجمع المستغرق لكل الجوارح ، لا سيما وأن اللام فيها تعني الموصول ـ غير صحيح فهي التي تجرح من الحيوان أيّا كان ،

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٩١ عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : في كتاب علي (ع) في قول الله عز وجل (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) قال : «هي الكلاب».

وفيه (٥٩٢) عن الكافي عن جميل بن دراج قال سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يرسل الكلب على الصيد فيأخذه ولا يكون معه سكين يذكيه بها أيدعه حتى يقتله ويأكل منه؟ قال : لا بأس قال الله عز وجل «فكلوا مما أسكن عليكم ولا ينبغي أن يؤكل ما قتله الفهد».

وفي صحيح الحذاء عن أبي عبد الله (ع) في حديث : «ليس شيء مكلب إلا الكلب» (الكافي ٦ : ٢٠٣) أقول : «مكلب يعني معلم الكلب ، وهذا دليل أن غير الكلب لا يكلب في الأغلب ، وأما إذا كلب فقد يحل صيده» وقال الحلبي قال أبو عبد الله (ع) كان أبي يفتي وكان يتقي ونحن نخاف في صيد البزاة والصقور وأما الآن فإنا لا نخاف ولا نحل صيدها إلا أن تدرك ذكاته فإنه في كتاب علي (ع) أن الله عز وجل يقول : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) فسمّى الكلاب (الكافي ٦ : ٢٠٧ والتهذيب ٣ : ٢٤٦ والإستبصار ٤ : ٧٣ واللفظ للكافي).

وفي آيات الأحكام للجصاص ٢ : ٣٨٤ روى صخر بن جويرية عن نافع قال : وجدت في كتاب لعلي بن أبي طالب (ع) قال : لا يصلح أكل ما قتلته البزاة ، وفيه روى سلمة بن علقمة عن نافع أن عليا كره ما قتلت الصقور.

٨٧

فالاستغراق المستفاد منها ـ علّه ـ أوغل من المستفاد من لام الاستغراق فضلا عن الجنس.

وهذا غريب في نوعه في أسخف تعبير وأخرفه أن يعبر عن خصوص الكلاب بعموم الجوارح ، اعتمادا على مكلّبين ، وهي لا تعني الكلب بل هو تعليم الكلب إنسانيا وإيمانيا ، تناسيا في صيدها حيوانية الكلب.

ولو عني من «مكلبين» خصوص الكلب لكان المعنى : جاعلين الجوارح كلابا ، أو الكلب كلبا!. فممّا لا يريبه شك أن «مكلبين» في حقل «الجوارح» هي كل الجوارح المعلمة مهما كانت الكلاب هي التي تتعلم في الأكثر.

وشروطات حلّ الصيد في الجوارح هي : ١ تكليبها تعليما صالحا للكلب و ٢ إمساكها عليكم دون أكل منه إلّا بعضا متعودا للجائع و ٣ ذكر اسم الله على الصيد حين إرسال الجارحة.

فإذا تمت هذه الشروط في غير الكلب فقد تم الحل في صيده (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٩٢ عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (ع) قال سألته عن صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب؟ قال : لا تأكل إلا ما ذكيتم إلا الكلاب ، قلت : فإن قتله؟ قال : كل فإن الله يقول : «وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلموهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم» ثم قال : كل شيء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب المعلمة فإنها تمسك على صاحبها ، وقال : «إذا أرسلت الكلب المعلم فاذكروا اسم الله عليه فهو ذكاته ...» وفي وفي خبر أبي مريم الأنصاري قال سألت أبا جعفر عليهما السلام عن الصقور والبزاة من الجوارح هي بمنزلة الكلاب؟ قال : «نعم» (التهذيب ٣ : ٣٤٦) وفي خبر عبد الله بن خالد بن نصر المدايني جعلت فداك البازي إذا أمسك صيده وقد سمى عليه فقتل الصيد هل يحل أكله؟ «فكتب (ع) بخطه وخاتمه إذا سميت أكلته» (المصدر).

وفي الدر المنثور ٣ : ٢٦٠ ـ أخرج ابن جرير عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله (ص) عن صيد البازي فقال : ما أمسك عليك فكل وفيه أخرج البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال ـ

٨٨

وقد ينحلّ اختلاف الأثر في حلّ صيد غير الكلب من الجوارح وحرمته بأن دليل الحرمة ناظر إلى غير المكلّب منها ، ودليل الحل موافق لطليق العموم في «من الجوارح» ولا تعني «مكلّبين» إلا معلّمين كلبها ، دون اختصاص بكونها من الكلاب ، فالكلب غير المعلم لا يحل صيده وغيره من الجوارح المعلّمة يحل صيدها ، فقد يعم الكلب نفسه كلّ الجوارح فضلا عن «الجوارح» كما يروى عنه (ص) من قوله : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد» (١).

ولو اختص الحل بصيد الكلب لم تصح «من الجوارح» ولا تعني «مكلبين» إلّا تعليمها الكلب والجرح مثل الكلب ، فما كانت من الجوارح كلبا معلما أو مثله في الكلب فحلّ أكله.

والعبارة الصالحة لاختصاص الحل بكلب الصيد «وما علمتم من الكلاب معلمين» إذا ف «مكلبين» تعني جعل الجارحة كلبا يكلب كلب الإنسان المتشرع ، سواء أكان كلبا أم سواه من الجوارح ، ثم (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ

__________________

ـ قلت يا رسول الله (ص) : إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فما يحل لنا منها؟ قال : «يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين ...» ثم قال : ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك ، قلت : وإن قتل؟ قال : وإن قتل ما لم يأكل هو الذي أمسك ، قلت : إنا قوم نرمي فما يحل لنا؟ قال : ما ذكرت اسم الله وخزفت فكل.

أقول : «ما لم يأكل» قد لا يعني عدم الأكل أصلا وإنما عدم الأكل فيها لم يمسكن عليكم وإنما بقية لم تأكلها بعد شبعها ، و (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) لا يدل إلا على أصل الإمساك دون حصر الإمساك.

وفي آيات الأحكام للجصاص ٢ : ٣٨٢ بسند متصل عن عدي بن حاتم قال : لما سألت رسول الله (ص) عن صيد الكلاب لم يدر ما يقول لي حتى نزلت (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) وفيه (٣٨٤) روى مروان عن نافع عن علي بن الحسين عليهما السلام قال : الصقر والبازي من الجوارح مكلبين.

(١) تفسير الفخر الرازي ١١ : ١٤٣.

٨٩

اللهُ) يعني علم الصيد الصالح إنسانيا وشرعيا ، فإن الصياد يجرح أو يقتل ثم يعده للأكل ، فلذلك جارحة الصيد تعلّم ألا يأكل الصيد حاله.

ولأن جارحة الصيد مرسلة عن الصياد ، فلتكن ـ ككل مرسل ـ أمينة لا تقتل ولا تأكل حيوانيا مفترسا ، و (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) تبعّض ذلك التعليم اختصاصا بما يمكن في العادة تعليمه من الحفاظ على أمانة الصيد ، إذ ليست الجارحة ـ أيا كانت وكيفما كانت ـ لتتعلم كلّما علّمه الإنسان إنسانيا ، فضلا عما علّمه شرعيا ، فمن الواجهة الإنسانية تعلّم الجارحة العدل في أصل الصيد وفصله ، ألا تفترسه إلّا قدر الضرورة للحصول عليه ، ولا تأكل كله أو كثيرا منه ، اللهم إلّا قدر الحاجة الحاضرة ، فتمسك لصاحبها ما يصدق : (أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).

ذلك ، وأن تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه في صالح الصيد وطالحه ، فكلّما يمكن في العادة ـ دون حرج أو عسر ـ تعليمه إياها مما علّمه الصياد نفسه ، يجب أن يعلمه إياها تعليما تطبيقيا ، لا فقط نظريا ، فحين تعلّم ولا تطبّق ما تعلمته فهي كما لم تعلّم على سواء.

إذا فالحالة الإنسانية مع الهالة الإيمانية تطبّقان في ذلك التعليم لمكان (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) حيث المخاطبون هم المؤمنون ، وهنا يحل صيدها (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).

ومن الخارج عن طوق التعليم ذكر اسم الله عليه ، والتوجيه للقبلة وفري الأوداج ، ومما هو داخل في طوق التعليم ألا تخنقه أو ترديه وما أشبه من مصاديق الإماتة حيوانيا مفترسا اللهم إلا عند الضرورة وبقدرها ، فإذا اكتملت هذه الشروط الأدبية الأديبة (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) فالإمساك عليكم كلا أو بعضا ادبيا قاصدا هو مما علمكم الله كما في كل موكّل بأمر ، حيث الصياد ليس ليأكل صيده حاله وحالّه ، فضلا عن الموكّل في صيده.

٩٠

فإنما يصيده حتى يؤكل ، سواء أكان هو الآكل أم سواه ، فلأن الصياد وجارحة الصيد شريكان في الصيد فلتكن كأي شريك فلا يأكل كله ، إنما بعضه أو نصيبه حسب الحاجة.

وهنا طليق الشرط : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) يلحقه طليق الجزاء (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) فلا يشترط إلّا كون الصياد من الجوارح المعلّمة الممسكة عليكم صيدها ، سواء أقتلته أم لم تقتله ما لم تأكل كلّه.

وهنا (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) تشترط أن تصيد الجارحة وتمسك عليكم لا على نفسها ، فواجهة تعلمونهن مما علمكم الله هي الصيد لصاحبها كيفما كان أخذها إياه.

وجملة القول في الجارحة المعلمة أنك إذا أرسلتها استرسلت ، وإذا دعوتها أجابت ، وإذا أردتها لم تفر ، وإذا أخذت حبست ولم تأكل اللهم إلّا قلّا ، فإذا تكررت منها هذه فهي معلّمة يحل صيدها إذا أمسكت عليك وذكرت اسم الله عند إرسالها (١).

وترى (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ماذا يعني تبعيضه؟ لو كان «ما أمسكن» لدل على أكل كله وهو لا يجوز فإن في الصيد أجزاء محرمة ، ثم «مما أمسكن» لا تدل على واجب إمساك كل الصيد كشرط لحله ، فقد يكفي أن يمسك عليكم كأصل في صيده وإن أكل بعضا كما هو طبع الكلب في جارح الصيد (٢) ثم قد يكون «ما أمسكن» كل الصيد فليس للصياد أن يأكل كله

__________________

(١) كما يروى عن النبي (ص) وفي تفسير الفخر الرازي ١١ : ١٤٤ عن عدي بن حاتم عنه (ص) «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم يقتل فاذبح وأذكر اسم الله عليه وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئا فإنما أمسك على نفسه».

(٢) ومما يدل عليه صحيحة رفاعة سألت أبا عبد الله (ع) عن الكلب يقتل؟ فقال : كل ، فقلت إن ـ

٩١

لأن لجارحة الصيد نصيبا منه فإنه من سعيه مهما كان وكيلا فيه وإذا انتقض إحدى هذه الشروط لا يحلّ الصيد إلّا إذا أدركت ذكاته ف «ما أمسك عليك

__________________

ـ أكل منه؟ فقال : «إذا أكل منه فلم يمسك عليك ، وإنما امسك على نفسه» (التهذيب ٣ : ٣٤٥ والإستبصار ٤ : ٦٩) أقول : إنما أمسك على نفسه هو مورد التحريم إن لم يدرك ذكاته ، وإن أمسك عليك حل وإن أكل منه.

وصحيح ابن مسلم وغير واحد عنهما عليهما السلام جميعا أنهما قالا في الكلب يرسله الرجل ويسمي؟ قالا : «إن أخذ فأدركت ذكاته فذكه وإن أدركته وقد قتله وأكل منه فكل ما بقي ولا ترون ما يرون في الكلب» (الكافي ٦ : ٢٠٢ والتهذيب ٢ : ٣٤٤).

وخبر حكم بن حكيم الصيرفي قلت لأبي عبد الله (ع) ما تقول في الكلب يصيد الصيد فيقتله؟ قال : لا بأس بأكله ، قلت : إنهم يقولون : إنه إذا قتله وأكل منه فإنما أمسك على نفسه فلا تأكله؟ فقال : كل ، أو ليس قد جامعوكم على أن قتله ذكاته؟ قال قلت بلى ، قال : فما يقولون في شاة ذبحها رجل أذكاها؟ قلت : نعم ، قال : فإن السبع جاء بعد ما ذكاها فأكل منها بعضها أيؤكل البقية؟ فإذا أجابوك إلى هذا فقل لهم : «كيف تقولون إذا ذكى ذلك وأكل منها لم تأكلوا وإذا ذكاها هذا وأكل أكلتم»؟ (الكافي ٦ : ٢٠٣ والتهذيب ٣ : ٣٤٤).

وخبر سالم الأشل سألت أبا عبد الله (ع) عن الكلب يمسك على صيده ويأكل منه؟ فقال : «لا بأس بما يأكل هو لك حلال» (الكافي ٦ : ٢٠٣ والتهذيب ٣ : ٣٤٥).

وأما خبر أحمد بن محمد قال سألت أبا الحسن (ع) عما قتل الكلب والفهد؟ فقال قال أبو جعفر عليهما السلام : «الكلب والفهد سواء فإذا هو أخذه فأمسكه فمات وهو معه فكل فإنه أمسك عليك وإذا أمسكه وأكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه» (المصدر) وموثق سماعة بن مهران قال سألته عما أمسك عليه الكلب المعلم للصيد فهو قول الله تعالى (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ...) قال : «لا بأس بأن تأكلوا مما أمسك الكلب ما لم يأكل الكلب منه فإذا أكل منه قبل أن تدركه فلا تأكل منه» (المصدر) فقد يعني الأكل منه المحرّم إذا لم يمسك عليك.

وفي آيات الأحكام للجصاص عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله (ص) عن صيد الكلب المعلم فقال : «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه».

أقول : المحور في التحريم هو الإمساك على نفسه ولا يلازمه أكلا ما منه إلا أكل يدل على إمساكه لنفسه كالسبع ، ومما يشهد لذلك إضافة إلى طليق الآية ما رواه عبد الله بن عمر عن النبي (ص) إنه قال لأبي ثعلبة الخنثى فكل مما أمسك عليك الكلب قال : فإن أكل منه؟ قال : وإن أكل منه.

٩٢

الذي ليس بمكلّب فأدركت ذكاته فكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل» (١).

وما لم يمسك عليك كواجب الإمساك فلا تأكل منه وإن كان مكلّبا معلّما ، إلّا إذا أدركت ذكاته تسمية وذبحا ، حيث التسمية عند الإرسال إنما تكفي إذا كان إرسالا لصالح الصيد بشروطه ، ولا يدل (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) على عدم أكلها منه بل المانع إمساكها على نفسها أو أكلها حتى تشبع وما أشبه.

وأما (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) فإلى م يرجع ضمير الغائب؟ إلى «ما علمتم» تسمية عليه عند الإرسال ، كما يروى عن الرسول (ص): «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل» (٢) أم إلى «ما أمسكن» يعني إذا أدركت ذكاته فسمّ حيث التسمية عند الإرسال إنما تكفي فيما لا تدرك ذكاته؟ أم إلى الأكل «فكلوا» ، .. (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) عند الأكل.

الاحتمال الأخير غير وارد إلا استحبابا لذكر اسم الله ، والأوّل أصيل ككل شرطا في صالح الإرسال ، لأنه بحكم الذبح الذي يشترط فيه ذكر اسم الله ، والأوسط وسيط على الهامش ، شرطا فيما لم يقتل الصيد بصيده.

ولماذا (أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) دون «لكم»؟ لأن في «لكم» لمحة تسهيم وتقسيم ، و «عليكم» تلمح بأصالة الإمساك المتكلّف فيه للجارحة ، فعدم شبعها تكلّف ، وإمساكها لكم تكلف فضلا عن إمساكها عليكم!.

وخلاصة القول في (وَما عَلَّمْتُمْ ..) أن الجوارح التي بالإمكان تعليمها مما علمكم الله في حقل الصيد إنسانيا وشرعيا ، تعليما عمليا دون إحراج ،

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٦١ ـ أخرج عبد بن حميد عن مكحول قال قال رسول الله (ص): ما أمسك ...

٩٣

يحل صيدها (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) قاصدة في ذلك الإمساك ، تاركة لأكل إلّا قدر الضرورة والحاجة

فليست جارحة الصيد إلّا وكيلة عن الصياد تنوبه فيما علمه الله إنسانيا وشرعيا ، فما أمكن تعليمه علّمه إياهن ، وما لم يمكن وامكنه هو طبّقه كذكر اسم الله عليه.

وكما الصياد بنفسه يسقط عنه التوجيه إلى القبلة وفرى الأوداج ، فكذلك بأحرى عن نائبة الجارحة ، ولا تسقط عنه ذكر اسم الله ، ولا الجرح العادل.

فمن الشروط الثلاثة للذبح يسقط الكل إلّا البسملة ، وإلّا الجرح العادل والإمساك على صاحبه.

ولأن الصيد الإنساني ينوب عن التذكية والذبح العادي فلا بد ـ إذا ـ ألّا يقصد الصياد برميه قتل الصيد حتى يذكّيه تحقيقا لشروطها ، فإذا قتل دون قصد فقد ينوب عن التذكية توجيها إلى القبلة وفريا للأوداج الأربعة ، ثم الجارحة المعلّمة وكيلة عنه فليعلّمها ما يحققه في صيده ألا تقصد قتل الصيد إلّا إذا تفلتت أو اضطرت إليه ، وأن تمسك على المرسل ، لا على نفسها ولا عليهما لأنهما خارجان من (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).

ذلك لأن المعلوم من شرط الاسم أن للذّبح صيدا وسواه ، بجارحة وسواها ، ف (ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) محرم ، و «ما (ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) حلّ ، وقد يعني «ما أمسكن» حالة الإمساك القتل ، وواجب التسمية ليس إلّا عنده ، فإن لم يسمّ عند الإرسال وسمّى عند الإمساك القتل فقد كفى.

ولأن الإرسال غير مذكور في النص ، وإنما هو «أمسكن» فمصبّ واجب ذكر الاسم إنما هو حالة الإمساك القتل دون سائر الحالات ، وإنما يجب ذكر الاسم عند الإرسال إذا لم يدر متى القتل كما هو الأكثر في العادة.

٩٤

ذلك ، وحتى إذا سبق الإرسال كما سبق الأكل فالمرجع الصالح هو الأقرب وليس إلّا الإمساك المستفاد من (مِمَّا أَمْسَكْنَ) حيث الإمساك يعني إمساك الصيد ، فواجب ذكر الاسم حسب النص هو عند الإمساك قتلت أو لم تقتل حيث لا يدرى ماذا يحصل ، فإن لم تقتل (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) حين التذكية.

فلا تكفي التسمية ـ فقط ـ عند الأكل ، ولا عند الإرسال إلّا إذا لم يعلم متى القتل بالصيد ، ولأن «ما أمسكن» أعم من القتل بصيدها وعدمه فذكر اسم الله عليه يختلف في الإمساكين ، ففي الإمساك القتل يذكر اسم الله عنده ، وفي غير القتل يذكر اسم الله عليه في تذكية الممسك.

وعلى أية حال فواجب الذكر أولا هو عند الإمساك ، ثم إن بقي حيّا يجدّد ذكر الاسم لتذكيته ، وإلّا فقد يكفيه ما سمى إن لم يكن له مجال لذكره عند قتله.

وهل يشترط في صيد الجارحة المعلمة المكلبة أن تحافظ على ما صادته؟

طبعا نعم ، فإن ذلك من تعليمها ، كما و «ما أمسكن» صريحة في واجب الإمساك على صاحبها ، فإذا أكلت دون إمساك ، أو أمسكت لا لصاحبها فلا يحل القتيل منه إلّا ما ذكيتم.

ف (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) تعني علما إنسانيا وشرعيا في الصيد زائدا على ما تعلمه الجارحة بطبيعتها الحيوانية ، ومنه ـ كأصل ـ أن تمسك على صاحبها ، كما منه الاسترسال إذا أرسلت والرجوع إذا استرجعت.

فجملة المستفاد من شروطات حل الصيد القتيل من هذه الآية كالتالية :

١ أن تكون من الجوارح.

٢ أن تعلموهن مما علمكم الله من حفظ الأمانة ومن الاسترسال

٩٥

بالإرسال والرجوع عند الاسترجاع ، تعليما للكلب إنسانيا وشرعيا وحفظ الأمانة في تلك الوكالة.

٣ أن تكلّبوهن تكليبا إنسانيا وشرعيا.

٤ أن تذكروا اسم الله على قتيل الجارحة وأحوطه عند الإرسال وواجبه حين القتل.

٥ وهل يشترط إسلام المرسل؟ الكلام والدليل سلبا وإيجابا فيه كما مضى في التذكية.

٦ يجب أن يعلم كون قتل الصيد مسنودا إلى الجارحة ، فإن لم تعلم فقضية أصالة عدم التذكية الحرمة ، اللهم إلا إذا كان الظاهر قتله بها.

٧ يكفي أن تقول «لله» أو «الله» ولكن (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) تتطلب لأقل تقدير «لله» يعني أصيده لله ، ولا معنى لمجرد «الله» بأي تعلق يصح أدبيا. (١) (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وذلك يوم شرعة الإسلام كلها حيث حرمت من الطيبات على الذين هادوا من قبل : «وعلى الذين هادوا حرمنا (طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ..) ف (لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في شرعة الإنجيل يتكامل هنا ب (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) تحليلا طليقا على مدار الزمن إلى يوم الدين.

ثم (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ..)

وهذه الجملة معركة الآراء بين من ينجّسون أهل الكتاب ومن

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١١ : ١٤٥.

ومثله صحيح الحلبي عن الصادق (ع) «من أرسل كلبه ولم يسم فلا يأكله» (التهذيب ٢ : ٣٤٥).

٩٦

يطهرونهم ، ولكن الآية بعد صالح التأمل والتعمل صريحة في طهارتهم.

فقد يقال إنهم مشركون لانحرافهم عن التوحيد الحق (١) فتشملهم (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٩ : ٢٨) ولكن الإشراك المنجّس ـ إن صدقنا أن المعني

__________________

(١) كما يقول تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٩ : ٣١) ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥ : ٧٣) ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (٤ : ١٧٢) فهذه الآيات تدخلهم في المشركين ، ثم آية البينة تخرجهم عنهم ومن أمثالها : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢ : ١٠٥).

ذلك وقد تعني مقابلة الذين كفروا من أهل الكتاب بالمشركين أن هؤلاء هم المتوغلون في الإشراك بالله دون أهل الكتاب حيث يأولون إشراكهم إلى صبغة التوحيد.

ف (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ز قد تعني المتوغلين في الإشراك بالله وهم المشركون الرسميون ، ولو عنت كافة المشركين فقد نسخت بآية المائدة في حقل النجاسة دون سائر الحقول اللهم إلا الممحض في الإشراك وسواه.

إذا ف (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) لا تدل على نجاسة الكتابيين لما يلي :

١ «نجس» بمناسبة الإشراك راجع إلى عقائدهم دون أبدانهم إذ ليست أبدانهم مشركة.

٢ «إنما» تحصر كيانهم في النجاسة وليس هكذا الكتابيون ، فالقصد منهم المشركون الرسميون.

٣ لو دلت الآية على عموم النجاسة لكل من أشرك فالموحدون من أهل الكتاب خارجون.

٤ ولو دلت على نجاستهم كلهم فقد نسخت الآية بآية المائدة ، إذ لا تختص (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بمن آمنوا بالكتاب حقا فقد تشمل الكتابيين على مختلف عقائدهم في اللاهوت ومتخلف مذاهبهم عن شرعة التوحيد.

٩٧

منه النجاسة الظاهرية إلى النفسية ـ يختص بعبادة الأوثان والطواغيت ، وقد قوبل كفار أهل الكتاب بالمشركين في آية البينة : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ..) (٩٨ : ١) ، فقد بيّنت آية البينة أن المعني من «المشركين» في طليق إطلاقها هم الوثنيون.

ثم ولو صدقنا أنهم تشملهم آية نجاسة المشركين ، فآية المائدة هذه ناسخة لها بالنسبة لأهل الكتاب ككل.

والقول بأن آية المائدة منسوخة بآية التوبة مردود بأن المائدة هي آخر ما نزلت ، ناسخة غير منسوخة ، كما القول إن آية التوبة تخصص آية المائدة بالموحدين من الكتابيين.

فإن فاصل العمل بآية التوبة مانع عن التخصيص ، ولو كان تخصيص فإنما هو من آية المائدة تخصيصا لآية التوبة بالمشركين غير الكتابيين.

إن قلت إن بينهما عموما من وجه فقد تلتقيان في الكتابي المشرك وتفترقان في المشرك غير الكتابي فتنجسه آية التوبة ، والكتابي غير المشرك حيث تطهره آية المائدة ، ويبقى ملتقاهما وهو الكتابي المشرك بين عموم الآيتين إثباتا لطهارته بآية المائدة وسلبا لها بآية التوبة.

قلت آية التوبة أظهر في المشرك الوثني من المشرك الكتابي وآية المائدة ظاهرة في الكتابي المشرك أكثر من الموحد حيث الأكثرية الساحقة منهم هم المشركون ، فهم إذا طاهرون ، فليرفع اليد عن ظاهر التوبة بالأظهر من المائدة دون نسخ.

وإذا تساويتا في شمول الكتابي المشرك فالتقدم لآية المائدة نسخا لآية التوبة ، دون تساقط لأنه ليس إلّا فيما لا نتأكد من صدورهما كما في حقل الرواية.

ولو أجملتا عن الدلالة عليه سلبا للطهارة وإيجابا فقاعدة الطهارة محكمة.

٩٨

فالكتابي الموحد هو طاهر قطعا حيث تشمله آية المائدة دون آية التوبة دون ريب ، والكتابي المشرك هو المصداق الأكثري لآية المائدة ، مدلولا لها بطهارته دون ريب ، وعند التشكك فالأصل هو الطهارة بعد أصل النسخ لآية التوبة بالمائدة.

ذلك ، وفي نظرة أوسع ننظر إلى «نجاسة الكفار» في زواياها ، هل هي نجاسة أبدانهم لمكان الجراثيم المسرية؟ والكفر هو نجاسة نفسية ليست لتسري إلى البدن!.

أم هي خساسة مؤثرة في الروح كلحم الخنزير؟ ولا يؤكل بدن الكافر حتى يؤثر خساسة في الروح!.

أم هي نجاسة سياسية قررت لكي يتجنب المسلمون الكفار حتى لا يضلوا بمجالستهم؟ والسياسة الإسلامية كأصل هي سياسة الجذب للكفار وليست هي الدفع! اللهم إلا في حقل موالاتهم ، وأما مجاراتهم جذبا للإيمان ، أو تخفيفا لوطئتهم ضد الإيمان فمحبور غير محظور.

والتحذر عن الزلة والضلالة بمجالستهم يكفيه التحذير عنها دون تنجيسهم مطلقا ، فقد يجالسهم المستضعف فيضل ولكنه ـ على نجاستهم ـ يطهر نفسه ، ثم الداعية الإسلامية مفروض عليه مجالستهم بصورة حبيبة ودّية لا تناسبها نجاستهم ، والمسلم الذي لا يتأثر بمجالستهم كما لا يؤثر لا يصح منعه عن مجالستهم فإنها قد تؤثر فيهم إذ لم يؤثر دعايتهم الإسلامية ، فليست الفتوى بنجاسة الكفار سياسة سليمة ، بل هي سياسة الدفع والنفي ، وهي تنافي روح الإسلام في كل أبعاده الأحكامية والدعائية حيث يتبنى الجذب لا الدفع.

أو يقال «طعام» في الآية هو ـ فقط ـ الحبوب وأمثالها غير المرطوب؟ والطعام في سائر القرآن يشمل كل ما يطعم حتى الماء : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ

٩٩

فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) (٢ : ٢٤٩) ولم يأت في القرآن ولا مرة يتيمية يراد به الحبوب وما أشبه ، مهما يستعمل أحيانا فيها كمصداق أكثري يحتاجه الإنسان وبقرينة قاطعة ك : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ..) (٧٦ : ٨) وهو هنا الخبز وليس كما يرومونه من جفافه.

ذلك كله إضافة إلى أن (طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ليس يختص بالحبوب وأشباهها من الجوافّ ، بل ولا يطعمونها إلّا بطبخ كخبر أو مرق أو ما أشبه ، كطعامنا على سواء ، ولو اختص الحل بالجوافّ لجيء بلفظها الصريح ولما اختص الحل بأهل الكتاب!

وما تفسير طعامهم بالحبوب (١) وأمثالها إلا لإخراج اللحوم قضية اشتراط التذكية وجاه من يفسر طعامهم بذبائحهم ، ولو صرحت روايات باختصاص الطعام هنا بالجافّ منه ـ ولا صراحة ولا ظهور ـ لكان مصيرها

__________________

(١) وهذه معارضة مع العامة المستحلين ذبائح أهل الكتاب وإن لم يسموا ، ففي الدر المنثور ٣ : ٢٦١ معاكسة تفسير الطعام بأنه ذبائح أهل الكتاب كما عن مجاهد وابن عباس وإبراهيم النخعي.

فمثل ما عن سماعة عن أبي عبد الله (ع) قال سألته عن طعام أهل الكتاب وما يحل منه؟ قال : الحبوب ، كما الحبوب في أصلها ، ولفظة الطعام لا تتحمل فقط البقول والحبوب جافة وسواها إنما هي مصاديق لما يحل أكله طردا للمحرم كذبائح أهل الكتاب وما أشبه من المحرم.

ومما يشهد له من أحاديثنا ، عن قتيبة الأعشى قال سأل رجل أبا عبد الله (ع) وأنا عنده فقال له : الغنم يرسل فيها اليهودي والنصراني فتعرض فيها العارضة فتذبح أنأكل ذبيحته؟ فقال (ع) : لا تدخل ثمنها في مالك ولا تأكلها فإنما هو الاسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم ، فقال له الرجل قال الله تعالى (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) فقال (ع) : كان أبي يقول إنما هي الحبوب وأشباهها(البرهان ١ : ٤٤٨).

وعن أبي الجارود قال سألت أبا جعفر عليهما السلام عن قول الله : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) فقال : الحبوب والبقول ، وعن هشام عنه (ع) قال : العدس والحبوب وأشباه ذلك (نور الثقلين ١ : ٥٩٣) هذه وأضرابها ناظرة إلى معارضة من يفسره بذبائحهم ف «أشباه ذلك» يعني ما يحل أكله في أصله ، دون الجاف فقط حيث البقول رطبة.

١٠٠