الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

عرض الحائط لمخالفة الآية بصورة بيّنة ، كما أن مصير المفسرة لطعامهم بذبائحهم عرض الحائط على سواء.

ذلك ، فإذا كان طعام أهل الكتاب حلّا لنا ، وهو في الأغلبية الساحقة رطبة أم لها سابقة رطوبة ، وتلمسها أيديهم بطبيعة الحال ، إذا فهم طاهرون ذاتيا ، حيث النجاسة الذاتية لزامها تنجسّ طعامهم الذي يصنعون.

ولأن الطعام يشمل ما يطعم بعد تحضيره ومنه طبخه فيما يطبخ ، كما يشمله قبل تحضيره ، فقد يشملهما ولا سيما الأوّل ، فإن صدق الطعام عليه أولى ، والمحضّر للأكل هو في الأكثرية الساحقة من المطبوخ ، فكيف يختص ـ إذا ـ طعامهم بما قبل الطبخ ، ثم والجاف منه؟ وما هو إلّا توضيحا للواضح وتخصيصا بالأكثرية المطلقة من الطعام ولا سيما الأصدق طعاما حيث الأظهر منه الحاضر ، وإبقاء لأقل قليل ، ثالوث من التخلفات لا يقبل في كلام السوقيين التافهين فضلا عن أبلغ كلام وأفصحه لرب العالمين!.

ذلك وكما أن نسبة الطعام إليهم كما إلينا لا تناسب إلّا ما صنع فيه صنع منهم أو منا ، وأما البر الذي هم يبيعون أو نحن نبيعه فلا يعبّر عنه بطعامهم أو طعامنا ، بل برهم أو برنا وما أشبه كطليق البرّ ، فإنما «طعامهم أو طعامنا» ما يطعمونه أو نطعمه والأكثرية المطلقة منه الرطب أو ما مسته الأيدي برطوبة.

والأثر متظافر على طهارتهم الذاتية من طريق الفريقين (١) ، وما لمحة الدلالة على نجاستهم الذاتية في بعض الروايات بالتي تناحر نص الآية والسنة القطعية (٢).

__________________

(١) مثل صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال قلت للرضا (ع) الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة؟ قال : «لا بأس تغسل يديها» (الوسائل ٣ : ١٠٢٠ ح ١١).

(٢) كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما قال : سألته عن رجل صافح مجوسيا؟ قال : «يغسل يده ـ

١٠١

أجل هنا فرق بين طهارتهم وطهارة المسلمين من حيث ظاهر الحكم ، ككتابي تنجس ثم غاب ثم حضر فإنه محكوم بحالته الأولى وإن ادعى التطهير ، ولكن المسلم إن ادعى التطهير يصدق ، وإن لم يدع ولكنه غاب قدر أداء فريضة ثم حضر يحكم بطهارته فيما يشترط في صلاته قضية واجب الطهارة في فريضة ، دونما حاجة إلى دعواه ، اللهم إذا تأكدنا من بقاء نجاسته أم هو متهم في دعواه ، أم لا يدعي ولكنه معذور في حمل النجاسة في فرضه.

فالكتابي الذي نعلم بطهارته طاهر واقعيا ، والذي نشك في طهارته وله حالة سابقة من طهارة ونجاسة يحكم بها ، وفي الشك البدوي أو تعارض استصحابي الطهارة والنجاسة محكوم بالطهارة الظاهرية.

ذلك ، فكيف يحكم بنجاسة أهل الكتاب ـ الذاتية ـ ونص الكتاب

__________________

ـ ولا يتوضأ» (الوسائل ١٤ : ح ٣) وموثقة سعيد الأعرج أنه سئل أبا عبد الله (ع) عن سؤر اليهودي والنصراني أيؤكل أو يشرب؟ قالا : «لا» (الوسائل أبواب الإسناد ب ٣ ح ١).

أقول : إنما «لا» هنا و «يغسل يده» هناك لعدم تجنّبهم عن النجاسات ، وقد علل الاجتناب عن أوانيهم في أحاديث عدة بأنهم يشربون فيها الخمر ويأكلون فيها لحم الخنزير ، وقد سمح كأصل شرب سؤرهم كما

في صحيحة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو أناء غيره إذا شرب منه على أنه يهودي؟ فقال : نعم ، فقلت : من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال : نعم (الوسائل ١ : ١٦٥ ح ٣).

ومما يدل على حصر واجب الاجتناب في المتنجس عندهم ما رواه محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليهما السلام عن آنية أهل الذمة والمجوس فقال : «لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر» (الوسائل ٣ : ١٠١٨ ح ١).

ذلك وحتى المواكلة معهم مسموحة عند عدم تأكد النجاسة أو حكمها كما روي يحيى الكاهلي قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم رجل مجوسي أيدعونه إلى طعامهم فقال : «أما أنا فلا أو أكل المجوسي وأكره أن أحرم عليكم شيئا تصنعون في بلادكم» (المصدر ح ٢).

١٠٢

والسنة يطهرهم ، وكيف تؤلّف قلوبهم بنصيب من الزكاة أحيانا ، ثم ينفّرون عن الإسلام بتنجيسهم ، وما ذلك إلا جذبا لهم بيد يسرى أحيانا ثم دفعهم بيمنى دائما!.

وهل الموحد غير الكتابي ملحق بالمشرك على فرض نجاسته لأنه غير كتابي ، أم هو ملحق بالكتابي لأنه غير مشرك؟.

الحق أننا لا نحتاج هنا إلى إلحاق ، حيث الثابتة من الكتاب ـ إن دل ـ هو نجاسة المشركين ، فلا تعم النجاسة من سواهم كتابيين وسواهم ، بل والموحد غير الكتابي أحرى بالطهارة من الكتابي المنحرف عن حق التوحيد.

وترى أن حل طعام أهل الكتاب يستغرق المحرمات التي يأكلونها؟ طبعا لا! فإنما هو حلّ طعامهم في أصل الذات دليلا على طهارتهم ، ثم المنصوص على حرمته أو نجاسته بالقرآن والسنة خارج عن الحلّ قطعا.

فمن طعامهم الميتة والدم ولحم الخنزير ، فهل تحل لنا لأنها من طعامهم؟! كما ومنه ذبائحهم التي لا يذكرون اسم الله عليها ، فهل هي تحل ونصوص القرآن تحرمها؟! ولا تعني الروايات المفسرة لطعامهم بمثل الحبوب والخضروات وأشباههما إلا لإخراج ذبائحهم خلافا على العامة ، ثم وإخراج عامة المحرمات بثابت الكتاب والسنة.

فمن طعامهم الخمر ، فهل تحل لأنها من طعامهم؟! لا وألف كلّا ، إنما هي ضابطة كسائر الضوابط الفقهية تتعرض لاستثناءات بنصوص أخرى.

وخلاصة القول في (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) على شتى مذاهبهم في اللّاهوت العقائدي وسواه أن طعامهم حلّ اللهم إلّا ما استثني من المحرمات الذاتية ، أو العارضة بحرمة عرضية.

وليس يختص الحل بأهل الكتاب حيث النجس هم المشركون فقط ، فالموحدون هم طاهرون كتابيين وسواهم.

١٠٣

كما وليس ليختص الطعام بالجاف منه بل ولا يشمله ، وإن شمله فليس ليقبل التخصيص بالجاف فإنه الفرد النادر منه ، وأنه ليس مظنة الحرمة من حيث النجاسة ، فالطعام الجاف من المشرك أيضا حلّ.

وهنا «حلّ» لا يعني من حيث الطهارة فحسب ، بل ومن حيث الحرمة ذاتيا وعرضيا ، ولو كانوا نجسين لم يحلّ طعامهم لمكان النجاسة العرضية بما تمسه أيديهم.

وجملة القول في طعامهم وطعامنا أنه ليس كل ما يمكن أن يطعم بعلاج ودون علاج حيث لا يختص بقبيل في حقل الأكل دون آخرين ، فضلا عن أن يكون الجاف منه.

إنما هو المحضّر للأكل عند كلّ من الفريقين ، فالآية تنبّهنا أن ليست المفاصلة في الشرعة الربانية إسلامية وكتابية بالتي تجعل مفاصلة في حل الحاجيات مثل الأكل والنكاح ، اللهم إلّا إنكاح الكتابي مسلمة.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ..).

«والمحصنات» هنا هن العفيفات ، فالزانيات ـ شهيرات أو غير شهيرات ، بل والمريبات ـ هن قد يكنّ خارجات عن ذلك الحلّ ، فمهما حرمت آية النور نكاح الزانية على المؤمن غير الزاني ، فهذه قد تحرم مع الزانيات المريبات قضية اختصاص الحل هنا ب «المحصنات» مهما شملت ظاهرة العفاف إلى واقعه حيث الأصل هو العفاف ما لم يثبت الخلاف أو يرتاب فيه بظواهر غير العفاف.

هذا ، ولكن المريبة مهما لم تكن من المحصنات فليست هي أيضا من الزانيات ، فهي خارجة عن الزانيات كما هي خارجة عن المحصنات ، وهنا

١٠٤

حلّ «المحصنات» لا يحصره فيهن ، وإنما الدلالة القصوى هي خروج الزانيات ، فلأن احتمال أن المحصنات هن أفضل فردي السماح ، فلم يقل هنا «غير الزانيات» لهزازه نكاح المريبات ، فلا دليل ـ إذا ـ على حرمة نكاح المريبات ، إضافة إلى أن حكم الإحصان جار فيمن لم يثبت أنها من الزانيات ، فكما لا يجوز حد المريبات ، كذلك فرية الزنا أو اعتقاده فيهن. فكل من لم يثبت أنها زانية هي داخلة في «المحصنات».

فالأقوى جواز نكاح المريبات وإن كان الأحوط تركة لاحتمال القصد من «المحصنات» غير المريبات ، فالثابت كونها من المحصنات هي القدر المعلوم منهن ، ثم ظاهرة الإحصان ، فهما المصداقان الجليان ل «المحصنات» ثم المريبات هن مريبات في كونهن من مصاديق المحصنات ، وحيث لا دلالة ظاهرة على حصر الحل فيمن ثبت إحصانهن ، وإنما المحرمات هن الزانيات ، فالظاهر جواز نكاحهن على هزازة ، ثم الزانيات شهيرات وغير شهيرات ، ما تعلم انهن زانيات مهما كانت هنا لك شهادة أو إقرار أو لم تكن ، فهن محرمات على غير الزانين من المؤمنين كما فصلناه على ضوء آية النور.

ذلك ، وقد تعم هنا «المحصنات» الحرائر إلى العفائف ، فلا يجوز نكاح الإماء إلا في مستثنيات الحالات ك (مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) (٤ : ٢٥). ولا تعني «المحصنات» هنا ـ فيمن عنت ـ المؤمنات ـ مهما كان الإيمان إحصانا كأصل ، لمكان (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بعد «المؤمنات».

وأما «المحصنات» ذوات الأزواج فأمرهن أظهر من الشمس ، فلم يبق في الدور إلا إحصان العفاف ـ في مثناه أو مثلثه ـ وعلى هامشه إحصان الحرية.

وما اختصاص «المحصنات» هنا بالحرائر إلا اختصاصا بأخفى المصداقين الباقيين ، حيث المحور المدار بينهما وبين سائر الأربع هو العفاف

١٠٥

الذاتي ، صيانة عن الشذوذات الجنسية ، ثم الإسلام والحرية والزواج هي من معدات إحصان العفاف إضافة إلى الذاتي.

ذلك ، وكما اختصاص الحل في (الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بالنكاح المنقطع ، اختصاص بأخفى مصداقي النكاح ، إضافة إلى أن الحلّ هنا لا يختص بالنكاح المرسوم دواما كان أو انقطاعا ، لمكان الإطلاق في «أحل» لحقل الرابطة الجنسية ، الشامل لمربعه في النساء ، فالثالث هو ملكهن والرابع تحللهن بتحليل ، ولا يتحمل طليق «المحصنات» تقيدا بالانقطاع كما لا يتحمل تقيدا بالإيمان.

والقول إن «أجورهن» هناك دليل اختصاص الحل بالتمتع بهن لأنهن هن المستأجرات؟ مردود بأن الأجر في حقل النكاح مكرور في سائر القرآن بحق الدائمات ك (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) (٣٣ : ٥٠) مهما عني بها ـ أحيانا ـ مهور المتمتع بهن بقرينة كما في آية الاستمتاع : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (٤ : ٢٤) مع احتمال شمولها للدائمات كما المنقطعات ، وقد ذكرت الأجور في مطلق النكاح ك (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (٤ : ٢٥).

ومن غرائب الفقه أن الأكثرية المطلقة من فقهاءنا يحملون اخبار الجواز ـ المطلقة ـ على التقية ، وفيها ما ينافيها حيث تأمر بالمتعة ، ثم لا دور لذلك الترجيح في مجاله إلّا بعد كل المرجحات ، ونص الإطلاق في آية الحل دليل طليق الحل ، حيث المصداق الأجلي منهن هن الدائمات.

والأقوال في المسألة سبعة كلها مطرودة مردودة إلّا الموافق للقرآن وهو حل «المحصنات» ككل في حقل المؤمنات والكتابيات.

ومهما حرمت اية البقرة ما حرمت من (الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) فقد تعني «يؤمن» إيمان التوحيد مهما كان التوحيد غير الكتابي فضلا عن التوحيد الكتابي.

١٠٦

ولو اختصت الغاية في آية البقرة بالإيمان الإسلامي ، فهي ـ إذا ـ من هذه الناحية منسوخة بآية المائدة ، كما نسخت بها آية الممتحنة : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (١) فإنها تشمل غير المسلمات ككل ، والنتيجة الحاسمة هي

__________________

(١) خلاف ما رواه زرارة في الصحيح أو الحسن عن الباقر (ع) قال سألته عن قول الله عز وجل : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فقال : هي منسوخة بقوله (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (الكافي ٥ : ٣٥٨ والتهذيب ٧ : ٢٩٨ رقم ١٢٤٥ والإستبصار ٣ : ١٧٩ رقم ٦٤٩).

ومثله عن زرارة عن أبي جعفر عليهما السلام قال : لا ينبغي نكاح أهل الكتاب قلت جعلت فداك فأين تحريمه؟ قال قوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (التهذيب ٢ : ١٩٩ والكافي ٥ : ٣٥٧) وما رواه القمي في تفسيره عنه (ع) في تفسير (وَلا تُمْسِكُوا ...) إن من كانت عنده امرأة كافرة على غير ملة الإسلام وهو على ملة الإسلام فليعرض عليها الإسلام فإن قبلت فهي امرأته وإلا برئت منه فنهى الله أن يمسك بعصمهم (التفسير ٦٧٩).

ومما يدل على التحريم مطلقا موثق الحسن بن الجهم قال قال لي أبو الحسن الرضا (ع) يا أبا محمد ما تقول فيمن يتزوج النصرانية على المسلمة؟ قلت جعلت فداك وما قولي بين يديك؟ قال لتقولن فإن ذلك تعلم به قولي ، قلت : لا يجوز تزويج النصرانية على مسلمة ولا غير المسلمة ، قال : ولم؟ قلت لقول الله عز وجل (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) قال : فما تقول في هذه الآية (وَالْمُحْصَناتُ ...) قلت : فقوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) نسخ هذه الآية ، فتبسم ثم سكت (التهذيب ٢ : ١٩٩ والكافي ٥ : ٣٥٧).

أقول وهذه معارضة لآية المائدة وهي ناسخة غير منسوخة ، ثم هنا روايات اخرى تعارضها مثل صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (ع) في الرجل المؤمن يتزوج باليهودية والنصرانية؟ فقال إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية؟ قلت : يكون فيها الهوى؟ فقال : إن فعل فليمنعها من شرب الخمر ومن أكل لحم الخنزير وأعلم أنه عليه في دينه غضاضة إنه كان تحت طلحة بن عبيد الله يهودية على عهد النبي (ص) (الكافي ٣ : ١٣ ح ١ والتهذيب ٧ : ٢٩٨ رقم ١٢٤٨ والإستبصار ٣ : ١٧٩ رقم ٦٥٢) ، وتتمة الحديث : أما علمت.

ومثله ما رواه محمد بن مسلم عن الباقر (ع) قال : سألته عن نكاح اليهودية والنصرانية؟ قال : لا بأس.

وصحيح ابن رئاب عن أبي بصير عن أبي جعفر عليهما السلام قال : سألته عن رجل له امرأة نصرانية له أن يتزوج عليها يهودية؟ فقال : إن أهل الكتاب مماليك للإمام وذلك موسع منا عليكم ـ

١٠٧

حلية المحصنات من الكتابيات على شروطها.

والقول إن (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تعني ـ فقط ـ المؤمنات اللّاتي كن من أهل الكتاب؟ إنه غائلة جارفة في تفسير القرآن ، لأن (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ـ و ـ «أهل الكتاب» مصطلحة في القرآن على اليهود والنصارى ومن أشبههما ، ثم ومقابلتهن ب «المؤمنات» تأباه ، ولو كانت تعنيهن فالمشركات من قبل اللّاتي آمنّ بعدهن أحرى بذكر التحليل لأنهن كن أبعد من الكتابيات.

ذلك! ولكن حرمة الكتابيين على المسلمات باقية لاختصاص الحل هنا بالكتابيات للمسلمين ، وقد حرمت المسلمات على الكفار بصورة طليقة في آية

__________________

ـ خاصة فلا بأس أن يتزوج ، قلت فإنه يتزوج عليها أمة؟ قال : لا يصلح له أن يتزوج ثلاث إماء فإن تزوج عليها حرة مسلمة ولم تعلم أن له امرأة نصرانية ويهودية ثم دخل بها فإن لها ما أخذت من المهر وإن شاءت أن تقيم معه أقامت وإن شاءت أن تذهب إلى أهلها ذهبت وإن حاضت ثلاثة حيض أو مرت لها ثلاثة أشهر حلت للأزواج ، قلت : فإن طلق عنها اليهودية والنصرانية قبل أن تنقضي عدة المسلمة له عليها سبيل أن يردها إلى منزله؟ قال : نعم (الكافي ٥ : ٣٥٨).

وروى النعماني في تفسيره عن علي صلوات الله عليه أن قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) قد نسخ بقوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...).

وعن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن رجل تزوج ذمية على مسلمة ولم يستأمرها؟ قال : يفرق بينهما قلت فعليه أدب؟ قال : نعم اثني عشر سوطا ونصفا ثمن حد الزاني وهو صاغر قلت : فإن رضيت امرأته الحرة المسلمة بفعله بعد ما كان فعل؟ قال : «لا يضرب ولا يفرق بينهما يبقيان على النكاح الأول» (الكافي ٧ : ٢٤١) وعن يونس عنهم عليهم السلام قال : «لا ينبغي للمسلم الموسر أن يتزوج الأمة إلا إلا يجد حرة وكذلك لا ينبغي له أن يتزوج امرأة من أهل الكتاب إلا في حال الضرورة حيث لا يجد مسلمة حرة أو أمة» (الكافي ٥ : ٣٦٠) وفي رسالة المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني بأسناده إلى علي (ع) ثم قال الله تعالى في سورة المائدة ما نسخ هذه الآية فقال والمحصنات فأطلق الله تعالى مناكحتهن بعد إذ كان نهى وترك قوله (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) على حاله لم ينسخه (الوسائل ب ٢ من أبواب ما يحرم بالكفر).

١٠٨

الممتحنة : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) فإن «هم» هنا راجع إلى الكفار الشامل للكتابين.

وقد يروى عن الرسول (ص) قوله هنا : «نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا» (١).

وهل يشترط في الكتابيات منا ألّا يكنّ من أهل التثليث ومثله من حادّ الانحراف عن

التوحيد؟ كلّا! فإنهن الأكثرية الساحقة من الذين أوتوا الكتاب ، وتقابلهم والمشركين في آية البينة : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ ..) دليل صارم لأمر دلّه على أنهن معنيات ـ على كفرهن وأنحسه التثليث ـ من الذين أوتوا الكتاب.

أو يشترط عدم تخوف الانحراف بهن عن جادة الإيمان؟ طبعا نعم وحتى في نكاح المسلمات المتخلّفات أو إنكاح المسلمين المتخلفين لقوله تعالى في المشركين : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وكما في الصحيح «ما أحب للرجل أن يتزوج اليهودية والنصرانية مخافة أن يتهود ولده أو يتنصر» (٢).

إذا فالداعية إلى النار لا يحل نكاحها مهما كانت مسلمة ، وغير الداعية تحل مهما كانت كتابية كافرة ، أم يشترط ألّا يكون زواجها على مسلمة؟ السنة متظافرة على المنع إلّا بإذن المسلمة ، وكذلك زواج المسلمة على الكتابية إلّا بإذنها وإلّا فلها أن تفارقه دون طلاق(٣).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٦١ ـ أخرج ابن جرير عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (ص) : ...

(٢) مضى في صحيحة ابن رئاب الحظر عن تزويج حرة مسلمة على الكتابية. وعن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) قال سألته عن رجل تزوج ذمية على مسلمة ولم يستأمرها؟ قال : يفرق بينهما ، قلت : فعليه أدب؟ قال : نعم اثني عشر سوطا ونصفا ثمن حد بالزاني وهو صاغر ، قلت فإن رضيت امرأته الحرة المسلمة بفعله بعد ما كان فعل؟ قال : «لا يضرب ولا يفرق بينهما يبقيان على النكاح الأول» (الكافي ٧ : ٢٤١ والتهذيب ٣ : ١٠): «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (٦٠ : ١٠).

(٣) الكافي ٥ : ٣٥١.

١٠٩

والأصل الكتابي المانع من زواج الكتابية على المسلمة استلزامه إيذاءها ، والتسوية بينهما في حقوق الزوجية ، ولا تسوية بين المؤمنة والكافرة ، ولا سبيل للكافر على المؤمن وهنا السبيل أن لها حقا عليها في القسم نفقة ومضاجعة.

لذلك يجوز التمتع بهن على المسلمة لعدم التسوية فيه (١) ولا سيما إذا كان سرا لا تعلمه حيث لا إيذاء ولا تسوية ولا سبيل ، فإن علمت فلا لمكان الإيذاء مهما لا تكون تسوية هنا ولا سبيل ، فشرط عدم إضلالهن إياكم أو أولادكم ، وعدم الظلم بحق المسلمة ، شروط ثلاث لأصل الجواز ، وقد يجب نكاح الكتابية أمرا بمعروف كأن يرجى به إيمانها ، أم يرجح حيث لا ضرر في زواجها ، ولا نفع إلا احصانه عن شبق الجنس ، وقد يجب ، فزواج الكتابيات منقسم إلى كل الأحكام التكليفية إلا الإباحة المتساوية الطرفين ، فقد يجب زواجهن تقليلا لانسيال الكفار وتكثيرا لانسيال المؤمنين وما أشبه كما في بلدة مثل لبنان ، وقد يحرم حين يخاف من إضلالها له أو لولده حيث (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) تعم كل حقول الإضلال مهما كان وارد النص الأزواج المضلّلين.

إذا ففي سماح الزواج بالكتابيات سياسة الجذب لهن إلى الإسلام ، أم إيلادهن مسلمين ، والمرأة بطبيعة الحال تابعة لرجلها في أكثرية الأحوال والعكس قليل ، فلذلك لا يجوز زواج المؤمنة بالكتابي مع جواز العكس.

وأما زواج المؤمن بالمشركة أو الملحدة أو الموحدة غير الكتابية فمحظور للبعد البعيد بينهما ، وحقل النكاح هو حقل الوصل بين المتكافئين ، وخط المواصلة كتابيا بين المؤمن والكتابية يجعل بينهما تكافئا مّا ، دون غير الكتابية

__________________

(١) ومما يدل عليه موثق الحسن بن علي الفضال عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) قال : «لا بأس أن يتمتع الرجل باليهودية والنصرانية وعنده حرة» وعن زرارة قال سمعته يقول : «لا بأس أن يتزوج اليهودية والنصرانية وعنده امرأة» (التهذيب ٣ : ١٨٨).

١١٠

موحدة وسواها ، اللهم إلّا بملك يمين أو تحليل يجعل لهن جوّا لتقبل الإيمان.

إذا فأشرف نكاح هو ما بين المؤمن وأشرف النساء وهن المؤمنات الأحرار ثم الإماء ، ومن ثم الكتابيات ، ثم لا يجوز اللقاء جنسيا إلا بملك اليمين أم التحليل.

والأحاديث المانعة من نكاح الكتابيات إلا شرط سماح المسلمة التي عندك تتأيد بالآيات التي تنفي التسوية بين المؤمنين والكافرين وآية نفي السبيل فسبيل الحقوق المتعادلة في حقل الزوجية منفية إلا بإذن المسلمة حيث إنها حق لها ، صحيح أن السبل كلها مسلوبة للكافرين على المؤمنين إلا أنها في حقل الحقوق الشخصية مسبلة بتنازل من له الحق ، وكذلك التسوية فإنها في حقل الحقوق تقبل التنازل كما يجوز تنازل الزوجة عن بعض حقوقها حفاظا لها عن الطلاق وما أشبه.

أجل ، إن التسوية العادلة بين الزوجات حق لهن ثابت لا يجوز التعمية عنها إلا عند تنازل صاحبة الحق ، فعند عدم تنازلها لا يجوز نكاح الكتابية عليها ، ففي تعارض واجب التسوية وحرمتها بين مسلمة وكتابية الحرمة مقدمة لأنها ضابطة سارية المفعول ككل فيحرم ذلك الزواج ، وحرمان الكتابية عن الحقوق المتساوية كذلك خلاف النص فليحرّم ذلك النكاح إلا بتنازل المسلمة ، وأما تنازل الكتابية فلا يحلل نكاحها حيث التسوية في بعض الأمور باقية.

والأحاديث المجوزة للتمتع بهن ليست لتختص الجواز بخصوص التمتع بهن حتى تختص به الآية ، فإنما تسمح لطليق التمتع بهن وعندك مسلمة ، بخلاف النكاح الدائم على المسلمة حيث يشترط فيه إذنها.

ولو دلت أحاديث ـ مهما صحت ـ على طليق الحرمة دواما لكانت غير صحيحة لمخالفتها نص الإطلاق في الآية فإن أظهر مصاديقها النكاح الدائم!.

١١١

وهل يجوز نكاح المجوسيات أو الموحدات غير الكتابيات؟ آية المائدة تختص الجواز بالكتابيات ولكنها لا تحصر الحل بهن ، وآية البقرة تحرم نكاح المشركات وهن لسن منهن ، نعم آية الممتحنة (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) طليقة في عموم التحريم ولم ينسخ منها إلّا الكتابيات بآية المائدة ، ولم تحصر آية البقرة التحريم بالمشركات حتى تنسخ عموم الممتحنة ، إذا فغير المسلمات والكتابيات محرمات دواما ومتعة.

فقد يجوز نكاح الكتابية دواما شرط الأمن عن إضلالها إياه أم ولده ، وشرط سماح المسلمة إن كانت قبلها ، ورضاها إن كانت بعدها ، وأما التمتع بهن فغير مشروط برضا المسلمة ، ولا يجوز نكاح غير الكتابيات ، وقد يحتمل انحساب المجوسيات في حساب أهل الكتاب مهما خلطوا وحي الكتاب بسواه ، وكما خلط أهل الكتاب على سواء (١).

وهل يجوز نكاح الصغيرات من الكافرات غير الكتابيات؟ الظاهر نعم حيث الكفر غير الكتابي هو المانع وهي ليست كافرة ، وليس الإسلام شرطا في صحة النكاح ، وهي لا مسلمة ولا كافرة ، وبالإمكان على سهولة توجيهها إلى الإسلام عند بلوغها الحلم.

ثم (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) تشترط المهر حتى لا يخيل إلينا جواز نكاحهن دون مهر لأنهن غير مسلمات.

و (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) كما تختص الحل بنكاحهن ، كذلك تختصه بما يحصن الرجل والمرأة عن السفاح ، فنكاح الكتابية الزانية غير التائبة ـ كما

__________________

(١) ويشهد له ما في آيات الأحكام للجصاص (٢ : ٤٠٠) من حديث يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قال عمر لا أدري كيف أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب؟ فقال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله (ص) يقول : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وفيه في حديث آخر عنه (ص) أنه أخذ الجزية من مجوس هجر وقال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب.

١١٢

المسلمة ـ محرم دواما ومتعة ، لأنه إضافة إلى عدم إحصانه تشجيع على المسافحة وترغيب فيها.

ثم «ولا متخذي أخدان» تحريم لوجه آخر من العشرة الجنسية معهن أن تتخذ منهن أخدانا دون زواج والفارق بينهما اختصاص الخدين بخدينة دون المسافحة.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) ٥

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) كفرا عقيديا أو عمليا ، حيث الإيمان يجمعهما حين يفرد بالذكر (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) صالحا فضلا عن الطالح حيث هو حابط في أصله ، (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) ثمرة حياة التكليف (١).

ذلك ومن أبعاد الكفر بالإيمان ترجيح الزواج بكتابية على مؤمنة دون ضرورة ، أو أية رجاحة ، وعليه يحمل نهي رسول الله (ص) عن أصناف النساء إلّا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام قال الله تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله .. (٢).

__________________

(١) في الدر المنثور ٣ : ٢٦١ ـ أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال ذكر لنا أن رجالا قالوا كيف نتزوج نساءهم وهم على دين ونحن على دين فأنزل الله (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ، قال : لا والله لا يقبل الله عملا بالإيمان.

(٢) المصدر أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال نهى رسول الله ... أقول : لو كان النهي شاملا لحرمت النساء غير المهاجرات كاللاتي من الأنصار ، فإنما القصد الحرمة فيما يرجح الكفر على الإيمان سواء في حقل الزواج أم سواه.

وفي نور الثقلين ١ : ٥٩٥ في تفسير العياشي عن أبان عن ابن عبد الرحمن قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحق فيقيم عليه قال : «ومن يكفر بالإيمان فد حبط عمله» وقال : «الذي يكفر بالإيمان الذي لا يعمل بما أمر الله ولا يرضى به» وفيه عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الآية قال : هو ترك العمل يدعه أجمع ، قال : منه الذي يدع الصلاة متعمدا لا من شغل ولا من سكر يعني الندم.

١١٣

وهكذا نجد القرآن السّمح كيف يفتح هاتين الصفحتين مواكلة ومناكحة من صفحات السماحة الإسلامية في التعامل مع أهل الكتاب لا سيما العائشين في دار الإسلام.

فليس الإسلام ليكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية ما لم يناحر حرية الإسلام ، ثم يعتزلهم فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين أو منبوذين ، فإنما يشملهم بجو من المشاركة الحيوية فيجعل طعامهم حلّا للمسلمين وطعام المسلمين حلّا لهم ، ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة ، وليظل المجتمع كله في ظل ظليل من سماحة الإسلام ، كما ويجعل المحصنات من نساءهم حلا للمسلمين.

وتلك سماحة لم يشعر بها إلّا من عاشوها ، رغم أن الكاثوليكي المسيحي يتحرج من نكاح الأرثوذكسية أو البروتستانتية أو المارونية المسيحية ودينهم واحد ، فلا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم عن مذهبهم.

ذلك ، وهكذا نجد الحديث عن الطهارة والصلاة بعد إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والنساء ، إلى جانب أحكام للصيد والإحرام ومحرمات من الطعام.

وليس ذلك القران المختلف في صورة أجزاءه صدفة تقتضيها سرد الكلام ، إنما هو حكمة في نظم القرآن ونضد في تأليفه القاصد.

ذلك جمع بين طيبات للروح إلى طيبات للجسم ، طيبات شخصية وأخرى جماعة ، ومن ثم فإن أحكام الطهارة والصلاة كأحكام النكاح والطعام

__________________

ـ وفيه عن هارون بن خارجة قال سألت أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية قال : ما اشتق فيه زرارة بن أعين وأبو خليفة.

وفيه عن أصول الكافي عن زرارة قال سألت أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية قال : ترك العمل الذي أقربه ، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل.

١١٤

وسائر الأحكام في أي حل أو حرام ، فإن كلها عبادات وكلها دين الله ، فلا انفصام في هذا الدين بين مسائل الفقه وأبوابه رغم ما اصطلح عليه الصلاحيون من مختلف التسميات كأحكام العبادات والمعاملات والسياسات.

فلو أن نضدا أفضل مما هو الآن في القرآن لكان منضدا من قبل الرحيم الرحمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

تلحيقة : هلا يجوز نكاح المنافقة لمكان (الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ)؟ قد يقال : لا لعدم إيمانها حيث يقابل النفاق وحتى المسلمة غير المنافقة التي لمّا يدخل الإيمان في قلبها!.

ولكن الحق الحل ، حيث (الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) وجاه (الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) تعم الإيمان الإقرار ، كما أن (حَتَّى يُؤْمِنَّ) لا تعني إلّا الإقرار بالشهادتين لأقل تقدير ، لا سيما وهو أول خطوة في الدخول إلى الإيمان (١).

__________________

(١) آمن به لها مفعول محذوف هو «ه» أي آمن نفسه بالله ، فهو لغويا طليق في مراتبه الثلاث ، إيمانا باللسان ثم وبالأركان ومن ثم بالجنان وهو أصل الإيمان والثاني مظهره القويم والأول مظهر له هو ظاهر القول.

ف «أمنه» تعني اتمنه و «آمنه» أي جعله في أمنه وحضنه و «آمن به» أي جعل نفسه في أمنه حيث دخل تحت ظله ، فآمن بالله يعني جعل نفسه في أمن بالله والأمن يختلف دنيويا وأخرويا فالمؤمن في قاله آمن دنيويا والمؤمن في حاله بعد قاله آمن أخرويا والمؤمن في أعماله بعدهما ، له الأمن الطلق.

والإيمان حين يقابل الكفر كتابيا أم كل الكفر يقصد منه مجرد الإيمان وهو الإقرار باللسان (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) (٢ : ٢٥٣) ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦ : ـ

١١٥

والمسلمون أربع : ١ منافق و ٢ قاصر في الإيمان حيث أسلم ولما يدخل الإيمان في قلبه ، ٣ والداخل في قلبه بين سني ٤ وشيعي ، ثم الكتابيون بين ٥ مشرك ٦ وموحد ، وغير المسلم والكتابي بين ٧ موحد ٨ ومشتبه بين الكتابي وسواه كالزرادشت ٩ ومشرك و ١٠ بنت لمشرك ومثله ، لم تبلغ الحلم.

فالمسلمات الأربع تشملهن (الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) لمقابلتهن ب (الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وقد جاء الإيمان في سائر القرآن لمطلق الإسلام فإنه إيجاد للأمن وأوّل مراحله أن تشمله الأحكام الإسلامية الظاهرة وهي تحصل بالشهادتين (١) ، مهما جاء أيضا للداخل في قلبه الإيمان والعامل الصالحات على ضوءه.

والكتابيات مشركات وموحدات داخلات تحت (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) والموحدة غير الكتابية داخلة تحت «الكوافر» إذ لم يستثن بآية المائدة إلّا الكتابيات ، وبنت المشرك غير المكلفة وإن لم تدخل في المؤمنات ولا الكتابيات ولكنها غير داخلة أيضا تحت الكوافر ، والكفر الخاص مانع من جواز الزواج وليس الإيمان والكتاب شرطين للجواز ، فالأصل فيها هو الحل.

وأما المجوسيات فالأظهر تحسّبهن من أهل الكتاب كما في روايات معتبرة وإن كان الأحوط تركهن.

__________________

ـ ٤٨) ـ (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ...) (٦ :) ١٥٨) ـ (فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ ...) (١٠ : ٩٨) ـ (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٠ : ٥١) ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) (٤ : ١٣٦) ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٦١ : ١١) ـ (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (٥ : ٤١).

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١ : ٢٤٣ رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس عن النبي (ص) ...

١١٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧)

.. إن الصلاة لقاء عبودي معرفي مع الله ، فهي صلات بالله فلا بد لها من عدّة بدنية إلى روحية لأنها تحمل الاتجاه بهما إلى الله ، ومن الغدات البدنية الطهارة الحدثية والخبثية كما الطهارة في الملابس والمساجد.

وآية الطهارات الثلاث هذه هي وحيدة منقطعة النظير في سائر القرآن بجملتها ، مهما شاركتها آية النساء في غير الوضوء.

١١٧

إذا فعلينا أن نسبر أغوار البحث فهيأ استحصالا لما يريد الله واستئصالا لما لا يريده الله ، مما اختلق بين فقهاء يحمّلون آراءهم أو إجماعاتهم وشهراتهم ورواياتهم المذهبية على كتاب الله وسنة رسول الله (ص)!.

وإنما يخاطب هنا (الَّذِينَ آمَنُوا) بفرض الطهارات الثلاث؟ لأنهم ـ فقط ـ هم الذين يقومون إلى الصلاة بالفعل ، مهما كانت مفروضة على كافة المكلفين ، كما ويندد بالكفار التاركين إياها (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (٧٤ : ٤٣) فلا يؤمر الكفار بالصلاة لأنهم لا يقومون إليها فضلا عن الصلاة المشروطة بالطهارة ، فهي مفروضة عليهم كماهيه ، ولكن توجيه الخطاب لتحقيق الطهارة تقدمة للصلاة إلى التارك لها حيث لا يعتقدها ، إنه عبث لا طائل تحته ، كأن يؤمر الذي ليس ليصعد على السطح بنصب السلم.

فذلك خطاب الإيمان تحقيقا لأبرز مظاهره البواهر ، بيانا لشريطة هامة من شرائط الصلاة في مظهرها : الطهارة الحدثية ، فبأحرى تحقيق شريطة الطهارة القلبية مع القالبية ، فإنها لب الطهارة وهي قشرها.

وترى ماذا تعني (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)؟ وليس القيام ـ كأصل ـ شرطا لفرض الطهارات!.

هنا «القيام إلى الصلاة» دون «القيام للصلاة» أو «القيام في الصلاة» مما يحسم مادة التنازع في : ماذا يجب أن يقدّر حتى تصلح العبارة؟!

فلا تقدير هنا إلا التدبر في ألفاظ الآية ، ليظهر لنا أن كل تقدير لا برهان عليه إنما هو تغدير وتعتير ، وقد يروى عن النبي (ص) قوله متابعة لنص الآية : «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» (١).

__________________

(١) الوسائل ب ٤ من أبواب الوضوء ح ٥.

١١٨

فالقيام إلى الصلاة وإلى كل أمر ليس إلّا الاستعداد لها فعليا لتحقيقها ، دون مجرد القصد والإرادة فإنها تناسب وإرادة الصلاة بعد ساعات أو أيام. (١)

فليس هو القيام في الصلاة حتى يقال : كيف تجب الطهارات حالة قيام الصلاة نفسها ، ولا القيام للصلاة حتى يقال : إنه لا فصل بينه وبين الصلاة حتى تتحقق الطهارات ، إنما هو (قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) من أية حالة ، نوما (٢) ويقظة ، شغلا ودون شغل ، فكما يقال : إذا قمت إلى الجهاد فخذ حذرك وسلاحك ، وإذا قمت إلى السفر فخذ عدّتك للسفر ، ولا يعني القيام فيها

__________________

(١) فلسنا بحاجة إلى تقدير كما فعله المحقق الأردبيلي في الزبدة أن التقدير : إذا أردتم الصلاة مثل إذا قرأت القرآن ، فأقيم مسبب الإرادة مقامها للإشعار بأن الفعل ينبغي ألا يترك ولا يتهاون فيه.

وكما في كنز العرفان للفاضل المقداد : إذا أقمتم : قيام الصلاة قسمان قسم للدخول فيها وقيام للتهيئة بها والمراد هو الثاني وإلا لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وهو باطل إجماعا فلذلك قيل المراد على الأول : إذا أردتم القيام.

وفي قلائد الدرر للجزائري ، المراد به إرادته والتوجه إليه إطلاقا للملزوم على لازمه أو السبب على مسببه ، إذ فعل المختار تلزمه الإرادة.

(٢) هنا موثقة ابن بكير تفسّر القيام بما يكون عن نوم ، قال قلت لأبي عبد الله (ع) : قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ما يعني بذلك؟ قال : «إذا قمتم من النوم».

أقول : قمتم من النوم تفسير بمصداق مختلف فيه بين الأمة من الأحداث في غير نوم الاضطجاع ولو صح الاستدلال بطليق القيام لخاصة القيام عن النوم ، لصح لسائر القيام بأحرى بدليل الإطلاق ، فليكن القيام من أي قعود ومن أي فعل ـ أيضا ـ من الأحداث مهما لم يقل به أحد ، فانحساب النوم من النواقض حيث القيام عنه قيام إلى الصلاة لا يناسب ساحة العصمة القدسية اللهم إلا بيانا لفتوى المعصوم في المسألة ، المستفادة من مثل قوله تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ...) وذلك يعم كل نوم وقد تواتر عن النبي (ص) أن النوم ناقض للوضوء(آيات الأحكام للجصاص ٢ : ٤٠٥) يقول فيه : «وقد روى عن النبي (ص) أخبار متواترة في إيجاب الوضوء من النوم».

١١٩

إلّا الاستعداد المشارف لما تقوم إليه ، كذلك (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) تاركا غيرها إليها ، فمما يتوجب عليك إحدى الطهارات الثلاث ، وهنا مسائل على ضوء (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ..) :

الأولى : هل تجب نية القربة في الوضوء وسواها من الطهارات الحدثية؟ (قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) تفرض الوضوء ـ هنا ـ للصلاة ، ولأن الصلاة عبادة محضة لا يؤتى بها إلّا بنية القربة ، فالطهارة المتفرعة على القيام إليها لا يؤتى بها إلا لها وهذه نفسها هي نية القربة (١).

فالطهارة لغرض الصلاة هي عبادة صحيحة صالحة للصلاة بنص الآية ، ثم هيه لسائر العبادات أم وللكون على الطهارة عبادة بثابت السنة ، وإذا توضأ ـ فقط ـ للنظافة أو للتبريد أو للتسخين أو للجمع بين المشروط بالطهارة وغاية أخرى فليس إلّا كما نوى ، وأما إذا توضأ لغاية شرعية ولكنه رجح الماء البارد للتبرد به ضمنا أما أشبه فلا ضير ، ولا بد ألّا يكون بقصد رئاء وسمعة كما في كافة العبادات.

وهل الصلاة ـ ولا سيما المفروضة ـ مشروطة في صحتها بالطهارة عن الحدث وضوء أو غسلا أو تيمما عن أحدها؟ ظاهر الأمر ذلك حيث القيام إلى الصلاة المأمور بها مشروط بالطهارة ، والمشروط عدم عند عدم شرطه ف «لا صلاة إلا بطهور».

الثانية : هل تجوز الطهارة للصلاة قبل وقتها؟ قد يقال : لا ، فإنها

__________________

ـ أقول : وإخواننا يقيدون القيام بما عن نوم الاضطجاع فإن نوم غير المضطجع لا قيام عنه ، ويرد عليه أن اليقظة بنفسها قيام عن النوم سواء أكان للصلاة أم سواها.

(١) ذهب أصحابنا إلى وجوب نية القربة ومن إخواننا الشافعي ومالك والليث بن سعد وابن حنبل ، وقال الأوزاعي : «الطهارة لا تحتاج إلى نية» وقال أبو حنيفة : «الطهارة بالماء لا تفتقر إلى نية والتيمم يفتقر إلى النية» أقول : والأخير أن محجوجان بظاهر الكتاب ونص السنة.

١٢٠