الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

١
٢

٣
٤

(٥) سوُرَة المائِدَة مَدنيَّة

وآيَاتها عشرونَ وَمائة

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ

٧

كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣)

سورة المائدة ـ مدنية ـ وآياتها مائة وعشرون

«سورة المائدة» هي برمّتها آخر مائدة من موائد الوحي القرآني ـ كما القرآن هو الآخر بين سائر الكتب السماوية ـ نزلت في حجة الوداع بين مكة والمدينة (١) عام الفتح ، ولم ينزل بعدها شيء حسب ثابت الأثر وكما يؤثر عن

__________________

(١)الدر المنثور ٣ : ٢٥٢ ـ أخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب القرظي قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله (ص) في حجة الوداع بين مكة والمدينة وهو على ناقته فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله (ص).

وفي نور الثقلين ١ : ٥٨٢ روى العياشي عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (ع) قال : كان القرآن ينسخ بعضه بعضا وإنما يؤخذ من أمر رسول الله (ص) بآخره وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء ولقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء وثقل عليها الوحي حتى وقفت وتدلى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض وأغمي على رسول الله (ص) حتى وضع يده على ذؤابة شيبة ابن ذهب الجمعي ثم رفع ذلك عن رسول الله (ص) فقرأ علينا سورة المائدة فعمل رسول الله وعملنا.

وفيه عن تهذيب الأحكام الحسين بن سعيد عن صفوان عن العلا عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال في حديث طويل : سبق الكتاب الخفين إنما نزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين.

٨

النبي (ص): «المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» (١).

وهذه عناية للإبقاء على حلالها وحرامها بلا نظرة نسخ أو تحوير خلاف ما كانت في سائر الوحي ـ أحيانا مهما قلت ـ في أية صورة من صور النسخ ، استئصالا لحكم عن بكرته ، أم توسعة أو تضييقا ، حيث الثلاثة كلها نسخ لغويا وفي اصطلاح الكتاب والسنة.

إذا فهي ناسخة غير منسوخة على الإطلاق ، ضابطة ثابتة أنها لم تقيّد أو تخصص أو تبدّل في حكم عن بكرته ، وذلك المثلث هو المعني من النسخ في منطق السنة سلبا وإيجابا ، ذلك ، وإذا شك في آية منها أو آيات أنها نازلة

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٥٢ ، أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا قال رسول الله (ص): المائدة .. أقول : تجد هذا المضمون في كتب الشيعة كتفسير العياشي ١ : ٢٨٨ و ٣٠١ والبحار ٩ : ٦٩ والبرهان ١ : ٤٣٠ و ٤٥٢ والصافي ١٢٣ ومجمع البيان ٣ : ١٠٥ والوسائل الباب ٣٨ من أبواب الوضوء ٦١ وجامع أحاديث الشيعة ١١٧ ، وفي كتب إخواننا السنة إضافة إلى ما تقدم في فتح القدير ٣ : ٢ وتفسير ابن كثير ٣ : ٢ وتفسير الخازن ١ : ٤٢٣ والمنار ٦ : ١١٦ وتفسير القرطبي ٦ : ٣٠ ـ ٣١ والإتقان ١ : ٢٧ النوع الثامن ومناهل العرفان ١ : ٩٢ والناسخ والمنسوخ للنحاس ١١٦ وأكثر أحاديثهم موقوفة على الصحابة ومن بعدهم إلا أن في فتح القدير حديث مرفوع إلى النبي (ص) قال : المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ، وكذا في القرطبي أن النبي (ص) بعد أن قرأ سورة المائدة في حجة الوداع قال : يا أيها الناس إن سورة المائدة آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ، ونظيره في تفسير الخازن مرفوعا عن النبي (ص) وقد أخرج الحاكم في المستدرك ٣ : ٣١١ وصححه الترمذي في كتاب التفسير تفسير سورة المائدة الحديث ٢٣ عن عائشة أنها آخر سورة نزلت فما وجدتم من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه ، وفي تفسير الفخر الرازي ١١ : ١٦٣ واجمع المفسرون أن هذه السورة لا منسوخ فيها البتة إلا قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ومثله في تفسير الطبري ٦ : ٦٠ ومثله في القرطبي قال الشعبي ، أقول : ولم تنسخ (لا تُحِلُّوا) بآية القتال فإنها تسمح للدفاع وليس هو إحلالا للشهر الحرام ، وفي الناسخ والمنسوخ عن أبي ميسرة : لم ينسخ من المائدة بشيء.

٩

قبلها فقد تنسخ أم فيها فلا تنسخ؟ فالأصل أنها منها حيث المائدة نزلت جملة واحدة تباعا ، مهما حولت آية التبليغ إلى ما بعد آية تكميل الدين وإتمام النعمة لمصالح بيانية سوف نأتي عليها.

واعتبارا بمنزلها الوسيط بين مهبطي الوحي قد يصح أن تسمى مكية مدنية ، مكية لنزولها قرب مكة ، ومدنية حيث نزلت بعد الهجرة.

ذلك ، وبالمراجعة الموضوعية الدقيقة إلى مقاطع المائدة نرى الطابع البارز فيها ، المتميز بين سائر السور ، أنه طابع التقرير والحسم في التعبير لكل مسير ومصير ، حسما وتقريرا يحلّقان على كافة المواضع والمواضيع التي تتبناها ، ومهما كان القرآن كله بذلك النمط لكنّما الآيات القلّة المنسوخة خارجة عن ذلك المسير ، حيث تلمح بنفسها أنها محددة لردح من الزمن ثم تنسخ ، اللهم إلّا في نسخ التخصيص والتعميم ، والتقييد والتطليق.

وقد تكفي آيتا التبليغ وإكمال الدين وإتمام النعمة فيها ، بيانا شافيا أنها هي ـ حقا ـ المائدة الأخيرة من سماء الوحي ، تنزل على الرسول (ص) في أخريات زمنه الرسولي ، كحجر الأساس لبناية الصرح الرسالي الخالد منذ بزوغه إلى يوم الدين.

وفي دراسة دقيقة خاطفة عاطفة لآياتها مع بعضها البعض نجدها كأنها نزلت جملة واحدة كماهيه ـ اللهم إلا آية التبليغ حيث تلمح لامعة أنها نزلت قبل آية الإكمال والإتمام ـ مما يوحد تنزيلها وتأليفها كما وأن ذلك التجاوب يتواجد ـ كضابطة أصيلة ـ في السور كلها ، اللهم إلّا ما ثبت خلافه بدليل.

ذلك ، وقد نلمس هيمنتها الشاملة في مواضيعها كأشمل ما نجده في القرآن كله ، فإنها براعة ختام كما الجزء الثلاثون براعة استهلال ، فقد ختم القرآن بما استهل به في دلالة جامعة على القرآن كله ، بفاصل أن المائدة هي ناسخة غير منسوخة.

١٠

فهذه المائدة بين سائر الموائد القرآنية لها ميزات أربع لا توجد في سائرها (١) إلّا في بعض منها في البعض من السور ، ومن جمعيّتها للقرآن كلّه :

أن آيتها الأولى تأمر المؤمنين بالإيفاء بالعقود بصورة مستغرقة تشمل كافة العقود الصالحة للعقد والوفاء ، مذكورة في سائر القرآن وسواها.

وآيتها الأخيرة تحلّق ربانية الملك والقدرة الإلهية على كل شيء : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وبينهما متوسطات الإرشادات والدعوات الربانية الأخيرة التي تتبنّى أخريات اللبنات الخالدة لصرح الإسلام الشاهق السامق ، ما لن تزلزلها زلازل ولا تعصفها عواصف أو تقصفها قواصف.

ومع العلم أنها سميت «المائدة» لآية المائدة ، نعلم أن مائدة الحواريين هنا تنبيهة لنا بمائدة القرآن العظيم ، أنها هي ـ حقا بين كافة الموائد ـ المائدة العائدة بفوائدها الغزيرة الهاطلة الخالدة إلى العالمين كشجرة طيبة (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها).

فأين (مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ) ومائدة القرآن العظيم ـ بما فيها سورة المائدة ـ التي هي عيد وأعياد وآية وآيات تحلّق على كافة الموائد الربانية منذ بزوغها إلى يوم الدين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (١)

... إنه لا بد ل (الَّذِينَ آمَنُوا) من إنشاء دولة على ضوء الإيمان بالله ،

__________________

(١). نزولها جملة واحدة و ٢ نزولها خارج مكة والمدينة ٣ كونها ناسخة غير منسوخة ٤ شمولها للقرآن كله بصورة إجمالية ، ولكن الأنعام تشارك الأولى والفاتحة تشارك الأخيرة.

١١

دولة مثلثة التنظيمات ، بعقد وثيق مع الله في بعدية : ١ منه علينا ٢ ومنا إليه ، و ٣ آخر يتبنى عقد الله مع عباد الله بينهم أنفسهم ، ولذلك يؤمر (الَّذِينَ آمَنُوا) هنا في بزوغ المائدة أن يتبنوا دولة الإيمان على ذلك الأصل الأصيل النبيل لتصبح حياتهم ودولتهم مائدة على ضوء الإيفاء بالعقود ككلّ.

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) : (١).

وبما أن الإيمان وعمل الصالحات ـ فرديا وجمعيا ـ كله إيفاء بالعقود ،

__________________

(١). قد يظن هناك كما في أشباهه ألّا رباط بين جملتي الآية «أوفوا .. أحلت ..» فترتيب تأليف القرآن ـ إذا ـ ليس بالوحي.

ولكن كون ترتيب التأليف بالوحي كما التنزيل ضرورة لا حول عنها ، حيث المعاني المستفادة من ترتيب التأليف ليست مستفادة من ترتيب التنزيل ولا التأليف بغير الوحي ، فلأن القرآن هو آخر كتاب سماوي وسائر كتب السماء محرفة عن جمات أشراعها ، فالمفروض في هذا الوحي الأخير أن يكون وحيا في كافة جنباته ، ومنها ترتيب تأليف ، فلو أهمل في ترتيب التأليف لكان ذلك إهمالا في معاني مقصودة من الترتيب الوحي الذي يحلق على كل المعاني المقصودة بخاصة الترتيب.

ولو لم يكن هذا الترتيب الموجود طول القرون الإسلامية بالوحي لتكرث الترتيبات والتأليفات ، حيث الرغبات في تأليف القرآن كثيرة والرقبات فيه ـ إذا ـ مديدة ، وليس من الممكن أن مؤلف القرآن بهذا الترتيب هو واحد أو جماعة من غير المتصلين بالوحي ثم المسلمون أجمع بمن فيهم الأئمة المعصومون تلقوه بالقبول.

ثم «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» يحصر جمع القرآن وهو تأليفه بعد شتات تنزيله ، يحصره في الله تعالى ، فهل أوحى إلى غير نبيه معه أو بعده بذلك التأليف الأليف؟ والوحي منحصر فيه!

إذا فهذه القرآن هو كلّه وحي في كيانه ككل ومنه ترتيبه الخاص الحاضر.

فلا بد لمعرفة رباطات الآيات من كامل التدبر ولائقه بالذكر الحكيم ، فإذ لم تعرفها تقول : لا نعلم ، وهناك معاني عالية مستفادة من ذلك الترتيب العظيم وقضية ربانية الدعوة أن يكون تأليف كتاب الدعوة بنسق جمعي يجذب الناظر إليه في كل مجموعة يسيرة من آياته.

فالناس هم بطبيعة الحال في الأكثرية الساحقة لا يهوون أن يسمعوا إلى كتب الله لأنها تخالف شهواتهم الجارفة ولهواتهم الهارفة الخارفة ، فالطريقة الحسنى لجذبهم إلى الدعوة الربانية ـ إضافة إلى قمة الفصاحة والبلاغة ـ أن يحمل كتاب الدعوة في كل قسم منه كلا مجموعا كنموذج وأصل من أصل الدعوة وفرعها ، حتى يحتل سماع كل صاغ غير باغ ، أم وسماع كل باغ حيث تمر على سمعه ـ

١٢

لذلك نرى بازغة المائدة الأخيرة أمرا صامدا بالإيفاء بكل العقود.

وبما أن العقد لغويا هو كل جمع وثيق عريق ، مدلولا عليه بلفظ ـ وهو أبسطه ـ أم نية وطوية ، أم عملية ، فقد تحلّق «العقود» ـ جمعا محلىّ باللام ـ مستغرق العقود عموما وإطلاقا ، ولكنها هي التي يتبناها الإيمان بالله قضية خطاب الإيمان.

فالعقود الكافرة والفاسقة المناحرة للإيمان خارجة عن واجب الإيفاء بها ، داخلة في واجب النقض قضية الإيفاء بعقود الإيمان ، الشاملة إيجابياته وسلبياته.

وأما العقود الإنسانية التي لم يحظر عنها في شرعة الإيمان ، وهي ممضيات إذ لم ينه عنها أو أثبتت بضوابط الإيمان ، فهي هيه مأمورة بالإيفاء بها على هوامش العقود التي يتبناها الإيمان صراحا.

ولأن «العقود» على ضوء خطاب الإيمان تعم كلّ ما يسمى عقدا إلّا الّتي يتبنّاها اللّاإيمان ، فقد تشمل ـ على وجه القضايا الحقيقية التي هي من قضايا طليق الإيمان ـ تشمل كل العقود في مثلث الزمان ما صدق عليها العقود ، كما (الَّذِينَ آمَنُوا) تعم مؤمني الطول التاريخي والعرض الجغرافي دون إبقاء ، ولا نجد على الإطلاق ضابطة تعمّ مستغرق العموم والإطلاق كهذه التي تشمل كافة العقود الفطرية والعقلية ، إنسانية وشرعية في كافة الحقول ، ومثل هذه الضابطة هي الحريّة بهذه المائدة التي هي براعة ختام

__________________

ـ منه آيات ، فقد تدعو آية واحدة فيها من مختلف ألوان الدعوة الفطرية والعقلية والعلمية والحسية أنفسيا وسائر الدعوة آفاقيا ، تدعوا بمفردها إلى الحق المرام ما ليس بالإمكان في سائر المؤلفات المرتبة حسب الأبواب والفصول.

كما وأن تكرار مهام الدعوة في كتابها يعني تكرير التذكير ، إضافة إلى أن التكرار له مجال في كل حال ، يستفاد منه معناه الخاص ومبتغاه.

١٣

للقرآن كله ، الشاملة كافة العقود سلبية وإيجابية ، وهي المناسبة لتبنّي دولة قوية إسلامية عالمية ، وقد نزلت المائدة بعد الفتح بأشهر وقبل ارتحال الرسول (ص) كذلك بأشهر.

فأوّلها وأولاها العقود الربانية التي عقدت على فطرة الإنسان وعقليته ، وما عقدها الله علينا في شرعته ، وهي عقود الولاية الربانية ، تكوينية وتشريعية أو شرعية يحملها رسول الله (ص) فهي واجبة القبول والإتباع والإيفاء.

وهكذا كلّ عقد يعقده ولي طليق في حق الولاية على أيّ مولّى عليه ، ما يحق له شرعيا أن يعقده كما النبي (ص) ف (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...).

ومن ثم العقود التي نعقدها لربنا على أنفسنا وهي غير معقودة علينا في فطرة أو عقلية أو الشرعة ، ولكنها مسموحة برجاحة عقلية أو شرعية ، كعقد النذر والحلف والعهد فيما يصلح بشروطها المسرودة في شرعة الله.

ثم العقود التي نعقدها فيما بيننا نحن المؤمنين ، ومن ثم التي نعقدها بيننا وبين الكافرين ، ثم التي يعقدونها علينا ونحن قابلون.

والأخيران هما المعنيان بما يروى عن الرسول (ص): «أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام» (١) فحاشاه أن يعني بها العقود التي تتبناها الجاهلية الجهلاء المناحرة للإيمان ، معاكسة جاهرة لقضية الإيمان! ، فإنما هي العقود المرضية في حقل الإيمان (٢) مهما عقدت في الجاهلية.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٥٣ ـ أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : (أوفوا بالعقود) ـ أي : بعقد الجاهلية ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول : «أوفوا ...».

(٢) كما في المصدر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله (ص): أدوا للحلفاء عقودهم التي عاقدت إيمانكم ، قالوا : وما عقدهم يا رسول الله؟ قال : «العقل عنهم والنصر ـ

١٤

وشرعة الله ككل هي من العقود المفروض علينا تصديقها وتطبيقها (١) : من عقد الولاية التوحيدية ـ مبدء ومعادا ـ والولاية الرسولية والرسالية ، وولاية الخلافة الإسلامية (٢) التي هي استمرارية للولاية الرسولية ، وعلى ضوءها كلها ولاية الشرعة الربانية بكل فروعها.

وسيد الموقف على الإطلاق هو عقد الولاية التوحيدية المعقودة على الفطرة والعقلية الإنسانية ، المشروحة مشروعة عالية في شرعة الله ، المدلول عليها بكافة الآيات الآفاقية والأنفسية.

وترى «العقود» هي ـ فقط ـ العهود ، كما فسرت بها في الأثر؟ ولو كانت هي هيه لكانت قضية الفصاحة التعبير بالعهود نفسها دون العقود ، مع العلم أن هناك بينهما فارقا!.

__________________

ـ لهم» أقول : شرط ألا يخالف حكم الله ، كالعقل للمشرك في شركه والنصر له فيه.

وفيه أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان قال : بلغنا في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يقول : أوفوا بالعهد الذي كان عهد إليهم في القرآن فيما أمرهم به من طاعته أن يعملوا بها ونهيه الذي نهاهم عنه وبالعهد الذي بينهم وبين المشركين وفيما يكون من العهود بين الناس.

(١) المصدر أخرج البيهقي في الدلائل عن أبي بكر محمد بن عمر بن حزم قال : هذا كتاب رسول الله (ص) عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلّمهم السنة ويأخذ صدقاتهم فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله ورسوله «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود عهدا من رسول الله (ص) لعمرو بن حزم أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأمره أن يأخذ الحق كما أمره وأن يبشر بالخير الناس ويأمرهم به» الحديث بطوله.

(٢) نور الثقلين ١ : ٥٨٣ عن تفسير القمي أخبرنا الحسين بن محمد عن ابن أبي عمير عن أبي جعفر الثاني (ع) في الآية قال : إن رسول الله (ص) عقد عليهم لعلي صلوات الله عليه بالخلافة في عشرة مواطن ثم أنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين (ع).

١٥

إنها هي «العقود» كما هيه ، ولكي لا يخيّل إلينا أنها ـ فقط ـ الألفاظ التي تعقد دون العهود الخالية عنها ، لذلك قد فسرت بالعهود تأشيرا إلى أنها معنية منها مع سائر العقود.

فقد تحتلّ ظاهرة الألفاظ في حقل «العقود» كما تحتل باطنة النيات والطويات في حقل العهود ، فلكي لا نختص «العقود» بما خصصت به في مصطلح الفقه ، فنمضي على تحليق العموم المستغرق لكل العقود على ضوء عامة «العقود» لذلك فسرت أحيانا ب «العهود» تفسيرا بمصداق خفي كيلا يتفلت عن «العقود».

ف «العقود» في طليق إطلاقها وعمومها تحلّق على كافة الرباطات الوثيقة التي توافق الإيمان ، من عقود وإيقاعات لفظية ، أم في تعميم النية والطوية ، أو العملية بنيّة دون ألفاظ رسمية ، أم خلوا عن كل الدلالات اللفظية.

فهذه الزوايا الثلاث : لفظية وطوية وعملية ، مع مثلث الزمان ـ أيا كان ومن أيّ كان ـ هي مشمولة ل «العقود» شريطة شرط الإيمان بقضاياه ..

فالوقف عقد ، لأنه ربط وثيق بين الموقف وما وقف له ، كما الإجارات والتجارات وسائر المعاملات ـ دون صيغ رسمية أم دون أية صيغة ـ إنها عقود دون ريب.

وما طنطنة شريطة الصيغ المرسومة في هذه العقود إلا خلخلة في شرعة الله ما لم ينزل به سلطانا ، وهل يعقل أن «العقود» تختص في صدقها وواجب الإيفاء بها بما تنعقد بصيغ مرسومة لم تأت في كتاب ولا سنة ، وهي لا تشكل في المعاملات إلّا وحدات في آلافات.

أجل ، إن الطلاق من بين العقود بحاجة إلى دلالة لفظية قضية (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢ : ٢٢٧) فلا بد من كونه ـ إذا ـ

١٦

مسموعا ، لا لأنه دون لفظ ليس عقدا ، وإنما هو للنص.

ثم وعقد النكاح لا يتحقق بيّنا بين اثنين إلا بصراح اللفظ مهما لم يكن من الصيغ المرسومة ، حيث المعاطاة الخالية عن صراح الألفاظ خاوية عن التدليل على عناية النكاح لهما فضلا عمن سواهما من شهود.

فلئن دلّ على قصد النكاح بدلالة غير لفظية ، لصح نكاحا دون سفاح ، ولكن أين الدلالة الصريحة دون أية لفظة في حقل النكاح ، اللهم ألا أن تقرر رسوم عملية خاصة بديلة عن ألفاظ النكاح رسمية وسواها ـ وكما في إشارات الأخرس ـ والنتيجة الحاسمة أن صراح النكاح هو المحور المتين المكين الذي لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه.

ذلك ، وإيفاء كل عقد ـ لزوما أو جوازا وما أشبه ـ تابع لطبيعته وقضيته ، فمثل عقد الوكالة التي هي في الأصل منصبّ على صالح الموكّل ، هو بطبيعة الحال دائر مدار رضاه عاجلا وآجلا ، فله فكّه بعد زمن ، كما له الإبقاء عليه.

وأما مثل عقد النكاح والبيع وما أشبه فطبيعة الحال فيها الاستمرار إلّا أن تحدد بحدود زمنية أمّاهيه؟.

إذا ف (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لا تفرض الاستمرار في كل العقود ، فإنما هو الوفاء بقضية العقود بطبيعتها المألوفة والمعروفة ، أم حسب الشروط المسرودة فيها وفي الشرعة ، أو التي يتبناها العاقدان أو أحدهما.

وترى «العقود» هنا هي عقودكم ، التي عقدت عليكم فقبلتموها ، أو التي أنتم عقدتموها ، أم وسائر العقود المعقودة ـ الصالحة ـ بين سائر المؤمنين؟.

قضية استغراق «العقود» هي الشمول لسائر العقود ، عقودكم كفرض

١٧

أوّلي على كواهلكم ، وعقود سائر المؤمنين ترتيبا لآثارها الصالحة فيما بينكم ، ثم نصرة لهم وإعانة فيما هم في الإيفاء به قاصرون ، ومن ثم إرشادا لهم وأمرا فيما هم فيه مقصرون.

وهنا نجد (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) تضم تحقيق كافة الواجبات وترك كافة المحرمات ، فردية وجماعيّة ، وعلى غرار (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) ـ (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ (١) تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ).

وترى العقود المستحدثة في الحضارة الحاضرة ومنذ غياب العصمة الطاهرة كعقد التأمين وما أشبه ، هل إنها داخلة في هذه الضابطة؟.

طبعا نعم ، ما توفرت فيها الشروطات العقلية والشرعية ، وما صدقت عليها «العقود».

والقول إن عقد التأمين غرري لجهالة المادة المدفوع فيها ، والمدة المقرر هو عليها ، وجهالة الحوادث والأضرار المحتملة أو المترقبة فيها.

إنه مدفوع بأن المجهولين هذين هما معلومان عقلائيا حسب التقريب ، وأنه مصالحة ضمن العقد على محتمل الزيادة والنقصان ، فما هو ـ إذا ـ بغرري محظور في العقل والشرع.

ذلك ، وأما الإيفاء بالعقود فهو مثلثة الجهات إيفاء بقضية العقود ، وإيفاء بشروطه المذكورة فيها ، وإيفاء بالشروط غير المذكورة التي تتبناها العقود حسب الأعراف والعادات.

فالتخلف عن أيّ من هذه الثلاثة محظور يستتبع إما بطلان العقد ، أو الخيار.

ذلك! وبذلك التحليق ل «العقود» ترتبط بها الأحكام التالية حتى آخر السورة ـ وكذلك القرآن كله ـ دونما استثناء ، رباطا وثيقا عريقا رفيقا ، منذ

١٨

إحلال بهيمة الأنعام ، إلى تحريم ما حرم ، وإلى إكمال الدين وإتمام النعمة في حقل إبلاغ استمرارية هذه الرسالة القدسية في الخلافة العاصمة لها المعصومة.

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ..).

«الأنعام» هي جمع «النعم» من النعمة وهي الحالة الحسنة كما النّعمة هي الحسنة المبدلة إلى السيئة : (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (٤٤ : ٢٧).

والبهيمة هي المبهمة في أهدافها لنا بكلامها البهيم وفعلها البهيم ، وهي هنا من إضافة الصفة إلى موصوفها ، تعني «الأنعام البهيمة» وهي كل ذوات القواعد الأربع غير المفترسة ، فإنها نقمة وليست نعمة ، فإنما النعمة والأنعام هي الذّلول في عشرتها ركوبا والانتفاع منها أكلا دونما افتراس مهما كانت صيدا متمنّعا.

وتراها ـ بعد ـ هي ثمانية أزواج من الأنعام الأربع؟ ـ فقط ـ حيث (أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (٣٩ : ٦) (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ... وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ..) (٦ : ١٤٤)؟.

و «من الأنعام» تبعيض يدل على أن هذه الثمان الأربع ليست هي كل الأنعام في حقل التحليل ، إنما هي المأكولة من الأهلية البرية ، تحتل قمة الفائدة لنا!.

كما وأن (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) استثناء عن «الأنعام» دليل أن الصيد من الأنعام وهو خارج عن هذه الأربع!.

فالقول إن الأنعام هي ـ فقط ـ هذه الأربع غول فارغ عن التحصيل ، مناحر لطليق الدلالة ونص الدليل ، فهو ـ إذا ـ قول عليل.

١٩

و «أحلت» هنا لا تختص بالأكل منها ، بل هي تعم كل فائدة منها وعائدة ، «أحلت» كأصل وضابطة ، و «أحلت» عما قيدها المشركون ، و «أحلت» عما يختلقه مختلقون أمام شرعة الله ، من توسعة أو تضييق بحق بهيمة الأنعام ، في أكل منها وسواه ، كيفية أم سواها ، فإن الحكم في أصولها وفروعها إلّا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين.

فرغم أن (مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) (٦ : ١٤٢) إنهم (قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ..) (٦ : ١٣٨) ف (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٤٠ : ٧٩).

إذا ف (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) تحلّق الإحلال على كل ما يبتغي من الأنعام حمولة وفرشا وأكلا ، مهما اختصت أنعام حسب المرسوم بالأكل وأخرى بالحمولة والفرش ، ولكن حل الأكل يشملهما كما أن حل الحمل والفرش يشمل المأكول ، مهما حظر عن أكل الحمولة والفرش إذا كانت أغلى من المأكول وهو ألذ منها وأنعم ، تحظيرا جانبيا بسبب السرف ، ولكنها غير خارجة عن أصل الحلّ.

فكل عقد جاهلي وحظر في حقل الانتفاع ببهيمة الأنعام ـ توسعة وتضييقا ، سلبا وإيجابا ـ هي هنا مفكوكة ب «أحلت» ، وذلك الإحلال هو من العقود الشرعية التي عقدها الله في شرعته على عباده ، دونما حول عنها ولا تحويل ، وما الرسول في هذا الوسط إلّا حامل بلاغ عن الله فضلا عمن سواه من موحدين فضلا عمن سواهم.

وهنا «أحلت» إحلال نسبي بالنسبة لذوات بهيمة الأنعام عاما مستغرقا للأنعام دونما استثناء ، ودون تحليق على كل الحالات والكيفيات استغراقا في الإحلال ، فإنما هو حسب الشروط في الحصول عليها وذبحها ، ولكنها ضابطة ثابتة

٢٠