الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

قَدِيرٌ) ذلك ، وعلى فرض وحدة المسيح مع الله ، أنه بروحه إله وبجسمه بشر ، وكونه مسيحا صليبا ليس إلّا بكيانه البشري ، ولأن الجسم أيا كان ، في المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا أو في السماوات ، إنه في معرض الهلاك ، إذا فألوهة المسيح في معرض الهلاك ولا يبقى إلّا الله غير الهالك ولا الحالك.

وهنا «ابن مريم» تثبيت لكونه بشرا حيث ولد من بشر ، ثم «أمه» لأنهما مثلان في البشرية ، ثم (مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بل والسماوات ـ حيث الكون المخلوق كله أمثال في الحاجة الذاتية إلى الله ، فكما أنه كائن بأمر الله ، كذلك هو هالك بأمر الله ، فلا إله ـ إذا ـ إلّا الله.

ذلك! ولا نجد شرعة ربانية ابتليت بخرافات كهذه وابتلاءات كالشرعة المسيحية ، التي كانت عقيدة ناصعة ناصحة للمنحرفين عن حق التوحيد ، المنجرفين عن التوحيد الحق.

فقد دخلت فيها التحريفات المنكرة من قبل التدخلات الوثنية من سلطاتها المسيطرة عليها ردحا بدائيا من زمنها ، فمزجت الوثنية بالتوحيد فأصبحت اللّاهوتية المسيحية متناقضة واضحة وضح الشمس في رايعة النهار.

فحين يقال لهم لا تجتمع الألوهة والبشرية عقليا ، أم إن الثالوث يختلف عن التوحيد ، والواحد واحد وليس ثلاثا ، يقولون : هذه عقيدة الإيمان ، فكما جاء العقل خرج الإيمان ، فذلك فوق العقل كما الإيمان هو فوق العقل.

فيقال لهم : إذا كان الإيمان مخالفا للعقل فهو إيمان خلاف العقل ، فليصبح كل المجانين وضعفاء العقول من المؤمنين المسيحيين! والعقلاء محرومون ، حيث الإيمان المسيحي بحاجة إلى التخلي عن العقل لأنه يناحر

٢٤١

اللاهوت العقائدي ، فالتحلي باللّاهوت العقائدي المسيحي لزامه التخلي عن العقل!

وأما طنطنة «فوق العقل» فللعقل فوق لا يعرفه مهما عرف أنه كائن كوجود الله وحقيقة صفاته وأفعاله ، وأما الذي يعرفه عارفا كذبه واستحالته كتوحيد التثليث فليس هو فوق العقل ، بل هو تحته محكوما ومردودا به ، ثم المعروف بالعقل هو في مستوى العقل ، فالعقلية السليمة مميزة على أية حال ، إحقاقا وإبطالا ، مهما اختلف إحقاقه فيما يعيه بين ما يحيط به علما أمّا لا يحيط.

وهل يعرف الحق إيمانا وسواه إلّا بالعقل وهم يطردونه من حقل اللّاهوت ترسّبا على وثنية الثالوث والاتحاد!.

وقد يأتيكم القول الفصل حول خرافاتهم اللّاهوتية على ضوء الآية (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٥ : ٧٣) هنا و (قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (٣٠) في التوبة ، استعراضا عقليا ونقليا للاهوت المسيحي الذي هو نسخة عن الوثنيات العتيقة (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ..)!.

ذلك ، فارتقاء العبد إلى درجة المعبود فضلا عن الفناء فيه وصيرورته هو المعبود ، كتنازل المعبود إلى نازلة العبد ، هما مستحيلان ذاتيا وشرفيا.

فبينونة التباين الكلي بين كيان العبد والمعبود من ناحية ، واستحالة التغير للمعبود وتحول العبد إلى المعبود من أخرى ، ثم استحالة تحول اللّامحدود إلى المحدود والمحدود إلى اللّامحدود تجافيا وسواه من ثالثة وما أشبه ، هذه من براهين قاطعة تحيل قوسي الصعود والنزول ، فكمال العبد في سلوكه إلى الله هو كماله في العبودية لا أن يتحول معبودا ، بل يتحول عبدا أكثر مما كان حيث يعرف فقره أكثر وغناه تعالى أكثر ، وما تطلّب العبد تحوله إلى كيان المعبود ،

٢٤٢

أم وصوله إليه حيطة معرفية عليه ، إلّا تغلبا عليه (١).

والصوفية العارمة قد تدعي قوس الصعود صعودا إلى درجة المعبود أو تحولا إليه ، فناء فيه فبقاء به ، وأخرى قوس النزول أن الله تنزل من لاهوت الألوهية فتجسد كعبد من عبيده كما زعموه في المسيح : أن الله هو المسيح ابن مريم ، كالذي اتخذ إلهه هواه ، اعتبارا لهواه أنه الله ، تنزيلا للإله إلى هواه فعبودية لها كما يعبد الله.

ذلك ، وكل إشراك بالله هو تنزيل لله إلى كيان ما سواه ، أو ترفيع لما سواه إلى درجة الإله ، توحيدا بين الخالق والمخلوق ، ومن ذلك خرافة وحدة حقيقة الوجود مهما تظاهرت بمظهر الفلسفة الإسلامية ، حيث العقلية الإسلامية ونصوص الكتاب والسنة منها براء ، فإنه خرافة في عراء.

والنصوص الإسلامية كلمة واحدة في توحيد الله ومباينته خلقه في كافة الشؤون الواقعية ذاتية وصفاتية وأفعالية ، فلا تجلّي ولا تخلّي ولا تحلّي ولا وكالة ولا نيابة ولا خلافة ولا ما أشبه في هذا البين ، اللهم إلّا عبودية من قممها الرسالة والنبوة والإمامة.

ولا نعني من وجود ربنا معنى نفهمه كما نفهم من وجودنا ، وإنما هو أنه ليس بمعدوم ، وهو أعم من المفهوم وغير المفهوم ، فنحن نعلم أن الله ليس بمعدوم ولا بموجود كوجوداتنا ، فإنه خارج عن الحدين حدّ الإبطال وحد التشبيه ، وأما ما هو ذاته وإنيته فالعقول تائهة حائرة في معرفته.

وليس الحوار هنا لغويا حتى يستند إلى اشتراك لغة الوجود معنويا بين الله وخلقه ، بل هو بحث عقلي في حقه وحاقّه ، ولا يقبل العقل أية وحدة بين

__________________

(١) راجع كتابنا «حوار بين الإلهيين والماديين» ص ٣٨٣ ـ ٣٩٩ وكتابنا «عقائدنا» ص ١٢٧ ـ ١٤٥.

٢٤٣

الله وخلقه ، اللهم إلّا في لفظة الوجود وما أشبه من مشاركات لفظية ، فهو باين عن خلقه وخلقه باين عنه ، ونفس حدوث الخلق أيا كان يحيل مجانسته فضلا عن وحدته مع الخالق ، فالمعني من وجود الله غير المعني من وجود الخلق قضية التباين بينهما.

وليس مناقض وجود الخلق العدم المطلق حيث ينتج خروجه تعالى عن الوجود ، بل هو عدم الخلق المناسب لكلا العدم المطلق ووجود غير الخلق ، وليس لشيء واحد الا نقيض واحد وهو هنا عدم الخلق الجامع بينهما ، غير المطبق في العدم ، فنحن بين المحتملات التالية من معنى وجود الله وسواه :

١ : لا نفهم من الوجودين أيّ معنى؟

٢ : نعني من «الخلق موجود» الحقيقة الخارجية ومن «الله موجود» اللّاحقيقة الخارجية؟.

٣ : لا نعني من «الله موجود» أي معنى إيجابي أو سلبي؟.

٤ : نعني من الوجود في كلتا القضيتين معنى وحقيقة واحدة جنسية لا شخصية؟.

٥ : نعني حقيقة واحدة شخصية؟.

٦ : نعني حقيقة ذات مصدر واحد؟

٧ : نعني حقيقة متحدة في السلسلة ..

٨ : نعني من وجود الخلق كما نعنيه حقيقة خارجية محدودة حادثة ، ومن وجود الخالق الحقيقة الخارجية المجردة الأزلية اللامحدودة المناقضة لحقيقة الخلق ، ثم لا نفهم من هذه الحقيقة إلا سلب العدم.

فقد نعني هذا الأخير ، دون السبعة الأولى بكل دركاتها!.

٢٤٤

ذلك ، وهو «مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزايلة» (الخطبة ١ / ٢٥) «سبق في العلو فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه ، فلا استعلاءه باعده عن شيء من خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به» (٤٩ / ١٠٦) «لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن» (٣ / ١٢٠). فهو «البائن لا بتراخي مسافة .. بان الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه» (١٥٠ / ٢٦٧).

«لم يقرب من الأشياء بالتصاق ولم يبعد عنهم بافتراق» (١٦١ / ٢٨٩).

«قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين» (١٧٧ / ٣٢٠).

«ليس في الأشياء بوالج ، ولا عنها بخارج» (١٨٤ / ٣٤٣).

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٨).

إنه لم يكتف اليهود بالبنوّة العزيرية ولا النصارى بالبنوّة اليسوعية ، فقد تخطوا هذه الهرطقة الحمقاء إلى بنوتهم أنفسهم لله بأي تأويل عليل وتحليل كليل (١) فادعاء اليهود أنهم شعب الله المختار وأخصائه وأولياءه هي ادعاء لبنوّتهم تشريفا من الله ، كما ادعاء النصارى أن المسيح افتداهم من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلهم ، هي ادعاء لتشريف فوق الأول حيث قدم ـ

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٩٩ عن ابن عباس قال أتى رسول الله (ص) ابن أبي وبحري بن عمر ووشاس بن عدي فكلمهم وكلموه ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ونحن أبناء الله وأحباءه كقول النصارى فأنزل الله فيهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى ...).

٢٤٥

كما يزعمون ـ ابنه ضحية عن عصاة أمته.

وهذه البنوة المدعاة ذريعة إلى تحللهم عن العذاب ، أصلها أنهم أحباءه حيث يحبّهم أكثر ممن سواهم من البشر ، ولأنهم شعب الله المختار ، ومن الجواب الحاسم نقضيا (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) كما عذبكم مرارا وتكرارا في تخلفات عدة عن شرعته ، أن جعل منكم القردة والخنازير وما أشبه ، ثم يعذب عصاتكم بعد الموت كما في تصريحات كتابية متكررة ، فقد نقض دعواكم ، فلستم أنتم برآء من عذابه يوم القيامة حين يعذبكم هنا بذنوبكم ثم (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) من البشر : جواب حلّي سنادا إلى بشريتهم كسائر البشر ، فليست هنا ولادة إلهية في أي من بنودها الأربعة ، لأنها بحاجة إلى ميّزة ذاتية أو صفاتية أو أفعالية عن سائر البشر ، فالأوليان منفيتان دون ريب ، والميّزة الأفعالية عقيدية وعملية ليست إلّا صالح العقائد والأعمال ، فلا ميّزة لكم لأنكم هود أو نصارى عمن سواكم ، ثم الله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) منهم وسواهم (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) منهم وسواهم ، دونما تمييز ببنوة أو محبة.

فلا قرابة ولا أية نسبة بين الله وخلقه تعفوهم عن عذاب مستحق ، وتمنحهم الثواب غير المستحق ، إذ (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣) فليست المآسي إلّا بالمعاصي ، ولا المثوبات إلّا بترك المعاصي.

ذلك! وهو سبحانه وتعالى طليق في ملكه لا يتحدد في تصرفاته بمثل هذه الدعاوي الخاوية الغاوية (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) في الأولى دون إبقاء (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) في الأخرى دون إبقاء ، أم له الملك في الدارين وإليه المصير في الدارين.

هناك ثالوث من البنوة الإلهية المدعاة بحق المسيح ، أولها بنوّة المسيح لله تحوّلا لذات الله إلى ذات المسيح ، فليس هنا إلّا واحد هو المسيح وثانيها ولادته

٢٤٦

عن الله كسائر الولادات ، فهنا الوالد والولد اثنان باقيان ، وثالثها الولادة التشريفية كما يقولها فرقة ثالثة منهم بحق المسيح (ع) لأنه أول العابدين لله تعالى.

ومن أغرب ما نسمعه من الكنائس اللّاهوتية صيغة «توحيد التثليث» وأنها هي السائغة في حق التوحيد ، ما لم يكن يفهمه البدائيون العرب ، فذلك ارتقاء في مراقي التوحيد يؤمن به ولا يعقل لأنه فوق العقول! ، ومن أوضح الضروريات العقلية استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين مهما كانت في حقل اللّاهوت أم سواه ، حيث المستحيل الذاتي مستحيل أينما كان ولأيّ كان.

ذلك والوحدة بين الله وأي من خلقة مرفوضة باستحالة حتى في مفهوم الوجود ، فضلا عن الحقيقة الخارجية بالمجانسة أو وحدة المصدر فضلا عن الوحدة الشخصية في شخص واحد أم في تسلسل الوجودين دون تجاف ذاتي وصفاتي وأفعالي.

ذلك كله للمناقضة بين المجرد والمادي الطليقين في التجرد والمادية ، فكما الوجود والعدم متناقضان ، كذلك التجرد والمادية بما هما صفتان لموجودين. فالتجرد يعني اللّامادية ، والمادية تعني اللّاتجرد ، وخلوّ الوجود عنهما واجتماعهما فيه مستحيلان على سواء.

فلأن الله المجرد عن كافة الشؤون المادية غير محدود بصورة مطلقة فلا مكان له أيّا كان ، مفهوما وواقعا مهما اختلف المكانان ، حيث المحدود ليس ليحوي اللّامحدود إلّا بانقلاب أحدهما إلى الآخر.

وبأحرى من استحالة الوحدة في الكيان المفهومي هو الكيان الحقيقي الخارجي ، فلا هما من مصدر واحد حيث الله ليس صادرا حتى يتحد في المصدر مع الصادر منه ، ولا تجانس بينهما أبدا حتى تصح الوحدة فيها ، وإن

٢٤٧

في شيء منهما لمكان التجرد الطليق لله ، ولا مكان لله حتى يدخل في تسلسل الوجود ، فكل هذه الوحدات مستحيلة فضلا عن الوحدة الشخصية ، بانقلاب الخالق خلقا ، أو انقلاب الخلق خالقا في قوسي النزول الإلهي والصعود الخلقي ، فإن قضية كلّ تجافيه عن كونه وكيانه ، وليس ذلك من الوحدة حيث إن غير المتجافي هو الباقي ، أم بقاءهما فكيف يصبحان واحدا وهو من وحدة النقيضين الذين ليس ليحمل أحدهما الآخر فضلا أن يصبح هو الآخر!.

وهنا رابعة يدعونها لأنفسهم لأنهم هود أو نصارى تشريفا بواسطة التهود والتنصر ، فهذه الرابعة لا تملك امرا إلا البراءة عن عذاب الله إكراما لذلك الإختصاص.

والقرآن يرد على هذه المزعمة الخاوية بحق عزيز والمسيح ، وبحق الهود والنصارى أنفسهم : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦٢ : ٦) حيث كانوا ولا يزالون يدعون اختصاصهم بالله ، فلهم خصيصة القرب إلى الله ما لا يشاركهم فيها سائر الشعوب ، فليس ليعاملهم معاملته مع سائر الشعوب ، فلا يستهين بهم ولا يمس من كرامتهم كمن سواهم من المعاقبين بذنوبهم.

وكذلك النصارى حيث حرروا أنفسهم في ترك واجبات وفعل محرمات بادعاء «أن المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صلب لأجلنا» فقد تحمّل شخصيا بصلبه ولعنه فيه كل لعنات الناموس ، فهم إذا برآء من عذاب الله مهما كثرت خطيئاتهم! ومهما اختلفت جذور ادعاءاتهم في عفوهم عن عذاب الله ، ولكنهم متفقون في ذلك العفو المدّعى وكأنهم من أبناء الله وأخصاءه بأي سبب كان.

فالقرآن ينادي أن عباد الله بجنب الله هم على حد سواء إلّا من يتقربون بمعرفته وعبادته إليه فلهم الزلفى ولهم حسنى الدار ، أو من يتغربون عنه

٢٤٨

بالتجاهل عنه وعصيانه فعليهم سوء الدار ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣).

ذلك ، فلئن سأل سائل كيف أصبح (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) جوابا ناقضا لدعواهم ، وهم ناكرون عذاب الأخرى ، ومؤولون عذاب الدنيا بأنه ابتلاء الأولياء كما كان لمحمد (ص) وأصحابه.

فالجواب انهم مقرون بعذاب مّا يوم الأخرى حيث قالوا (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (٢ : ٨٠) وقد جعل بأسهم بينهم يوم الدنيا حيث أغريت العداوة والبغضاء بين النصارى وألقيت بين اليهود ـ المتخلفين منهم ، وجعل من اليهود قردة ومن النصارى خنازير.

وما ابتلاء الرسول (ص) والذين معه إلّا بأعدائهم دون أنفسهم مع بعض البعض ، ولئن يبتلى المسلمون بعذابات طول تاريخهم فهي بما كسبت أيديهم.

ومن ذا الذي لا يميّز بلية العذاب عن سائر البليات التي هي من قضايا الإيمان ، فالذي يقتل في سبيل الله بليته من أقضى قضايا الإيمان بالله ، وأما الذي يجعل قردا أو خنزيرا بإرادة الله دون سواه ، والحروب الطاحنة بين المسلمين أنفسهم وما أشبه ، هذه صور مختلفة من بلية العذاب وهي في الآخرة أنكى وأشجى.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩).

(.. يُبَيِّنُ لَكُمْ) ـ (كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) سلبا لخرافات وانجرافات و (يُبَيِّنُ لَكُمْ) قصّا عليكم (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

٢٤٩

و (يُبَيِّنُ لَكُمْ) ما تختص به هذه الشرعة الأخيرة ، فقد بيّنت لكم (يُبَيِّنُ لَكُمْ) أن هذا الرسول يبين كل شيء تحتاج إليه الأمة الرسالية إلى يوم الدين : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٥٢) ـ (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٢٠٣) (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٠ : ٥٧). (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٢ : ١١١).

ذلك وبصورة عامة (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٦ : ٦٤).

فتبين القرآن ـ وعلى ضوءه السنة ـ يحلّق على السلبيات المفروضة في الشرعة الأخيرة (لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) والإيجابيات المؤاتية لشرعة الخلود : (وَهُدىً وَرَحْمَةً) وهنا (يُبَيِّنُ لَكُمْ) تعمهما.

(يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) التي بعدّتكم بطبيعة حال الفترة الرسولية عن طبيعة الرسل والرسالات الإلهية : «أرسله على حين فترة من الرسل واختلاف من الملل وانقطاع من السبل ودروس من الحكمة وطموس من أعلام الهدى والبينات» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٠٢ في الكافي بسند عن عبد العظيم بن عبد الله قال سمعت أبا الحسن (ع) يخطب بهذه الخطبة : الحمد لله العالم بما هو كائن ـ إلى أن قال ـ : وأن محمدا (ص) عبده ورسوله المصطفى ووليه المرتضى وبعثه بالهدى أرسله ..

أقول : والروايات في سني تلك الفترة مختلفة بين / ٥٠٠ سنة و ٦٠٠ سنة ، كما هي مختلفة في أن فيها رسلا أم لا والمصدقة من الأخيرة ، تصدقها آية الفترة أن هذه السنين كانت خلوا من الرسل ، مهما كان فيها أوصياء غير معصومين وعلماء.

وإليكم بعضا من هذه الأحاديث ففي نور الثقلين ١ : ٦٠٢ عن تفسير القمي سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام فقال : أخبرني كم بين عيسى ومحمد عليهما ـ

٢٥٠

فتعالوا الآن معي لنقضي فترة في الحصول على المعني من (فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) إذ لم تأت في القرآن إلا في هذه المرة اليتيمة.

فالفتور لغويا هو سكون بعد حدّة ولين بعد شدة ، وضعف بعد قوة ، ففترة من الرسل تعني انقطاعا في سلسلة الوحي بانقطاع الرسل لردح من الزمن ، إذ لا يوجد رسول فاتر في رسالته ، وفترة الرسالة هي سكونها بعد حراكها بانقطاع رسلها الداعية ، فحين تنقطع الرسالة بدعاتها الرسل ، لفتور القوة الدعائية ، ولا سيما بين الألدّاء من الأقوام ، فعند ذلك الطامة الكبرى وكما يروى عن الإمام علي أمير المؤمنين من خطبة له : «أرسله على حين فترة

__________________

ـ السلام من سنة! فقال : أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال : أخبرني بالقولين جميعا ، قال : أما بقولي فخمسمائة وأما بقولك فستمائة ، وفيه عنه عن بشير النبال عن أبي عبد الله (ع) قال بينا رسول الله (ص) جالسا إذ جاءته امرأة فرحب بها وأخذ بيدها وأقعدها ثم قال : ابنة نبي ضيعه قومه خالد بن سنان دعاهم فأبوا أن يؤمنوا ، وفيه عن كمال الدين وتمام النعمة عن الصادقين مثله وفيه فصافحها وأدناها وبسط لها رداءه ثم أجلسها إلى جنبه ثم قال : «هذه ابنة نبي ضيعه قومه خالد بن سنان العبسي وكان اسمها محياة بنت خالد بن سنان» أقول : أخذ بيدها فصافحها ، مما يطرد الروايتين مع أنهما خلاف نص آية الفترة ، وفيه عن كمال الدين عن أبي عبد الله (ع) عن النبي (ص) يقول في حديث : وأوصى عيسى إلى شمعون بن حمون الصفا وأوصى شمعون إلى يحيى بن زكريا وأوصى يحيى بن زكريا إلى منذر وأوصى منذر إلى سليمة وأوصى سليمة إلى بردة ثم قال رسول الله (ص) : ودفعها إليّ بردة وأنا ادفعها إليك يا علي.

أقول : ومما يحير العقول قول الصدوق بعد ذكر هذه الأحاديث في كمال الدين : يعني الفترة أنه لم يكن بينهما رسول ولا نبي ولا وحي ظاهر مشهور كمن كان قبله وعلى ذلك دل الكتاب المنزل أن الله عز وجل بعث محمدا (ص) على حين فترة من الأنبياء والأوصياء ولكن قد كان بينه وبين عيسى عليهما السلام أنبياء وأئمة مستورون خائفون منهم خالد بن سنان العبسي نبي لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر لتواطئ الأخبار بذلك عن الخاص والعام وشهرتهم عندهم وكان بين مبعثه ومبعث نبينا (ص) خمسون سنة ، أقول : لا معنى لخفاء الرسول والنبي حيث الإجهار من لزامات الرسالة ، ثم الفترة تقتضي انقطاع الرسالة جاهرة وخافية.

٢٥١

من الرسل وطول هجعة من الأمم واعتزام من الفتن وانتشار من الأمور وتلظّ من الحروب ، والدنيا كاسفة النور ، ظاهرة الغرور ، على حين اصفرار من ورقها ، وإياس من ثمرها ، واغورار من ماءها ، قد درست منار الهدى ، وظهرت أعلام الردى ، فهي متجهمة لأهلها ، عابسة في وجه طالبها ، ثمرها الفتنة وطعامها الجيفة ودثارها السيف ..» (١).

«بعثه والناس ضلّال في حيرة وخابطون في فتنة قد استهوتهم الأهواء ، واستنزلتهم الكبرياء ، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء ، حيارى في زلزال من الأمر وبلاء من الجهل فبالغ صلى الله عليه وآله في النصيحة ، ومضى على الطريقة ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة(٢).

__________________

(١) نهج البلاغة باب الخطب ص ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٢) أقول : وهنا خطب أخرى كالتالية : «إلى أن بعث الله سبحانه محمدا رسول الله (ص) لإنجاز عدته وتمام نبوته ، مأخوذا على النبيين ميثاقه ، مشهورا سماته ، كريما ميلاده ، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة ، وأهواء منتشرة ، وطرائق متشتتة ، بين مشبّه لله بخلقه ، أو ملحد في السمة ، أو مشير إلى غيره ، فهداهم به من الضلالة ، وأنقذهم بمكانة من الجهالة ...» (الخطبة ١ / ٣٢).

«أرسله بالدين المشهور ، والعلم المأثور ، والكتاب المسطور ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، والأمر الصادع ، إزاحة للشبهات ، واحتجاجا بالبينات ، وتحذيرا بالآيات ، وتخويفا بالمثلات ، والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين ، وتزعزعت سواري اليقين ، واختلف النجر ، وتشتت الأمر ، وضاق المخرج ، وعمي المصدر ، فالهدى خامل ، والعمى شامل ، عصي الرحمن ونصر الشيطان ، وخذل الإيمان فأنهارت دعائمه ، وتنكرت معالمه ، ودرست سبله ، وعفت شركه ، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ، ووردوا مناهله ، بهم سارت أعلامه وقام لواءه ، في فتن داستهم بأخفافها ، ووطئتهم بأظلافها ، وقامت على سنابكها فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون ، في خير دار وشر جيران ، نومهم سهود ، وكحلهم دموع ، بأرض عالمها ملجم ، وجاهلها مكرم» (٣ : ٣٦) ـ

ان الله بعث محمدا (ص) نذيرا للعالمين ، وأمينا على التنزيل ، وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شر دار ، منيخون بين حجارة خشن ، وحيات صمّ ، تشربون الكدر وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم ـ

٢٥٢

ولئن سأل سائل هلا تكون (فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) خلوا عن حجة الرسالة نقضا لبالغ الحجة فإعذارا للمعتذرين وحجة للناس على الله رب العالمين ، فإنهم : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٤ : ١٦٥) فلا بد من حجة رسولية أو رسالية بين المكلفين لئلا يكون للناس على الله حجة.

والجواب أن (فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) لا تعني خلوا من حجج الرسالات فإن صيغتها «فترة من الرسالات» دون «الرسل» فلا تعني (فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) إلّا فترة من ابتعاث الرسل وحججهم باقية ، مهما صعب الوصول إليها للتحريف والتجديف في كتابات الرسل ، والمؤمنون الصالحون علماء وسواهم يهتدون بهدي الله إلى الوحي الأصيل كيفما كان التحريف.

فما مثل العائشين في (فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) إلا كمثل العائشين بعد خاتم

__________________

ـ معصوبة» (٣٦ ، ٧٣) ـ

«أرسله لإنفاذ أمره وإنهاء عذره وتقديم نذره» (١٨١ ، ١ ، ١٣٦).

«وطال الأبد بهم ليستكملوا الخزي ويستوجبوا الغير ، حتى إذا اخلولق الأجل واستراح قوم إلى الفتن ، وأشالوا عن لقاح حربهم ، لم يمنوا على الله بالصبر ، ولم يستعظموا بذل أنفسهم في الحق ، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء ، حملوا بصائرهم على أسيافهم ، ودانوا لربهم بأمر واعظهم» (١٤٨ ، ٢٦٣) ـ

«أرسله بحجة كافية ، وموعظة شافية ، ودعوة متلافية ، أظهر به الشرائع المجهولة ، وقمع به البدع المدخولة ، وبين به الأحكام المفصولة» (١٥٩ ، ٢٨٦) ـ

«بعثه حين لائمكم قائم ، ولا منار ساطع ، ولا منهج واضح» (١٩٤ ، ٣٨٥) ـ

«ثم إن الله سبحانه بعث محمدا (ص) بالحق حين دنى من الدنيا الانقطاع ، وأقبل من الآخرة الاطلاع ، وأظلمت بهجتها بعد إشراق ، وقامت بأهلها على ساق ، وخشن منها مهاد ، وأزف منها قياد ، في انقطاع من مدتها ، واقتراب من أشراطها ، وتصرم من أهلها ، وانفصام من حلقتها ، وانتشار من سببها ، وعفاء من أعلامها ، وتكشف من عورتها ، وقصر من طولها ، جعله الله بلاغا لرسالته ، وكرامة لأمته ، وربيعا لأهل زمانه ، ورفعة لأعوانه ، وشرفا لأنصاره» (١٩٦ ، ٣٩٠).

٢٥٣

الرسل (ص) إلى يوم الدين ، والفارق ليس في أصل الحجة المحلّقة على كل الأدوار ، إنما هو في وضوح المحجة للوصول إلى الحجة في الآخرين ، وصعوبتها في الأوّلين وسهولتها في الآخرين.

فالناقد البصير زمن الفترة الرسولية بإمكانه التخلص عن كل دخيل دجيل وإن صعب ، فأفضل الأعمال أحمزها ، ثم المتخلف عن شرعة الله في هذه الفترة ليس ليحاسب كما المتخلف عنها في زمن الرسل أو الرسالة الباهرة بحججها.

ذلك ، فقد كان الطريق للوصول إلى حجة الوحي مفتوحا زمن الفترة للذين يتطرقون إليه ، لا سيما وأن الراسخين في العلم من أهل الكتاب يعلمون الأصيل من وحي الكتاب عن الدخيل : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ..) (٤ : ١٦٢) فالعوام منهم المهتدون المؤمنون عليهم الاقتداء بهؤلاء الراسخين في العلم منهم ، ثم العوام الآخرون مصيرهم مصير هؤلاء الذين يحرفون الكتاب أم هم راضون ، إذا فالحجة الرسالية لم تفتر في زمن الفترة الرسولية ، وإحدى الحجتين كافية لقطع العذر ، ولكن الرحمة تقتضي ألا يكتفى في الحجة البالغة بما هي غارقة في لجة التحريف ، فلينزل بعد هذه المحرفات كتاب يبقى وحيا أصيلا دون أي دخيل ، منارا للعالمين إلى يوم الدين.

ذلك ، وبصورة عامة إن سيرة الرسالة سائرة على مدار زمن التكليف دونما تجاف عنها وان لحظة واحدة ، فقد «اصطفى سبحانه من ولد آدم أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم ، فجهلوا حقه ، واتخذوا الأنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم الآيات المقدرة ، من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم ، وآجال تفنيهم ،

٢٥٤

وأوصاب تهرمهم ، وأحداث تتابع عليهم.

ولم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجة لازمة ، أو محجة قائمة ، رسل لا تقصر بهم قلة عددهم ، ولا كثرة المكذبين لهم ، من سابق سمي له من بعده ، أو غابر عرفه من قبله ، على ذلك نسلت القرون ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء وخلفت الأبناء» (١).

ذلك ، «وليقيم الحجة به (آدم) على عباده ، ولم يخلهم بعد أن قبضه ، مما يؤكد حجة ربوبيته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبياءه ، ومتحملي ودائع رسالاته قرنا فقرنا ، حتى تمت بنبينا محمد (ص) حجته ، وبلغ المقطع عذره ونذره» (الخطبة ٨٩ / ٣ / ١٧٤).

وهكذا «فاستودعتهم في أفضل مستودع ، وأقرهم في خير مستقر ، تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام ، كلما مضى منهم سلف قام منهم بدين الله خلف ، حتى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمد (ص) .. أرسله على حين فترة من الرسل ، وهفوة عن العمل ، وغباوة من الأمم ..» (الخطبة ٩٢ / ١٨٥).

فقد «بعث الله رسله بما خصهم به من وحيه ، وجعلهم حجة له على خلقه ، لئلا تجب الحجة لهم بترك الإعذار إليهم ، فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق ـ

ألا إن الله كشف الخلق كشفة ، لا أنه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم ، ومكنون ضمائرهم ، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، فيكون الثواب جزاء والعقاب بواء» (الخطبة ١٤٢ / ٢٥٥).

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١ / ٣١.

٢٥٥

«وبعث إلى الجن والإنس رسله ، ليكشفوا لهم عن غطاءها : ـ الدنيا ـ وليحذروهم من ضرائها ، وليضربوا لهم أمثالها ، وليبصروهم عيوبها ، وليهجموا عليهم بمعتبر من تصرف مصاحها وأسقامها ، وحلالها وحرامها ، وما أعد الله للمطيعين منهم والعصاة ، من جنة ونار ، وكرامة وهوان» (الخطبة ١٨١ / ٣٣٠) ..

«فيا حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة» (الخطبة ٦٢ / ١١٨) «فقد أنذر الله إليكم بحجج مسفرة ظاهرة ، وكتب بارزة العذر واضحة» (الخطبة ٧٩ / ١٣٤).

«اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إما ظاهرا مشهورا ، أو خائفا مغمورا ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، وكم ذا وأين أولئك؟ أولئك الأقلون عددا ، والأعظمون عند الله قدرا ، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظرائهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم» (١٤٧ ح / ٥٩٥).

أجل (.. قَدْ جاءَكُمْ ... أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) فمن مهامّ الأهداف في هذه الرسالة الأخيرة هو قطع الأعذار عن بكرتها عن (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) فقد قضت علينا الفترة الرسالية وحرفت كتب السماء عن جهات أشراعها ، فلا هي معصومة تصلح الرجوع إليها والاعتماد عليها ، ولا «جاءنا» بعد الرسل والكتب السالفة (مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) معصوم يعتمد عليه مهما كان العلماء كثرة ، ولكنهم كانوا منجرفين بالجوارف ومنخرفين بالخوارف إلا القليل من الضعفاء في مسرح الدعوة.

فلقد ضعفت الدعوة والدعاية وابتعدت الحجة زمن الفترة لحد كادت أن تكون حجة الضالين بالغة ـ ولن تبلغ ـ فابتعث الله ذلك الرسول العظيم بهذه الرسالة العظيمة قطعا لكل الأعذار والحجج منذ بزوغها إلى يوم الدين.

فلو لا هذه الرسالة واستمر زمن الفترة لكانت الحجة على الله ـ وعوذا

٢٥٦

بالله ـ واقعة ، ولضل المكلفون عن بكرتهم إلّا القليل القليل من الأوحدي ذوي البصائر والنّهى.

(فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) وذلك البشير النذير الأخير هو المهيمن بكتابه على كل بشير سالف ونذير بكتاباتهم ، لولاه لانفصمت أعلام الهدى عن بكرتها وانطمست.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن أهم الأشياء التي تحتاج إلى قمة عالية من القدرة ابتعاث رسول يقطع كافة الأعذار في كافة الحقول لكافة الأمم عن بكرتها ، إذ خلصهم بأسرهم عن أسرهم.

وهنا (أَنْ تَقُولُوا) لا تخاطب ـ فقط ـ أهل الكتاب ، بل وبأحرى غيرهم من عامة المكلفين ، فلولا ذلك البشير النذير الأخير لقضي على بشارة الوحي ونذارته عن بكرتها ، حيث الكتب السالفة محرّفة فلا تصلح لدعوة صالحة ، فليس لمتحري الحق أن يتحراه عن سابقه ، ولا حاضره ، ثم المكلفون منذ الفترة إلى يوم الدين تبقى لهم هذه الحجة العاذرة ثابتة صادقة : «ما جاءنا من نذير».

ذلك وكما أن هذه الرسالة بين العرب تقطع أعذارهم : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (٦ : ١٥٤ ـ ١٥٧).

فهذه الرسالة السامية هي قاطعة الأعذار في الطول التاريخي والعرض الجغرافي.

٢٥٧

في هذه الرسالة تتجاوب براهين الرسالة العامة والخاصة ، فقد كتب الله على نفسه الرحمة ، ولا سيما رحمة الهداية الروحية على ضوء الوحي ، ومن الرحمة الربانية في حقل الشرعة أن تكون وحيدة تجمع كافة المكلفين ، فما هي هذه الشرعة الوحيدة الصالحة ببراهينها وواقعها لإسعادهم عن بكرتهم.

الخطوة الأولى لسائر الرسالات ـ لولا القرآن ـ فاشلة ، إذ لم تبق من حجج الرسل باقية واقية تصلح للإحتجاج بها ، فإن آياتهم الرسولية انقرضت معهم ، ثم وآياتهم الرسالية وهي كتبهم أصبحت ـ ومنذ أمد بعيد ـ محرفة عن جهات أشراعها ، ولا نجد إلّا القرآن العظيم الجامع في نفسه الحجة الرسولية والرسالية ، المهيمنة لما سبقه من رسل ورسالات.

و (يُبَيِّنُ لَكُمْ) وما أشبه ككل تعم تبيين كلّما يحق تبيينه من الحق من ظاهر أو باطن دونما استثناء ، فالقيلة الغائلة الصوفية أن وراء الشريعة حقيقة لا تنال إلا بطقوس خاصة أخرى غير قشور الشريعة ، هذه إزراء بالله تعالى كأنه قصّر في مادة الإرسال ، وإزراء بالرسول (ص) كأنه قاصر في ذلك البلاغ.

فإن كان ما يقولونه هو من الباطن حقا لكان المشرع أحق بإعلانه كما يعلنون ، وإن لم يكن هو الحق فما ذا بعد الحق إلّا الضلال فأنّى يؤفكون.

كلّا ، إن الباطن الحق كله مطوى في الظواهر الدينية ، كلما أقيمت كالمرسوم في شرعة الله ظهرت تلك الحقائق قدرها والله من وراء القصد.

وفي رجعة أخرى إلى الآية انتباهات تالية :

في اختصاص الخطاب هنا بأهل الكتاب لمحة باختصاصهم أكثر ممن سواهم بتلك النعمة الرسولية حيث (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) فإنهم هم المبتلون ببلية التحريف والاختلاف قاصرين ومقصرين ، فهذه لهم بشرى سارّة أن يجيئهم هذا الرسول الذي يبين لهم ـ كما للعالمين ـ كل شيء.

٢٥٨

ثم «من الرسل» جمعا محلّى باللّام تستغرق فترة منهم كلّهم إلّا الذي جاء أخيرا ، فلتكن فترة متصلة بمجيئه ، دون فترة أو فترات سابقة منفصلة عنه ، كما وأن «فترة» منكرّة تشير إلى وحدة هذه الفترة.

ثم هنا (فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) ـ تدل ـ فقط ـ على فترة رسولية ، لا ورسالية حيث الفترتان هما قاضيتان على حجة بالغة إلهية في تلك الفترة ..

فمما لا يريبه شك ضرورة حجة بالغة إلهية رسولية أو رسالية في كل أدوار التكليف ، والجمع أبلغ لانضمام الداعية المعصومة إلى مادة الدعوة الرسالية المعصومة.

فحينما «أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه ..» (٤٤) (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ) (٤٥) (.. وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ..) (٥٠) وذلك بعد طوفان نوح (ع) حينذاك ـ وهو الردح العظيم من الزمن الرسولي والرسالي ـ كانت الأمم تعيش الحجتين البالغتين.

ثم في (فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) عاش المكلفون حجة رسالية محرّفة كان بالإمكان الحصول على أصيل الوحي فيها من الدخيل.

ومن ثم في زمن الرسول محمد (ص) وعترته المعصومين عليهم السلام عاشوا الحجتين كما السابقين قبل الفترة ، وفي زمن الغيبة الكبرى يعيشون الحجة الرسالية البالغة غير المحرفة وهي القرآن العظيم.

وطالما أصل التكليف في أية شرعة ابتلاء ، فالذين عاشوا أكثر من شرعة واحدة كان لهم ابتلاء ثان هو النقلة إلى شرعة أخرى ، والعائشون الفترة الرسولية بين المسيح ومحمد عليهما السلام لهم ثان هو ابتلاء هم بشرعة محرفة ، وهكذا نجد مختلف الابتلاءات إضافة إلى أصل كل شرعة ، مهما اختلفت ألوان هذه الابتلاءات.

ولكنما الحجة البالغة الإلهية القاطعة للأعذار عاشت كافة المكلفين ، مهما

٢٥٩

زادت بإضافة الحجة الرسولية ، أم نقصت بتحرّف الحجة الرسالية ، ولكن أصل الحجة الممكن الوصول إليها محفوظ على مدارات الزمن الرسالي بأسرها دونما استثناء ، مهما كان في الرسالة الأخيرة «إنفاذ أمره ، وإنهاء عذره وتقديم نذره» (الخطبة ٨١ / ١ / ١٢٦) ف «أوصيكم بتقوى الله الذي أعذر بما أنذر ، واحتج بما نهج وحذركم عدوا نفذ في الصدور خفيا» (٨٨١ / ٢ / ١٤٥) ..

وهنا (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) قطع لعذر عدم القوة في البشارة والنذارة لمكان الفترة الرسولية والتحرف الرسالي في هذه الفترة ، فبقاء هذه الفترة هو إبقاء لقاصر الحجة البالغة مهما كان قاطعا للأعذار ردحا من الزمن ، فأما أن تستمر هذه الفترة أكثر مما استمرت أم وإلى يوم الدين فقد كان لذلك العذر من مكان ، ولكن (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) ورسولي إلى مادة مديدة من تلك البشارة والإنذار هي القرآن العظيم.

ذلك ، وكما يقول الله تعالى عن فترة الاختلاف والاختلاق : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ... فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢ : ٢١٣).

فالمختلفون المختلقون والذين اتبعوهم تقليدا أعمى هم ، المقصرون ، والقاصرون هم القاصرون على أية حال مهما اختلف المجال ، ثم (الَّذِينَ آمَنُوا) مهديون بهدي الله لما اختلف المقصرون فيه من الحق.

فرغم التحريفات المتنوعة في كتابات الوحي السالفة ، فهناك في ميدان الإيمان دور دائر للهدى الربانية ، حيث المؤمن ينظر بنور الله والله ضامن هداه.

٢٦٠