الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

إذا فمهما كان الوصول إلى الهدي في زمن الفترة الرسولية والتحريفات الرسالية ، صعبا مستصعبا ، فالحجة البالغة الرسالية فيها باقية مهما كانت صعبة الوصول وشديدة الحصول ، فالابتلاءات الربانية ضروب في مختلف الشرايع والمكلفين والأدوار الرسالية ، ولكلّ قدر سعيه ووعيه.

إذا فلا يعني دور الفترة انقطاع الحجة عن بكرتها حتى تكون للناس على الله حجة حيث الغرقي فيها كثيرة في اللجة.

فالضرورة القائمة على مدار زمن التكليف هي ضرورة وجود الحجة الرسالية سواء أكانت معها رسل أم لا ، وضرورة تواتر الرسل قبل الرسالة الأخيرة ، إنما هي للحفاظ على صالح الرسالة المعصومة غير المنحرفة ، فقد عاشت البشرية أدوارا أربعة غير خالية عن حجة ربانية ، ففي تواتر الرسل وتلاحقهم حفاظ على سليم الدعوة الرسولية والرسالية ، لمكان التبيين لكل التحريفات الكتابية بمنطق الوحي.

ثم في زمن الفترة الرسولية عن بكرتها والفترة الرسالية الظاهرة بتحرّف كتب السماء ، كان الله مع هؤلاء الذين آمنوا (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

ومن ثم في زمن الرسالة الإسلامية ، المنقسمة إلى أدوار ثلاثة ، تجد العصمة الرسالية المتمثلة في القرآن خالدة على مدار الزمن الإسلامي إلى يوم الدين ، مهما اختلفت صور القيادة الرسولية ، عصمة زمن الرسول (ص) وسائر المعصومين عليهم السلام ، وتالية تلو العصمة زمن الغيبة الكبرى ، حيث المدار الأصيل في كل هذه الأدوار الثلاثة هو الثقل الأكبر : القرآن العظيم.

فأين فترة الحجة الربانية عن بكرتها في أيّ دور من أدوار زمن التكليف؟.

٢٦١

وترى حكمة الابتلاء في تبدل الشرائع كيف لا تستمر إلى يوم الدين؟

لأن للابتلاء صورا عدة ، منها تبدل الشرائع وله حد مّا هو التبدل إلى شريعة كاملة كافلة لكل الحاجات إلى يوم الدين وهي شرعة القرآن العظيم ، ففيها ما في الشرائع وزيادة ، ثم فيها ابتلاءات أخرى من أهمها بلية الغيبة الكبرى ، حيث لا تقل عن بليات تبدل الشرائع بالحجج الرسولية لحاضري الرسل.

فقد ابتليت الأمم الرسالية ـ إضافة إلى مشترك الابتلاء في نفس الرسالة ـ بابتلاءات ثلاث متمايزة في شكلياتها ، متحدة في أصولها ، فقد ابتليت شطرا باختلاف الشرائع ، وردحا بفترة من الرسل ، والأخير هو الابتلاء بالغيبة الكبرى بطول أمدها ، فقد انقضى دور الابتلاء بعديد الشرائع وفترة الرسل فابتليت الأمة الأخيرة بالغيبة الكبرى ، ولا تقل عما قبلها من نوعي الابتلاء ، اللهم إلا من ابتلاء الفترة الرسولية.

ذلك ، مهما كان البعض لهم ابتلاء واحد كأصل الشرعة فيمن لم يعيشوا إلا شرعة واحدة رسولا ورسالة ، أم وثانيا لمن عاشوا أكثر من شرعة رسولا ورسالة ، أم وثالثا فيمن عاشوا إلى ذلك زمن الفترة أو زمن الغيبة الكبرى.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ٢٠.

تذكيرات بأنعم النعم الربانية لبني إسرائيل تلحيقا بذكرى لئيمة من واجهاتهم الكافرة اللعينية نكرانا صارخا للرب تبارك وتعالى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ..)!.

وهنا نعمتان : القيادة الروحية : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) وأخرى زمنية (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) تكملان بزاوية ثالثة من مثلث النعمة البارعة : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) من وفرة القيادتين بالطائل الزمني لهما مع طائل

٢٦٢

الكمية والكيفية وما معهما من نعم خاصة منقطعة النظير بين العالمين ، و «العالمين» هنا هو عالمي زمن القيادتين الإسرائيليتين منذ آدم عليه السلام ، حيث القيادة المحمدية (ص) هي أعظم القيادات على الإطلاق في كل الحقول والحلقات.

فمن ملوك بني إسرائيل روحيا رساليا وزمنيا يوسف وداود وسليمان عليهم السلام ، ومنهم زمنيا طالوت ، ومنهم روحيا سائر رسلهم مهما كانت لهم سلطات زمنية جزئية.

ف (جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) جعل خاص للنبوات الإسرائيلية مهما شملت قيادات زمنية ، و (جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) تعم كافة السلطات الإسرائيلية بدرجاتها ومختلف ظروفها ، فكل شخص يملك نفسه ولا يملك هو ملك ، وإذا ملك غيره فهو أملك حتى يملك طليق الملك على كافة الناس أم ومن سواهم.

فقد تعني «ملوكا» هنا جمع الملك والمالك ، أم إن الملك أعم من المالك مهما اشتهر في الملك الخاص.

وهنا (جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) دون (جَعَلَ فِيكُمْ) دليل شمول الملك للمرسوم المعروف وغيره ، حيث أخرجهم الله من أسر السلطة الفرعونية فملكوا أنفسهم بعد ما كانوا مملوكين لا دور لهم ولا كور ، وأصل الملوكية هو الحرية الشخصية ، ومن ثم أن يملك الحر ما سواه ومن سواه ، روحيا أو زمنيا أم كليهما.

إذا فقد تعم (جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) مثلث الملك ، شخصيا أم جماعيا ، روحيا أو زمنيا(١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٦٩ عن النبي (ص) قال : كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا ،وفيه عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله (ص): من كان له بيت وخادم فهو ملك.

٢٦٣

ذلك ، وقد تسمي القيادة الروحية ملوكية كما (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) ثم (جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) تشمل ملوكهم الخصوص كيوسف وسليمان ، فهي قرينة قاطعة على أن ليس المعني من (جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) الملوكية المرسومة الزمنية ، فكيف يصح خطابهم ككلّ ب (جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) والملوك الرسميون فيهم منذ يعقوب إلى المسيح عليهم السلام لم يكونوا إلّا نذرا قليلا والأنبياء كثير ، فلو عني الملوك الرسميون لكان حق التعبير «وملوكا» عطفا على (جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) ، دون (جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) الشاملة لهم كلهم!.

هذا ، فأنعم النعم الروحية لهم تبدل السلطة الخانقة الفرعونية عليهم بالسلطة الرسالية ، وتبدلهم عن تلك العبودية والرقية الذليلة بأن ملكوا أنفسهم ، حيث السلطة العادلة لا تستعبد الشعوب وتستخدمهم بل هي المستخدمة لهم وتجعلهم أحرارا في مسير الصلاح ومصير الإصلاح ، فالشعب الفاقد للحرية الصالحة تحت القيادة الصالحة هو أفقر شعب وأقفره ، والذي يملك الأمرين هو أغنى شعب وأعمره وأبهره ، ومالك أحدهما هو عوان بينهما ، والمحور الأصيل بين هذه الأمرين هو الحرية الصالحة والقيادة المصلحة حيث تصلح لصالح هذه الحرية.

ذلك ، وقد ينعم المكلفون كافة بأرقى النعم المحلقة على كافة حيوياتهم زمن صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه.

أجل (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) بعد أن «اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب ، وجرعوهم المرار ، فلم تبرح الحال بهم في ذلك الهلكة وقهر الغلبة» (١).

بنو إسرائيل هنا يذكرون ببارع النعم الربانية عليهم حتى يلينوا لأمر الله

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٩٠ / ٣ / ٣٦٩.

٢٦٤

دخولا في الأرض المقدسة التي لهم فيها سيادة أخرى رجوعا إلى عاصمة الرسالة الإسرائيلية.

وقد يحلق هذان الجعلان منذ يعقوب حتى الزمن الأخير من الرسالة الإسرائيلية ، أم يخصان منذ يعقوب حتى موسى عليهما السلام فأضيق دائرة بكثير.

إن السلطة الروحية والسلطة الزمنية والحرية الشخصية والجماعية هي من النعم الناعمة التي اختص بها بنو إسرائيل بين العالمين ، أن جعل من اللّاشيء لهم كل شيء ، ومن كل ذل وهو ان تحت نير الذل الفرعوني (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ..)!

إذا فأحرى بهم أن يطيعوا أمر الله فيما يرجع إلى عودهم إلى عاصمة الرسالة الإسرائيلية : الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ، ولكن إسرائيل هي إسرائيل ، المجبولة على جبلة الجبن والتمحّل والأريحية والنكوص على الأعقاب والارتداد على الأدبار وإساءة الأدب مع الرسل ومع الله تعالى!.

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) ٢١.

(الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) ما جاءت في القرآن إلّا هذه المرة بنفس الصيغة ، وهي القدس المبارك ، ولا نعرف من قدسيتها وبركتها إلا ما عرفنا الله (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) (١٧ : ١) ـ (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) (٧ : ١٣٧) والبركة العظمى هي الروحية المتمثلة في الأنبياء الذين بعثوا فيها ودفنوا ، إذا فهي المباركة بقدسية العاصمة الرسالية ومنطلقها إلى ما حولها من القرى ، وكما في مكة المكرمة ـ وهي أعلى من القدس ـ (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها).

تلك (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أنتم ، وهي محتلة بأيدي

٢٦٥

الوثنيين ، وهذه الكتابة كتابة تشريعية وأخرى تكوينية شرط المحاولة المستطاعة ، لا تكوينية طليقة وإلا لما احتلت رغم كتابة الله ف (ادْخُلُوا ... وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) خوفة من المحتلين (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) حاسرين عن إيمانكم تشككا في أمر الله وارتداد عنه ، أو وعن بغيتكم المكتوبة لكم ، وكما انقلبوا تائهين في التيه أربعين سنة والآية تحتمل المعنيين ، والارتداد على الأدبار منه ـ وهو أهمه ـ الارتداد عن الدين شكا بعد اليقين ، فتكونوا كالمقهقر الراجع والمتقاعس الناكص.

فكتابة دخول الأرض المقدسة تكوينيا هي مشروطة بتحقيق الكتابة الشرعية ، فلما تخلفوا عن دخولها كما أمروا تخلف عنهم الدخول وهذا هو المعني من البداء في دخولهم (١) هؤلاء ثم القضاء لدخول أبناءهم وذراريهم فإنه من المكتوب (٢) كما (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٢٨ : ٦) وقد عرّفهم موسى من شرط تحقيق هذه الإراءة الربانية : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (٧ : ١٢٩) ـ (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٠٦ عن تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله انه سئل عن قول الله (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قال : «كتبها لهم ثم محاها ثم كتبها لأبنائهم فدخلوها (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)

أقول : الكتابة الممحوة هي مجموعة التشريعية والتكوينية إذ لم يقوموا بشرائطها ثم أثبتها للقائمين بشروطها ، والكتابة هي للأمة الإسرائيلية ولم يكن التحريم إلا لردح من الزمن ثم أحلت ، سواء للذين بقوا من المخاطبين أولا أم غيرهم.

(٢) في سفر تكوين المخلوقات للتورات ١٢ : ٧ ـ أنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب «وقال لنسلك أعطى هذه الأرض».

٢٦٦

فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) (٧ : ١٣٧) والكلمة الحسنى هي : (.. ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ..) تحقيقا حقيقا لذلك الدخول بشرطه الصالح الفالح.

ثم وهذه الوراثة والكتابة لهم بعد شرط الله فيهما شرط بقاء شرعة الله هذه التوراتية ـ فليست لهم بعد نسخها كما نسخت بالقرآن والله وعد أهل القرآن بدخول القدس مرتين عند إفساديهم العالميين ، بعد المرة الأولى بداية الإسلام ، فهم ـ إذا ـ لا يملكون الأرض المقدسة على مدار الزمن إلا في ردح الرسالة الإسرائيلية ، وشرط شروط مسرودة.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) ٢٢.

نراهم هنا يخافون من جبارين ظالمين في الأرض المقدسة ولا يخافون من التخلّف عن أمر الجبار العدل الحكيم ، بل ويحيلون طاعتهم له : (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) اللهم إلا إذا خرج منها جبارون دون محاربة ، وهذه الأريحية الحمقاء كانت منهم غباء وبلاء فأدخلتم في التيه أربعين عاما.

ذلك ، وقد فسر لهم رجلان من الذين أنعم الله عليهما أمر الدخول الإمر في حسبانهم :

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ٢٣.

هنا «يخافون» تحتمل إلى خوفهم من الله خوفهم من جبارين فيها قضية حذف المتعلّق فلو كان ـ فقط ـ الله لذكر ، أم الجبارين لذكروا ، ثم سابق ذكر جبارين يدخلهم في نطاق خوفهم ، ولاحق ذكر (أَنْعَمَ اللهُ) يضيف إلى خوفهم خوف الله ، فقد امتاز هذان الرجلان من الذين يخافون الجبارين أن

٢٦٧

كانوا يخافون الله ويرجون ألّا يخافوا إلّا الله ، فأنعم الله عليهما من بينهم أن حصرا خوفهما بالله.

فجعلهما لا يخافان مع الله أحدا ، ف «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء» وقد يعني «يخافون» الخوف من العمالقة الجبارين ولكنهما يمتازان عمن سواهم أن (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بخوف من الله يتغلب على خوفهما منهم ، أم أصبحا لا يخافان هؤلاء ، فإنما يخافان الله.

وقد يصحّ عدّهما من النقباء الإثني عشر من بني إسرائيل السابق ذكرهم ، فإذا قد تعني (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) هؤلاء النقباء الخائفين الله دون سواه ، (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) من بينهم بنعمة خاصة ، أو أنعم الله عليهما معهم حيث الكل «يخافون» الله لا سواه.

ذلك ، و (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) صفة لها بعد صفة ، فهما رغم أنهما (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) قد (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) فقلّ خوفهم عن الجبارين أم زال ، ولم يكونوا من القائلين الغائلين (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها ..) بل هما من الذين يخافون ككل ، ولكنه خوف تغلبت عليه نعمة الله.

وهنا أقل محتد روحي للرجلين أنهما من الصالحين الكمّل ، وقد يحتمل كونهم من الشهداء أو الصديقين (١) أو النبيين حيث هم من المنعم عليهم : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩).

ولكن «رجلان» و (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) قد تبعدانهم عن منصب

__________________

(١) مما قد يصدق أنهما كانا من الصديقين من خلفاء موسى (ع) ما في نور الثقلين ١ : ٦٠٦ عن تفسير العياشي عن أبي جعفر عليهما السلام (قالَ رَجُلانِ) أحدهما يوشع بن نون ووكلا بن ياخثا (كالب بن يافنا) وهما ابن عمد.

٢٦٨

النبوة ، ثم ولا نعرف نبيّا مع موسى غير هارون ، فهما على أية حال كانا في قمة من قمم الإيمان والتكلان على الله في مثل ذلك الموقف الحرج المرج ، بذلك الأمر الرشيد الجريء الإمر : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) : إذا دخلتم باب البلدة المقدسة انهزموا فلا يبقى منهم نافخ نار ولا ساكن دار.

وذلك درس يحلّق على كافة الأمثال لهذه الهجمة المؤمنة المتوكلة بأمر الله ، فصاحب الحق وقد احتل مركزه والله يأمره أن يأخذ حقه ، إنه بطبيعة الحال يتأكد نجاحه في مثل هذه الهجمة القوية ، فلو أنهم لا ينجحون لاستحال على الله أمرهم بالدخول في الأرض المقدسة وقد كتبها الله لهم : ضابطة ثابتة في علم القلوب وتكتيك الحروب : أقدموا واقتحموا ، فمتى دخلتم على القوم في عقر دورهم انكسرت قلوبهم وضعفت معنوياتهم قدر ما تقوى قلوبكم وتعلو معنوياتكم ، فهم يشعرون بهزيمة عظيمة تفشل بها طاقاتهم مهما كانوا جبارين (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ذلك ولمجرد الهجمة المفاجئة وإن كانت بدائية ظالمة ، لها دورها في الغلبة ، فضلا عما هي دفاعية لاسترجاع حق مغتصب ومن مؤمنين بالله وهي بأمر الله.

وإذا كانت الحروب النارية هكذا قضية انحلال الشخصية والتصميم من المهاجمين ، فما ذا ترى الحروب الباردة في حقول الحجاج اللجاج ، فلا ريبة في تغلّب صاحب الحق على صاحب الباطل ، ولا سيما حين يقدم المبطل في عرض دعواه فيهاجمه المحق في أسود نقطة من نقط باطله ، فيتهدر المبطل عن بكرة أبيه.

ففرق بين أن يأمر الله بالدفاع أو الجهاد دون ضمان للغلبة حيث الحرب سبحال ، وبين أن يأمر بالدخول في الأرض المقدسة المحتلة وقد كتبها الله لهم.

٢٦٩

ففي مثلث (كَتَبَ اللهُ .. ادْخُلُوا .. وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) يكون النجاح مضمونا دون ريب ، فلا يكفي الدخول إلّا بأمر الله وكتابة النجاح فيه ، ثم لا تكفي الكتابة والدخول إلّا بالتوكل على الله ، فقد «جعل التوكل مفتاح الإيمان والإيمان قفل التوكل ، وحقيقة التوكل الإيثار وأصل الإيثار تقديم الشيء بحقه ، ولا ينفك المتوكل في توكله من إثبات أحد الإيثارين فإن آثر معلول التوكل وهو الكون حجب به ، وإن آثر علة التوكل وهو الباري سبحانه بقي معه» (١).

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ٢٤.

وذلك أسوء تعبير عن القدير اللطيف الخبير أن (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) كأنه ـ فقط ـ ربه لا وربهم ، ثم وهو بحاجة إلى مناصرة في مقاتلة الجبارين ، مما يدل صارخة أنهم لمّا يؤمنوا بالله وحتى قدر إيمان المشركين به ، المعترفين بأنه رب السماوات والأرض وله الملك! ولأنهم كانوا من المشبهة المجسمة كما هو صريح آيات اختلقوها في التورات ك «إن إسرائيل صارع الله فصرعه فأخذ بركة النبوة لنفسه عوضا عن العيص ثم خلص الله بهذه المعاوضة» أو «إن الله كان يمشي في الجنة قائلا : يا آدم يا حوا أين أنتما حيث لا أراكما» أمّا ذا من تجسيم جسيم حسيم لساحة الربوبية المقدسة!.

ويا له من تخاذل أمام الجبارين عن نصر الحق وتوهين الباطل ، وتجاهل أمام الله ، فدخولا في التيه.

وهكذا يكون دور المتخاذلين هودا أو نصارى أو مسلمين دون اختصاص

__________________

(١) مصباح الشريعة قال الصادق (ع) في كلام طويل وقال عز وجل (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) جعل ...

٢٧٠

بطائفة دون أخرى وكما خاطب علي أمير المؤمنين (ع) أضراب هؤلاء اليهود قائلا :

«أيها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقو من قوي عليكم لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل ولعمري ليضعفن لكم التيه من بعدي أضعافا خلفتم الحق وراء ظهوركم وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد» (١).

فنفس الهجوم على العدو ولا سيما بطمأنية الإيمان وأمر الله وضمانه للغلبة ، ذلك مظهر من مظاهر القوة القاهرة للداخل المهاجم ، فيهابه المهاجم عليه مهما كان أقوى منه ، فإنه يزدادك قوة وينقصه عن قوته ، فالضربة الأولى هي القاضية على المضروب ، سادّة عليه كل الدروب للفرار عن النكسة ، أو القرار للتغلب.

وهكذا يكون دور الحجاج أن الغلبة الأولى قاضية وإن لم تكن حقة فضلا عن الحاقة.

فعلى المحاور المحق أن يقدم في حواره أقسى الضربات حتى يربح أقصاها ، ومن تلتيكات الحوار الناجحة أن تصغي إلى محاورك فتعرف كل ما عنده من حجة ، ثم تبتدر في الإجابة عنه أضعف نقطه فتركز عليها بضربة قاسية قاضية ، وبذلك تنجح على مدار الحوار.

فشكلية الحوار هي قد تكون أهم من مادتها ، والجمع بينهما كأحسنهما وأقواهما أجمع وأقوى في النضال ، وكما تعرّفنا إلى كل صنوف الجدال على أضواء القرآن في سرده محاورات الله وأنبياءه.

ذلك الجهل الكافر والتخلف العاهر من بني إسرائيل ونحن نقول يا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٠٩ عن نهج البلاغة للسيد الشريف الرضي عنه عليه السلام.

٢٧١

رسول الهدى محمد (ص) : لا نقول كما قالت بنو إسرائيل .. «والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك» (١).

وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر المستنفرة فرت من قسورة ، بل يريد كل امرئ منهم أن يخدمه الله ورسوله وهم في أريحيتهم عائشون.

وهذه هي نهاية المطاف بموسى في رسالته المليئة بالعقبات والعقوبات والنكرانات واحتمال كل الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل ، نكوصا عن الأرض المقدسة ، وارتدادا إلى أدبار الجاهلية والوخزة الفرعونية ، فما ذا يصنع ـ إذا ـ بهؤلاء وقد وصل النكران إلى ذلك الحد القاحل الجاهل؟.

ماذا؟ إلّا أن يلتجئ إلى ربه داعيا ملتمسا أن يفرق بينه وبينهم وقد فعل :

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ٢٥.

دعوة مليئة بالآلام والأسقام مع الاستسلام ، دعوة الفراق بينه وبين

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٧١ ـ أخرج أحمد والنسائي وابن حبان عن انس أن رسول الله (ص) لما سار إلى بدر استشار المسلمين فأشار عليه عمر ثم استشارهم فقالت الأنصار يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله (ص) قالوا «لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها ...».

وفيه عن ابن مسعود قال لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما عدل به آتى رسول الله (ص) وهو يدعو على المشركين قال والله يا رسول الله (ص) لا نقول كما قالت بنو إسرائيل ... ولكن نقاتل عن يمينك وعن ياسرك ومن بين يديك ومن خلفك فرأيت وجه رسول الله (ص) يشرق لذلك وسر بذلك.

٢٧٢

هؤلاء اللئام ، فإلى من يشكو حاله إلّا إلى الله الملك العلّام ، يشكو بثه وحزنه ونجواه إلى الله حيث يعلم من الله ما لا يعلمون ، إنه لا تربط بهم بعد ذلك النكول الكافر أية رابطة صالحة ، لا نسب ولا تاريخ ولا جهد سابق ، فإنما الرباط فيما بين كان الدعوة إلى الله وقد فشلت وشلّت ، متقطعا عنهم من كل وشائج الأرض حين تنقطع العقيدة الصالحة ، فما هي الجدوى ـ إذا ـ في كونه معهم ولم يعمل فيهم طائل الزمن الرسالي إلّا بعدا ، اللهم إلّا قلة قليلة منهم.

وترى ماذا عنى موسى (ع) من (لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي)؟ وهناك معه رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ومعهما سائر النقباء وسواهم من الذين يخافون ، وقد أدوا رسالة موسى في هذه الحالة المحرجة؟.

فهل نتوسع في «أخي» أنها جنس الأخ ، شاملة لإخوته في الإيمان إلى أخيه هارون في النسب والرسالة؟ وصالح التعبير عن هذه الجمعية «إخوتي»!.

أم «لا أملك» في نفاذ الدعوة الرسالية على ضوء الولاية المطلقة الشرعية إلّا نفسي وإلا أخي؟ فكذلك الأمر! حيث نفذت في الذين يخافون وأنعم الله عليهم : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٧ : ١٥٩) وذلك في زمن موسى (ع) حيث يتلوها (... وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى ..).

أم «لا أملك» أنا «إلّا نفسي» في تطبيق أمرك «و» لا يملك كذلك «أخي»؟ فكذلك الأمر! إضافة إلى أن صالح التعبير ـ إذا ـ «إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا»! مع أنهما ملكا أمر الولاية الشرعية وقد أثرت فيمن أثرت.

(إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) قد تعني ملك تطبيق الرسالة في هؤلاء الفاسقين ، فله ملك الرسالة الأصلية ولأخيه ملك الرسالة الفرعية ـ وهو

٢٧٣

الولاية المطلقة الشرعية الرسولية ـ تحت ملكته الرسالية ، ثم «لا أملك» هنا نسبية أمام هؤلاء الفاسقين ، وأما ملك هذه الرسالة بالنسبة للمؤمنين القلة معه فهو أمر واقع لا مردّ له كما في نص الآية (رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ ..) فقد يعني بقوله أني وأخي نفضنا أيدينا عن بلاغ الرسالة كما أمرنا ، وهنا «لا أملك» مضارعة تعني حاله ومستقبله دون ماضيه حيث أثرت دعوته مهما كانت في قلة قليلة ، فلأن الرسالة لا تعني بدورها إلّا تحقيقها وقد تحققت في هؤلاء القلة ، ثم تجمدت أمام هؤلاء الكثرة الفاسقة فلا طائل ـ إذا ـ نحت تبقية الرسول وقد نفض يديه عن الوحي بلاغا وإبلاغا ، ثم لا يرى لاستمرارية بلاغه بينهم إلّا مزيدا لفسقهم أو كفرهم ، وهكذا تكون أدوار الحياة الرسولية أن الرسول حين ينفض يديه عن كامل الوحي الرسولي بلاغا وإبلاغا ثم لا يرى بعد فترة تأثيرا في دعوته ، أن بقاءه بعد فيهم ليس تحته طائل ، إذا يصح دعاءه : (فَافْرُقْ بَيْنَنا) أنا وأخي كرسولين ، وسائر المؤمنين نقباء وسواهم كأعضاد هذه الرسالة ، (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، إذ كلت الدعوة وما أثرت إلّا نكوصا ونكولا ، وما خلفت فيهم إلّا نكالا ، فلا تعني «فافرق» طلبا لفرقه عن أصل الرسالة أم عن دعوتها ، بل هو تطلب لموته أمّا أشبه بما يخلصه عن هذه الورطة ، ولكن الله ـ حسب المفهوم من آيات لم يستجب دعاءه في موته إن كان هو المطلوب ، بل حوّل استجابته إلى تحريم الأرض المقدسة عليهم كأصل ، وتحريم سائر البلاد عليهم كفرع فلقد راعى موسى الأدب الرسالي فلم يترك الحوزة الرسالية خلافا ل (ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ..) بل التجاء إلى الدعاء : «فافرق» دون تعيين لمصداق له تأدبا ، فاستجابه الله في فرق صالح بينه وأخيه ، وبين القوم الفاسقين في (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) لا وعليهما ، فقد كانا يزوران القدس خلال هذه الأربعين.

فالمطلوب في دعاءه هو فرق ما ينجيه من ذلك الفرق وقد نجاه الله بفرق صالح دونما موت أو عزل له عن الرسالة أم دعوتها ، ونفس ذلك التيه فيه ما

٢٧٤

فيه من فرق فيه لهم فرق يرجعهم عما كانوا فيه من طيش ، عذاب فارق بينهم وبينهما ، ومن ثم فارق الموت بعد دخولهم في الأرض المقدسة ، كما فرق بينهما وبين جمع منهم ماتوا في التيه.

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)٢٦.

هل «قال» الله إجابة لدعوته (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ..) وهذا فراق بينهم وبين الأرض المقدسة دونه وإياهم وقد تطلب (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)؟ ، علّ الفاء في «فإنها» إشارة إلى تحريمها عليهم عقوبة وهي كافية في الحكمة التربوية ، وأما «فافرق» فلا تصلح الفراق بين رسول ومرسل إليهم إلّا بموتهم أو موته ، وهل مات موسى (ع) في التيه (١) بعد ما عاش معهم ردحا فيه فخلفه يوشع بن نون في رسالته (٢) إذ مات خليفته الأولى هارون قبله ، وقد يروى أن قبر موسى قذفة حجر من الأرض المقدسة (٣)؟ ذلك لا تناسب الآيات التالية ولا سيما «أدخلوا مصرا ..».

وترى ما هي وأين هي أرض التيه؟ إنها بطبيعة حال خروجهم عن مصر

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٠٨ في الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال قال رسول الله (ص) مات داود النبي (ع) يوم السبت مفجوعا فأظلته بأجنحتها ومات موسى عليه السلام في التيه فصاح صائح من السماء مات موسى وأي نفس لا تموت؟.

(٢) المصدر في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بأسناده إلى أبي حمزة عن أبي جعفر عليهما السلام حديثا طويلا يقول فيه : ان الله تبارك وتعالى أرسل يوشع بن نون إلى بني إسرائيل من بعد موسى بنبوته بدؤها في البرية التي تاه فيها بنو إسرائيل.

(٣) الدر المنثور ٢ : ٢٧٢ ـ أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال لما استسقى موسى لقومه أوحى الله إليه أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فقال لهم موسى ردوا معشر الحمير فأوحى الله إليه قلت لعبادي معشر الحمير وإني قد حرمت عليكم الأرض المقدسة قال يا رب فاجعل قبري منها قذفة حجر فقال رسول الله (ص): «لو رأيتم قبر موسى لرأيتموه من الأرض المقدسة قذفة بحجر».

٢٧٥

تجاه الأرض المقدسة هي بينهما وقد تاهوا فيها ، ونحن تائهون في تعايشهم أربعين التيه اللهم إلّا ما بينه الله لنا من ماءهم فيه وغذاءهم وتظليل الغمام عليهم : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٧ : ١٦٠) ـ (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ..) (٣ : ٦١).

فهكذا يدخلون مصرا وعلّها الأرض المقدسة التي كتب الله لهم : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (٧ : ١٦٢).

ذلك ، وقد تلمح (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أنه أسى على؟؟؟؟ أربعين سنة ، إذ ما كان يخلد بخلده أن الله يستجيبه هكذا ، فإنما فرقا بينه وبينهم ، لا جمعا في تيه العذاب ، اللهم إلّا ردحا منه قليلا يسقي قومه بما ضرب عصاه الحجر وما أشبه.

ولأن موسى وهارون والنقباء الاثنى عشر ومعهم المؤمنون كانوا مع القوم في التيه فقد يبرز هذا السؤال ، كيف يستجيب الله دعاء موسى على نفسه كما على قومه؟.

٢٧٦

والجواب أن تيه الأربعين كان عليهم عذابا لم يسأله موسى ، ولم يكن له عذابا إذ لم يكن دخول الأرض المقدسة محرما إلا عليهم (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) ثم الله سهل على رعيل الإيمان ما لم يسهل على الفاسقين ، ومنه لموسى (ع) تظليل الغمام وانفجار العيون بما ضرب موسى عصاه ، وإنزال المن والسلوى ، آيات ثلاث ربانية كانت لصالح الرسالة الموسوية علّهم يؤمنون.

فأما دعاءه «فافرق ..» فقد فرق الله بينه وبينهم بموته دون عزله عن الرسالة فإنه عضل ، ولا فرقه عنهم حيا فإنه انعزال لا يجوز في سنة الرسالة مهما كان المرسل إليهم عزّل عن الإيمان وعضّل ، ومن الفرق هو فارق العذاب لهم في التيه دونه وهارون والمؤمنين معهما.

والقول إن الله فرق بينهم وبين القوم فور دعاءه قبل التيه ، تيه في القول حيث كان انبجاس العيون وتظليل الغمام وما أشبه ، آيات ربانية بيد موسى (ع) وهم في التيه ، إذ لا حاجة إلى ذلك الاستسقاء الجمعي وتظليله إلّا في التيه.

فلقد تاهوا في تلك التيهاء لا يهتدون من أي إلى أي ، وقد لا تعني (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) حرمة تعبدية إذ هم لم يكونوا يتعبدون بسلب ولا إيجاب ، بل هي محرمة عليهم حتى إن لم يكن فيها جبارون حيث أتاهم الله عنها فظلوا في التيه إذ ضلوا عن الأرض المقدسة فيه والله أعلم بما في التيه ومن فيه ، بسالبه ومنفيه.

هذا ما يقوله القرآن عن سبب التيه في التيه ، وإليكم نصا من التوراة نائها في سبب التيه : «فقال الرب لموسى وهارون من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياه. هذا ماء مريبة حيث خاصم بنو إسرائيل الرب فتقدس فيهم» (سفر الإعداد ٢٠ : ١٢ ـ ١٣).

٢٧٧

ذلك ، ولم يسبق هذا النص المزري بحق الرسولين الكريمين إلّا قصة إخراج الماء من الحجر بأمر الله حيث ١٠ «قال لهم اسمعوا أيها المردة. أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء.١١ ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين فخرج ماء غزير. فشربت الجماعة ومواشيها. فقال الرب ...».

وحصيلة المعني من دعاءه (ع) باستجابته أن الله حرم عليهم الأرض المقدسة أربعين سنة ، وليس على موسى وهارون وسائر المؤمنين ، فقد يلمح أنهما مع هؤلاء كان لهم الدخول إلى الأرض المقدسة خلال الأربعين على أية حال حتى إذا دخلوا مصرا.

إذا فلم يكن موت موسى (ع) في التيه ، ولم تكن استجابة دعاءه في الفرق بينه وبينهم إلّا بفارق عذاب التيه حيث قال (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) دون «عليكم».

وهكذا تكون أدعية الصالحين ، غير جازمة فيما يطلبون ، وإنما حسب المصلحة الربانية ، ولم يكن لحاضر موسى من العقدة إلا (لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) وبناء عليه (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) وقد فرق بينهما وبينهم بما فرق.

فهنا في «فافرق ..» المتفرعة على (إِنِّي لا أَمْلِكُ ..) احتمالات عدة :

١ «فافرق» بعزلي عن هذه الرسالة؟ وتطلّب العزل عضل من رسول معصوم وفرية جهل على الله تعالى كأنه جهل صلاحية هذه الرسالة فليعزله عنها حين لا يملكها!.

٢ «فافرق» بتركي حوزه المسئولية في هذه الرسالة ، انعزالا عن هؤلاء المرسل إليهم إلى عزلة خالية عن الدعوة؟ وتطلّب الانعزال لا يناسب (عُذْراً أَوْ نُذْراً) في الرسالات كلها ، ولقد ظلم ذا النون (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ..) حيث ترك حوزه الدعوة دونما استئذان من الله!.

٢٧٨

٣ «فافرق» بموتي حيث تم الوحي الرسالي وطم الإنذار فلا طائل بعد تحت هذه الرسالة؟ ولا طائل تحت هذا الطلب ممن يعلم مدى صالح الدعوة الرسولية!.

٤ «فافرق» بموتهم؟ وهكذا الأمر! وعلّ فيهم من يؤثر فيه كرور الدعوة.

٥ «فافرق» بفارق العذاب الذي هو قضية ذلك التخلف المتواتر المتواصل منهم فلا تشملني وأخي والمؤمنين بذلك العذاب.

٦ «فافرق» كما تراه صالحا؟ وهذا هو الأدب الرسولي السامي المرجو من مثل موسى (ع).

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وليس قضية خصوص هذه الحرمة أن يمنعوا عن بلاد أخرى غيرها ، ولكن (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أتاهتهم عن غيرها كما عنها ، والتيه عذاب أليم أيا كان ، ولا سيما في غير بلد وهم في الصحراء وليس لهم إلّا طعام واحد وجوّ واحد ، كلما يحاولون الوصول إلى مصر لا يسطعون فإن «يتيهون» إخبار عن واقع لا مرد له.

حول التيه وما ورد فيه :

أتراهم وهم في التيه ما حاولوا أن يدخلوا الأرض المقدسة أم غيرها من البلاد ولماذا وهم حائرون بائرون من تيه التيه؟.

(فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) تعني حرمة واقعية إلى حرمة شرعية فلذلك لم يسطعوا أن يدخلوها ، ثم (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) نبأ عن واقع حرمانهم عن الدخول في أية بلدة إلا أربعين التيه ، وقد ورد فيه من الآثار والأخبار ما فيه ما فيه ، اللهم إلا ما يوافق الواقع المعقول المقبول ، الذي يتلقاه المؤمن العاقل بالقبول (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ١٣ : ١٧٦ عن أبي جعفر عليهما السلام قال : لما انتهى بهم إلى الأرض ـ

٢٧٩

__________________

ـ المقدسة قال لهم : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) قالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ، قالَ رَبِّ ...) فلما أبوا أن يدخلوها حرمها الله عليهم فتاهوا في أربعة فراسخ أربعين سنة (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ...) قال (ع) : وكانوا إذا أمسوا نادى مناديهم : أمسيتم الرحيل فيرتحلون بالحداء والرجز حتى إذا أسحروا أمر الله الأرض فدارت بهم فيصبحون في منزلهم الذي ارتحلوا منه فيقولون : قد اخطأتم الطريق ، فمكثوا بهذا أربعين سنة ونزل عليهم المن والسلوى حتى هلكوا جميعا إلا رجلين : يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وأبناءهما وكانوا يتيهون في نحو من أربعة فراسخ فإذا أرادوا أن يرتحلوا ثبت ثيابهم عليهم وخفافهم ....

وفيه (١٨٠) عن أبي جعفر عليهما السلام ... وكانوا ستمائة ألف ... وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام عن قوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ...) قال : «كتبها لهم ثم محاها» وعن أبي عبد الله (ع) إن بني إسرائيل قال لهم (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) فلم يدخلوها حتى حرمها عليهم وعلى أبناءهم وإنما دخلها أبناء الأبناء.

وعن إسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله (ص) قال قلت له : أصلحك الله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ...) أكان كتبها لهم؟ قال : «أي والله لقد كتبها لهم ثم بدا له لا يدخلوها» وعنه (ع) قال : «كتبها لهم ثم محاها ثم كتبها لأبنائهم فدخلوها والله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، وعنه (ع) فحرمها الله عليهم أربعين سنة وتيههم فكان إذا كان العشاء أخذوا في الرحيل ونادوا الرحيل الرحيل الوحي الوحي ، فلم يزالوا كذلك حتى تغيب الشفق حتى إذا ارتحلوا واستوت بهم الأرض قال الله للأرض : ديري بهم فلم يزالوا كذلك حتى إذا أسحروا وقارب الصبح قالوا : إن هذا الماء قد أتيتموه فأنزلوا فإذا أصبحوا إذا أبنيتهم ومنازلهم التي كانوا فيها بالأمس فيقول بعضهم لبعض يا قوم قد ضللتم وأخطأتم الطريق فلم يزالوا كذلك حتى أذن الله لهم فدخلوها وقد كان كتبها لهم».

وفيه عنه (ع) يقول : نعم الأرض الشام وبئس القوم أهلها وبئس البلاد مصر أما إنها سجن من سخط الله عليه ولم يكن دخول بني إسرائيل مصر إلا من سخط ومعصية منهم لله لأن الله قال : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يعني الشام فأبوا أن يدخلوها فتاهوا في الأرض أربعين سنة في مصر وفيا فيها ثم دخلوها بعد أربعين سنة ، قال : «وما كان خروجهم من مصر ودخولهم الشام إلا من بعد توبتهم ورضى الله عنهم».

وفيه عنه (ع) في الآية قال : «كان في علمه أنهم سيعصون ويتيهون أربعين سنة ثم يدخلونها بعد تحريمه إياها عليهم».

٢٨٠