الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

المسلم قضية إسلامه ، ولو كان الإسلام شرطا في الذابح لعدّ في عديد الشروط كذكر اسم الله ، أم عدت ذبيحة غير المسلم في عديد المحرمات ، دون اكتفاء بالإشارة الضمنية غير المتأكدة حيث يحتمل الخطاب عديد المحتملات.

ثم المسلم هو الملتزم بالتذكية إدراكا لحياة الذبيحة حتى يذبحها بالشروط الشرعية ، ومصبّ الاستثناء هنا هي المذكورات من ما أهل لغير الله به والمخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، فكما المشرك لا تهمه التذكية ، كذلك الكتابي ولا سيما المسيحي.

إذا فلم يثبت اشتراط الإسلام في الذابح من كتاب أو سنة ، فتدخل ذبيحة الكتابي الآتي بشروطها في نطاق آية الطعام (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ..) ولم يستثن في أحاديثنا إلّا ذبيحة الكتابي لأنه لا يذكر الاسم ، ثم الآيات المطلقة في حل ما ذكر اسم الله عليه دليل ثان ، ومن ثمّ فحين نشك اشتراط الإسلام في الذابح ولا دليل عليه ، فالأصل عدمه ، وأصالة عدم التذكية هنا غير واردة لظاهر الدليل كتابا وسنة.

ومما يكفي خصوصية الإسلام عن «ما ذكيتم» (أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) فهل المستقسم بالأزلام محرم إذا كان المستقسم مسلما؟.

فالحصر في (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) حصر لطليق التذكية ، لا وفاعلها كما في (أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) ولو كان الكفر مانعا لذكر في المستثنى منه ، ثم (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وليس (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) تفصيلا لحرمة ذبائح غير المسلمين ، ولئن ترددنا في عناية اشتراط الإسلام من الآية فالآيات الأخرى ظاهرة كالنص في عدم الاشتراط متأيدة بتواتر الروايات (١) وليس خطاب المؤمنين ب «ذكيتم» إلا لأنهم هم

__________________

(١) فهنا ١ أحاديث مطلقة في المنع عن ذبائح أهل الكتاب وهي ٢٦ حديثا.

٦١

الذين يراعون شروطات الذبح ، ثم عموم التكليف لكل المكلفين ، وأن الكفار مكلفون بالفروع كما هم مكلفون بالأصول ، يطلق هذا الخطاب عن خصوص المؤمنين ، وهذه المحرمات تحلق على كافة المكلفين ، فلتشملهم كل هذه الخطابات مهما اختصت في ألفاظها بالمؤمنين لأنهم هم المستجيبون إياها.

ذلك وأما ذبيحة المسلم المعادي ناصبا وسواه فهي حل ما هو مسلم ويسمي ، والموثقان (١) في عدم حلها غير موثقين لمخالفة الكتاب فإن «ذكيتم» تخاطب المسلمين ككل وأنه ليس أشر من أهل الكتاب.

٥ هل يجوز قطع الرأس في الذبح أو النحر ، وعلى حرمته فهل تحرم الذبيحة أم لا؟ ظاهر النهي في صحاح عدة (٢) الحرمة متعمدا ولا دليل على حرمة أكلها إذا قطع رأسها متعمدا.

__________________

ـ و ٢ مطلقة في الجواز وهي ٣١ ـ ٤١.

و ٣ مفصلة بين ما ذكر اسم الله عليه فجائز وما لم يذكر فحرام وهي ٣٥ حديثا.

و ٤ الناهية عنه وإن سمى وهما اثنان.

ففي ص ٣٤١ الوسائل ب ٢٦ ح ١ و ٢ «لا يؤمن على الذبيحة إلا أهل التوحيد وح ٣ إلا أهلها» وح ٤ و ٦ و ٧ ـ ١٠ وب ٢٧ ح ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٨ ـ ١١ : «لا بأس إذا ذكروا اسم الله» وح ١٤ ـ ١٥ ـ ١٧ : «لا بأس إذا سمعوا» و ١٨ ـ ٢٢ ـ ٢٣ ـ ٢٤ ـ ٢٧ ـ ٢٩ ـ ٣١ ـ ٣٢ ـ «لا بأس إطلاقا» و ٣٥ ـ ٣٦ ـ ٣٧ ـ ٣٨ ـ ٣٩ ـ ٤١ مطلقة في الجواز ٣١ ـ ٤١.

(١) هما موثقة أبي بصير سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : «ذبيحة الناصب لا تحل» وموثقته الأخرى عن أبي جعفر عليهما السلام لا تحل ذبائح الحرورية(التهذيب ٢ : ٣٥٦ والإستبصار ٤ : ٨٧).

أقول ومثلهما الناهي عن ذبيحة غير الشيعي وهو رواية زكريا بن آدم قال قال أبو الحسن (ع) «إني أنهاك عن ذبيحة كل من كان على خلاف الذي أنت عليه إلا في وقت الضرورة إليه» (المصدر) وتعارضها والموثقين رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهما السلام قال قال أمير المؤمنين (ع): «ذبيحة من دان بكلمة الإسلام وصام وصلى لكم حلال إذا ذكر اسم الله عليه» (المصدر).

(٢) منها صحيحة محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليهما السلام عن الرجل يذبح ولا يسمي قال : «إن كانا ناسيا فلا بأس إذا كان مسلما وكان يحسن أن يذبح ولا ينخع ولا يقطع الرقبة بعد ما ـ

٦٢

وحصيلة البحث حول اشتراط الإسلام وعدمه وسائر مواضيع الآية :

١ لو أن الإيمان شرط في الذابح ـ إذا ـ فذبيحة المنافق حرام وهو خلاف الضرورة في تأريخ الإسلام ، فإنهم يشاركون سائر المؤمنين في أحكام الإسلام ومظاهره ، فالمسلم المنافق ، والذي لمّا يدخل الإيمان في قلبه ، والداخل في قلبه ، هم على سواء في الأحكام والمظاهر الإسلامية مهما اختلفوا في الجزاء يوم الجزاء والأحكام التي شرطها العدالة ، فالمؤمن غير العادل كالمنافق يحرمان عن هكذا أحكام.

٢ قد يعم الخطاب كافة المكلفين مهما بزغ في الآية الأولى ب (الَّذِينَ آمَنُوا) حيث التكليف عام.

ثم و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ) ليست لتختص بالمؤمنين مهما اختص قبلها بهم ، فعموم التكليف لكافة المكلفين من ناحية ، وطليق الخطاب في حرمت عليكم من أخرى ، يجعلان الخطاب في (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) عاما لكافة المكلفين ، مهما خرج عنه من خرج لنقص شرط من شروط الذبح الشرعي أو نقضه كترك البسملة أو التوجيه إلى القبلة عمدا ، وترك قطع الأوداج الأربعة على أية حال.

٣ الحصر في (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) حصر في التذكية لا وفي فاعلها وإلا لاختصت الحرمة في المستقسم بالأزلام إذا كان المستقسم مؤمنا لمكان نفس

__________________

ـ يذبح» (الكافي ٦ : ٢٣٣ والتهذيب ٣ : ٣٥٣) ومثله صحيح الحلبي (الكافي ٦ : ٢٣٤). وصحيح الحلبي الآخر عن أبي عبد الله (ع) أنه سأل عن رجل ذبح طيرا فقطع رأسه أيؤكل منه؟ قال : «نعم ولكن لا يتعمد قطع رأسه» (الفقيه باب الصيد والذبائح رقم ٥٣).

أقول : نعم تعم صورتي العمد وسواه ، ولا يتعمد نهى عن العمد وليس نهيا عن أكل المتعمد فيه. ذلك وأما مفهوم موثق مسعدة بن صدقة «سمعت أبا عبد الله (ع) وقد سئل عن الرجل يذبح فتسرع السكين فتبين الرأس؟ فقال : الذكاة الوحية لا بأس بأكله ما لم يتعمد بذلك» (الكافي ٦ : ٢٣٠).

ذلك المفهوم يتيم في نوعه فلا يعارض تلكم الصحاح الطليقة في الحل مهما حرم التعمد.

٦٣

الخطاب : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ).

٤ ولو كان هنا حصر أو اختصاص فإنما هو لأن المسلم هو الذي يسمي ، فلو قال «إلا ما ذكي» لما حوفظ على شرط الاسم ، ففي دوران الأمر بين الحفاظ على شروط شرعية للتذكية ب (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) حيث المؤمن يراعيها ، أو الحفاظ على عدم شرطية الإيمان في المذكي ب «إلا ما ذكي» إن في الثاني هدرا طبيعيا لتلك الشروط ، مع ظهور أو صراحة بعض الآيات في عدم اشتراط الإيمان ك : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وليس فيما فصل ذبيحة غير المؤمن.

ففي ذلك الدوران ليست الرجاحة إلا ل (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ثم (ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) مجهولا لمحة صارحة بأنه «إنما هو الاسم» كما في المستفيضة.

٥ لو كان الكفر محرما لذكر في المستثنى منه ولم يذكر.

٦ (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (٦ : ١١٩) ولم يفصل في المحرمات الأصلية ما ذكاها غير المسلم ٧ مع التردد في اشتراط الإيمان فالمرجع أمثال هذه الآية و (طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ..).

٨ أمثال قوله تعالى (ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) يدل على أن الشرط مجرد ذكر اسم الله على الذبيحة وإن كان الذاكر منافقا مشركا في قلبه أو ملحدا ، حيث المقصود من ذكر اسم الله شعار التوحيد ، وكما الله يقبل الشهادتين من مشرك أو ملحد لا يعتقدان في التوحيد ، فكذلك وبأحرى ذكر اسم الله على الذبائح.

٩ قد يجوز تقسيم الذبح في شروطه بين جماعة فذكر الاسم من بعض وتوجيه القبلة من آخر وفري الأوداج من ثالث أو من عديد أن يفري أحدهم

٦٤

دون الأربع ثم يكفّيه غيره فإنه يصدق عليه التذكية ، وإن كان الأحوط في الاسم وفري الأوداج أن يكون من واحد.

١٠ (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).

ذبحا على النصب مهما ذكر اسم غير الله عليه أو ذكر اسم الله عليه ونصب الشيء هو وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح والبناء والحجر ، والنصيب هو الحجارة تنصب على الشيء وجمعه نصائب ونصب ، ولقد كانت لمشركي العرب حجارة يعبدونها ويذبحون عليها لها وتبركا بها ، وكما كانوا يوفضون إليها ويعبدونها (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ).

و «النصب والأنصاب» بمعنى واحد هو الأحجار المنصوبة للعبادة ، فما يذبح عليها محرمة وإن اجتمع فيها سائر شروطات الحلّ وإن لم يذكر عليها اسم غير الله ، فإنه من المعني من (ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وبينهما عموم مطلق ، فقد يهل به لغير الله وليس على النصب ، أو يهل به لغير الله على النصب دونما تسمية لغير الله أم بتسمية ، فحين يسمي الله ذابحا على النصب فقد جمع بين الله وسواه ، فالشرط ذكر اسم عليه وذبحه لله ـ فقط ـ فلا يكفي ذكر اسم الله ولغير الله فيه نصيب يشمله (ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ولا ذبحه لله وهو يذكر اسم غير الله أو لا يذكر اسم الله عليه ،

ففي مثلث «الذبح له» «وذكر الاسم» «والذبح عليه» يشترط أن يذكر اسم الله عليه وأن يذبحه لله ، وألا يذبحه على صنم اللهم إلا ألا يقصد منه كونه له ، فقد اجتمعت زوايا ثلاث في الذبيحة لفظيا وغائيا ومكانيا.

١١ (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ).

وذلك نوع من الميسر ، والأزلام هي القداح ، والضرب بالقداح على ضربين ثانيهما لاستعلام الخير والشر وهو نوع من الطيرة التي كانت من عادات الجاهلية ، ولكنه ليس استقساما بالأزلام بل هو استعلام بالأزلام.

٦٥

فلا يعني (أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) إلّا استقسام بهيمة الأنعام بضرب القداح ، فمن أصاب قدحه فله ما أصاب قدره ، ومن لم يصيب قدحه فهو محروم ، وذلك فيما يشترونه جماعة مع بعض بسهام متساوية ثم يستقسمونه بأزلامهم

وموضوع الحرمة هنا هو نفس الاستقسام سواء ذكيت تذكية شرعية ثم استقسمت فمحرمة للاستقسام ، أم قتلت بنفس الاستقسام فمحرم من الجهتين.

«ذلكم» المذكور من المحرمات «فسق» ذو زواياه الإحدى عشر (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) حسب المرسوم في شرعة الله ، المسرود في الكتاب والسنة ، ولأن (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) مذكورة بعد الست الأولى فقد لا تشمل الأخيرتين ، وحق ألا تشمل لمكان «ذبح» حيث لا يبقى مجال للتذكية ، وكذلك (أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) فإنه ذبح بالاستقسام ، اللهم إلّا أن تدركها حية فتذكيها ، إذا فما جعل على النّصب وأخذ في ذبحها ولما تذبح ، وما استقسمت بالأزلام ولمّا تمت ، إنهما داخلتان في حلّ الاستثناء (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ).

وهنا تساؤلات حول ذبح الحيوان المحلّل ذبحه ، منها أنه خلاف الرحمة وقد (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) فكيف يسمح للإنسان أن يذبح حيوانا لأجل أكله ، وقد كان يكتفي بأكل ميتات الحيوانات ، تنحيا عن تلك القساوة؟! ، ولكن أكل الميتات فيه مضرات روحية وأخرى بدنية يعرفها علم الصحة ، والذبح الإسلامي مما يسدّ كل ثغرة إليها بصورة طليقة.

وأما السماح في أصل الذبح فذلك من باب تقديم الأهم على المهم ، فإن جانبا من حياة الإنسان مربوط بأكل من اللحم ، فيسمح به حفاظا على حياته الأهم أم غزارتها ونضارتها وقوتها ، ثم الله يعوّض الذبائح يوم القيامة كما

٦٦

يقول : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٦ : ٣٨) حشرا لعقوبة بظلم ومثوبة بصالح ما يفعل أو يفعل به ومنه ذبحها.

فكما أنّ المؤمنين يؤمرون بتضحية أنفسهم في سبيل الله تقديما لها عليها ، كذلك يسمح لهم بذبح حيوان بشروطه حفاظا على الأهم ، ثم مثوبة للذبيحة حين (إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) وقد يأتي القول الفصل حول حشر الدواب على ضوء الآية في نفس السورة.

(.. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ٣.

«اليوم» وما أدراك ما ذلك اليوم ، فقد اختلفت الأمة الإسلامية في «ما هو ذلك اليوم» فعلينا البحث والتنقير في ظلال الآية نفسها ـ وبضمنها الروايات ـ حتى نعرف بيقين وإتقان يوم السلب والإيجاب ، سلبا لأطماع الذين كفروا من دينكم ، وإيجابا هو إكمال الدين وإتمام النعمة لكم.

«اليوم» هنا حسب الظاهر وقضية وحدة الصيغة هو يوم واحد حصلت فيه أربعة أمور هامة لم تكن تحصل من ذي قبل ، مهما أعدّت معداته :

١ (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ..) ٢ (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ٣ (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ٤ (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

فهنا بين الأركان الأربعة يتقدم جانب السلب : «يئس ...» على مثلث الإيجاب في هندسة عمارة الدولة الإسلامية السامية بقيادتها الروحية والزمنية.

فما لم ييأس الذين كفروا من دينكم ليس له كمال ولا لنعمته تمام ولا لأصله رضى ، إذا فهذه الأضلاع ترسم (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) في حاكمية «الله» منذ ذلك اليوم كما يرضاه.

٦٧

إن قضية إكمال الدين وإتمام النعمة بعد يأس الذين كفروا من دينكم ، أن يكون ذلك اليوم من أخريات أيام الرسول (ص) أحيان كان يودّع المسلمين وينفض يديه من بلاغ الإسلام ، إذا فالآية هي من أخريات الآيات الرسالية النازلة عليه ، يوم لم يبق له من أصل الدين بوصله وفصله أية هامة (١).

فهل يعني ـ بعد ـ يوم ابتعاث الرسول (ص)؟ ولم يكن يومئذ لهم دين حتى يكمل به إلا الشرك ، ولم ييأس (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ـ لو كان لهم دين ـ منذ بزوغه ، بل كانت لهم أطماع شاسعة متوسعة لاستئصاله ، لا سيما وأن الرسول (ص) لم يكن له ولد من الذكران! ، أو أنه فتح مكة المكرمة كما وعده الله له : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) فهنالك إتمام النعمة وإكمال الدين ب (يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ) كما فيه (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ب (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً).

فقد رجعت بذلك الفتح المبين عاصمة التوحيد ومهبط الوحي الأمين إلى الرسول الأمين (ص) ، ولكن ليس ذلك الفتح بمجرده مما يؤيس الذين كفروا ـ ككل ـ من دينكم ، كما وأن بينه وبين رحلته (ص) سنتين وقد نزلت فيها آيات تحمل أحكاما أخرى وتوجيهات ، كما و «ليتم ولينصر»

__________________

(١) عن المناقب الفاخرة للسيد الرضي رحمه الله عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر عن أبيه عن جده عليهم السلام قال : لما انصرف رسول الله (ص) من حجة الوداع نزل أرضا يقال له : ضوجان فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ...) فلما نزلت عصمته من الناس نادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه وقال : من أولى منكم بأنفسكم؟ فضجوا بأجمعهم فقالوا : الله ورسوله ، فأخذ بيد علي بن أبي طالب (ع) وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره وأخذل من خذله لأنه مني وأنا منه وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وكانت آخر فريضة فرضها الله تعالى على أمة محمد (ص) ثم أنزل الله تعالى على نبيه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

٦٨

بشارة للمستقبل وليس فتح مكة إلا تقدمة له وذريعة ، وبذلك يعرف ـ وبأحرى ـ أنه ليس ـ كذلك ـ يوم عرفة ، ولا يوم نزول البراءة وما أشبه فإن يوما من هذه لم يكن ليؤيس الذين كفروا من دينكم حتى يكمل ويتم النعمة تماما وكمالا.

أو ترى أنه يوم إكمال الدين بأصوله؟ وقد ابتدأ بها صاحب الرسالة لزاما وعاشها طول حياته مكررا إياها مؤكدا لها! ولم تكن ـ كذلك ـ تؤيس الذين كفروا.

أو أنه يوم ختام القرآن؟ ولم يختم إلا عند ختام عمره الشريف إذ لم ينقطع عنه الوحي المنيف ، ثم وليس ختام الوحي بالذي يؤيس الذين كفروا من دينكم ، بل قد يطمئنهم لإبطاله لانقضاء وحيه! ، فإن مستمر الوحي أرجى ، وهو بإياس الذين كفروا أجحى.

أم ترى أنه يوم إكماله بفروعه ، يوم نزلت الآية نفسها؟ فكذلك الأمر! إضافة إلى أن تحريم ما حرم هنا له سوابق سوابغ ، فلم تكن نازلة جديدة ، أو جادّة تؤيس الذين كفروا ، ثم أتت أحكام أخر وتوجيهات لم تأت من ذي قبل!. إنه يوم بلاغ استمرارية ذلك الدين المتين بقيادتيه الروحية والزمنية فيمن يمثلون الرسول الأمين ، كما وأن ذلك البلاغ في آية البلاغ يقرر له هامة الحفاظ (١) على استمرارية هذا الدين : و (إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ..).

إذا فذلك اليوم هو يوم بلاغ لما يؤيد الرسالة ببلاغها بعد إكمال الدين

__________________

(١) في الخصائص عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام قالا : لما نزلت هذه الآية (آية التبليغ) يوم الغدير وفيه نزلت : اليوم أكملت ... قال وقال الصادق (ع): أي : اليوم أكملت لكم دينكم بإقامة حافظه وأتممت عليكم نعمتي أي : بولايتنا ، ورضيت لكم الإسلام دينا أي : تسليم النفس لأمرنا.

٦٩

وإتمام النعمة في الشرعة بأصولها وفروعها ، وما هو الإبلاغ استمرارية الحكم الرسالي القرآني بمن ينذر به وهو يمثل الرسول (ص) فيما كان يفعل أو يقول على طول خط الرسالة إلى يوم الدين.

وهنا نجد إصفاقا شاملا في روايات الفريقين على نزول هذه الآية يوم الغدير بعد إصحار النبي (ص) بولاية الأمر ـ كنموذح أوّل بعده ـ لعلي أمير المؤمنين.

ذلك وكما هو مأثور عن أصحاب الآثار أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (ص) لم يعمر بعدها إلا أحدا وثمانين يوما أو إثنين وثمانين (١).

فالدين وهو النعمة الربانية ـ ولا سيما ذلك الأخير ـ ليس ليتم إلا بقرار حاسم جاسم في نفسه لاستمراريته في قيادتيه الروحية والزمنية ، فليست الأصول والفروع بنفسها بالتي تستمر لولا من يطبقها على ضوء الدولة الربانية الحاكمة الحكيمة بين المكلفين ، كما ولا تفيد الدولة والنظام لولا تمام الانتظام لشرعة الله ، فقد تجاوب الأمران يوم الغدير ، حين لم يبق من الدين أمر إلّا وقد بيّن ، اللهم إلا استمراريته المفروضة يوم الغدير صراحا جمعيّا لم يحصل من ذي قبل مهما كانت له لمحات في فترات.

ولا يعني يوم الغدير ـ فقط ـ تأمير الأمير عليه السلام ، فإنما هو كنقطة انطلاق لتلك الخلافة القدسية المعصومة الناهية إلى صاحب الأمر الحجة بن الحسن المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، فقد صدق قول الرسول (ص):

__________________

(١) في التفسير الكبير للرازي ٣ : ٥٢٩ عن أصحاب الآثار ... وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي ٣ : ٥٢٥ ، وذكر المؤرخون منهم ـ كما في تاريخ الكامل ٣ : ١٣٤ وأمتاع المقريزي ٥٤٨ وتاريخ ابن كثير ٦ : ٣٣٢ وعدّه مشهورا والسيرة الحلبية ٣ : ٣٨٢ ـ أن وفاته (ص) في الثاني عشر من ربيع الأول ، مهما كان فيه تسامح بزيادة يوم على الإثنين والثمانين.

٧٠

«يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي».

وإمرة صاحب الأمر لها النصيب الأوفر من ذلك المربع لهندسة الإسلام ، لأن الائمة الإحدى عشر قبله لم تتح لهم فرص الإمرة بما اغتصبت حقوقهم. وقد (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (٢٤ : ٥٥) (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.) (٢١ : ١٠٧).

ذلك وقد تصافقت روايات الفريقين أن الآية نزلت يوم الغدير حيث بلغ الرسول (ص) إمرة الأمير بعد ما نزلت آية التبليغ ، وممن رواه ـ بعد إجماع أئمة أهل البيت عليهم السلام في روايته ـ أبو سعيد الخدري (١) وابن عباس (٢) وجابر (٣) وأبو هريرة (٤) وسعيد بن سعد بن مالك الخدري

__________________

(١) مما روي عن أبي سعيد الخدري ما رواه الحافظ ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله (ص) يوم غدير خم حين قال لعلي : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ثم رواه عن أبي هريرة أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة يعني مرجعه (ص) من حجة الوداع (تفسير ابن كثير ٣ : ١٤) والسيوطي في الدر المنثور ٣ : ٢٥٩ أخرج ابن مردوية وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : لما نصب رسول الله (ص) عليا (ع) يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ...).

وفيه أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مثله وفي آخره : فنزلت «اليوم أكلت ...» فقال النبي : (اللهِ أَكْبَرُ ...) ونقله بهذا اللفظ الأربيلي في كشف الغمة (٩٥).

(٢) الثعلبي في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس روى قصة الغدير.

(٣) أبو الفتح النطنزي في كتابه الخصائص العلوية عن الخدري وجابر الأنصاري أنهما قالا : لما نزلت : اليوم أكملت .. قال النبي (ص) : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب (ع) ، وأبو حامد سعد الدين الصالحاني قال شهاب الدين أحد في توضيح الدلائل على ترجيح الفضائل ـ : وبالإسناد المذكور عن مجاهد قال لما ـ

٧١

والبراء بن عازب (١) وزيد بن أرقم (٢) أخرجه ورواه عنهم عدد كثير التابعين وتابعي التابعين والمصنفين والمفسرين.

وحق لرسول الهدى (ص) أن يقول قوله حين نزول الآية : «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي بن أبي طالب» (ع) (٣) وسوف نستقصي روايات الغدير عند البحث عن آية التبليغ إنشاء الله تعالى.

وترى أن (الْيَوْمَ يَئِسَ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ...) ـ إلى ـ (دِيناً) هل هي آية مستقلة تنزيلا ثم توسط هذه الآية تأليفا؟ أم هي هيه تنزيلا وتأليفا؟ فما هي الصلة بينها وبين ما احتفت بها من قبل ومن بعد؟!.

إن الأصل المعني من القرآن هو تأليفه ، فإنه هو الأليف الصائب بوحي الله تعالى حيث يراه انسب ما يصح ويمكن من تأليف الوحي النازل نجوما منفصلة لفظيا ومعنويا.

فقد تناسب مناسبة حقة حقيقية ناصية السورة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإن عقد

__________________

ـ نزلت هذه الآية بغدير خم فقال رسول الله (ص) وذكر مثله.

(٤) ومما روي عن أبي هريرة عن النبي (ص) أنه قال : من صام يوم ثمان عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي (ص) بيد علي بن أبي طالب (ع) فقال : ألست أولى بالمؤمنين؟ قالوا : بلى يا رسول الله (ص) قال : من كنت مولاه فعلى مولاه فقال عمر بن الخطاب : بخ بخ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم فأنزل الله الآية ...

(١) الثعلبي في تفسيره عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال لما أقبلنا مع رسول الله (ص) في حجة الوداع كنا بغدير خم فنادى أن الصلاة جامعة ... وروى قصة الغدير.

(٢) وممن أخرجه عنه الثعلبي في تفسيره ونقل جملة من قصة الغدير ومنها فلقيه عمر فقال : هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.

(٣) قد أخرج العلامة الأميني في الغدير ١ : ٢٣٠ ـ ٢٣٨ حديث نزول آية الإكمال يوم الغدير عن ستة عشر مصدرا وحديث آية التبليغ عن ستين مصدرا والتفصيل إلى تفسير آية التبليغ.

٧٢

الولاية المستمرة المحمدية في أهل بيته عليهم السلام هو من أهم العقود. فلقد توسطت آية إكمال الدين وإتمام النعمة كشطر آية هنا ، جمعا بين العقود العقيدية والسياسية الصالحة والعقود العملية ، فإن عقود الشرعة الربانية هي كلّ لا تتجزأ ، كلّ متكامل متجاوب كلبنات بناية واحدة مهما اختلفت شكليات.

فهنا سواء في واجب الوفاء بالعقود ما يختص بالتصور والعقيدة والعقلية الإيمانية شعورا ، وما يختص بالعبادات شعارا وغير شعار ، أو يختص بالحلال والحرام بين شعور وشعار ، وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية كعقد الولاية الرسالية بعد الرسول (ص) ، جمعا بين الواجبات النفسية والبدنية ، رعاية لمجمع الإنسانية : النفس والبدن.

ثم كما الاضطرار في مخمصة بدنية وهي الجوع القارع يسمح لأكل ما حرم من الميتة وما أشبه قدر الضرورة المبقية لحياة.

كذلك الاضطرار في مخمصة نفسية يسمح في القعود عن تحقيق لإقامة القيادة الروحية والزمنية ـ مستمرة ـ بعد النبي (ص).

وترى المسلمين اضطروا في مخمصة في تنحّيهم عن تطبيق واجب الخلافة الإسلامية في علي وولده المعصومين عليهم السلام؟!.

أو لم يتجانفوا لإثم في مأثمة غصب الخلافة الحقة التي هي رمز ليأس الذين كفروا من دينكم وإكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب بإسلامنا؟.

فهل إن إسلام الاستسلام أمام السلطات الجائرة زمن المعصومين عليهم السلام وبعدهم ، ذلك إسلام مرضي لرب العالمين ، فالذين كفروا يائسون من القضاء عليه وإضعافه واستضعاف المسلمين العائشين تحت أنياره؟! وهل إن ذلك من إكمال الدين وإتمام النعمة أن يعيش المسلمون تحت وطأة الاستعمار الاستثمار الاستحمار الاستكبار الاستبداد الاستخفاف الاستضعاف؟!.

٧٣

يعيشون بين هذه الأبواب الجهنمية يمينية ويسارية متخلفة عن الشجرة الزيتونة المحمدية التي هي لا شرقية ولا غربية؟!.

«اليوم» يوم الغدير ، الذي بلغ فيه البشير النذير استمرارية القيادة الإسلامية السامية في الصالحين من أمته ، معصومين زمنهم ، والربانيين من علماء الأمة زمن الغيبة.

«اليوم» هو اليوم الذي فيه (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) يئسوا من زواله واضمحلاله ، حيث اجتمع إلى كماله في نفسه وتمام النعمة فيه ، ما بالإمكان أن يدير رحى المجتمعات البشرية مهما طالت وكثرت.

اجتمع إلى ذلك بقاء واستمرار قيادته الروحية والزمنية ، فإن رمز استمراره وتحليقه ـ يوما مّا ـ على ربوع الإنسانية جمعاء ، فدور الخلافة المعصومة يجمع في نفسه تبيين القرآن والسنة ما لم يكن ليبيّن زمن الرسول (ص) إلا لأبواب مدينة علمه كعلي وفاطمة عليهما السلام وولدهما الأحد عشر ، إضافة إلى القيادة الرسالية التي كان يحملها الرسول (ص) ومن ثم دور الغيبة الكبرى المتوسطة بين عصر الحضور حيث يقوده العلماء الربانيون على ضوء الكتاب والسنة.

فدور التبيين مكمّل لدور التشريع في بعدين اثنين ، فلم يكن الدين مكمّلا ، والنعمة متمّمة ، والإسلام مرضيا ، إلّا بهذه الاستمرارية السامية.

صحيح أن الرسول (ص) كان يبيّن الخلافة المعصومة أحيانا كثيرة ، ولكنها لم تكن تعدو أجواء خاصة ولأشخاص خصوص ، فأين هي وأين البلاغ في جو الغدير بتلك الصورة الوضاءة الهامة التي جلبت أنظار الحاضرين الذين كانوا هم خلاصة المسلمين في عصر النبي (ص) وكلاسة عن جمعهم أجمعين.

٧٤

ذلك هو إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب لنا إسلامنا ـ لو حلق في استمراره على كل التاريخ الإسلامي المجيد ـ!.

والقول إن التارك لما هو إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب ـ وهو أهم من أصل الدين ـ أحرى أن يسمى كافرا أو مرتدا ممن ترك فرعا من الدين ، مردود بأن الترك واقعيا ليس كفرا ولا ارتدادا ، إنما هو الرد على الله ورسوله عقيديا إظهارا باللسان أو أيا كان فالمنافق ما لم يظهر تكذيبا للدين يعتبر مسلما ، والمؤمن إذا أظهر تكذيبا كان مرتدا ، فالذين تركوا تحقيق الولاية قاصرين أو مقصرين هم أولاء مسلمون كسائر المسلمين ، اللهم إلّا من صرح بتكذيب الرسول فيما كان يفعل أو يقول ، فأمّا المأوّل لقوله قاصرا أو مقصرا تبريرا لواقع اتجاهه فلا يعد مرتدا أو كافرا ، وإلا لم يبق من المسلمين إلّا نزر قليل.

فالشرعة التي تزول وتذبل بموت حاملها الأول لا يخشى منها مهما كانت كاملة ، فكل نظام قانوني صالح بحاجة لاستمراره إلى صالح التطبيق الجماهيري الذي لا يصلح إلا تحت رعاية حاكمية قديرة حكيمة ، فبفساد كلّ من القانون والحاكم به يموت أو يضعف القانون ، فضلا عن فسادهما مع بعض.

وكما أن (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) ضمان للعزة كذلك (حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) كما (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) وهكذا نؤمر في (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) أن نؤسّس جمعية الاعتصام الصالح بحبل الله حتى نعتصم من بأس الكافرين.

ف (الَّذِينَ كَفَرُوا) ككل ، أيا كانوا وأيان لا ييأسون من ديننا ان يزول بنفسه أو يزال إلّا بانضمام استمرارية القيادة الصالحة إلى صالح القانون وهو القرآن ، فما دامت الحاكمية الطليقة للقرآن بالحكام الصالحين على ضوءه

٧٥

فالذين كفروا هم في إياس مطلق مطبق ، وكما يئسوا في الدولة الأولى الإسلامية التي أسسها الرسول (ص) مهما اختلفت الدرجات ، ومن ثم لما نقضوا عهد الخلافة الصالحة إلى الخلافة الطالحة طمع الذين كفروا في ديننا حتى آل أمرنا إلى ما آل.

ذلك! ومن أبرز ملامح الضرورة القيادية الصالحة لتطبيق القرآن أننا لا نجد (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بصورة مطلقة مطبقة إلّا «اليوم» وهو يوم قرار الاستمرار للدولة المحمدية (ص) ، المبيّن فيه الكتاب والسنة بصورة عاصمة معصومة.

صحيح أن الذين كفروا لا يستطيعون على أية حال أن ينقضوا ديننا أو أن ينقصوا منه ببرهان ، ولكنهم يحاولون في إبعاد المسلمين عن القرآن ، وزعزعة إيمانهم وإيقانهم بهذا الدين المتين لولا السلطة الروحية والزمنية القرآنية على طول الخط.

فالدعايات المضلّلة من الذين كفروا وسائر المحاولات الشريرة ودوائر السوء المختلفة ، المتربصة بالذين آمنوا ، لا تزال مستمرة حتى يجعلوا الدين في عزلة بعيدة عن أهله ، رغم نصوع براهينه وسطوح مضامينه.

كما وأن الهجمات الحربية المتواصلة منهم تحتل أراضينا وأنفسنا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ).

ف (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) لا تخاطب إلّا المعتصمين بحبل الله المطبقين شرعة الله ، المجاهدين في سبيل الله ، المضحّين في الحفاظ على حرمات الله ، كما سبقت هذه الشروطات في «لن يضروكم».

فليس صالح الدين بنفسه مما يؤيس الكافرين تمام الإياس وزوال الإبلاس من ديننا ، إنما هو صالح تطبيقه بالقيادات الصالحة الروحية

٧٦

والزمنية ، وكما في حديث الصادقين عليهما السلام تفسيرا للآية ، أي أكملت لكم دينكم بإقامة حافظه .. (١).

فالحافظ القيادي للدين دوره كالحافظ الأصلي لمادة الدين ، فبكمال القيادة الروحية والزمنية التطبيقية للدين ييأس الذين كفروا من زواله أو إزالته ، وبضعفها كضعفه نفسه يأمل الذين كفروا زواله أو إزالته من الدور الجماعي.

و (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هو يوم قرار القيادة المعصومة ، استمرارية للقيادة العليا الرسولية التي تحمله الرسالة ، معصومين وهم الاثنى عشر ، ومن يتلو تلوهم كالعلماء الربانيين زمن الغيبة الكبرى لآخرهم المنتظر المأمول.

إذا «فلا تخشوهم» أن يزيلوا هذا الدين ما دامت قواعده سليمة «واخشون» أن تتخلفوا عن قيادته الروحية والزمنية العليا تأسيسا لها واتباعا إياها وتحقيقا للدين بكل أبعاده ، فإبعاده لكل العراقيل الكافرة الشاغرة.

لذلك لم ييأس الذي كفروا من ديننا في أي يوم من أيام هذه الرسالة السامية يأسا شاملا إلا يوم إذاعة الاستمرارية لها بالخلافة المعصومة العاصمة لها ، مهما اغتصبت لردح بعيد من الزمن ، ولكن بنية الرسالة المستمرة على مر الزمن بذلك القرار الحاسم ، إنها تؤيس الذين كفروا من زوالها أو إزالتها.

وعلى الذين آمنوا طول الزمن الرسالي تقبّل القيادة المعصومة ، ثم في زمن غياب العصمة انتخاب النخبة العليا من العلماء الربانيين ليقودوا الأمة الإسلامية سالمة سليمة.

ذلك ، فالإثم في تأخر المسلمين عن تأسيس دولتهم الإسلامية الموحدة

__________________

(١) الخصائص عن الصادقين عليه السلام.

٧٧

السامية إنما هو على المتجانفين لتركه ، المتكاسلين عن محاولته ، المستسلمين ـ دوما ـ للأمر الواقع الشرير.

كما وأن قسما منهم خيّل إليهم أن القيام لتأسيس دولة الإسلام وطرد الظلم إنما هو على عاتق صاحب الأمر (ع) وأما نحن مدى غيابه (ع) فعلينا أن نتقاعد مكتوفي الأيدي ، رغم الأوامر المؤكدة المشددة القرآنية المشدودة لإقامة الدين ، وقصم شوكة المعتدين المغتصبين ، وبسط المعروف وإزالة المنكر قدر المستطاع ، مهما كان تأسيس الدولة العالمية الإسلامية في أصلها على عاتق صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه.

وإذا (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ) على دينكم وعلى أنفسكم ، بل «واخشون» في التخلف عن إقامة ما يؤيس الذين كفروا فاستضعافا للدينين واستخفافا بالدين ومواصلة بكل المحاولات في سحقهم ومحقهم ، وترى (رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يعني ـ فقط ـ هذه الشرعة بطقوسها؟ وكثيرون هؤلاء الذين يطبقون طقوسها وهم غير مرضيين لله! ..

«الإسلام» هو إسلام الوجه لله ، ومنه الإسلام لما حصل يوم إكمال الدين وإتمام النعمة وهو تأمير الأمير بإمرة المؤمنين (ع) وتقبّل استمرارها إلى يوم الدين.

ف «دينا» تعني طاعة طليقة لله ، والإسلام السليم هو الطاعة المرضية لله لا سواه ، فالإسلام الخاوي عن القيادة المستمرة السليمة إسلام غير مرضي ، وقد يصبح كالكفر أو أنحس منه ، فمثلث إكمال الدين وإتمام النعمة والرضى عن الإسلام بعد (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يشكّل القواعد الأربع لعز الإسلام وسيادته ، فليس اليأس إلّا لهذه الثلاث.

ولأن آيتي التبليغ والإكمال مرتبطتان مع بعض حيث تحملان أمر الإمرة الإسلامية بعد الرسول (ص) ، إذا فروايات الغدير البالغة إلى مئات تعتبر

٧٨

من روايات مؤيدة لنزول آية الإكمال بشأن الغدير (١).

ذلك ، وليأس الذين كفروا من دينكم مراحل أخراها بتامّ اليأس وطامّه الجمع بين إكمال الدين وإتمام النعمة بمثلث عمارة الإسلام العامرة : ١ كمال قوانينه الصالحة الانطباق في كل عصر ومصر. ٢ كمال الزعامة الدينية روحية وزمنية ، ٣ وكمال المؤمنين به ائتماما بأئمة الإسلام ، وتطبيقا عميقا للإسلام ، وكل ذلك في الوسط القرآني العظيم ، فإنه المحور الأصيل لهذه الزوايا الثلاث.

ذلك اليأس يحلّق على الذين كفروا في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، ولذلك يحاولون في هدم مثلثه ، مركّزين على تنحية القرآن عن الوسط الإسلامي.

ومهما يكن من شيء فقد تكفي بالمآل إمرة صاحب الأمر لتحقيق ذلك اليأس بأعماقه.

وترى الاضطرار في مخمصة الذي يسمح بارتكاب محرّم أكلا أم إيكالا ، أو محرم في سياسة الشرعة الإلهية ، ما هو حده ومدّه؟.

«مخمصة» ـ وهي حالة الضرورة ـ محدّدة هنا ب (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) فالمقصر في ذلك الاضطرار هو متجانف لإثم ، فأكل المحرم ـ كالسكوت أمام السلطة الجائرة ـ محرّم عليه حالة الاضطرار ، رغم وجوبه عليه ـ خوف الموت ـ حفاظا على نفسه.

وتجانف الإثم هو التجاوب معه مهما كان بتقصير في حصول مقدماته

__________________

(١) روات الغدير من الصحابة ـ حسب ما في الغدير ـ مائة وعشرة ، شخصا ، ومن التابعين أربع وثمانون ، وطبقات الرواة العلماء (٣٦٠) شخصا في القرون الإسلامية ، والمؤلفون (٢٦) شخصا والمناشدات به والإحتجاجات اثنان وعشرون (الغدير للعلامة الأميني ١ : ١٤ ـ ٢١٣).

٧٩

ومهيئاته ـ فإنه التمايل المتخلف كما الحنف هو الميل المتآلف ـ كمن يسافر ـ دون ضرورة ـ إلى بلدة يضطر فيها إلى أكل الحرام أو فعل الحرام ، فإن سفره هذا تجانف لإثم ، مهما لم يتعمد أكل الحرام حين اضطراره إلّا اضطرارا.

فهنا (غَفُورٌ رَحِيمٌ) ليست لتشمل إلّا المضطر غير المتجانف لإثم ، وقد جاء في أخرى (.. غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (٢ : ١٧٣) وفي ثالثة ورابعة : «فإن الله ـ (فَإِنَّ رَبَّكَ ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦ : ١٤٥) و ١٦ : ١١٥).

إذا فثالوث «تجانف لإثم ـ عاد ـ باغ» تحرّم على المضطر حتى حين تهدر نفسه ، مهما كان واجبا في هدرها حفاظا على نفسه ، وهنا (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) دون (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) حيث الموضوع أعم مما في هذه الثلاث الأخرى وأهم ، إذ يجمع إلى مخمصة الجوع مخمصة الروح حرجا وتضيّقا.

ولا يختص الاضطرار هنا بخوف التلف إلّا بالنسبة للمتجانف العادي الباغي ، فقد يجوز لغيرهم أكل هذه المحرمات قدر الضرورة للحفاظ على قوة حياة مهما لا يخاف الموت ، حيث الاضطرار لا يختص باضطرار لأصل الحياة ، بل والاضطرار الحيوي يسمح ويفرض اقتراف الحرام للحفاظ على النفس مهما حرم من جهة التقصير في حصول الاضطرار.

وقد يعني الاضطرار بصورة عامة تكلف الضرر نفسيا أو صحيا أو ماليا أو عرضيا أو دينيا ، في نفسه أمّن هو كنفسه من ولده وأهليه ، ما صدق الاضطرار عليه عرفا.

ففي حالة اضطرار غير المقصر ولا باغ ولا عاد ولا متجانف لإثم يجوز تناول المحرم أيا كان قدر الضرورة ، اللهم إلّا أن تكون حرمة المحرم أغلظ من حرمة الاضطرار ، ففي اضطرار الموت يحل كل حرام اللهم إلّا ما هو أشد محظورا منه ، ثم في سائر الاضطرار لا بد من النظر إلى طرفيه ، ولا

٨٠