الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٤

هنالك أساليب وقائية عن محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا على الترتيب التالي :

خلق جوّ طاهر يمنع عن هذه المحاربة والسعي ـ وإلّا فإبعاد المحارب والساعي عن ظروف المحاربة والإفساد ـ وإلّا فمحاولة توبته عما فعل ـ وإلّا فقتلا أو صلبا أو تقطيعا للأيدي والأرجل ونفيا من الأرض نحو الجريمة وحسبها ، وليس كل ذلك ـ فقط ـ للانتقام وإنما لإزالة المحاربة والإفساد.

وقد تخرج عناوين استثنائية بحدود خاصة عن هذه الآية فلتخرج ، وتبقي الباقي تحتها ، وعلى الحاكم الشرعي رعاية الأقل عقوبة فيما لا نص فيه ، والأوفر إزالة للإفساد ، وطبعا ما خلا القاتل واللّصّ المحارب والمضلّل عن الدين أو المبدع فيه حيث الفتنة أكبر ـ و ـ أشد من القتل.

والحد الثالث في الآية ـ حسب الأحاديث ـ يختص بالسارق المسلح ، والأوّلان بمن يحاربون المسلمين لإسلامهم ، والقاتلين ، والمبتدعين ، وأما من يبيع المخدرات أو يفتح بيوت الدعارة والقمار والملاهي أماذا من إفساد فالحكم في كل ذلك : أو ينفوا من الأرض.

ولم يسبق في الحكم الإسلامي أن حدّ الساعي في إشاعة الفساد هو القتل ، إلّا إذا قتل ، وإنما الفتنة العقائدية والقتل ، وهما السعي في إفساد ناموس الدين والنفس ، محكومة بالقتل ، وأما الفتن الأخلاقية والصحية وأضرابهما فالحكم فيها (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ).

فكيف يقتل من يبيع أو يستعمل الهروئين أو الترياق وسائر المخدرات ، ولا عنوان ثانويا يحكم له بالقتل ، وإنما النفس بالنفس ، أو فساد في الأرض ، وهو الإفساد فوق النفس وهو الفتنة العقائدية.

آيات القصاص وسماح القتل لا إشارة فيها بحد القتل فيمن لم يقتل ولم يفتن عقائديا وهو أشد من القتل ، والمعيار هو النفس بالنفس ، وآية فساد أو

٣٢١

يسعون توسعه في النفس أن إضلالها وفتنتها كذلك هما قتلها بل وأشد واكبر من القتل ، دون الإفساد العرضي والعقلي والاقتصادي فعلاجها (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ).

آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) لا يستثنى منها بإطلاق وإنما بنص ولا نصّ على أن كل ساع في الأرض فسادا يقتل ، فحتى إذا شكلنا في جواز قتله لا يقتل.

فالذين (يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) فهم ليسوا كل مفسد إلّا المحارب ، وإنما الذين يسعون فسادا للإفساد ، فالمفسد لتكسّب وسواه لا للإفساد ، والمفسد للإفساد دون سعي ، هما ليسا من مصاديق آية السعي ، فغير محكومين بحدودها ، وبأحرى الفاسد الذي لا يفسد مهما كان ساعيا لإفساد نفسه دون سواه.

والإفساد هو مقابل الإصلاح والعوان بينهما هو دون إصلاح ولا إفساد ، فهو إفساد الصالح أو المصلح حسب الشرعة الإلهية ، شخصيا أو جماعيا مهما اختلفا في بعد الفساد وكما في مختلف حقوله نفسه.

فمن يسعى في إفساد نفس مؤمنة في أية ناحية من نواحيه فقد قتل نفسا وكأنما قتل الناس جميعا ، مهما كان أهون إفسادا ممن يسعى في إفساد المجتمع.

ثم الإفساد يعم كل أبعاده ، المذكورة في آية المحاربة ، والمحور الأصيل فيه إفساد النواميس الخمسة ، التي تتمحورها الشرايع الإلهية إصلاحا لها ، من النفس والدين والعقل والعرض والمال ، والدين هو رأس الزاوية ثم النفس والعقل ثم العرض ثم المال.

والناحية السلبية من كل شرعة إلهية ناحية منحى الحفاظ عليها ، ثم الإيجابية تنحو نحو تكميلها ، فلا بد من دفع الفساد والإفساد أيا كان حفاظا على صالح الأرض والحيوية الإنسانية : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ

٣٢٢

بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢ : ٢٥١).

وقد تجمع جوانب عدة من الإفساد فعقوبات عدة حسبها كمن يقتل مؤمنا متعمدا ، حربا نفسيا وأخرى ضد الإيمان ، أو يحاول تضليله فثلاث ، أم وتخلّفه أخلاقيا فأربع ، أم واستضعافه عقليا فخمس ، أم واستلابه ماليا فست.

والإفساد العقيدي بين هذه هو أكبر من القتل وأشد ، فإنه فتنة كبرى بحق المؤمن (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (٢ : ٢١٧) ومن واجب المؤمن الحفاظ على من استنصره في دينه وإن لم يهاجر بدينه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ... إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٨ : ٧٣).

ومن الإفساد الاستضعاف الفكري وهو ذبح الحيوية الإنسانية ، وقد قرن بتذبيح الأبناء واستحياء النساء والجمع هو الإفساد : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٢٨ : ٤).

ومنه إفساد الحرث والنسل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢ : ٢٠٥).

وقد يجمع إفساد الحرث والنسل إفساد النواميس الخمسة ، فالحرث هو الناحية الاقتصادية والنسل يعم النفس والعقل والدين والعرض ، فإنها نسل الإنسان كإنسان! ، ومنه قطع الأرحام التي أمر الله بوصلها : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٤٧ : ٢٢).

٣٢٣

كما ومنه السرقة وهي من إفساد الحرث وأنحس مصاديقه ، فحين يقال لأخوه يوسف : (.. أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) ... قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) (١٢ : ٧٣).

كما ومن أنحس الإفساد هو الخلقي ، فالفاتحون بيوت الدعارات والملاهي ، هم من أفسد المفسدين ، ثم الذين يلونهم كمساعدين من تجار الجنس الفجار ، وتجار الخمور والقمار والمواد المحذرة ، هم من المهلكين الحرث والنسل ، فمن يسعى منهم في ذلك فقد سعى في الأرض فسادا ، عليه حدّه المناسب في آية السعي وهو ما دون القتل.

نرى في القرآن أشد النهي عن السعي في فساد الأرض أو أن يعثى فيها فساد بكل زواياه ، فبصورة عامة تعم كل فساد أيا كان : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ...) (٢ : ٢٥١). (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٢٣ : ٧١) (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٢٧ : ٣٤).

وترى أهمّ تهديد لبؤس الحياة الأرضية (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ..) (١٧ : ٤) وهم بنو إسرائيل حيث يحلّق إفسادهم كل المعمورة دون إبقاء.

ومن أنحس الإفساد إفساد السلطات الزمنية والروحية المتخلفة عن شرعة الله : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٤٧ : ٢٢) حيث يحلق على جذور الفساد ..

وأهم الإفساد هو الحرب العقائدية التي هي مفتاح كل حرب ، وهي أخطر من حرب الأبدان : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٥ : ٦٤).

ومن أنحسها حرب المنافقين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا

٣٢٤

إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (٢ : ١٢).

ومن الحرب العقائدية إبراز الباطل بصورة الحق كما السحر و (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٠ : ٨١).

كما وبخس أشياء الناس حالا ومالا يقابله إيفاء الكيل على أية حال : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (١١ : ٨٥).

وعلى الجملة ، كلما من شأنه أن يصلح حيث يصلح للحياة الإسلامية فرضا لزاما ، كان تحويره إلى ضده أم إلى غير صالحه إفسادا مهما اختلفت جنباته.

إذا فالإفساد المحرّم عديده كعديد الإصلاح الواجب ، وكما تختلف الواجبات في درجاتها ، كذلك محرمات الإفساد لها في دركاتها ، ومن أفسدها محاربة الله ورسوله ، ثم ما سواها من إفساد.

وكما أن محاربة الله والرسول ليست واحدة ، فإن لها جهات وجنبات ، كذلك الحدود المقررة لها وقد ذكرت هنا أربعة.

هنا يعطف (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) إلى (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بواو الجمع لأنهما ككل إفساد في الأرض ، أم بينهما عموم من وجه ، فقد يحارب الله ورسوله في نفسه وكشخصه ولا يفسد إلا نفسه فليس مفسدا في الأرض ، وقد يفسد في الأرض وليس محاربا لله ورسوله تقصّدا مهما كان الإفساد محاربة لله أيا كان ، أم هو عموم مطلق كما سبق ، فهما إذا متداخلان متعاطفان ، فيعطف بعضها إلى بعض.

ثم الحدود الأربعة تعطف بعضها إلى بعض بعطف الترديد التخيير ، أو

٣٢٥

أنه أعم منه ومن سواه من معانيه الست (١) والمناسب هنا قضية اختلاف الجريمة أن تعني التقسيم «نحو الجناية» لا مطلق التخيير إذ لا يناسب مختلف الجناية ، أو هو تخيير التقسيم نحو الجناية :

كما في الصحيح عن بريد عن أبي عبد الله (ع) (٢) «ولكن يصنع بهم على قدر جنايتهم» كما في القوي كما الصحيح (٣) فتحمل عليها أحاديث التخيير (٤) أن ليس بذلك الفوضى ، وإنما تخييرا قبال مختلف الجريمة ، فيختار

__________________

(١) خيّر أبح قسّم بأو وأبهم

واشكك وإضراب بها أيضا نمي

(٢) روضة المتقين ١٠ : ٢٠٣ قال بريد سأل رجل أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية قال : ذلك إلى الإمام يفعل به ما يشاء ، قلت : فمفوض ذلك إليه؟ قال : لا ولكن نحو الجناية.

(٣) المصدر ٢٠٤ عن عبيدة بن بشر الخثعمي قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قاطع الطريق وقلت : ان الناس يقولون ان الإمام مخير فيه أي شيء شاء صنع؟ قال : ليس أي شيء شاء صنع ولكنه يصنع بهم على قدر جنايتهم ، من قطع الطريق فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله وصلب ومن قطع الطريق فقتل ولم يأخذ المال قتل ومن قطع الطريق وأخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله ومن قطع الطريق ولم يأخذ ولم يقتل نفي من الأرض.

(٤) مثل ما في الحسن كالصحيح عن جميل بن دراج قال سألت أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية فقلت أي شيء عليهم من هذه الحدود التي سمى الله عز وجل؟ قال : ذلك إلى الإمام إن شاء قطع وإن شاء صلب وإن شاء نفي وإن شاء قتل ...

هذا وقد يزعم دلالة موثقة أبي صالح عن أبي عبد الله (ع) قال قدم على رسول الله (ص) قوم من بني ضبة مرضى فقال لهم رسول الله (ص) أقيموا عندي فإذا برأتم بعثتكم في سرية فقالوا : أخرجنا من المدينة فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها فلما برأوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كان في الإبل فبلغ رسول الله (ص) الخبر فبعث إليهم عليا (ع) وهم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من ارض اليمن فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله (ص) فنزلت عليه هذه الآية فاختار رسول الله (ص) القطع فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.

أقول : إختيار القطع ـ لو صح ـ ليس إلّا نحو الجناية وحسبها ، فعلّهم اشتركوا في ذلك القتل فلا يقتلون ، وأما إختيار القطع للقاتل فهو خلاف الضرورة والنص (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ...)

٣٢٦

من هذه الأربع لكل جريمة ما تناسبه من عقوبة.

فجريمة واحدة تأخذ واحدة من هذه الأربعة ، وتأخذ الزيادة زيادة كما هيه ، والجامع لها كلها يؤخذ بأشدها وهو أجمعها ، أن تقطع يده ورجله من خلاف وينفى ، ثم يقتل ويصلب في المنفي ، والترتيب في الشدة هو التصليب والتقتيل والتقطيع والنفي ، وتقديم الثاني في الآية علّه لأنه الأكثر في موجبات الدم ، ثم الأوّل ومن ثم الأخيران.

فكما أن حد الساق غير الشاهر السلاح أن تقطع يده ، فحد الشاهر غير القاتل أن تقطع يده ورجله من خلاف ، وحده إن قتل ، أن يقتل بعد القطع صلبا ، وعلى هذا القياس.

وعلى الحاكم الشرعي رعاية العدل في العقوبة حسب الجريمة دون زيادة عليها ولا نقيصة ، وفي رابعة هذه الأربع (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) وجوه عدة هي أيضا مترتبة كما الأربع فيما بينها.

وتراه نفيا من الأرض كلّها ، وطبعا إلى ما تحت الأرض؟ وهو قتل بصيغة أخرى غرقا أو حرقا أو هدما لجدار عليه ، وقد يصح أن تعنيه (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ضمن ما تعنيه ، فهو قتل خفيف أخف من الصلب والقتل بسلاح (١) وقد يختص بمن يسعى في الأرض كلها فسادا فلينف منها

__________________

ـ وفي الوسائل ١٨ : ٥٣٦ عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (ع) في هذه الآية قال : الإمام في الحكم فيهم بالخيار إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع وإن شاء نفى من الأرض. أقول يحمل على نحو الجريمة.

(١) روضة المتقين ١٠ : ٢٠٤ في القوي عن عبيد الله بن طلحة عن أبي عبد الله (ص) في الآية هذا ففي المحاربة غير هذا النفي؟ قال : ويحكم عليه الحاكم بقدر ما عمل وينفى ويحمل في البحر ثم يقذف به لو كان النفي من بلد إلى بلد كان يكون إخراجه من بلد إلى بلد آخر عدل القتل والصلب والقطع ولكن يكون حدا يوافق القطع والصلب.

٣٢٧

كلها حسما لمادة الفساد.

أم هو نفي من أرض الإسلام إلى سواها ، حيث يختص سعيه في إفسادها فإلى سواها إذا لم يصبح من الدعاة فيها ضد الإسلام ، أو المتآمرين مع أهلها ضد أهل الإسلام.

أم نفيا من بلد الجريمة أو بلادها إلى غيره أو غيرها حسما لها عنها ، ثم يوصىّ القائمون بأمر المنفي ألا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تواكلوه ولا تشاربوه .. فإنه سيتوب (١). فلا يعني نفيه إلّا إخراجه عما استأنسه من حياته الأهلية ، وإحراجه في المنفي أن يعيش في زاوية حتى يتوب.

أو هو نفي من أرض الحرية في عمله وفي كل جنبات الحياة الحرة ، استئصالا لبأسه ككل ، وتأديبا له وتعويضا عما أفسد ، تقويضا لظهر الفساد حتى يتوب فرجوعا إلى حياة سليمة صالحة (٢).

__________________

ـ أقول : «لو كان» إنما تنفي حصر النفي فيما يزعم ، وليكن النفي وهو بديل عن كل من هذه الثلاث عدلا منها ، فكما الاختلاف في هذه الثلاث فليكن النفي مختلفا في عدله لهذه الثلاث.

(١) في الحسن كالصحيح عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (ع) ... قلت : النفي إلى أين؟ فقال : ينفى من مصر إلى مصر وقال ان عليا (ع) نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة وفي القوي كالصحيح عن عبد الله بن إسحاق المدائني عن أبي الحسن الرضا (ع) قال سئل عن هذه الآية ـ إلى قوله ـ : كيف ينفى وما حد نفيه؟ قال : ينفى من المصر الذي فعل فيه ما فعل إلى غيره ويكتب إلى أهل ذلك المصر بأنه منفي فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه فيفعل ذلك به سنة فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتى تتم السنة قلت فإن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال : ان توجه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها ، وفي القوي عن أبي الحسن (ع) مثله الا أنه قال في آخره : يفعل به ذلك سنة فإنه سيتوب قبل ذلك وهو صاغر قال فقلت : فإن أم أرض الشرك يدخلها؟ قال : يقتل.

(٢) الوسائل ١٨ : ٥٣٥ محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن أحمد بن الفضل الخاقاني من ـ

٣٢٨

فلا يعني نفيه ـ أيا كان ـ إلّا نفي سعيه في الفساد بمختلف الذرائع ، نفيا لنفي قدره ، فإنه إصلاح له وللمجتمع الذي يعيشه.

فالنفي من أرض الجريمة إلى مكان ناء يحس فيه المجرم بالغربة والتشرد والضعف جزاء ما شرّد وخوّف وطغى ، حيث يصبح في منفاه عاجزا عن مزاولة جريمته بضعف عصبيته ، أو بعزلة عن عصابته.

فقد يعم نفيه من الأرض كل هذه الثلاث كلّا حسب الجريمة ونحوها دون فوضى جزاف ، والقصد من النفي من بلد الجريمة والسجن هو تأديبه وصدّ أذاه حتى يتوب ، فقد يختص النفي في هذين الأخيرين بما يرجى تأدّبه وتوبته ، وذلك في غير القاتل والسارق المسلح والمبتدع والمضلل ، فإنهم لا توبة لهم إلّا قبل أن تقدروا عليهم.

والغرق في النفي الأول هو بديل القتل والصلب ، ثم النفي الثاني والحبس بديلان عن تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ، وأما الضرب فلا دور له في هذه الجرائم فللتعزير موارد منصوصة دون فوضى جزاف.

واللائح من نصوص النفي أنه لهدف التوبة ، حيث رجاء التأدب

__________________

ـ آل رزين قال : قطع الطريق بحلولا على السابلة من الحجاج وغيرهم وأفلت القطاع ـ إلى أن قال ـ : وطلبهم العامل حتى ظفر بهم ثم كتب بذلك إلى المعتصم فجمع الفقهاء وابن أبي داود ثم سأل الآخرين عن الحكم فيهم وأبو جعفر محمد بن علي الرضا (ع) حاضر فقالوا : قد سبق حكم الله فيهم في قوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ ...) ولأمير المؤمنين أن يحكم بأي ذلك شاء منهم ، قال : فالتفت إلى أبي جعفر (ع) وقال : أخبرني بما عندك ، قال : إنهم قد أضلوا فيما أفتوا به والذي يجب في ذلك أن ينظر أمير المؤمنين في هؤلاء الذين قطعوا الطريق فإن كانوا أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا أمر بإيداعهم الحبس فإن ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل وإن كانوا أخافوا السبيل وقتلوا النفس أمر بقتلهم وإن كانوا أخافوا السبيل وقتلوا النفس وأخذوا المال أمر بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم بعد ذلك ، فكتب إلى العامل بأن يمتثل ذلك فيهم.

٣٢٩

والإصلاح باق ، وليست الجريمة مما تحتم إحدى العقوبات الثلاث.

فللحد بعدان ، بعد الانتقام ورجاء التوبة ، وهما منفيان في الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ، إلّا في حقوق الناس الثابتة بالنص ، فمن لم يقتل أو يسرق ، لم يثبت عليه حد إن تاب قبل القدرة ، ثم وبعدها قد ينتقل حده إلى النفي رجاء التوبة ، والمبتدع والمضلّل الداعية إلى الباطل ، والساعي في الأرض فسادا ، إن تابوا وأصلحوا قد لا يجري عليهم الحد أو يكتفي فيهم بالنفي بغير غرق ، لا سيما الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ، بل ولا نفي هنا كما ينفى عنه سائر الحد.

(ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) كما أخزوا الدين والدينين (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) مما يدل على أن عقوبة الدنيا لا تكفي عن الآخرة ، وإنما تخفف عنها وتؤدبهم وتصد عن الجماعة المؤمنة أذاهم ، اللهم إلّا بدليل قاطع كما في قسم من الحدود المصحوبة بالتوبة.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أترى الاستثناء يختص بالجملة الأخيرة وهي عظيم العذاب في الآخرة وعذاب الدنيا باق؟ ظاهر الاستثناء رجوعه إلى كل الجمل السابقة دونما استثناء ، و (أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تجتث آثار العصيان بأسرها ، ومن أدناها العقوبة في الدنيا ، إلّا أن حقوق الناس مما لا يعفى عنها فيقتل القاتل إلّا أن يعفو عنه أولياء المقتول ، ولكنه قبل التوبة لا يعفى عنه وإن عفوا إلّا في غير المحارب والساعي في الأرض فسادا.

وقد يقتل بعد توبته قبل القدرة عليه كالمرتد فطريا ، مهما قبلت توبته بالنسبة للآخرة ، وبأحرى بالنسبة للتوبة عما دونه من عصيان إذا كانت بعد أن يقدروا عليه ، مهما بقيت عليه العقوبة الدنيوية.

٣٣٠

ومن واجب التوبة أن تكون نصوحا مصلحة ما أفسد بالعصيان ما أمكن ، وليعلن التوبة حتى يعرفها الحاكم وإلّا فكيف يعرفها فيعفو عنه؟.

و (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) دون «من قبل أن تلقوا عليهم القبض» مما يضيّق دائرة التوبة بما قبل القدرة عليهم ، فإن لم يتوبوا قبلها ولمّا يقبض عليهم فلا توبة لهم ، وعلّه لأن التوبة بعد القدرة عليهم ليست إلا خوفة وإيمانا عند رؤية البأس ، اللهم إلّا توبة خالصة عند رؤيته كما في قوم يونس ، إلّا أنها لا تغسل درن العصيان إلّا بالنسبة ليوم الجزاء وعقوبة الدنيا باقية بطليق النص.

إذا فالمغفرة في التوبة قبل القدرة هي كضابطة عامة يستثنى عنها ما يستثنى بنصوص أخرى و (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) تغفر عقوباتهم في الدنيا والآخرة ولا سيما باللمحة اللّامعة في «فاعلموا» أي أنتم حكام الشرع «فاعلموا» ولأن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له ، فلا حدّ عليه حيث الحد عقوبة أو تخفيف عن عقوبة ، والغفر هنا يختص ـ طبعا ـ بحقوق الله ، ثم للناس أن يغفروا تأدبا بأدب الله ، ولهم ألّا يغفروا بالنسبة لحقوقهم فحسب.

فحين يرتدع هؤلاء المحاربون أو الساعون في الأرض فسادا ، نتيجة استشعارهم نكارة الجريمة ، وتوبة منهم إلى الله ، إلى طريقه المستقيمة ، وهم لا يزالون في قوتهم وإمكانيتهم وقبل القدرة عليهم ، إذا سقطت جريمتهم كيفما كانت ولم يعد للسلطان عليهم من سبيل ، اللهم إلا القاتل عمدا فإن دم المسلم لا يهدر.

فالمنهج الإسلامي يتعامل مع الطبع البشري بكل منحنياته مشاعر ومسارب ومحتملات والله ـ وهو البارئ البارع لهذه الطبيعة ـ يؤدبه كأحسن ما يرام ، فلا يأخذه بحادّ القانون وحدّه ، وحده ، فإنما يرفع سيف القانون مصلتا لارتداع من لا يرتدع إلّا بالسيف ، فاعتماده الأوّل ليس إلّا على تربية القلوب

٣٣١

وترقيتها إلى مراقي الصلاح والإصلاح ، استجاشة لمشاعر التقوى ، وإخافة عن الطغوى.

فالدور الأوّل في النظام الرباني هو دور التعليم والتربية ، ثم دور الأمر والنهي والموعظة الحسنة ، ومن ثم يأتي ـ كدور أخير ـ دور التأديب بحدود أو تعزيرات بالنسبة للذين لا يرتدعون بأي رادع سواها ولكي يتم الأمن وتطم الطمأنينة في الجماعة المسلمة ، وهنا تعرف مدى الصلاحية العامة لضابطة (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)!.

وحصيلة البحث عن آية المحاربة : أن محارب الله ورسوله والساعي في الأرض فسادا في أشد مراحله تجري عليه أحد الحدود الثلاثة صلبا أو قتلا أو تقطيعا ، ولا سيما الذي قتل أو فتن أو أضل عقيديا ، وأما الخارج عن المحاربة والإفساد بالنسبة لناموس العقيدة والنفس ، فلا قتل وإنما (يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) وهي أرض الإفساد ، غرقا وهو أشده ، ونفيا عن بلاد الإسلام ، ثم عن بلده ، ثم عن حريته إلى السجن ، ثم عن شغله شعبيا أو حكوميا ، فكلّ قدر صدّ الإفساد ، أو تأديبه حتى لا يفسد ، فإنما القتل أو الصلب فيما لا سبيل إلى صده عن الإفساد تأديبا أو نفيا من الأرض ، ولا يشمل «أو ينفوا ...» تعزيره ، فإنه دون هذه كلها ، لأنه بالنسبة لغير السعي في الإفساد ، من فساد دون سعي إذا كان متجاوزا إلى غيره.

و (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ...) حسم لمادة العصيان أيا كان.

فعلى حكام الشرع رعاية الحائطة الكاملة في حقل الحدود ، فما لم يثبت حق في حد فلا حق لهم أن يبادروا في ذلك الحد ، ولأن الحدّ تأديب يعالج مشكلة السعي في الفساد وأضرابها من مشاكل التخلفات ، فليحدّد الحدّ عند حد التأديب والصد عن الجريمة ، دون فوضى الخشونات التي قد يترائى أنها من حدود الله في إجراءات الحدود.

فلا حدّ ـ إذا ـ إلّا فيما تبين كالشمس في رايعة النهار أنه محاربة الله أو

٣٣٢

الرسول أو أنه سعي في فساد الأرض ، ثم الحد الأحدّ ليس إلّا في أحدّ الجرائم فاعلية في الإفساد وهو إفساد الدماء والعقائد ، ومن ثم سائر الحدود المذكورة هنا وفي فقه الحدود.

فالقدر المعلوم ، المحكوم عليه بالقتل في هذا النص ، هو محارب الله ورسوله قتل أم لم يقتل ، فإنه مرتد عن شرعة الله ، فليس المؤمن بالله ليحارب شرعة الله والمؤمنين بالله لإيمانهم.

فالمضلل للمؤمنين عن علم وعمد هو من المحاربين ، حيث الحرب لا تعني فقط الحارة الدموية ، بل والحرب الباردة وهي الدعاية ضد الإيمان أشد من الحارة ، ثم ولا يحارب الله إلا بحرب الدعاية ضد الله ، مهما يحارب الرسول (ص) ما دام حيا ، ولكن محاربة الرسول المستمرة لا تعني إلا محاربة رسالته وسنته الرسالية.

فالخارجون على من يحكم بشرعة الله ، المعتدون على أهل دار الإسلام المقيمين لشرعة الله عنادا لها ولله ، والمروّعون للمؤمنين محاولة لتعطيل شرعة الله ، هؤلاء هم من الذين يحاربون الله ورسوله ، فقد يقتلون أو يصلّبون ، وأما سواهم من الجناة فهم بين من يسعى في الأرض فسادا ، فقد ينفون من الأرض بمختلف النفي ، أم يفسدون دون سعي فنحو الجناية كما في مختلف الساعين في الأرض فسادا.

فليس حد القتل إلّا في القاتل عمدا أو المرتد بمحاربة الله ورسوله أم سواهما ، ومن ثم سائر الحدود حسب المسرود في فقه الحدود كتابا وسنة.

ذلك ، وليس الخارجون على السلطات غير الشرعية ـ مهما خيّلت شرعيتها ـ ليسوا محاربين الله ورسوله ، بل هم محاربون من حارب الله ورسوله ، أم حاد الله ورسوله ، أم ـ لأقل تقدير ـ الذين ليست سلطاتهم شرعية مهما لم يكونوا من محاربي الله ورسوله في سلطاتهم.

٣٣٣

كما المصلحون الذين يعارضون الأخطاء القاصرة أو المقصرة في السلطات الشرعية ، ليسوا من الخارجين على الحق المطاع.

فحين يدّعي قائد روحي زمني أنه مشرّع قضية المصالح الوقتية ، قاصرا في دعواه أم مقصرا ، فالمفروض على العلماء الربانيين أن يقوموا بتوجيهه إلى الحق لتكون كلمة الله هي العليا ، مهما كان القائد المرجع الأعلى ، فإن شرعة الله هي أعلى من كل أعلى ، فهي أحرى بالحفاظ عليها ممن يمثلها خاطئا فيها.

فهؤلاء الدعاة في سبيل الله ـ إذا ـ إنما يحاربون في سبيل الله ، وليسوا محاربين الله ، فمن يحاربهم هو الذي يحارب الله ، أم يحارب في سبيل الباطل.

فلا عاذرة للسلطات الإسلامية في قضاءهم على من يعارضهم سنادا إلى آية المحاربة ، إذ ليسوا هم الله ولا رسول الله ، ولا أنهم ـ أيا كانوا إلّا المعصومين ـ ممن يمثّل شرعة الله معصومة لا خطأ فيها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣٥).

إن قضية الإيمان ـ الأولى ـ هي تقوى الله واجتناب محارمه ، ومن ثم تطبيق ما فرض الله ، سلبا قبل إيجاب ، تحرزا عن العقاب قبل ابتغاء الثواب ، فتقوى الله تحلّق على كافة الجنبات السلبية في شرعة الله ، وقد تناسبها الآية السالفة المهددة الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ، فكما من تقوى الله في القمة ترك هذه المحظورات الهامة في شرعة الله ، كذلك منها الحفاظ على حرمات الله ملاحقة للذين يحاربون الله ويسعون في الأرض فسادا ، صدا لثغرات تنشب في أهل الله ، ومنها العفو عن الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم.

٣٣٤

فتقوى الله في ذلك المثلث ، تقوى بها كرامة الإيمان في حقله وأهله ، ولكنها أمام كرور العراقيل بحاجة إلى «الوسيلة» الصالحة ، الوصيلة إلى الله والتعبير هنا ب «الوسيلة» دون «الوصيلة» اعتبارا بأن «الوسيلة» هي التوصّل إلى الشيء برغبة ، وهي هنا الرغبة الإيمانية ، وأما الوصيلة فهي طليقة غير مختصة برغبة ، إذا فما بين الوسيلة والوصيلة عموم من وجه ، ثم لا وصيلة عندنا توصّلنا بصورة محتومة إلّا أن يشاء الله ، فلذلك نرى النتيجة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

إذا (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ) في تقواه الصالحة «الوسيلة» الصالحة ، ولا فحسب الوسيلة الاتكالية ، بل والأصل في هذه السبيل الشائكة المليئة بالأشلاء والدماء ، هو الجهاد بكل الطاقات والإمكانيات الذاتية : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) فإذا حقّقتم مثلث التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله ، فقد حق لكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) شقّا لأمواج الفتن بسفن النجاة.

وهنا «الوسيلة» معرفة دون «وسيلة» منكرة ، لامحة لكون الوسيلة وسيلة معروفة في أهل الله وفي سبيل الله ، دون أية وسيلة معروفة أو منكرة قضية أن الغاية تبرر الوسيلة ، فكما أن سبيل الله خالصة صالحة كما سنها الله ، كذلك الوسيلة إليه لا بد أن تكون مسنونة ربانية صالحة ، ومن وسيلة رسولية هي الرسول (ص) وأهلوه المعصومون (١) وأخرى رسالية هي القرآن

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٢٦ في عيون الأخبار في باب ما جاء من الأخبار المجموعة وبإسناده قال قال رسول الله (ص): الأئمة من ولد الحسين عليهم السلام من أطاعهم فقد أطاع الله ومن عصاهم فقد عصى الله ، هم العروة الوثقى وهم الوسيلة إلى الله ، وفي ملحقات أحقاق الحق ١٤ : ٥٧٨ ـ أخرج الحسكاني في شواهد التنزيل ج ١ : ٣٤٢ أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد أخبرنا عبد العزيز بن يحيى بن أحمد قال حدثني أحمد بن عمار الحماني عن علي بن مسهر عن علي بن بذيمة عن عكرمة في قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ...) قال : هم النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

٣٣٥

العظيم وهو وسيلة أصيلة للرسول ، فهما وسيلتان فرقدان لا يتفارقان.

ومن ثم وسيلة علمية وعقيدية وخلقية وتطبيقية ، شخصية وجماعية ، أم أية وسيلة هي حصيلة التربية الربانية ، نبتغيها إلى الله في سلوكنا سبيل الله ، تحكيما لعرى تقوى الله ف «أفضل ما توسل به المتوسلون الإيمان بالله ورسوله» (١) ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وهنا «إليه» لا تعني إلى كيانه ذاتا وصفات وأفعالا ، وصولا معرفيا أماهيه من وصولات لا تليق بذاته القدسية ، وإنما تعني إلى تقواه ومرضاته ، معرفيا وعمليّا كما يجب ويرضى.

ثم «الوسيلة» المعروفة ، المسرودة في الذكر الحكيم هي بين أصيلة وفصيلة ، والأولى هي الفطرة والعقلية السليمة وسائر الآيات الأنفسية والوسيلة العملية الصالحة ، والثانية هي طليق الآيات الآفاقية كونية ورسولية ورسالية ، ومن ثم جماعية إلى شخصية ، تجنيدا لكل الطاقات المستطاعة في حقل التقوى ، لتقوى على إفلاح هذه السبيل الشائكة فتصل إلى رضوان الله.

فعلى (الَّذِينَ آمَنُوا) أن يمحوروا في حياتهم تقوى الله وابتغاء الوسيلة إلى الله والجهاد في سبيل الله ، وذلك المثلث بين شخصي وجمعي حفاظا على الأفراد والجماعات.

ونظيرة هذه الآية تبينا لهذه المسئولية الإيمانية المحلقة على كافة المسئوليات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥ : ١٠٥) (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ...) (٣ : ١٠٣) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ

__________________

(١) سفينة البحار ٢ : ٦٤٧ قال أبو جعفر الباقر (ع) ...

٣٣٦

آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣ : ٢٠٠).

ذلك ، وقد تعني الوسيلة المبتغاة ـ إلى وسيلة التقوى ـ حصيلتها يوم الأخرى وكما في خطبة الوسيلة للإمام علي أمير المؤمنين (ع) (١) وهي على حد المروي عن الرسول (ص) درجته في الجنة (٢). فقد تجمع «الوسيلة» هنا وسيلة

__________________

(١) وهي كما في الكافي : «أيها الناس إن الله عز وجل وعد نبيه محمدا (ص) الوسيلة ووعده الحق ولن يخلف الله وعده» ألا وإن الوسيلة أعلى درج الجنة ، وذروة ذوائب الزلفة ، ونهاية غاية الأمنية ، لها ألف مرقاة ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام ، وهو ما بين مرقاة درة إلى مرقاة جوهرة إلى مرقاة زبرجد إلى مرقاة لؤلؤة إلى مرقاة ياقوتة إلى مرقاة زمردة إلى مرقاة مرجانة إلى مرقاة كافور إلى مرقاة عنبر إلى مرقاة يلنجوح ـ عود البخور ـ إلى مرقاة ذهب إلى مرقاة فضة إلى مرقاة غمام إلى مرقاة هواء إلى مرقاة نور قد أناقت على كل الجنان ورسول الله (ص) يومئذ قاعد عليها مرتد بريطتين ، ريطة من رحمة الله وريطة من نور الله عليه تاج النبوة وإكليل الرسالة وقد أشرق بنوره الموقف وأنا يومئذ على الدرجة الرفيعة وهي دون درجته ، وعليّ ريطتان ـ ثوبان رقيقان لينان ـ ريطة من أرجوان النور ـ أرغوان ـ وريطة من كافور ، والرسل والأنبياء قد وقفوا على المراقي وأعلام الأزمنة وحجج الدهور عن أيماننا قد تحللتهم حلل النور والكرامة ، لا يرانا ملك مقرب ولا نبيّ مرسل إلا بهت بأنوارنا وعجب من ضيائنا وجلالتنا ، وعن يمين الوسيلة عن يمين الرسول (ص) غمامة بسطة البصر يأتي منها النداء : يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي العربي ، ومن كفر فالنار موعده ، وعن يسار الوسيلة عن يسار الرسول (ص) ظلمة يأتي منها النداء : يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي والذي له الملك الأعلى ، لا فاز أحد ولا نال الروح والجنة إلا من لقى خالقه بإخلاص لهما والاقتداء بنجومهما فأيقنوا يا أهل ولاية الله ببياض وجوهكم وشرف مقعدكم وكرم مآبكم وبفوزكم اليوم على سرر متقابلين ويا أهل الانحراف والشرود عن الله عز ذكره ورسوله وصراطه وأعلام الأزمنة أيقنوا بسواد وجوهكم وغضب ربكم جزاء بما كنتم تعملون.

(٢) في كتاب علل الشرائع بإسناده إلى أبي سعيد الخدري قال : كان النبي (ص) يقول : إذا سألتم الله لي فاسألوا الوسيلة فسألنا النبي (ص) عن الوسيلة فقال : هي درجتي في الجنة وهي ألف مرقاة ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد شهرا وهي ما بين مرقاة جوهر إلى مرقاة ياقوت إلى مرقاة ذهب إلى مرقاة فضة فيؤتى بها يوم القيامة حتى تنصب مع درجة ـ

٣٣٧

الأولى والأخرى كما سنها الله وقررها ، دون الوسائل المختلفة ولا سيما المحظورة ، فإنما هي المحبورة.

وهنا (اتَّقُوا اللهَ) تحلّق إلى أصيل التقوى فصيلتها الوسيلة إليها ، فلا يتوسل إلى التقوى بوسيلة الطغوى ، والغاية ليست لتبرر الوسيلة ، فإنما التقوى تبرّرها كما تبرّر الغاية ، سلسلة متواصلة من الحياة الإيمانية راحلتها التقوى كزادها ، وهي الصراط المستقيم.

ثم (اتَّقُوا اللهَ) تعم تقوى السلب تركا للمحظورات ، وتقوى الإيجاب فعلا للمحبورات المشكورات ، ومن ثم لا تتحقق التقوى دون أية وسيلة ولا بأية وسيلة ، فإنما هي «الوسيلة» المقرّبة إلى الله ، وكما هي لغويا التوسل التقرّب إلى الشيء برغبة ، وسيلة مقرّبة مرغوبة ، لا مغرّبة منكوبة.

فتخيّل التقوى دون أية وسيلة ، هو كتخيّلها بوسيلة مغرّبة غير مرغوبة ، إنّه تخيل جاهل قاحل ، قد غرق فيها خلق كثير ، كالقائلين إن الغاية تبرر الوسيلة فيتذرعون بأية وسيلة محظورة للحصول على الغاية المرغوبة ، والقائلين أن التوسل بالعبادة غير مفروض على من هو متقّ في قلبه ، أو الواصل إلى الله بعبادته ، حيث العبادة ليست إلّا للوصول إلى اليقين : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).

إذا فترك الوسيلة الصالحة إلى الله وفي تقوى الله ليس إلا طغوى على الله ، تخلفا عن شرعة الله المحلقة على المسئوليات القلبية والقالبية ، الشخصية والجماهيرية ، وأما الغاية التي هي أهم من الوسيلة فقد تتبرر وسيلتها حين يدور أمر الواجب بينهما كغاية الإنجاء من الغرق حيث تتبرر وسيلته المحظورة كلمس بدن الأنثى للذكر وعكسه ، إذا فليست كل غاية

__________________

ـ النبيين وهي في درج النبيين كالقمر بين الكواكب فلا يبقى يومئذ نبي ولا صديق ولا شهيد إلا قال : «طوبى لمن كان هذه الدرجة درجته ...».

٣٣٨

محبورة تبرر كل وسيلة محظورة إلّا في ذلك الدوران.

ولأن خطاب الإيمان هنا يقتضي حاضر الإيمان للمخاطبين ، فالوسيلة ـ إذا ـ هي غير حاضر الإيمان ، مهما عمت جادّه الجديد بعد ما كان ، ف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ ...).

ذلك ، فتقوى الله ، وابتغاء الوسيلة إلى الله والجهاد في سبيل الله مثلث من الواجب الأصل أمام الله ، المهندس عليها صرح الإيمان بالله ف (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (١٧ : ٥٧) وهي وسيلة القرب إلى الله المحتاج إليها لكلّ حتى رسول الله (ص) حيث قال : سلوا الله لي الوسيلة ، قالوا : وما الوسيلة؟ قال : القرب من الله ثم قرء (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) (١).

إذا ف «الوسيلة» تعم كل مراتبها لمختلف درجات المؤمنين.

وحصيلة البحث عن الوسيلة أنها بين أنفسية وآفاقية ، والأنفسية بين عقلية وفطرية كما الآفاقية بين رسولية ورسالية وكونية أخرى هي سائر الآيات الآفاقية ، ثم التطبيق عمليا ، فهي خطوات ثلاث في سبيل الله أولاها هي أولاها وأخراها هي العمل وأوسطها الوسيلة المعرفية الوسيطة من وحي الله.

وآية الوسيلة هذه هي من عساكر البراهين القرآنية المؤيدة لبراهين فطرية وعقلية أن مقدمات الواجبات واجبة ، فتقوى الله في السلبية التحريمية والإيجابية الإيجابية تحتاج إلى ابتغاء الوسيلة فهي ايضا واجبة كوجوبها ، دون حاجة إلى إ المباحث الأصولية حولها.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٠ ـ أخرج الترمذي وابن مردويه واللفظ له عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص): ...

٣٣٩

فهذه ضفّة الإيمان بصفته لأهله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ومن ثم ضفّة الكفر وصفته لأهله حيث هم يفلجون :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣٦).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وماتوا وهم كفار لن يفتدوا من عذاب الله ف (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وحملوا معهم هذه المملكة الواسعة (لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) إذ لا فدية عن عذاب يومئذ مهما كانت ضعف ما في الأرض كما هنا وفي (١٣ : ١٧) : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) وفي (٣٩ : ٤٧) : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ثم في (٧٠ : ١١) : يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه. وصاحبته وأخيه. وفصيلته التي تؤويه. ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه. كلا انها لظى ثم المزيد على الأرض وما فيها ومثلها معها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣ : ٩١).

وإن أقصى ما يتصوره الخيال على أساس الافتراض غير الواقع ، واقعه هو أن يكون للذين كفروا كل ما في الأرض ومثله معه ، ثم وأهلوهم وجميع من في الأرض ، ثم وملء الأرض ذهبا ، وذلك أعلى ما يتصوره الخيال ، ثم يصورهم وهم يحاولون الافتداء بهذا وذاك وذيّاك لينجوا بها من عذاب يوم القيامة ، ومن ثم الإياس المطلق المطبق (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ).

فهؤلاء وهم تاركوا الإيمان والتقوى وابتغاء الوسيلة إلى الله والجهاد في سبيل الله لهم عذاب النار خالدين فيها ، وهكذا نسمع ربنا يحيل الافتداء من

٣٤٠