الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

والمساكين وذوي القربى ، كما يسد الخوف عمن ترك ذرية ضعافا.

هنا تقوى الله والقول السديد من المورثين ألا يوصوا بما يضر بالورثة ، ومن أولياء اليتامى ألا يقربوا أموالهم إلّا بالتي هي احسن ويحسنوا إليهم القول ، وبالنسبة للوارثين أن يتقوا الله في رزقهم كما يجب من أنصبتهم ، وأضرابهم من السبع وان يقولوا لهم قولا يسد عنهم كل بأس وبؤس بالنسبة لهم.

وهذه الآية هي في عداد الآيات التي ترجع سوء الأعمال وحسنها إلى الذرية في الأولى كما ترجعها إلى أنفسهم في الأولى وفي الأخرى ومن رجع الحسن : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (١٧ : ٨٢).

وذلك ترغيب لنا في حسنة الأعمال وترعيب عن سيئة الأعمال ، فمن يحب نفسه وذريته الضعاف ، ويحب صالح أولاه وأخراه فليعمل عملا صالحا وليترك طالحا ، فان مثلث الأجر في الدنيا والآخرة رهين صالح الأعمال وطالحها ، ف (ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٤٢ : ٣٠) حيث تشمل الإصابات الثلاث : نفسا وذرية في الأولى ، وبالنسبة للأولى في الأخرى.

وترى ان عامل السوء يسيء ثم الله يعاقب ذريته الضعاف؟ كلا ، وإنما القصد منه انه لا يحول بين الظالمين وذريته الضعاف ، فإنه رحمة كتبها الله على نفسه للراحمين ، فلم يكتب الله على نفسه دفع الظالمين ككل عن ظلاماتهم (١)

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٤٦ عن أصول الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قال أبو عبد الله (ع) مبتدء من ظلم يتيما سلط الله عليه من يظلمه أو على عقب عقبه قال قلت : هو يظلم فيسلط الله على عقبه أو على عقب عقبه؟ فقال : إن الله عز وجل يقول : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ ..).

٢٦١

اللهم إلا وجاه الراحمين فانه ارحم الراحمين ، وقضيتها الربانية ان يجازي الراحمين بارحم مما رحموا.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠).

قد تعرّفنا من آية الابتلاء الى جانب من حل الأكل من أموال اليتامى : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) إذا فغيره محرم مهما اختلفت دركاته ، فهو ظلم كله إلّا ما استثناه ربنا تبارك وتعالى.

و (يَأْكُلُونَ ... ظُلْماً) دليل جواز أكل بغير ظلم وهو للولي الفقير قدر القوت.

و (أَمْوالَ الْيَتامى) هي التي تحق لهم مما عندهم ، او ما يجب ايتاءه إياهم ، فمنها ـ إذا ـ رزقهم إذا حضروا القسمة ، وكما منها أجرة عملهم الذي له أجر ، والدين الذي يطلبون ، والحق المالي لهم ، فكل ذلك تشمله (أَمْوالَ الْيَتامى) دون اختصاص بحاضر العيون المالية او النقود لديهم.

وهذه الآية تؤكد اتصال الآيات حتى هيه بشأن اليتامى كأصل فلتشملهم (ذُرِّيَّةً ضِعافاً) في آية الخشية ولأنهم أضعف الذرية.

ولأن صلي السعير وهو إيقاده هو لرؤوس الضلالة ، نعرف أن القصد من «يأكلون» هنا دأبه الدائب قصدا إلى الظلم بحال اليتامى في أموالهم ، وأما ولي اليتيم ـ الغني ـ الآكل من ماله قدر سعيه فليس بتلك المثابة مهما كان مقترفا لحرام ، فمال اليتيم على أية حال نار مختلفة الدركات ، تذكر آية الصلي هذه ، الدرك الأسفل ، وهو للمتعود أكل أموال اليتامى ظلما.

وقد يعني «ظلما» التجاوز الى حقه دون حق ، وأما الأكل منه أجرة فليس

٢٦٢

من ذلك الظلم مهما كان محرما لأنه قرب إلى مال اليتيم بغير التي هي أحسن ، فالسيئ ظلم بدركاته كأصل اولي ، والأحسن فضل مفروض ، والحسن ـ كالأكل اجرة ـ عوان بينهما ، مهما كان داخلا في طليق الظلم لحرمته هنا.

وبصورة طليقة أموال اليتامى بالنسبة لآكليها دون حق نار مهما اختلفت دركاتها ، ودركها الأسفل ما تصلي صاحبها النار السعير ، وأخفها ترك رزقهم من التركة وأكل الولي الغني قدر سعيه ، وبينهما متوسطات الدركات حسب الظلامات.

وهنا (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) حكاية عن الحال ، ثم (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) حكاية أخرى هي عن الاستقبال.

ففي الحال (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) حصرا لما يأكلون في نار ، بيانا للملكوت الباطن ولمّا يظهر في هذه الأدنى لواقع الغطاء على هذه النار من الله لأنها دار عمل وليس الجزاء ، والغطاء على بصائر هؤلاء حيث لا يرون الحقائق هنا ثم يكشف الغطاء : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

فبحديد البصر ترى النار الملتهبة من أموال اليتامى المأكولة ظلما ، وكما أن الذرات غير المتفجرة لا تبصر نارا ، وعند ما تتفجر يعرف أنها كانت تحمل النار ، كذلك السيئات هي كما الذرات تحمل في ملكوتها نارا ولا تتفجر إلّا بعد الموت (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)!.

وهذه النار الكامنة في الأولى هي محرقة في الأخرى لحدّ (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) يصبح

حاملها حطبا ووقودا للسعير به يصطلى سائر أصحاب السعير.

إذا فأكل أموال اليتامى ظلما هو في عداد أكبر الكبائر المستحق بها صلي

٢٦٣

السعير ، وكما في حديث البشير النذير (١).

وهذه الآية من آيات انعكاس الأعمال بوسائلها ، فأموال اليتامى تتمثل نارا ، وآكلوها يصلون سعيرا ، تجاوبا بين الآكل والمأكول في تسعير السعير.

وكما ان الآكل والمأكول هنا دركات ، كذلك الصلي بما دونه من نار دركات ، دون ان تنصب في مصب واحد والجريمة دركات.

ولماذا (فِي بُطُونِهِمْ) وليس الأكل إلّا في بطونهم؟ علّه تأكيد أن مصب النار هو مصب الأكل جزاء وفاقا كما (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ـ (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ـ (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) تأكيدات ثلاث كما هنا.

وعلّ «بطونهم» تعم بطون الأرواح إلى بطون الأجساد مهما اختلفت نار عن نار ثم صلي عن صلي ، حيث الأرواح والأبدان مشتركان في ذلك الأكل الظالم.

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١٢٤ عن أبي برزة أن رسول الله (ص) قال : يبعث القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا فقيل يا رسول الله (ص) من هم؟ قال : ألم تر أن الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) ، وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال حدثنا النبي (ص) عن ليلة أسري به قال : نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار فتقذف في في أحدهم حتى تخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ فقلت يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ...» وفيه أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص) : أربع حق على الله ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيما مدمن خمر وآكل ربا وآكل مال اليتيم بغير حق والمعاق لوالديه.

وفي نور الثقلين ١ : ٤٤٩ في تفسير العياشي عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن الكبائر فقال : منها آكل مال اليتيم ظلما وليس في هذا بين أصحابنا اختلاف والحمد لله.

٢٦٤

وقد يؤيد ذلك العموم أن الأكل يعني كافة التصرفات ، الحلقة على كل الجنبات الروحية والجسمية ، فاللّابس من مال اليتيم هو لابس على جسمه نارا وفي بطن روحه نارا ، وكذلك سائر التصرفات حيث الجزاء العدل هو الوفاق العدل بين نوعية الأكل وملكوت النار حسبها ، ولكن بطون الأرواح هي بطون النار في مختلف الأكل على أية حال ، وإنما الاختلاف في الجوارح ظاهرة وباطنة ، من ملابس تلبس بأيد ظالمة ، ومآكل تؤكل بها في بطونها ، أماذا من مختلف التصرفات الظالمة ، إذا فقد تعني «بطونهم» موارد الأكل التصرف ، فلكل تصرف بطن يأكله : تصرفا فيه ، فكما الأكل يعم كافة التصرفات المتعدية ، كذلك البطون هي بطون تلك التصرفات طبقا عن طبق ، وذكر البطون إنما هو بمناسبة الأكل ، فحيث يعني الأكل كافة التصرفات فكذلك البطون تعم مواردها كلها ، فاللابس ملابس اليتيم انما يلبس نارا ، كما الآكل طعام اليتيم انما يأكل نارا ، والتعبير بالأكل تعبير بما يهم الإنسان كضرورة عامة ، فلا يعنى منه خاصة الأكل إلا بخاصة القرينة ، حيث المعنى المجازي تغلب على الحقيقي لحد يحتاج الحقيقي إلى قرينة.

وهذه الآية هي في عداد آيات انعكاس الأعمال بصورها وملكوتها يوم الجزاء ، ان لها مراحل اربع : ١ واقع الأعمال والأقوال والنيات ٢ صورها المستنسخة عنها هنا ٣ ظهور هذه الصور بعد الموت ٤ انقلابها الى ملكوتها ثوابا وعقابا.

ثم وكل هذه إذا مات دون توبة وتكفير ، حيث التوبة المكفّرة ـ المناسبة لهذه الكبيرة كسائر الكبائر ـ تجعل صاحبها كمن لا ذنب له كما تهدي له آيات التوبة والتكفير والروايات ، فيرده إليه أم يرد به إلى أهله (١) أم وإذا لم يتمكن من

__________________

(١) المصدر عن سماعة عن أبي عبد الله أو أبي الحسن عليهما السلام قال سألته عن رجل أكل مال اليتيم ـ

٢٦٥

أحدهما فليتب إلى الله توبة نصوحا وليعمل أعمالا صالحة عسى الله أن يعفو عنه بما يرضي اليتيم.

ذلك! ولقد أثرت هذه النصوص بإيحاءاتها العميقة العريقة أثرها في نفوس سليمة ، حيث خلصتها من رواسب الجاهلية ، وأشاعت فيها الخوفة والروعة ، لحد انعزل جماعة عن اليتامى بصورة طليقة فنزلت جبرا بين الإفراط والتفريط : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ).

ففي تركهم تضييع لهم وإفساد ، وفي عشرتهم الفوضى تضييع لأموالهم وإكساد ، وفي الجمع الأخوي الرحيم ، والقرب بالتي هي أحسن إصلاح لهم ووداد ، وهو العوان بين التفريط بحقهم والإفراط وهو ـ حقا ـ السداد.

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ

__________________

ـ هل له توبة؟ قال : يرد به إلى أهله ، قال : ذلك بإن الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ...).

٢٦٦

الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ

٢٦٧

الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤)

آيات ثلاث ـ الأوليان هنا وثالثة هي آية الكلالة في نهاية السورة ـ تتضمن الأصول الأولية من فقه الفرائض والمواريث ، هي حجر الأساس في سائر الفروع غير المذكورة في هذه الثلاث ، بما تنضم إليها آية أولوا الأرحام في الأحزاب وآية النصيب هنا وآية الموالي الآتية ، آيات تناحر الجاهلية الأولى الغائبة والأخرى الحاضرة المتحضرة في كيفية تقسيم الميراث على الورثة ، فقد كانوا يورثون خصوص الرجال بالنسب ـ دون الضعيفين : المرأة والطفل ـ ثم يورثون الأدعياء ، ومن ثم بالحلف والعهد ، فكان الرجل يقول لآخر : دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك ، فإذا تعاهدا على ذلك كان للحي ما اشترط من تركة الميت.

واما الإسلام فقد أبطل التوارث الجاهلي مرحليا ومصلحيا ، فاستنكره بالتبني بآيات من الأحزاب واستبدله بالهجرة والتآخي في الله ، لأن أكثر أقارب المسلمين كانوا في البداية كفارا لا يرثون ، ثم الإخوة المؤمنون كانوا يهاجرون حفاظا على صبغة الإيمان والأخوّة في الله ، فقرر الميراث في البداية بالمهاجرة والأخوة الإيمانية ثم نسخت بالقرابة كما تقول آية اولي الأرحام (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً).

وهذه مرحلة ثانية في مرحلية تشريع الميراث انه انحصر في الأقربين وبضمنهم (الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ

٢٦٨

وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) ثم في مرحلة ثالثة ـ وهي الأخيرة ـ نسخ الميراث لمن عقدت إيمانكم بهذه الآيات الثلاث ، فانحصر في الأقربين منحسرا عن كل من سواهم من الأقوياء والأدعياء والذين عقدت إيمانكم ، (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) بالوصية التي لا تتجاوز عن الثلث بشروطها ...

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ..) وتراها وصية ربانية إلى الموتى ـ فقط ـ بواجب الفرائض للأولاد؟ والميت لا يخاطب بخطاب التكليف! ولا يستطيع بعد موته تقسيما أيا كان! وخطاب الحي المورث ليس خطابا للوارثين بعد موته إلّا بدليل الاستمرار ، ولو كان لم يصح اصالة الخطاب للمورث وإشارته بدليل للوارثين ، فكيف يختصه خطاب الوصية؟.

أم إنها تخص الأحياء لحال حياتهم فحسب؟ وليس يفرض عليهم تقسيم أموالهم ما داموا أحياء مهما جاز لهم وصح تقسيم عادل بينهم حسب المصالح الممضات في شرعة الله!.

إنها ـ بطبيعة الحال ـ وصية للوالدين بحق أولادهم حيين وميتين ، ف (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ضابطة ثابتة لتقسيم او انقسام بين الأولاد ، ليست لتستثنى بحقهم بتقسيم يخالفها حالة الحياة ، ام بوصية للأقسام لما بعد الممات.

إذا فكما لا يحل انقسام الميراث بين الأولاد بغير هذه الضابطة ، كذلك لا يحل للوالدين تقسيمه بينهم حالة الحياة هبة او وصية او سواهما بغير هذه الضابطة ، اللهم إلّا زيادة في الثلث حيث يتحلمها حياة ومماة حسب المصلحة الصالحة في التقسيم.

ولماذا خطاب الأحياء هنا ـ فقط ـ للوالدين لمكان «في أولادكم» دون تعميم لكل المورثين؟.

٢٦٩

علّه لأنهما ـ ولا سيما الوالد ـ هما اللذان قد يقتسمان أموالهما بين أولادهما ، ولا هكذا الأولاد والأزواج ، وان الوالدين هما محور الميراث إيراثا والأولاد هم المحور ميراثا ، وانهما اللذان يموتان قبل أولادهما في الأغلبية الساحقة.

ثم هنا «في أولادكم» دون «أبنائكم» لأن الأبناء تخص الذكران ، ثم و «أولادكم» تعم أولاد الأولاد إلى الأولاد ذكرانا وإناثا ، والطبقة الأولى في الميراث هي «أولادكم» وهم مواليدكم دون فصل.

ثم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لا تشمل أولاد البنين والبنات ، فلابن البنت نصيبها ولبنت الابن نصيبه وليس هنا (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إلّا بين الأحفاد أنفسهم ، وفي ذلك كفاية لاختصاص القاعدة ب «أولادكم» دون فصل ، مهما شملت الذكور والأناث من أولاد الأولاد والبنات ، فإنهم يقتسمون الميراث بينهم بنفس الضابطة ، ولكن لولد البنات ككل نصف ما لأولاد الأبناء حتى وإن كان ولدهن ذكورا وولدهم بنات ، حيث البنات هنا لهن مثل حظي الأولاد اعتبارا بالوالدين ، فهما الأصيلان في «أولادكم» دون الأحفاد.

ذلك ، ولكن «أولادكم» تعم كافة مواليدكم مهما كانوا بفاصل ام فواصل ، وإن كان الأبعد لا يرث مع وجود الأقرب لآية (أُولُوا الْأَرْحامِ) وهذه الضابطة مطبقة في كل الأولاد مهما ورث ولد البنت نصيبها وولد الابن نصيبه ، ولكنهم ـ على أية حال ـ يقتسمون نصيبهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) دونما استثناء ، والآية ضابطة ثابتة بالنسبة لمجموعة الذكور والإناث في درجة واحدة من حيث الميراث.

إذا ف «أولادكم» تشمل المواليد بمختلف طبقاتهم مع الحفاظ على حق الأقرب فالأقرب ، فمع وجود الولد لا يرث ولد الولد مهما مات أبوه فانه يحجبه

٢٧٠

عمه او عمته لأنهما اقرب إلى جدهم منهم.

فقد تحلق هذه الضابطة على كل «أولادكم» لما يرثون منكم حسب طبقاتهم.

وهل ان «أولادكم» تشمل كفارهم لواقع الولادة؟ والكافر منقطع الصلة عن والديه المسلمين إلا في حقل الزواج.

ف (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ضابطة ثابتة في قطع الصلة إلا فيما يستثنى كالزواج وأضرابه ، ولا سيما إذا خلف كافرين مع مؤمنين حيث التسوية بينهما في الميراث وفي أية كرامة اخترامة لساحة الإيمان وتسوية بين ضفتي الكفر والإيمان.

وقد تقضي على اللّااستواء آيات اللااستواء بين القبيلين اللهم إلا فيما يستثنى ، أم إذا أسلم الكافر قبل القسمة ، أم بلغ بعد القسمة وأسلم فور بلوغه.

ذلك ، وكما «الأقربون» لا تشمل البعيدين إيمانا مهما كانوا من الأقربين نسبا ، كما لا تشمل البعيدين نسبا مهما كانوا من الأقربين إيمانا.

فالأقربية نسبا وسببا وإيمانا هي المحور الأصيل في حقل الميراث.

وإذا لا تدل (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) على حرمان الكافر من ميراث المؤمن ، حيث القصد منه هو الأهلية الروحية الرسالية ـ ان صدقناها ـ وليس موضوع الميراث إلّا اهلية النسب اللهم إلا على ضوء آيات اللااستواء وآية السبيل.

ولكن الأهلية المسلوبة هي أهلية الإيمان دون أهلية الرسالة ، و (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) تنفي صلاحية اللحوق الى الوالدين ، فكيف تشمل «أولادكم» الكفار منهم وقد نفيت اهليتهم وصلاحهم؟.

٢٧١

هذا ، ولكن المؤمن الكافر ـ سواء انحصر وراثه بالمؤمنين ام اشتركوا مع الكافرين ـ كرامة للإيمان.

ذلك ، ولأنه لا بد للكافر من وارث ، فإذا لم يرثه المؤمنون فلا وارث إذا إن لم يكن معهم كافرون ، ام كان لهم صنفان وورثه الكافرون ، وذلك سبيل لهم على المؤمنين ، أم إذا اشتركوا في ميراثه فتسوية مرفوضة (١)

وقد يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : لا يتوارث أهل ملتين ، نرثهم ولا يرثونا ، إن الإسلام لم يزده في حقه الا شدة (٢)

__________________

(١) وهذه ضابطة ثابتة ويدل عليها صحيحة أبي بصير قال : سألت أبا جعفر عليهما السلام عن رجل مسلم مات وله أم نصرانية وله زوجة وولد مسلمون ، فقال : إن أسلمت أمه قبل أن يقسم ميراثه أعطيت السدس ، قلت : فإن لم يكن له امرأة ولا ولد ولا وارث له سهم في الكتاب من المسلمين وأمه نصرانية وله قرابة نصارى ممن يكون له سهم في الكتاب لو كانوا مسلمين لمن يكون ميراثه؟ قال : إن أسلمت أمّه فإن جميع ميراثه لها وإن لم تسلم أمه وأسلم بعض قرابته ممن له سهم في الكتاب فإن ميراثه له وإن لم يسلم من قرابته أحد فإن ميراثه للإمام الكافي ٧ : ١٤٤ والتهذيب ٢ : ٤٣٧ والفقيه باب ميراث أهل الملل تحت رقم ١٢.

(٢) الكافي ٧ : ١٤٢ والتهذيب ٢ : ٤٣٧ في حسنة جميل وهشام عن أبي عبد الله (ع) أنه قال فيما روى الناس عن النبي (ص) ...

وفي التهذيب ٢ : ٤٣٦ والفقيه باب ميراث أهل الملل تحت رقم ٨ عن أبي عبد الله (ع) قال : المسلم يحجب الكافر ويرثه والكافر لا يحجب المسلم ولا يرثه ، ومثله في الكافي ٧ : ١٤٣.

وفي الفقيه تحت رقم ٩ صحيحة أبي ولاد قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : المسلم يرث امرأته الذمية وهي لا ترثه.

وفي الكافي ٧ : ١٤٦ في المرسل : لو أن رجلا ذميا أسلم وأبوه حي ولأبيه ولد غيره ثم مات الأب ورث المسلم جميع ماله ولم يرث ولده ولا امرأته مع المسلم شيئا.

وفي التهذيب ٢ : ٤٣٧ عن أبي العباس قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : لا يتوارث أهل ملتين يرث هذا هذا ويرث هذا هذا إلّا أن المسلم يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم.

٢٧٢

وإذا لم يكن للكافر وارث مسلم فإرثه للإمام فإنه وارث من لا وارث له.

وان اسلم الكافر على ميراث قبل القسمة ورث ، وان كان المسلم وحيدا فلا قسمة ورث ان اسلم بعد موت المورث وله المال كله (١) وان كان له وارث مسلم وحيد وآخر كافر لم يرث بإسلامه بعد موته إذ لا قسمة حتى يشمله الإسلام قبل القسمة اللهم إلّا قسمة بين الثلث والديان ، ثم اللهم إلّا إذا كان الوارث هو الامام فيرث ان أسلم دون الإمام (٢).

وان كان كافرا وله ولد مسلمون وآخر صغار فهم لا مسلمون ولا كفار ، لا تقسم التركة إلّا بعد بلوغ الصغار فإن اسلموا ورثوا وإلا فلا يرثون.

وكما يحجب الكفر عن الإرث كذلك القتل عمدا ظلما لا خطأ (٣) او

__________________

(١) ويدل عليه صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) في الرجل يسلم على الميراث؟ قال : إن كان قسّم فلا حق وإن كان لم يقسم فله الميراث ، قال : قلت والعبد يعتق على ميراث! فقال : هو بمنزلته (التهذيب ٢ : ٤٢٨) أقول : ذلك لأن التقسيم يملك عينا والتركة قبل التقسيم ليست ملكا يمينيّا.

وحسنة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : من أسلم على ميراث قبل أن يقسم الميراث فهو له ومن أسلم بعد ما قسم فلا ميراث له ومن أعتق على ميراث قبل أن يقسم الميراث فهو له ومن أعتق بعد ما قسم فلا ميراث له ، وقال : في المرأة إن أسلمت قبل أن يقسم الميراث فلها الميراث (الكافي ٧ : ١٤٤) أقول : والتقسيم أعم مما بين الورثة أنفسهم ، أم كل ذوي الحق ففي وحدة الوارث مع دين ووصية هنا مورد للتقسيم.

(٢) وتدل عليه صحيحة أبي بصير المروية في الكتب الثلاثة في مسلم مات وله قرابة نصارى إن أسلم بعض قرابته فإن ميراثه له فإن لم يسلم أحد من قرابته فإن ميراثه للإمام ، وقد تقدمت آنفا.

(٣) ومما يدل عليه صحيحة أبي عبيدة عن أبي جعفر عليهما السلام في رجل قتل أمه؟ قال : «لا يرثها ويقتل بها صاغرا ولا أظن قتله بها كفارة لذنبه» (الكافي ٧ : ١٤١).

وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال : «إذا قتل الرجل أباه قتل به وإن قتله أبوه لم يقتل به ولم يرثه» (المصدر).

٢٧٣

قصاصا ، ومما يدل عليه (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فأصل النفع أصل في الميراث ، وأقربيته تقرب أكثرية الميراث ممن هو أقرب نفعا الى قريب النفع ، والقاتل ليس قريب النفع ولا نافعا ، فلا أضر من القتل ظلما فكيف يرث المقتول؟ والدية كسائر التركة تقسم كسائر التركة كما فرض الله من بعد وصية يوصى بها او دين ، وليس للورثة السماح عن الدية مع دين او وصية او يتيم اللهم إلّا قدر سهامهم ، ولهم القصاص فانه الحق الأوّل بهم فلا دور للدية قبل عفوهم عن القصاص ، اللهم إلّا إذا كان فيهم قاصر فينتظر حتى يبلغ فينفذ إما القصاص وإما الدية.

وهل يرث وليد الزنا والشبهة والملاعنة والمخلوق من ماء الرجل ورحم المرأة دون وقاع نكاحا او لقاحا أو شبهة؟.

الجواب كلمة واحدة : ما صدق «أولادكم» فله كل أحكام الأولاد ومنها التوارث بينهما ، وانصراف «أولادكم» عن أولاد الزنا دعوى خاوية خالية عن أي دليل شرعي.

ومهما كان الأولاد الشرعيون هم أصدق مصاديق «أولادكم» فغير الشرعيين ايضا هم أولادكم في كافة اللغات والأعراف.

__________________

ـ وصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال قال رسول الله (ص) «لا ميراث للقاتل» (المصدر).

واشتراط الخطإ في الحجب هنا لحسنة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهما السلام قال : أمير المؤمنين (ع) في رجل قتل أمه ، قال : إن كان خطأ فإن له ميراثه وإن كان قتلها متعمدا فلا يرثها(التهذيب ٢ : ٤٤٠ والإستبصار ٤ : ١٩٣).

وصحيحة عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل قتل أمه أيرثها؟ قال : «إن كان خطأ ورثها وإن كان عمدا لم يرثها» (المصدر).

٢٧٤

وعدم صدق الولد على وليد الزنا لزامه عدم صدق الأم والبنت عليهما عن زنا ، فهل يجوز ـ إذا ـ تزويج الأم والبنت والأخت عن زنا؟ وحرمته ضرورة إسلامية.

وكون الحفاظ على المواريث من حكم تحريم الزنا ليس لزامه حرمان ولد الزنا ، فانما الحكمة هي الحفاظ على النسب حتى يسلم الميراث عن الشبهة ، ولا سيما فيما لا فراش والولد مشترك بين زانين.

وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (١) مخصوص بمورد الفراش حيث يشك كون الولد من صاحب الفراش او

__________________

(١) في الصحيح عن أبي عبد الله (ع): أيما رجل وقع على وليدة قوم حراما ثم اشتراها وادعى ولدها فإنه لا يورث منه فإن رسول الله (ص) قال : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولا يورّث ولد الزنا إلّا رجل يدّعي ابن وليدته وأيما رجل أقر بولده ثم انتفى منه فليس ذلك له ولا كرامة يلحق به ولده إذا كان من امرأته ووليدته (الكافي ٧ : ١٦٣).

وفي خبر محمد بن الحسن القمي قال كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (ع) معي يسأله عن رجل فجر بامرأة فحملت ثم انه تزوجها بعد الحمل فجاءت بولد والولد أشبه خلق الله به؟ فكتب بخطه وخاتمه : «الولد لغية لا يورث» (المصدر والتهذيب ٢ : ٤٣٠).

وفي حسن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليهما السلام أن عليا (ع) كان يقول : «ولد الزنا وابن الملاعنة يورثه أمه وأخوته لأمه وعصبتها» (التهذيب ٢ : ٤٣٠ والإستبصار ٤ : ١٨٣).

وعن يونس «إن ميراث ولد الزنا لقرابته من أمه كابن الملاعنة» (قال الشيخ هذه الرواية موقوفة لم يسندها يونس إلى أحد من الائمة).

وفي خبر محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهما السلام قضى أمير المؤمنين (ع) في وليدة جامعها ربها في طهرها ثم باعها من آخر قبل أن تحيض فجامعها الآخر ولم تحض فجامعها الرجلان في طهر واحد فولدت غلاما فاختلفا فزعمت أنهما أتياها في طهر واحد فلا أدري أيهما أبوه فقضى في الغلام أنه يرثهما كلاهما ويرثانه سواء (التهذيب ٢ : ٤٣٤ والإستبصار ٤ : ١٨٧).

أقول : هذا الآخر يعارضه «الولد للفراش ..» حيث الأول فراش والثاني عاهر ، وليس في هذه ـ

٢٧٥

من العاهر ، واما المقطوع كونه من العاهر فهو ولده دون صاحب الفراش ، فضلا عما لا يكون فراش.

ولم يثبت في السنة سقوط ولد الزنا لكونه ولد الزنا عن حكم الوراثة ، ولا ينفع الإجماع او الشهرة قبال عموم الآية.

فالأشبه ان ما ثبت كونه من ماء الرجل والمرأة فله كل الأحكام حتى الميراث ، لا سيما وان في حرمانه عن الميراث حرمانا على حرمان ، اللهم الا ولد الملاعنة فانه مقطوع النسب عن الملاعن ـ فقط ـ بثابت السنة.

وولد الشبهة بين اثنين يرث من كلّ نصفا كما يرث منه كلّ نصفا ، ولكن ولد الزنا المشتبه يلحق بالفراش في كل الأحكام ، وإن كان كالشبهة فكالشبهة ، وان كان من زانيين دون فراش ولا دليل على تقدم أحدهما في انعقاد النطفة فكا الشبهة.

ثم (.. لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) دون «للأنثى نصف حظ الذكر» تلمح إلى بالغ الاهتمام والعناية للأنثى المظلومة المهضومة في تلك الجاهلية القاحلة العمياء ، فقد يعكس ربنا أمرهن في عرض الميراث حيث يجعلهن محاور لحساب الفرائض.

ف (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) تلمح كأنهما الأصيلتان والذكر فرع لهما ، مهما كان نصيبه ضعف نصيبها حسب الظاهر الحاضر ، ولكن نصيبها في الحق أكثر من نصيبه حين ننظر الى المسؤولية الرجالية ، حيث الرجل عليه تحصيل مال

__________________

ـ الأحاديث على ضعفها وقصورها دلالة على انقطاع النسب بالزنا ـ دلالة ولا إشارة إلى أن ولد الزنا لا يرث مهما دل بعضها على أنه لا يورّث بالنسبة للزاني في ظرف الفراش ، إذا فالقوى هو إبقاء الآية على العموم ، وعن الصدوق وأبي الصلاح وأبي علي أنه لا يرث أمه ومن يتقرب بها وهم يرثونه كولد الملاعنة لحسن إسحاق بن عمار المتقدمة.

٢٧٦

هو نصيبه وليس على المرأة ، ثم عليه الإنفاق ابنا وزوجا وأبا وليس عليها شيء.

إذا فنصف الأنثى مدّخر وضعف الذكر مصروف لها ، فضعف الأنثى في ظاهرة نصفها ضعف في واقعه ولا سيما في الحقل الإسلامي ، وضعف الذكر في ظاهره ضعف في واقعه!.

إذا فالأنثى أصل في الميراث في قدره وقدره ، رغم ما يظن ـ دون تحسب ـ انها مهضومة الحق في ميراثها.

ثم وضابطة (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لا تجري إلا في صورة الجمع بين القبيلين أيا كان العدد من كل منهما ، ولكن المحور هنا اجتماع ذكر وانثيين فنصف له ونصف لهما ، ثم سائر فروض الاجتماع ترتضع من أصل الضابطة أن له ضعف الأنثى.

ثم في صورة الانفراد فلذكر واحد المال كله إذ لم يفرض له نصيب خاص ولا شريك في التركة ، وضابطة : (أُولُوا الْأَرْحامِ) تمنع ردا على غيره ، ثم المال بين المتعددين بالسوية.

ولأنثى واحدة حسب النص «النصف» فرضا ثم الباقي ردا حسب آية (أُولُوا الْأَرْحامِ) كما يأتي ، كما للبنتين فصاعدا الثلثان فرضا والباقي ردا بنفس النصين.

وهنا يذكر النص صورتي انفراد الأناث عن الذكور ولا يأتي بذكر صورة انفراد الذكور فرادي وجماعات ، حيث الفرض يختلف بين القبيلين ، فللذكر فرضان : ١ مع اجتماع الأنثى ، ف (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) و ٢ دون الأنثى فالمال كله فرضا وردا.

٢٧٧

وللإناث فروض ثلاثة : ١ صورة الاجتماع مع الذكور فلكل نصف الذكر ٢ كونها واحدة (فَلَهَا النِّصْفُ) ام أكثر (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) ثم يرد الباقي عليهن في الأخيرين.

(فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ...) (١١).

أترى (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) تعني واقعية الفوق؟ إذا فالثلثان هما لأكثر من اثنتين! فما لهما إذا ثلثان! ولهما ثلثان قطعا حسب الضرورة الفقهية المطبقة والسنة! وكيف يهمل نصيبهما بين نصيب الواحدة وفوق اثنتين!.

فهل نتعرف إلى ثلثيهما من مستهل الضابطة (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فواقعية الفرض في هذه الضابطة هي اجتماع ذكر وأنثى فلها ثلث ، إذا فللأنثيين ثلثان؟ ولكنها ليست إلّا في صورة اجتماع ذكر مع أنثيين فلهما ـ إذا ـ النصف وله النصف الآخر! ، ثم الآية تحمل ضابطة تحلّق على كافة موارد الاجتماع دون الانفراد ، فللذكر الواحد او الذكور وحدهم المال كله كما للأنثى الواحدة النصف فرضا والباقي ردا ، وإنما هما في صورة الاجتماع موردان لضابطة الضّعف ، دون الانفراد لكل منهما مهما انفرد كلّ أم أكثر.

ذلك! وكيف يلائم الثلثان لما فوق اثنتين وهما كذلك لاثنتين ونص الآية تختصهما بما فوق اثنتين فقد تحتمل أن لهما نصيبا عوانا بين النصف والثلثين! وهذا يوهن الحجة السابقة اكثر مما أوهنت بحجة.

او يقال : هذا إذا كان نصيب أنثى واحدة مع ذكر واحد هو الثلث حسب النص ، فبأن لا يقل نصيبها عن الثلث باجتماعها مع أنثى أولى حيث الذكر أقوى تنقيصا ، وليس ليزيد عن الثلثين لأنهما اقل مما فوق اثنتين ، فانحصر حقهما في الثلثين! ، كما وقاعدة الضعف تعطي أن حظ الأنثيين أكثر

٢٧٨

من أنثى واحدة وإلّا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وهو خلاف النص.

إذا فلا يصح لهما نصيب إلا الثلثين ، لا اقل بأولوية ، ولا أكثر بأولوية ما فوق اثنتين للأكثر لو كان لهما الأكثر!.

وجملة القول الفصل هنا علّها أننا لمّا عرفنا كون حظ البنت الواحدة النصف في وحدتها وحظ الذكر مثل حظ الأنثيين وهو الثلثان في صورة الاجتماع فقد بين أن حظ الأنثى الثلث إذا اجتمعت مع الذكر فإذا اجتمعت مع الأنثى كانت أولى بالثلث ، فحظ الأنثيين ـ إذا ـ ثلثان دون نقيصة ولا زيادة ، فهذا لا يحتاج الى مزيد بيان ولذلك أجمل عنه ، وأما إذا اجتمعت مع الأكثر من أنثى فهنا الحاجة إلى البيان وقد بين ب (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ).

وبصيغة أخرى ، إذا كانت الأنثى مع ذكر فثلث وإذا كانت وحدها فنصف ، وإذا كن فوق اثنتين فثلثان ، فالأنثيان لا يصح لهما الثلث لأنه نصيب الواحدة مع أخ ، ولا النصف لأنه نصيبها وحدها ، ولا أكثر من الثلثين حيث الأكثر أحرى بهذا الأكثر ، فلا يبقى إلا الثلثان للأنثيين دون ذكر.

هذا ولكنه تعويل على الاولوية التي لا تعرف إلا بإمعان النظر وقد يختلف فيها النظر ، فلما ذا ـ إذا ـ يبدل النص بمثلها وهو خلاف الفصيح!.

وقد تعني (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) اثنتين وما فوقهما كعبارة شائعة في مستعمل العرف الشائع ، وقد يسانده بيان نصيب الأختين (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٤ : ١٧٦).

فكما أن اثنتين هنا تعني وما فوقهما كذلك فوق اثنتين هناك هو اثنتان وما

٢٧٩

فوقهما ، إضافة الى اولوية الثلثين للبنتين من الأختين لمكان الأقربية.

ثم «فان كن ..» تفريعا على «للذكر ...» تلمح بإن حظ الأنثيين مستفاد من نفس القاعدة فإن كن البنات فوق اثنتين ف ... ولا تعني «كن» منذ الثلاث بل هو مطلق الجمع كما (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما).

وجماع هذه الوجوه قد تكفي بيانا صارما لفرض الأنثيين حسب التفاهم عرفيا وأدبيا وعقليا فلا إهمال ـ إذا ـ في بيان فرض الأنثيين ، مهما كان إجمالا بدائيا يتبين من جمال البيان كما تبيناه ، ومن دأب القرآن فسح المجال للتفكير حتى لا تنجمد الأفكار بواضح التعبير.

وقد يعني تقديم فرض الأولاد على الأبوين هنا كما قدما في الإيراث هناك (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ..) أنهم لهم النصيب الأوفر ، وأن سبق الموت في الوالدين أكثر ، ونفعهما ـ كذلك ـ بالنسبة لأولادهما أشهر.

وترى كيف شرع فرض الذكر ضعف الأنثى وهي أضعف (١) وهو أقوى ، فلا اقل في قسطاس العدل أن يكون مثلها؟.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٥١ في الكافي متصلا عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن الرضا (ع) قال قلت : جعلت فداك كيف صار الرجل إذا مات وولده من القرابة سواء ترث النساء نصف ميراث الرجال وهن أضعف من الرجال وأقل حيلة؟ فقال : لأن الله تبارك وتعالى فضل الرجال على النساء بدرجة ولأن النساء يرجعن عيالا على الرجال.

وفيه سأل الفهفكي أبا محمد (ع) ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما واحدا ويأخذ الرجال سهمين؟ فقال أبو محمد (ع) إن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة إنما ذلك على الرجال فقلت في نفسي : وقد كان قيل لي أن ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد الله عن هذه المسألة فأجابه بهذا الجواب ، فأقبل علي أبو محمد (ع) فقال : نعم هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء والجواب منا واحد إذا كان معنى المسألة واحدا جرى لأخرانا ما جرى لأولنا وأولنا وآخرنا في العلم سواء ولرسول الله (ص) ولأمير المؤمنين (ع) فضلهما.

٢٨٠