الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

ولا تخص «لا تؤتوا» بالأموال غير المؤتاة للسفهاء ، لمكان (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) حيث تفرض الحجر على السفهاء في أموالهم التي هي بأيديهم لأنها ـ ككل ـ لصالح (لَكُمْ قِياماً) صالحا اسلاميا.

فالسفيه أيا كان هو ممنوع التصرف في أمواله الحاضرة أو المستحقة على أية حال فضلا عن سائر الأموال ، اللهم إلا فيما كان صالحا فيمضى ، ولكنه لا يسمح بدفع أمواله إليه حفاظا عن الأكثرية من تصرفاته غير الصالحة.

والمعيار في السفه هو عدم الوثوق عقليا او شرعيا او فيهما ألّا يصرف المال وفقا للعقلية الإسلامية (١) فكما لا يجوز دفع المال ـ أيا كان ـ للسفيه ، مهما كان بالغا ، يجوز دفعه إلى غير السفيه مهما لم يبلغ ، اللهم إلّا اليتيم حيث يشترط في دفع أمواله إليه الرشد إضافة الى بلوغ النكاح.

وكما السفيه لا يؤتى أمواله إياه ، كذلك ـ وبأحرى ـ غير أمواله ، ومنه الوصية (٢) إليه لأنها بحاجة الى عقلية اسلامية والسفه بكلا شقيه خلو عنها.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٤١ في تفسير العياشي عن يونس بن يعقوب قال سألت أبا عبد الله (ع) في قول الله (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ..) قال : من لا تثق به ، وفيه عن إبراهيم بن عبد الحميد قال سألت أبا جعفر عليهما السلام عن هذه الآية قال : كل من يشرب المسكر فهو سفيه.

وفيه عن قرب الإسناد للحميري هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة بن زياد قال سمعت أبا الحسن (ع) يقول لأبيه يا أبه إن فلانا يريد اليمن أفلا أزوده بضاعة يشتري بها عصب اليمن؟ فقال : يا بني لا تفعل ، قال : ولم؟ قال : فإنها إذا ذهبت لم توجر عليها ولم يخلف عليك لأن الله تبارك وتعالى يقول : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) فأي سفيه أسفه بعد النساء من شارب الخمر.

(٢) المصدر ٤٤٢ في من لا يحضره الفقيه روى السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آباءه عليهم السلام قال قال أمير المؤمنين (ع) : المرأة لا يوصى إليها لأن الله عز وجل يقول : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ).

٢٢١

ومن آتى سفيها مالا له فهو من الذين لا يستجاب لهم كما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (١).

ذلك ، ثم (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) كما يحتاجون ويناسب محتدهم ومستواهم حسب العرفية العاقلة التي تصدقها شرعة الله ، وهنا «فيها» دون «منها» للتدليل على أن رزقهم لا يختص ببعض هذه الأموال ، فمنهم من هم لهم كل المال ، ومنهم دون ذلك ، ولا يصلح ـ إذا ـ جمعا بينهما إلا (ارْزُقُوهُمْ فِيها) ثم ومن رزقهم فيها الاستثمار في أموالهم حتى لا تفنى ، ففيما هم معذورون للسفه عن استثمار أموالهم فلا بد لسائر العقلاء أن يرزقوهم فيها ، لا ـ فقط ـ منها خوفة نفادها فيصبحون كلّا عليكم.

ثم (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) سواء أكانوا سفهاء خلقيا ام تخلفا عن شرعة الله ، فالقول المعروف بالنسبة للأولين هو لين القول دون هيّنه ، فلا يخاطبوا بلغة السفيه فانها سفاهة في الخطاب.

ثم هو بالنسبة للآخرين نهي عن المنكر بلغة مؤدبة مصلحة ، دون المزرية المخجلة المفسدة ، ومهما عمت السفهاء سائر السفهاء إلى اليتامى غير الراشدين ، فقضية الأهمية البالغة في يتاماهم أن يختصوا بالذكر إصلاحا خاصا لحالهم ، ثم الآخرون هم أمثالهم في حكمهم.

وحصيلة البحث عن حجر السفهاء أنهم ـ أيا كانوا ـ هم محجور عليهم في أموالهم فضلا عن أموالكم ، يحجر عليهم في مثلث الأموال ، لكم ولهم والأموال العامة.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٢٠ ـ أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي موسى عن النبي (ص) قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد ورجل أتى سفيها ماله وقد قال الله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ).

٢٢٢

فالمورث محجور عليه إذا سفه في تصرفاته المالية صرفا أو هبه أو وصية فيها جنف أو إثم.

والوارث السفيه محجور عليه في حاضر الأموال طول حياة المورث.

وكل من الزوجين محجور عليه في سفاهة التصرفات المالية.

وبصيغة عامة كل السفهاء محجور عليهم في أموالهم قدر سفههم ، والولاية هي بطبيعة الحال للأقرب إليهم والأعقل الأعدل.

وإذا كانت مصلحة القيام في الأموال تقتضي أن تكون بأيدي العقلاء الصالحين ، فبأحرى المصلحة في سائر النواميس الخمس.

ف «لا يجوز الابتداء بالنكرة» بل المبتدء على أية حال هو المعرفة المعروفة بالعقل والإيمان.

فالزعامات الإسلامية تختص بالأعقل الأعلم الأورع دون الأقوى والأشجع ، حيث السياسة الإسلامية تحور على محاور العدالة العاقلة والعقلية العادلة ، مهما كانت الشجاعة والقوة من متممات القيادة الإسلامية ، ولكنها على هامش العقل والورع والعلم.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) ٦.

بعد ما بدت لنا إجراءات مشددة بحق اليتامى في أموالهم ما دامت هي بأيدينا ولاية عليهم حفاظا عليها ، هنا يبدو لمرة يتيمة إجراءات أخرى يتسلم بها اليتامى أموالهم ، فيها حفاظات أخرى على أموالهم وأحوالهم ، فأموالهم ـ إذا ـ

٢٢٣

مشدودة ببالغ الحفاظ عليها في كلتا المرحلتين دونما أي إهمال وإمهال.

فهنا ابتلاء لهم لرشدهم اقتصاديا وشرعيا في أموالهم لحد بلوغ النكاح ، ثم استيناس رشد منهم ، فتسليم أموالهم إياهم كاملة ، وحرمة المسامحة في أموالهم قبل رشدهم ، وحرمة التصرف فيها إسرافا وبدارا أن يكبروا ، ووجوب الاستعفاف عن أكل شيء منها أجرة القيام بشأنها إذا كان الولي غنيا لا يفتقر بذلك القيام ، وسماح أكل منها في أضيق الحدود إذا كان محتاجا او احتاج بقيامه ، ومن ثم واجب الإشهاد عند التسليم كسحا لكل احتمالة في تقصيرهم بحقهم في أموالهم ثم الله شهيد وحسيب أولا وأخيرا (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

وفي هذه المقاطع إيحاءات بكل التخلفات التي كانت تعيشها البيئة الجاهلية بحق اليتامى ، فاحتاجت إسلاميا إلى اجتياحها عن بكرتها ، وقد أثرت في المسلمين لحد صمموا على الانفصال كليا عن اليتامى كيلا يتورطوا في محاظير متقصّدة (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

ليس فحسب في ولايتك على اليتامى إصلاح أموالهم ، بل وإصلاح أحوالهم ومنها الرشد لتسلّم أموالهم حتى يصلحوا فيها كما أنتم تصلحون اقتصاديا وشرعيا :

(وَابْتَلُوا الْيَتامى)

ذكرانا وإناثا ، يتيمات صغيرات ، او كبيرات كاللاتي مات عنهن آباءهن ولمّا يتزوجن ، فإنهن داخلات في «اليتامى» من يخصكم نسبا او سببا ام لا يخصكم ، فإنما الموضوع في واجب الابتلاء وسائر الإجراءات هو «اليتامى» دونما أي قيد أو شرط آخر ، ودون غير اليتامى إذ لم يفرض على الأولياء ذلك بحق السفهاء ، فإنما (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) وأما اليتامى منهم فهم مخصوصون بكرامة الابتلاء.

٢٢٤

ولزام الابتلاء تجويز المعاملات الجزئية للصغار على رقابة الأولياء ، تعريفا منهم لهم كيفية المعاملة ، ابتداء بكونهم كوسائط في هذه المعاملات ، ومن ثم استقلال على نفس الرقابة حتى يؤنس منهم ـ على ضوء التداوم في ابتلاءهم ـ رشد ، فقد تجوز معاملة الصبيان ضمن الابتلاء حيث يؤمرون به ، ولولاه لما جاز الابتلاء فضلا عن وجوبه! وهذا لا يقتضي تجويز معاملاته المستقلة خارج الابتلاء ، ولكن يجوز ـ معذلك ـ دفع مال له إليه فإنه مشروط بإيناس الرشد حسب النص (فَإِنْ آنَسْتُمْ) إذا فجواز معاملاته مشروط بشرطي عدم دفع ماله إليه وبالرقابة عليه في معاملاته الابتلائية.

ولأن الضرورات تقدر بقدرها فجواز تصرفات الصبي مقدر بقدر واجب الابتلاء ، فإن اقتضى دفع مال له إليه لمعاملة على رقابته دفعه إليه ، وليس هذا داخلا في النهي المستفاد من الأمر في «فادفعوا» حيث يعني الدفع طليقة دون مقيده بالرقابة الابتلائية ، كما وقد لا يشمله منهي الدفع لأنه ليس دفعا وإنما هو لزام الابتلاء ، أم إذا كان دفعا يخصص بالدفع الذي هو لزام الابتلاء.

وواجب الابتلاء هو منذ التمييز إذ ليس أمرا دفعيا يحصل قفزة دون مراس ، بل هو تدريجي ابتداء من بداية التمييز (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) ، ثم وليس بلوغ النكاح آخر المطاف في واجب ابتلاءهم وسماح دفع أموالهم إليهم ، بل (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) لا قبل إيناس الرشد ، إذا فمدرسة الابتلاء بادءة من التمييز ومنتهية عند إيناس الرشد.

ولأن الرشد اقتصاديا وشرعيا درجات ، فقد يكون اليتيم رشيدا في معاملات جزئية ، غير رشيد فيما فوقها ، فدفع أمواله إليه يتبع ـ كما وكيفا ـ قدر رشده ، لا أن يكون رشد مّا كافيا لدفع كل أمواله إليه.

ومن الرشد المشروط في دفع المال هنا الرشد الشرعي علميا وعمليا ، فإن

٢٢٥

بلغ النكاح ورشد اقتصاديا وهو بعد غير رشيد دينيا ـ حيث يسرف أو يبذر أو يصرف ماله في غير حله ـ فهو غير رشيد ، حيث العاصي غوي غير رشيد : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ثم (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) رغم رشده البالغ ماديا واقتصاديا.

إذا فواجب ابتلاء اليتامى يحلّق على بعدي الرشد والثاني أرشد ، فعلى الأولياء أن يبلوهم فيهما مع بعض ولا سيما أهمهما وهو الناحية الشرعية.

ذلك وبأحرى الولاية على اليتامى مشروطة بالرشد الشرعي بعد الاقتصادي.

(حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ)

وماذا يعني بلوغ النكاح؟ هل أنه بلوغ اليتيم أو اليتيمة لحد صلاحية عقد النكاح كمجرد عقد؟ وهو حاصل منذ الولادة! حال أن مسرح الابتلاء ليس إلا منذ التمييز وقابلية الابتلاء علما وعملا!.

أم هو واقع النكاح مباضعة؟ وصيغته الصالحة : حتى إذا نكحوا! وقد لا ينكح اليتيم حتى آخر عمره فهلا يدفع ـ إذا ـ إليه أمواله!.

إنه زمن صلاحية اليتيم للنكاح لولا الموانع الصحية والاقتصادية أماهيه ، فقد يصلح للنكاح حيث بلغ سنيّ النكاح ولكنه تمنعه موانع داخلية أو خارجية ، فهو بالغ النكاح.

وقد لا يصلح للنكاح وهو صحيح المزاج وله المعدات الاقتصادية فليس هو بالغ النكاح ، وبصيغة مختصرة شاملة أنه بلغ مرحلة من رشد الجسم ومعداته ، ومن العقلية الكافية لإدارة شؤون بيت الزوجية ، والقدر المتيقن هنا أصل النكاح المباضعة ، مهما منعه عنها انحرافات صحية أمّاهيه ، ولكنه بلغ

٢٢٦

مبلغا من العمر والرشد في جسمه هو فيه بالغ النكاح لولا الموانع العارضة.

ثم إدارة شؤون بيت الزوجية بالعقلية الإنسانية والإيمانية وهي أقل تقدير للرشد الذي يتطلبه حقل الزواج ، ولا يكتفى به في دفع أمواله إليه للحقل الجماعي العام.

وبلوغ النكاح ـ هذا ـ يصاحبه في الأغلب الرشد العقلي الإيماني ، حيث العقلية الإنسانية تصاحب في رشدها رشد الجسد ، كما العقلية الإيمانية تصاحبهما في جو الإيمان وحضنه.

ولأن الرشد في العقلية الإنسانية والإيمانية قد يتفلت عن بلوغ النكاح لذلك ثني بلوغ النكاح ب (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) حتى تكمل الشدّات الثلاث التي هي رشد اليتيم ، الصالح دفع أمواله إليه عنده.

ولأن القصد من ابتلاء اليتامى هو حصول الرشد وأهمه رشدهم الروحي في العقلية الإسلامية ، فقد يستمر واجب الابتلاء الى حد إيناس رشد منهم مهما كان بعد بلوغ النكاح ، وتحديد واجب الابتلاء ببلوغ النكاح ليس إلّا تحديدا أكثريا لحصول الرشد عنده ، ولذلك استدرك موارد الانفلات ب (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً).

وإذا أونس منهم الرشد المطلوب قبل بلوغ النكاح وقف واجب الابتلاء عند حده ، اللهم إلا ازديادا لرشده فمحبور مشكور وليس من واجبه.

(فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)

فالإيناس هو المعرفة على أنس ، دون المعرفة الساذجة غير المعمقة تخمينا ظنيا ، وإنما هي على ضوء الأنس الحاصل بابتلاءهم.

وأصل الإيناس هو الإبصار كما (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) مهما أخطأ

٢٢٧

النور الى النار ، ولكنه وجده بإبصاره نارا ، ولأن هذا الإيناس مربوط بالابتلاء فلا يكتفى هنا بالإيناس معرفيا دونما ابتلاء عملي بل هو معرفة عملية على ضوء الابتلاء علميّا ، فلا يعني ـ إذا ـ إبصار رشد معاملي علميا ، ولا إبصاره عمليا لمرة أو مرات ما لم يصدق الابتلاء ـ الذي هو أيضا بدوره عمل تربوي ـ فإنما هو إبصار رشد على ضوء الابتلاء المتداوم بين فترة التمييز وبلوغ النكاح.

فنص الإيناس قاصد إلى خصوص معناه بالابتلاء ، دون علم ومعرفة فقط ، ودون ابتلاء بلا معرفة فقط ، فإنما إيناس متعدّد بمدائبة الابتلاء وخلاله حتى يطمئن إليه عمليا وتجربيا.

فلا يكفي تعليمه كيف يتعامل في أمواله ، ولا استعلامه بعد تعليمه ، ولا ابتلاءه فقط وإن كان بعد التعليم والاستعلام ، بل هو إيناس رشد منه على ضوء هذه الثلاث التي يجمعها الابتلاء.

فالابتلاء وإيناس الرشد هما متجاوبان في حقل التعليم والتربية دون أن يكتفى في أي منهما بواحد منهما ، ولا يجب من الابتلاء وإيناس الرشد إلّا ما دون العسر والحرج للمبتلي والمبتلى ، ومسرح الابتلاء هو الاستعداد له دون عسر ولا حرج ، وذلك يختلف حسب الفاعليات والقابليات ، فليس لبدايته حد خاص لعمر اليتيم ، مهما كانت الغاية الأكثرية هي بلوغ النكاح ، ثم الغاية الأصيلة هي إيناس الرشد.

و «رشدا» هنا منكرا لا يعني رشدا مّا بالنسبة لإصلاح المال ، بل ورشدا في العقلية الإسلامية ، فرشد مّا بالنسبة لليتيم هو مجموع الرشدين لأنه يقابل السفه وهو ذو بعدين ، بعدان أمام بعدين سفها ورشدا ، وقد أتى منكّرا دون تعريف حيث الرشد يحلق على كل درجاته ، وذلك مما يحجز الأكثرية الساحقة من اليتامى ـ بل وأوليائهم ـ عن التصرفات المالية ، فلذلك اكتفى ب «رشدا»

٢٢٨

وهو أولى درجات التقوى الاقتصادية والشرعية كما يناسب حقل التصرفات المالية لكل من اليتيم واليتيمة في خضم المجتمع العام ، فلا يكفي رشد يخص جزئيات التصرفات المالية ، لدفع كل أمواله إليه ، وإنما يقدر الدفع بقدر الرشد.

ولأن المسرف والمبذر والذي يصرف ماله في حرام هو سفيه غوي ـ فلا يصدق عليه أنه رشيد ـ لم يجز دفع ماله إليه ، اللهم إلّا قدر رشده كيلا يضيع ماله وتضيع حاله.

فهنا شدّات ثلاث لجواز دفع مال اليتيم إليه ، شد النكاح لمكان (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) وشد الرشدين ماليا وحاليا حسب الشرع كما يعنيه «رشدا» و (لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (١٧ : ٣٤) (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) (١٨ : ٨٢) والأشدّ جمع الشّدّ وأقله ثلاث شدات هي بلوغ النكاح والرشدين عقليا وشرعيا ويجمعهما الإستواء : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (٢٨ : ١٤) وقد يتقاضى بلوغ الأشد حد الأربعين : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) (٤٦ : ١٥).

فالمستوى في حياته في شد الجسم والعقلية الإسلامية هو الذي بلغ رشدا ، والمحور الأصيل هنا شد الرشدين فإن رشد دون بلوغ النكاح فقد يقال بجواز دفع ماله إليه ، وأما إن بلغ النكاح دون رشد فلا وإن بلغ أربعين فإنه ـ إذا ـ سفيه محجور عليه ، ذلك! وقد يأتي اشتراط بلوغ النكاح مع الرشد لآيات الأشد وغيرها.

ف «إذا» هنا ظرفية شرطية جزائها الجملة (فَإِنْ آنَسْتُمْ ..) فليس بلوغ النكاح إلا ظرفا متعودا لإيناس الرشد ، وليس شرطا مستقلا قبله بحياله ، ولكن الأقوى اشتراطه كما يأتي ، وهنا فروع عدة :

٢٢٩

١ واجب الابتلاء يختص باليتامى حيث هم الموضوع ـ فقط ـ في آية الابتلاء ، فلا يجب الابتلاء بالنسبة لسائر الصغار والسفهاء مهما كان راجحا تربويا ، اللهم إلّا بالنسبة للتكاليف الشرعية بالنسبة للأموال وغيرها ، فإن الدعوة إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة طليقة ، وكذلك الأمر في حقل النهي والأمر المفروضين على الأولياء حيث (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٩ : ٧١) وقد يختلف واجب الابتلاء عدة وعدة بين الذكور والأناث باختلاف واجبات الحياة الجماعية ومسارحها سعة وضيقا ، فلا تحتاج الأنثى إلى ما يحتاجه الذكر من الابتلاء لاختلاف المسؤولية الاقتصادية وسواها بينهما.

٢ كلما يتطلّبه واجب الابتلاء اقتصاديا على ضوء شرعة الله فهو واجب أو مسموح كما يقتضيه العرف والعادة السليمة الجارية في ابتلاء اليتامى ، إذا فيجوز معاملات اليتيم صغيرا وكبيرا قبل إيناس رشد منه ، ولكنه على رقابة الأولياء وإن استلزم دفع مال له إليه ، فإنه ليس إتلافا لماله حتى ينافي آية القيام (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) بل هو من ضمن قيام اليتيم وقوامه بابتلاءه ، ولا دليل شرعيا يمنع اليتيم عن تصرفه هكذا ، ولا سيما أنه ضمن ابتلاءه المفروض على وليه ، وعدم الدفع المستفاد من «فادفعوا» يختص بغير حقل الابتلاء ، والقول انه ليس تصرف اليتيم في مال له من لزامات ابتلاءه ، حيث يبدل عنه مال الولي او من الأموال العامة التي يصرف في صالح المسكين ، إنه مردود بان غير الرشيد وهو السفيه لا يجوز دفع مال اليه يتيما وسواه كما دلت عليه آية السفهاء ، واقرب الأموال لصالح ابتلاءه هو ماله.

٢٣٠

٣ بلوغ النكاح ليس إلا ظرفا أكثريا لإيناس الرشد ، فالرشد علّه هو الأساس وإن حصل قبل بلوغ النكاح ، فلا يجب جمع الأمرين ، ولم تنه آيه السفهاء إلا عن دفع المال إليهم ، والرشيد الصغير ليس سفيها والكبير السفيه غير رشيد.

فإقراراته المالية وعطياته وأشباه ذلك من تصرفاته المالية لا تمضى قبل بلوغ رشده ، فإن أقر بدين فليس على الولي تصديقه إلّا إذا أثبت بحجة شرعية.

ذلك! ولكن اليتيم لا يقاس بغيره من القصّر ، فلا مساوات بينهما في شروطات الحجر.

ثم وذكر بلوغ النكاح قبل إيناس الرشد مما يدل على اشتراطه معه ، وإن كان أيضا من ظروف الرشد في الأغلب ، ومن ثم (أَنْ يَكْبَرُوا) حيث لا يصدق الكبير على الصغير الرشيد مهما صدق على بالغ النكاح دون رشد ، كما وأن «يكبروا» لغويا يخص الكبر في العمر.

وأخيرا ، آيات بلوغ الأشد ، والشدّ الأول هو البلوغ ثم شدّ العقل ومن ثم شد الرشد اقتصاديا إسلاميا ، هذه عساكر البراهين على شرطية بلوغ النكاح إضافة إلى إيناس رشد.

٢٣١

إذا فدفع أموال اليتامى إليهم مشروط بإيناس رشد منهم مع بلوغ النكاح وهو الرشد الذي يصلح لكافة التصرفات ـ صغيرة وكبيرة ـ في أموالهم ، وأما إذا اختص الرشد بطرف من التصرفات فليس هنا مجال لدفع كل أموالهم ، وإنما البعض الذي يناسب ذلك البعض حفاظا على أموالهم عن الضياع (١) فالمال المدفوع إلى اليتيم يقدر بقدر رشده حيث يؤنس منه تمامه وكماله نوعيا.

٤ إيناس الرشد هو ـ فقط ـ شرط لتصرفاته المالية دون سائر التكاليف الشرعية التي لزامها حدّ بلوغ التكليف وإن لم يبلغ النكاح فضلا عن ذلك الرشد ، حيث البلوغ درجات لمختلف الأحكام ، كلّ يتبع درجته الخاصة حسب أدلتها الخاصة.

فإقراراته المالية وعطياته وأشباه ذلك من تصرفاته المالية لا تمضى قبل بلوغ رشده ، فإن أقر بدين فليس على الولي تصديقه إلّا إذا اثبت بحجة شرعية.

ومن الحكمة الحكيمة في شرطية بلوغ النكاح مع إيناس الرشد ، أن للشدّ البدني دخلا في الحفاظ على أمواله من أيدي المتطاولين ، فغير بالغ النكاح قد

__________________

(١) روى القمي في تفسيره عن الباقر (ع) في هذه الآية قال : من كان في يده مال بعض اليتامى فلا يجوز له أن يعطيه حتى يبلغ النكاح ويحتلم فإذا احتلم وجب عليه الحدود وإقامة الفرائض ولا يكون مضيعا ولا شارب الخمر ولا زانيا فإذا آنس منه الرشد دفع إليه المال وأشهد عليه وإن كانوا لا يعلمون.

وفي الوسائل الباب (٤) من أبواب مقدمة العبادات الحديث ١ علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهم السلام ، المروي عن قرب الإسناد سألته عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ قال : إذا احتلم وعرف الأخذ والإعطاء.

٢٣٢

يتطاول عليه لصغره في جسمه استهانة بطاقته الضئيلة في مظهره ، فكل واحد من هذه الأدلة كافية لاشتراط البلوغ مع الرشد فضلا عن كلها والله أعلم.

(وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا)

صحيح أن أصل الأكل من أموال اليتامى محظور ، ولكن الأكل منها إسرافا وبدارا ان يكبروا أشد محظورا ، واتجاه النهي اليه بعد طليق النهي دليل أن البعض كانوا يستغلون أيام يتمهم إسرافا في أكل أموالهم وبدارا وتسرّعا مخافة عن أن يكبروا فلا يستطيعوا أكلا لكبرهم ، فما النهي هنا إلّا كما (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً).

ثم «يكبروا» هنا فتحا دليل صارم على اشتراط كبر السن إضافة إلى الرشد كما تقدم ، ف «كبر يكبر» يخص كبر العمر ، خلاف سائر صيغها التي تعم العمر الى سائر الرشد أم تخص الرشد مثل يكبر بالضم ، فهو نص في اشتراط بلوغ النكاح ، و «رشدا» نص في ثاني الشرطين الشامل للشدين الآخرين ، ولكن «يكبروا» بعد (إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) يعم الشرطين ، مهما كان الأصل اللغوي يؤصّل الأول ، فهما شرطان مهما اختلفا مكانة.

وهنا مناهي ثلاثة تلو بعض تصاعديا في الحظر عن أموال اليتامى ، أولاها :

«إسرافا» زيادة عن الحق المقرر ، وقد كانوا يسرفون في أكل أموالهم حتى نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) ثم (وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) تنهى عن مبادرة الأكل إسرافا في مادته أم إسرافا في مدته أن يؤجل ابتلاءهم ليأكل في زمن أكثر مما يحتاجه عادل الابتلاء ومعدّ له ، كما ويأكل أكثر من الحق مهما قل الزمان أو أكثر.

فقد يأكل إسرافا في مادته دون بدار ، وأخرى يأكل بدارا دون إسراف في

٢٣٣

مادته ، إسرافا في مدته ، أو يأكل إسرافا فيهما وهو أنحسه.

ذلك ، وكما من الإسراف أن يصرف وقتا أكثر من اللازم لإصلاح شؤون اليتيم فيأخذ أجرة أكثر ، أم يأكل فوق ما يتحمل مال اليتيم ، أو يطعم معه عياله ، أماذا من أكل هو إسراف بحق اليتيم وبامكانه ألّا يأكل أو يقلل منه.

ومرحلة ثالثة هي حظر الغني عن أكل مال اليتيم على أية حال إسرافا وغير إسراف ، بدارا وغير بدار ، والسماح للفقير أن يأكل بالمعروف الذي يعرف من أمثال (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فكما الأحسن الواجب للغني ألّا يأكل من مال اليتيم شيئا ، كذلك الفقير ألّا يأكل إلّا قدر الضرورة كما يتحمل مال اليتيم ، ومن الأحسن أن ينوى رد ما يأكله قدر الضرورة.

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)

من كان غنيا عن أكل مال اليتيم سعيا مهما كان بتكسّب وسواه من طرق الحلال قدر الضرورة ، فليس يعني الغنى المعروفة ، فإنما هو الذي يملك قدر قوته الضروري بسعى غير محرج أم دون سعي.

وهنا نعرف طرفا طريفا من الرعاية فوق الأبوية بالنسبة لأموال اليتامى وأنفسهم فطالما الأب له أن يأخذ أجرة فيما يسعى لأموال ولده الصغار ، ولكن ليس لولي اليتيم أية أجرة في أمواله وإن كان فقيرا ، اللهم إلّا اكلا قدر الضرورة ، إذا تحملها مال اليتيم ، وإلّا فضرورته أقدم من ضرورة الولي.

والاستعفاف ـ من العفّ : الامتناع ـ هو تطلّب الامتناع ، أن يتكلف الغني ـ رغم سعيه في مال اليتيم حيث يتطلب أجرا حسب المتعود من الأشغال ـ أن يتكلف التمنّع عن مال اليتيم أجرة كما تمنّع عن أصل أكله ، أو إسرافا وبدارا أن يكبروا.

٢٣٤

ومن الغريب تأويل مادة العفّ هنا بالعفو ثم القيل إن هناك تعارضا بين المادة اللامحة إلى الرجحان وهيئة الأمر الظاهرة في وجوب العفو فيتساقطان والرجوع الى أصل الجوار فان عمل المؤمن محترم فله أجرة! (١).

وذلك خلاف الأدب لفظيا ومعنويا ، حيث المادة في الاستعفاف هو العفّ وليست العفو ، ثم لو كانت هي العفو فلا تعارض بين المادة التي لا تدل على أمر أو نهي والهيئة الظاهرة كالصريحة في الأمر حتى يتساقطا ، أتساقطا في دلالة قرآنية رعاية لفتوى المشهور في هذا المسرح الصراح حسب القرآن والسنة؟!!.

كما القيل إن المحظور هو أكل أموال اليتامى ظلما والأجرة عدل : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ..) فإنه عليل حيث الأكل المحظور مهما كان أجرة أم سواها محظور لمكان «فليستعفف» ثم و «ظلما» هنا لا ينافي الحظر عن سائر الأكل بنص آخر كما هنا.

والضابطة الملتقطة من النصوص القائلة أن عمل المسلم محترم فله أجرة ، مختصة بمواردها ، مخصصة في موارد ، منها أولياء اليتامى ، كما ومنها واجب التجهيز للميت حيث الأجرة فيه محرمة ، وكذلك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واضرابهما مما لم يسمح بأخذ الاجرة فيها في عمل المسلم.

وقيل ثالث إن الاستعفاف يعنى الأكل دون مقابل ظلما ، إسرافا وبدارا ان يكبروا أم دون ذلك ، وأما الأكل أجرة عن سعي له أجرة فهو أكل لماله دون مال اليتيم.

__________________

(١) الجواهر للشيخ محمد حسن نقلا بالمعنى ، وفي وسيلة النجاة ص ١٥١ المسألة ٦٠) تسوى بين الغني والفقير بالنسبة لأجرة مثل العمل في مال اليتيم ، ومورد الاستعفاف إنما هو مال اليتيم أجرة لعمل الولاية على اليتيم وذلك إنما هو فيما كانت الولاية تستلزم أعمالا لها أجرة في العرف وإلّا فلا يجوز أكل المال لصرف عنوان الولاية للفقير.

٢٣٥

ولكن (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) تحليلا لما حرم على الغني يعارضه فإن محور الحل والحرمة فيهما واحد ، فهل يحل ـ إذا ـ للفقير أكل مال اليتيم إسرافا أم دونه؟.

وليس هو أكلا بالمعروف! فليكن المحور هنا لهما أجرة السعي ، محرمة على من لم يكن فقيرا ، وحلّ قدر المعروف لمن كان فقيرا.

ثم (مَنْ كانَ غَنِيًّا) تعني ـ ككل ـ من لا يحتاج إلى أجرة سعيا في أموال اليتيم ، مهما أضر بنفعه الزائد ، أو ضيق عليه معيشته ما بقيت له بلغة العيشة.

(وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أمر عقيب حظر لا يدل إلّا على الإباحة ، ثم «فليأكل» بدل «فليأخذ أجرة» دليل سماح الأكل قدر الضرورة (١) ومن ثم «بالمعروف» يحدد موقف ضروري الأكل بما عرف من

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٢٢ ـ أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله (ص) فقال ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذّر ولا متاثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله.

وفيه أخرج ابن حبان عن جابر أن رجلا قال يا رسول الله (ص) مم أضرب يتيمي؟ قال : مما كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله ولا متاثل منه مالا (المتاثّل بمعنى المجتمع والمتحفز والمكتسب المنمي).

وموثق سماعة عن أبي عبد الله (ع) في الآية قال : من كان يلي شيئا لليتامى وهو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم فليأكل بقدر ولا يسرف فإن كان ضيعتهم لا تشغله عما يعالج نفسه فلا يزر أن من أموالهم شيئا (الكافي ٥ : ١٢٩) وفي الكافي عنه (ع) في الآية قال (ع) ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم ، فإن كان المال قليلا فليأكل منه شيئا (المصدر).

وأما صحيح عبد الله بن سنان عنه (ع) أنه سئل وأنا حاضر عن القيم لليتامى والشراء والبيع في ما ـ

٢٣٦

رعاية أموال اليتامى حسب نص القرآن : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فحين يأكل الولي الفقير من مال اليتيم حيث يسعى لأجله ، عليه أن ينوى قرضا ثم يوفيه بعد عند المكنة ، وهذا أحسن من أكله مجانا فمفروض فليكن القرض ـ إذا ـ هو المسموح لا سواه (١) قدر القوت (٢) اللهم إلّا لمن لا يجد الوفاء بعد ، أو يعلم أنه لا يجده ولكنه مضطر الى أكلة القوت لمصلحة اليتيم ، فالأكل المسموح إنّما هو الضروري الذي لولاه لما استطاع على إصلاح مال اليتيم وحاله.

ثم (مَنْ كانَ فَقِيراً) هو ـ فقط ـ الولي الفقير ، دون أهله ايضا ، فلا

__________________

ـ يصلحهم اله أن يأكل من أموالهم؟ فقال : لا بأس أن يأكل من أموالهم بالمعروف كما قال الله عز وجل : فليأكل بالمعروف «وهو القوت» (الوسائل ٥٥٨) فهو مخصوص بالفقير كما قال الله عز وجل.

ومن الغريب هنا القول أن احترام عمل المسلم لا يقبل التخصيص؟ ويكأنه نص قرآني مستغرق في العموم والإطلاق ، وليس إلّا قاعدة ملتقطة من كثير من الموارد وهنالك استثناءات كتجهيز الميت وما أشبه ، ونص قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ..).

وكذلك صحيح هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد الله (ع) عمن تولى مال اليتيم ما له أن يأكل منه؟ قال : ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر له فليأكل بقدر ذلك (الوسائل أبواب ما يكتسب به ب ١٠١) فإنه محمول على الأعمال التي لا تستلزمها الولاية على اليتيم بلا واسطة ، ولا يحمل على الفقير إذ ليس ما يحل له أخذه منه أجرة إنما هو القوت قدر ما يتحمله مال اليتيم.

(١) المصدر عن المجمع روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال سألته رجل بيده ماشية لابن أخ له يتيم في حجره أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ قال : إن كان يليط حياضها ويقوم على مهنتها ويرد نادتها فليشرب من ألبانها غير منهك للحلاب ولا مضر بالولد (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) معناه من كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة والكفاية على وجه القرض ثم يرد عليه ما أخذ إذا وجد وهو المروي عن الباقر (ع).

(٢) المصدر عن الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (ع) قال : المعروف هو القوت وإنما عنى الوصي أو القيم في أموالهم ما يصلحهم.

٢٣٧

يجوز أن يأكل إلّا هو ، اللهم إلّا عند ضرورة مدقعة ألا يكون هناك من يلي أمر هذا اليتيم إلّا هذا الفقير وأضرابه ، ثم وهذا الفقير لا يستطيع أن يعمل لليتيم ويبقى أهله جياعا ، فله ـ على هامش أكله منه ـ أن يدفع منه أكلة ضرورية لأهله.

ثم الفقير المسموح له أن يأكل من مال اليتيم هو الذي «حبس نفسه من أموالهم فلا يحترث لنفسه فليأكل بالمعروف من مالهم» (١) وأما الذي لم يحبسه السعي في مال اليتيم عن سعيه لنفسه ، فلا يفرق له سعيه وعدم سعيه لليتيم فلا يدخل في نطاق السماح لأكله ، اللهم إلا اقتراضا يوفيه لوقته ، أن يعرف من حاله الوفاء ، دون الفقير الأول الذي له الاقتراض سواء استطاع الوفاء أم لم يستطع.

فالضابطة الثابتة في أموال اليتامى عدم الأكل منها حتى بأجرة مشروعة في سواها ، اللهم إلّا للفقير الذي يفتقر حيث يصرف أوقات له في إصلاح أموال اليتيم ، فله أن يأكل قرضا قدر القوت ثم يوفيه إن استطاع.

والقدر المعلوم من حرمة مال اليتيم على وليّه الغني ، هو في المساعي التي تقتضيها الولاية مباشرة ، وأما التي لا تقتضي المباشرة كالزراعة والبناية وأضرابهما فله الأجرة العادلة فيهما ، سواء باشرها بنفسه أم استأجر غيره لها ، كما إن استأجر غيره فيما هو قضية الولاية لا يحق له دفع الأجرة من مال اليتيم.

إذا فالأجرة على نفس الولاية محرمة على الغني والفقير ، وهي على ما تقتضيه الولاية من المساعي ، محرمة على الغني ، وحل للفقير قدر قوته ، وأما

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٤٥ في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليهما السلام قال سألته عن قول الله «وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ»؟ قال : ذلك إذا حبس ...

٢٣٨

الأجرة على ما هو خارج عن قضية الولاية مباشرة ، فحل للغني عدلا فضلا عن الفقير ، ولكنها يجب أن تكون بالتي هي أحسن ، فليسع الولي سعيه أن يستأجر له الأقل أجرا والأتقن عملا قدر المستطاع من سعيه ما لم يكن حرجا ومشقة زائدة على العادلة الجارية.

وليس ابتلاء اليتيم لرشده مما يجوز فيه الاستيجار ، وفيما يشك في عمل أنه قضية الولاية المباشرة أم سواها لا يجوز أخذ الأجرة اعتبارا بإطلاق واجب الاستعفاف ، خرج ما نعلم أنه خارج عن قضية الولاية وبقي الباقي ، أم لتساقط إطلاقي التحريم والجواز فالأصل عدم الجواز.

وقد يقال إن محظور الأكل من مال اليتيم أجرة يعم الأجراء غير الأولياء مهما كان واجب الابتلاء خاصا بالأولياء ، ولكنه غريب في موارد لزوم الأجرة في الأعمال التي تستلزمها الولاية ، اللهم إلا أن تعمم الولاية على كل هؤلاء الذين بإمكانهم تدبير أموال اليتامى ، وليّا أصيلا أم سواه ، وهو خلاف السيرة المستمرة وكما تقوله الصحيحة (١) وقضية الاحتياط الاستعفاف للكل بالنسبة لأموال اليتامى كأجرة عمل ، وأما أثمان السلع فلا ريب في جواز أخذها من ماله للبايعين ، مهما فرض عليهم معاملتهم بالأحسن ، فأقل ثمنا وأجود سلعة ، وقدره المعروف ألا يربح ولا ينضرّ حيث الآية «ولا تقربوا» تعم كل من يأخذ من مال اليتيم سواء في حقل الولاية أو أية معاملة.

وحصيلة البحث حول الولي الغني والفقير أنهما يفترقان ـ فقط ـ في الأعمال التي هي قضية الولاية ولها أجرة حسب العادة ، فليستعفف الغني وليأكل الفقير بالمعروف.

__________________

(١) روى الشيخ والكليني في الصحيح عن عبد الله بن سنان في الآية (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : المعروف هو القوت وإنما عنى الوصي والقيم في أموالهم ما يصلحهم.

٢٣٩

وأما صرف الولاية على الفقير فلا يقتضي أجرا ولا أكلا من مال اليتيم وسواه ، بل ولا تقتضي أجرا على أية حال ، كمن يلي امرا من أمور المسلمين ولا يصرف فيه عملا ولا أمرا له أجر فإن الأجرة عليها سحت وأكل بالباطل ، فضلا عن هكذا ولاية على اليتيم.

فالولاية المفروضة على اليتيم مفروض فيها ابتلاءه لإيناس رشده قدر الإمكان ، ولا أجر على المفروض إطلاقا فضلا عن المفروض بحق اليتيم ، ولا سيما بنص النهي «فليستعفف» وليس للفقير إلا سماح لأكل بالمعروف ، معروف في العرف الإسلامي ، ومعروف بنصوص القرآن ك (لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والأحسن للفقير ألّا يأكل إلّا قدر الضرورة الراجحة بحق اليتيم ، وهو الأكل بنية الرد إذا أمكن.

ثم الأعمال التي ليست هي لزام الولاية فليست هي مورد السلب والإيجاب ، فإنما هي ـ بمناسبة الحكم والموضوع ـ الأعمال في حقل ابتلاء اليتيم والحفاظ على أمواله ، وأما التجارة والزراعة والبناية وأشباهها فلأنها ليست قضية الولاية فهي خارجة عن مسرح السلب والإيجاب ، مهما فرض على أطراف المعاملة في أموال اليتامى التي هي أحسن بحق اليتيم ، وإذا عملها الولي بنفسه ففرض الأحسن أقوى أو أحسن.

٦ (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)

ومن حكم ذلك الإشهاد الابتعاد عن التهم الموجهة إلى الأولياء تضيعا لمال له ، أو عدم بلوغ اليتيم نكاحه أو رشده ، أو عدم الابتلاء الصالح لرشده ، أم ودعوى اليتيم بعد رشده عدم دفع ماله إليه.

ذلك وإن كان (كَفى بِاللهِ حَسِيباً) ولكن رعاية المجموعة المسلمة التي تعيشها ، حائطة على كيانك ، وتثبيتا لأمانك ، تقتضي الإشهاد على اليتامى كما

٢٤٠