الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

«المؤمنين» بالله في هذه المحنة ، فالصمود في هذه الإصابة على الإيمان بالله ، ولا سيما بالنسبة لمن لم يقصر في حقل الاصابة ، إنه علامة صادق الإيمان ، كما التزلزل ولا سيما بالنسبة لمن سبب الهزيمة هو علامة كاذب الإيمان :

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) ١٦٧.

ثم «وليعلم» علامة السقوط (الَّذِينَ نافَقُوا) وهم المتخلفون عن الانضمام إلى جيش الكرامة ، المنحازون عنه ، وهم ثلث الجيش بقيادة رأس المنافقين عبد الله بن سلول إذ (قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) هجوما على أعداء الله «أو» لأقل تقدير من مقادير المسئولية الجهادية «ادفعوا» عن الإسلام وحوزته ، فما كان قولهم إلّا أن (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) إحالة لعلم القتال وهم جند مجندون بسلاح الحرب ، ف «لو» غدر غادر مائر يجعل (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) حيث النفاق هو باطن الكفر وظاهر الإيمان ، ولكنهم نقضوا ظاهرا منه باهرا هو القتال في سبيل الله (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) وقد تعني «لو نعلم» لو نعلم صالح القتال ، او ما يسمّى قتالا ، وليس هذا قتالا حيث الخروج عن المدينة خروج عن سنة القتال ، وإلقاء للنفس إلى التهلكة ، وهذا أحرى ب (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً) تعريضا بأنه قتل لنا دون قتال.

ذلك ف (الْمُؤْمِنِينَ) وجاه (الَّذِينَ نافَقُوا) إنها تشمل من سوى المنافقين الرسميين ، وعلامة النجاح لهم درجات حسب درجاتهم إلى أسفلها وهي المتخلفة عن مقاعد القتال ، والتي وهنت أو همت بالفشل أو ظنت بالله الظنونا : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢ : ٢١٤).

٨١

فالقول بالأفواه ما ليس في القلوب نفاق عارم ، كما أن تطابق القول والقلب ـ لا سيما مع الفعل ـ إيمان صارم ، وبينهما عوان من الإيمان والنفاق يعبر عن صاحبه ب (الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا مبدئيا مهما اختلفت درجاته (١).

وقد تعني (الَّذِينَ نافَقُوا) كل المتخلفين في تلك المعركة ، ف «المؤمنين» هم ـ إذا ـ صادقوا الإيمان ، فإن «نافقوا» وجاه «المؤمنين» تعبير قاصد ، ولكن الوجه الأول أوجه فان «تعالوا ..» تشي إلى تخلفهم عن أصل القتال والدفاع ، فقد لا تشمل المتخلفين ضمن المعركة فضلا عن الذين هموا أن يفشلوا.

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ١٦٨.

«لإخوانهم» هنا كما «لإخوانهم» فيما مضى : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ...) (١٥٦).

ثم «وقعدوا» حال عن القائلين لإخوانهم قيلتهم الغيلة ، والجواب تعجيز لهم على غرار قيلتهم (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) بقعود وسواه من أسباب الفرار عن الموت فيما تزعمون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في (لَوْ أَطاعُونا ...).

ذلك ، ولكن الدرء عن الموت أمر والدرء عن القتل أمر آخر ، فاستحالة

__________________

(١) مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام) في كلام طويل ومن ضعيف يقينه تعلق بالأسباب ورخص لنفسه بذلك واتبع العادات وأقاويل الناس بغير حقيقة والسعي في امور الدنيا وجمعها وإمساكها ، مقر باللسان انه لا مانع ولا معطي إلا الله وان العبد لا يصيب إلا ما رزق وقسم له والجهد لا يزيد في الرزق وينكر ذلك بفعله وقلبه قال الله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ...).

٨٢

الدرء عن الموت لا تحيل الدرء عن القتل فإنّ بالإمكان الابتعاد عن أسبابه ، إلّا أن الموت هنا يعم القتل ، و (ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) حيث تعم مضاجع الموت الأعم من القتل ، وقد مضى فصل القول فيه فلا نعيد.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ١٦٩.

(وَلا تَحْسَبَنَّ) خطاب لكل الحاسبين ذلك الحسبان الجاهل القاحل ، والعائشين في جوّه بتلك الدعاية المجمّدة للطاقات الحربية ، فلا تشمل رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إنما هو خطاب لأهله على الأبدال ، دون من لا يخلد او لن يخلد بخلده ذلك الحسبان المناحر للإيمان ، حيث الحياة البرزخية كأصل ، ثم حياه الشهداء المفضلة على كل الأحياء ، في البرزخ ، إنها من معاريف الإيمان بفضل الشهادة وأصل الحياة بعد الموت ، مهما كان الشهداء درجات (١) كما أن سائر الصالحين درجات.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٩٦ ـ ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ان الشهداء ثلاثة فأدنى الشهداء عند الله منزلة رجل خرج منبوذا بنفسه وماله لا يريد ان يقتل ولا يقتل أتاه سهم فأصابه فأول قطرة تقطر من دمه يغفر له ما تقدم من ذنبه ثم ...

وفيه (٩٨) اخرج البزاز والبيهقي والاصبهاني في ترغيبه عن انس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الشهداء ثلاثة رجل خرج بنفسه وماله محتسبا في سبيل الله لا يريد ان يقتل ولا يقتل يكثر سواد المؤمنين فان مات او قتل غفرت له ذنوبه كلها وأجير من عذاب القبر وأومن من الفزع الأكبر وزوج من الحور العين وحلت عليه حلة الكرامة ووضع على رأسه تاج الوقار والخلد ، والثاني رجل خرج بنفسه وماله محتسبا يريد ان يقتل ولا يقتل فان مات او قتل كانت ركبته مع ركبة ابراهيم خليل الرحمن بين يدي الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، والثالث رجل خرج بنفسه وماله ومحتسبا يريد ان يقتل ويقتل فان مات او قتل جاء يوم القيامة شاهرا سيفه واضعه ـ

٨٣

و «أمواتا» هنا المسلوبة عن ساحة الشهداء بتّة ، لا تعني ـ بطبيعة الحال ـ الموت الذي بعده حياة ، بل هو موت الفوت ، حيث خيّل إلى ناكري الحياة بعد الموت ككل ، وناكري الحياة البرزخية وحياة الشهادة المتميزة فيها.

إذا ف (وَلا تَحْسَبَنَّ) تحلّق النهي عن ذلك الحسبان على كل حقوله كجواب ثان عن الشبهة المختلقة ضد القتال ، فالأول يجعل الموت بإذن الله إمرا لا بد منه ، والثاني يحول بين القتل في سبيل الله والدعايات ضده أنه فوت ، وكيف يقدم العاقل على فناء حياته قائلا : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

ليس فحسب أنهم «أحياء» كما كانوا قبل استشهادهم ، بل هم كانوا قبله في حياة بعيدة عن حضرة الربوبية خليطة بكل شقاء ثم الآن عند ربهم عندية الزلفى والكرامة المتميزة «يرزقون» رزقا من عنده ، فهي ـ إذا ـ حياة عند ربهم يرزقون عند ربهم ، بعد أن كانوا أحياء بحياة بعيدة خليطة بموات وظلمات.

__________________

ـ على عاتقه والناس جاثون على الركب يقول : ألا افسحوا لنا مرتين فانا قد بذلنا دماءنا وأموالنا لله ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي نفسي بيده لولا قال ذلك لإبراهيم خليل الرحمن او لنبي من الأنبياء لتنحى لهم عن الطريق لما يرى من واجب حقهم حتى يأتوا منابر من نور عن يمين العرش فيجلسون فينظرون كيف يقضي بين الناس لا يجدون غم الموت ولا يغتمون في البرزخ ولا تفزعهم الصيحة ولا يهمهم الحساب ولا الميزان ولا الصراط ينظرون كيف يقضي بين الناس ولا يسألون شيئا إلا أعطوا ولا يشفعون في شيء ألا شفّعوا ويعطون من الجنة ما أحبوا وينزلون من الجنة حيث أحبوا.

وفي نور الثقلين ١ : ٤٠٩ في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : إني راغب نشط في الجهاد قال : فجاهد في سبيل الله فإنك ان تقتل كنت حيا عند الله يرزق وان مت فقد وقع أجرك على الله وان رجعت خرجت من الذنوب الى الله ، هذا تفسير (وَلا تَحْسَبَنَّ ...).

٨٤

أترى «أحياء» تعني ـ فقط ـ الحياة الآخرة؟ و «أمواتا» تحلق على كل حلقات الموت بعد الشهادة ، فلو كانوا أمواتا في البرزخ بين الحياتين لصدق أنهم أموات؟ مهما أحيوا يوم القيامة ، ثم ولا تصدق «أحياء» على الذين يحيون يوم الدين وهم أموات في البرزخ ، وانما صيغته الصالحة «بل يحيون يوم الدين» ثم الخطاب ليس لناكري الحياة يوم الدين مهما كانوا ضمنه في طليق الخطاب! فليس لناكري الحياة البرزخية من محيص ولا محيد عنها وجاه هذه الآية المصرحة بها في بنود عدة.

ذلك وبأحرى لا تعني «أحياء» حياة الذكر ولا واقع لها ولا موقع إلّا الخيال ، ثم إذا لا حياة في البرزخ فأين ـ إذا ـ ذلك الخيال ، اللهم إلّا خيالا هنا على خيال ، فكيف ـ إذا ـ (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ...)! ثم وكيف هم «فرحين ـ يستبشرون ..» أما ذا من حالات مرضية بعد الموت؟.

ويا لها من حياة الزلفى المنقطعة النظير : حياة الشهداء في سبيل الله ، أن يكونوا (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) كما المقربون والسابقون : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٧ : ٢٠٦).

ولا تعني عندية الرب مكانا ولا زمانا ، وانما هي مكانة ربانية قدر مساعيهم ودرجاتهم ، من الزلفى والمعرفة بجنب الله.

ذلك ولأنهم انقطعوا عن النفس والنفيس إلى الله ، فأصبحوا وهم ليسوا عند أنفسهم ونفائسهم ، فإنما هم عند ربهم حيث ضحوا في سبيل ربهم ، فهم ـ إذا ـ أحياء عند ربهم ، فالمتفاني في سبيل هو محسوب على ذلك السبيل ، سبيل اللهو ولا سمح الله ، او سبيل الله رزقنا الله إياه.

فالمستشهدون في سبيل الله ـ في صيغة سائغة لهم ـ هم خرجوا من عند أنفسهم فعرجوا الى معراج «عند ربهم» فما لم يخرج السالك من عند نفسه لم

٨٥

يعرج الى «عند ربه» كما وكل تحلية بحاجة الى تخلية قبلها يناسبها ، والمستشهد في سبيل الله يتخلى عن كلما يملكه في سبيل الله ، فيتحلى بالزلفى عند الله ، فطوبى له وحسن مآب.

وكما العندية في حياتهم الدنيا ذات درجات كذلك خلفيتها يوم البرزخ وبأحرى الأخرى ذات درجات (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

و «عند ربهم» هي رمز لكل مواصلة ربانية عن كل مفاصلة ، إذ انقطع الشهيد عن كل ما لديه الى الله ، فلم يبق له ولا عنده إلا سبيل الله ، فأصبح بنفسه سبيل الله :

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ١٧٠.

«فرحين» حال لهم لمثلث الأحوال (أَحْياءٌ ـ عِنْدَ رَبِّهِمْ ـ يُرْزَقُونَ) فرحين أحياء وفرحين عند ربهم وفرحين يرزقون ، أتراهم ـ بعد ـ أمواتا عن تلك الحياة ، والميت الفائت ليس يشعر حتى يفرح او يترح!.

و (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) هو انهم (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ولا فضل أفضل منه او يساويه ام يساميه ، مهما كانت «عند ربهم» درجات حسب درجات الزلفى للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فإنهم كلهم ـ على درجاتهم ـ من (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩).

(وَيَسْتَبْشِرُونَ) هل تعني يبشرون؟ وصيغتها هي صيغتها؟ ثم لا دور ـ إذا ـ للباء في «بالذين ..».

الاستبشار هو طلب السرور بالبشرى ، وهو (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ)

٨٦

يعني بسببهم ومصاحبتهم فهم يطلبون البشرى في حياتهم البرزخية بسبب الذين لم يلحقوا بهم ، طلبا لبشراهم أنفسهم باستمرار القتال في سبيل الله ، سواء في نومهم او يقظتهم او بما اخبر الله من حالهم وقالهم ، فمثلث الاستبشار معني ب «يستبشرون» كما و «يستبشرون» فيما بينهم.

ومادة البشرى هي (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فهي بشراهم لأنفسهم ، وهي بشراهم للذين لم يلحقوا بهم ، و «هم» في «عليهم ـ ولاهم» يعمهم والذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، فقد يلمح ذلك الاستبشار انهم مطلعون على أحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، وانهم يوصلون هذه البشارة إليهم في الرؤيا واليقظة أماهيه ، وإنما (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) دون «لا يخافون» كما «لا يحزنون» حيث الخوف يعم نفسيه وخارجية ، والحزن يخص النفسي لما مضى.

و (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) هم الذين يجاهدون على أشراف اللحوق بهم ، لحقوا بهم بالشهادة أم بالموت حيث الأصل هو قضاء النحب في سبيل الله شهادة أو موتا (١).

(يَسْتَبْشِرُونَ ... أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أنفسهم وإياهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أنفسهم هؤلاء ، لا خوف مما يحصل ولا حزن مما حصل ، حيث الحصيلة الأصيلة من الحياة ككلّ حاصلة عندهم إذ «هم احياء عند ربهم يرزقون»

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٠٩ في روضة الكافي ابن محبوب عن الحارث بن النعمان عن بريد العجلي قال سألت أبا جعفر (عليهما السلام) عن قول الله عز ذكره «ويستبشرون ...» قال : هم والله شيعتنا حين صارت أرواحهم في الجنة واستقبلوا الكرامة من الله عز وجل واستيقنوا انهم كانوا على الحق وعلى دين الله عز ذكره فاستبشروا بمن لم يلحق بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

٨٧

فلما ذا الخوف إذا ولماذا يحزنون (١).

وحين نتأمل في أغوار (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) نجدها تزيل عنهم كل أسى ونقصان في مثلث الزمان ، فكما أن مستقبلهم مأمون عن كل خوف ، كذلك ماضيهم مأمون عن كل حزن ، فلا يحزنون على ما فات منهم وجاه ما وجدوه ، فلهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون ، نزلا من غفور رحيم.

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) ١٧١.

«يستبشرون» كما استبشروا (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) ما أنعمها وأعظمها «وفضل» على تلك النعمة ف (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) ـ «و» ب (أَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) وهنا الاستبشار يعمهم والذين لم يلحقوا بهم ، طلب البشرى لأنفسهم وإياهم (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).

وهنا (أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) دون خصوص الشهداء مما يعمم الحياة البرزخية السعيدة لكافة المؤمنين ، وكما الحياة البرزخية الشقية للآخرين حسب آيات

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٩٥ ـ اخرج الترمذي وحسنة وابن ماجه وابن أبي عاصم في السنة وابن خزيمة والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن جابر عبد الله قال لقيني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا جابر ما لي أراك منكسرا؟ قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استشهد أبي وترك عيالا ودينا فقال : ألا أبشرك بما لقى الله به أباك؟ قال : بلى ، قال : ما كلم الله أحدا قط الا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال : يا عبدي تمنّ على أعطلك قال يا رب تحييني فاقتل فيك ثانية قال الرب تعالى قد سبق مني انهم لا يرجعون قال : اي رب فابلغ من ورائي فأنزل الله هذه الآية.

٨٨

أخرى ، وإنما يمتاز الشهداء عن سائر المؤمنين بفضل الشهادة وزلفاها عند ربهم ورزقهم.

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ١٧٢.

فهناك استجابة لله والرسول قبل إصابة القرح في هذه السبيل وهي وسط الإيمان ، وهنا استجابة لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح وهي قلب الإيمان وصلبه شريطة الإحسان والتقوى فلهم (أَجْرٌ عَظِيمٌ).

وقد نزلت هذه الآية بشأن الخارجين معه (ص) وذلك ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ندب الناس ثاني يوم أحد الى إتباع المشركين ، تقوية لقلوب أصحابه وتجلدا على أعدائه ، وكان بالمسلمين جوانح الجراح ومواقع السلاح ما انتزع قواهم واثر في تماسكهم حتى كان بعضهم يحمل بعضا عند خروجهم في ملاحقة المشركين ، ضعفا عن الاستمرار على المشي والدوام على السعي فلما ندب (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إلى الخروج قال المنافقون للمؤمنين ـ على طريق التهيب لهم والمكر بهم ـ قد رأيتم ما لقيتم بالأمس من أعداءكم وأنتم في باحات دياركم ومدارج أقدامكم حتى لم يفلت منكم إلّا الشريد ولم ينج منكم إلّا القليل ، أفتصحرون لهم اليوم وقد قل عددكم وضعف جلدكم وأسرع القتل في رجالكم فأوقع الشيطان قلوب المنافقين في قلوب بعض المؤمنين.

الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوهم مرة أخرى بعد هنيئة من أحد وهم مثخنون بالجراح ، وهم ناجون بشق الأنفس من أمس المعركة عن القتل ، ولما ينسوا هول الدعكة ومرارة الهزيمة وشدة الكربة.

فلقد دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دون من سواهم ، فلم يأذن للمتخلفين ولا غير الجرحى مهما لم يتخلفوا ، إذ لم يكن ـ وقتذاك ـ

٨٩

يهمه العدد ، إنما همته العدد الروحية في النضال ، فاصطفى الأصفياء منهم فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح (١).

وهكذا تتضافر مثل هذه الصورة الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة في هذه النفوس المؤمنة الكبيرة التي لا تعرف سوى الله وكيلا وتزداد به إيمانا في ساعة العسرة واليسرة سواء ، قائلة في مواجهة المخاوف الهائلة (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

أجل وإن كل مزايا الحياة وزيادة حاصلة هي للشهداء عند ربهم ، وذلك تعديل كامل لمفهوم القتل في سبيل الله ، وللمشاعر المصاحبة له ، في نفوس المجاهدين أنفسهم وفي النفوس التي يخلفونها من وراءهم ، ونفوس المتشككين بشأنهم حيث كان يخيّل إليهم أنهم أموات.

وذلك إفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها ، لكي تتجاوز نطاق هذه الدانية العاجلة الى تلك العالية الآجلة.

وعلى ضوء ذلك التوجيه الوجيه سارت خطى المجاهدين الكرام في معارك الشرف والكرامة ، ونضجت فيها تلك النماذج الرفيعة في غزوتي بدر وأحد وسواهما.

فمن الناس من لا يستجيب لله والرسول في السبل الخطرة الحذرة ، ومنهم

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٠٢ ـ أخرج ابن جرير عن السدى قال لما ندم ابو سفيان وأصحابه عن الرجوع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وقالوا ارجعوا فاستأصلوهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا فلقوا أعرابيا فجعلوا له جعلا فقالوا له ان لقيت محمدا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم فأخبر الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد فلقوا الاعرابي الذي لقيهم الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ...

٩٠

من يستجيب فإذا أصابهم القرح وقفوا غير راجعين ، ومنهم المستجيبون لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ولكنهم بعد لا يستمرون ، ومنهم المستمرون حتى النفس الأخير وهم أولاء المعنيون ب (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) مهما كان لمن سبقهم أجر حسب درجات الاستجابة دون فوضى جزاف ، فكل شيء عنده بمقدار.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ١٧٣.

أولئك الأكارم هم المستجيبون لله والرسول (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) النسناس «ان الناس» المشركين (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) ولكنهم لم يخشوهم إنما خشوا الله (فَزادَهُمْ إِيماناً) على إيمانهم (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) ١٧٤.

«فانقلبوا» هؤلاء الأكارم (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) الذين استبشروا بهما (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أبدا (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) في الأولى وفي الأخرى طبقا عن طبق (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

وذلك الانقلاب كان مصاحبا (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) وبسبب نعمة من الله وفضل فلا ينقلب الإنسان عما لديه إلى ما لدى الله ، وعما هو عنده إلى ما هو عند الله ، إلّا بنعمة من الله وفضل واتباع رضوان الله (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

فتلك عشرة كاملة من صفات وحالات الذين قتلوا في سبيل الله كما يرضاه أنهم : «١ أحياء ـ ٢ عند ربهم ـ ٣ يرزقون ـ ٤ فرحين .. ـ

٩١

٥ ويستبشرون ... ـ ٦ يستبشرون بنعمة من الله وفضل ـ ٧ الذين استجابوا .. ـ ٨ أحسنوا ـ ٩ واتقوا ـ ١٠ فزادهم إيمانا» وعلى ضوء هذه العشرة الكاملة «فانقلبوا ..» انقلابا عن كل ما سوى الله إلى الله حيث يعيشون مع الله عند الله لا سواه.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ١٧٥.

أولياء الشيطان هم الذين يتولونه على دركاتهم في ولايته ومنها الخوف على النفس والنفيس في سبيل الله ، فالخائفون غير الله في سبيل الله هم من أولياء الشيطان ، والخائفون الله هم من أولياء الرحمن ، ف «من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا» (١) و «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء» (٢).

(فَلا تَخافُوهُمْ) أترى «هم» هنا أولياء الشيطان الذين خوفوهم في سبيل الله؟ ولم يكن الخوف من هؤلاء ، بل هو من الناس الذين جمعوا لكم وهم المشركون!.

«هم» هنا هم الناس الذين جمعوا لكم ، والذين يخافونهم من ضعفاء المؤمنين هم من أولياء الشيطان حيث يخوفهم (فَلا تَخافُوهُمْ) كما خافهم أولياء الشيطان (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله.

فالإيمان المتين بالله يجعل من المؤمنين غير خائفين إلّا الله ، فالخائفون الله

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢١٣ في اصول الكافي باسناده الى حمزة قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) ...

(٢) المصدر عن المصدر باسناده الى الهيثم بن واقد قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ...

٩٢

لا يخوفهم الشيطان ولا يخافون الشيطان وأولياءه ، والخائفون غير الله هم من أولياء الشيطان مهما كانوا من المؤمنين بالله.

وهذا التخويف أيا كان هو من سلطان الشيطان : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٧ : ١٠٠) ، فالمتخوفون بتخويف الشيطان ـ على دركاتهم ـ هم من أولياءه على دركات ولايته حيث ركنوا إلى وسوسته وانقادوا لغوايته ، ومن كان بهذه الصفة فهو ولي الشيطان بمعنى تولي القبول والركون لا تولي العبادة والدين ، والمؤمن مخالف لهذه الطريقة لأنه عند الخواطر السيئة من الشيطان يرجع الى يقينه ويتوكل على ربه.

ف (إِنَّما ذلِكُمُ) البعيد البعيد (الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) فلا تكونوا من أولياءه فيؤثر فيكم تخويفه (فَلا تَخافُوهُمْ) أولاء المشركين بتخويف الشيطان فتكونوا من أولياءه «وخافون» أنا ربكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)

٩٣

ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ

٩٤

صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦)

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ١٧٦.

لقد كان يحزنه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين يسارعون في الكفر مصارعين الإيمان وأهله علّهم يضرون شيئا فطمأنه الله أنهم (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) وإنما يضرون أنفسهم ، فلا يضرون الله ولا شرعة الله ، وإنما ينضر بهم ضعفاء الإيمان ، فلا يعني النهي عن الحزن في حقل المسارعة في الكفر إلا الحزن على إضرارهم وأضرارهم في إصرارهم ، واما الحزن على أن الله يعصى ، الداعي الى القبض على أيدي العصاة ، فليس داخلا في النهي ، فإنه قضية

٩٥

الإيمان بالله أن يحزن المؤمن على ما يرى في الأرض من الفساد وكما يفرح بما يرى من صالح الإيمان.

أترى من هم (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)؟ أهم المشركون وهم كافرون لأسفل دركاته فكيف يسارعون في الكفر إلّا تحصيلا للحاصل!.

أم هم المسلمون البسطاء المستغفلون الذين يكفرون سراعا؟ قد يشملهم النص.

أم وهم المنافقون واهل الكتاب حيث يسارعون في مزيد كفرهم وفي كفر المسلمين : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٥ : ٤٢).

قد يشمل النص ثالوث المسارعة في الكفر ، كفرهم وكفر المسلمين ، وهم على أية حال (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) و (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) وكذا الذين معك ، اللهم إلّا بسطاء الإيمان ، غير المتوكلين على ربهم ، الذين في قلوبهم مرض ، فقد ينضرّون ارتجاعا إلى الكفر أم عن حاضر إيمانهم ـ مهما كان ضعيفا ـ إلى أضعف منه.

(إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بل هم يضرون أنفسهم ويضرهم الله بما

٩٦

أضروا حيث (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) لا فحسب بل (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فلما ذا ـ إذا ـ الحزن عليهم؟.

أو يريد الله سلبية الحظ أخرويا وإيجابية العذاب فيها والله لا يريد شرا ولا ضرا بالعباد؟ إنها إرادة الجزاء الوفاق بما يسارعون في الكفر وما الله يريد ظلما بالعباد.

ذلك ، وليس فحسب المسارعة في الكفر لن تضر الله شيئا ، بل كضابطة عامة :

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ١٧٧.

وهذا يشمل كل دركات الكفر ، فطرية ملية أماهيه ، كما الإيمان هنا يشمل الإيمان الفطري والملي ، حاضر الإيمان بمراتبه ، وغائب الإيمان بحاضر براهينه آفاقيا وانفسيا ، إنهم ككل (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) ضرا بالشارع أو شرعته أو حامل شرعته رسوليا أو رساليا ، اللهم إلا الذين في قلوبهم مرض (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

هنا أليم لاشتماله كل دركات الكفر ، وهناك عظيم لأنه أسفل دركات الكفر لمكان المسارعة في الكفر ، فمشتري الكفر بالإيمان قد يسارع في الكفر وقد لا يسارع وانما يصارع في ميادين الكفر والإيمان فيصرع تقصيرا من عند نفسه فلهم عذاب أليم ، ولأولئك عذاب عظيم.

ومن العذاب الأليم العظيم للذين يسارعون في الكفر ، أو يشترون الكفر بالإيمان بلية الإملاء التي يحسبها الجاهل خيرا :

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ

٩٧

لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ١٧٨.

هنا (الَّذِينَ كَفَرُوا) هم المسارعون في الكفر ، الذين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ولا يعني (الَّذِينَ كَفَرُوا) ككل ، إذ قد يؤمن البعض بالإملاء بطول النظر والعبر ، الذين كفروا لشبهة دون عناد ، أم عناد غير عريق ، ام عريق غير غريق ، ف (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا) بيان لواقع المستقبل للمسارعين في الكفر المصارعين الإيمان وأهله على علم وعمد.

فالذين كفروا ـ ومعهم بسطاء الإيمان القاحل ـ يحسبون أنما يملى لهم في نفس ونفيس خير لأنفسهم فيخيّل إليهم أن لو كان الإيمان حقا لما أملى الله للكافرين.

كلا! بل (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣) و ٦٨ : ٤٥) والإملاء له طرفان ، رباني ابتلاء وامتهانا في امتحان بكيد متين ، وشيطاني حيث (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٤٧ : ٢٥) : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (١٣ : ٣٢) ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ. وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ. وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٢٢ : ٤٤) (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨).

والإملاء هو الإمداد ومنه قيل للمدة الطويلة ملاوة من الدهر وملي من الدهر ، فالإملاء هو الإمهال مدّة وعدة وعدة ، إمدادا بأموال وبنين ، ف (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٢ : ١٥) (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٢٣ : ٥٦).

أجل ، إنه ليس الإملاء الإمداد من الله للذين كفروا خيرا لأنفسهم بل

٩٨

هو شر ف (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ثم وشرعة الله وعباده الصامدون مأمونون عن إملاء الكافرين ، وهو لهم امتحان ليزدادوا إيمانا بجهادهم المتواصل ، ولأولاء امتهان ليزدادوا إثما.

وثالوث العذاب العظيم الأليم المهين متوارد على المسارعين في الكفر ، المنهمكين في وسائل ترفهم ، المهملين في كل طرفهم.

وهذا أنسب ختام بعد عرض الحرب وانهزام المسلمين ، فإن هناك شبهة كاذبة مريبة تحيك في صدور ضيقة أمام المعارك الناشبة بين الحق والباطل ، حين يعود منها الباطل منتصرا ذا جولة وصولة : لماذا يا رب يصاب الحق بما يصيب الباطل أهل الحق ، وهذه فتنة تهز القلوب ، وكما حصلت في هزيمة أحد «أنى هذا»؟.

ففي هذا المطلع الختامي يأتي حاسم الجواب الصواب بعد سائر الجواب الصواب ، ان ذهاب الباطل ناجيا عن المعركة وبقاءه متنفّشا في فترة قليلة او طويلة ، إنه لا يعني أن الله يملي الباطل ويمهله بإهمال الحق ، وانه مجافيه او ناسيه ، متروكا للباطل يغتاله ويرديه ، فإنما هي حكمة وتدبير ، إملاء للباطل ليمشي ويمضي الى نهاية المطاف ، وليرتكب ابشع الآثام ويرتبك فيها فينال العذاب المهين ، ويصمد اهل الحق وجاه الباطل فينالوا الثواب العظيم.

إنما يريد الله استنفاد رصيد الباطل في هذه المعارك لينال خالص العذاب ، وتبلور رصيد الحق لينال خالص الثواب فان الدار دار الامتحان لأهل الحق ، والامتهان لأهل الباطل في جو ذلك الامتحان.

فلا تعني «ليزدادوا» ما تعنيه «ليعبدون» في (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) حتى تتعارضا ، فالعناية الأولى تكوينية عقوبة على أهليها الكافرين ، والثانية تشريعية مغبة العبادة من المؤمنين.

٩٩

فالغاية القصوى من خلق الجن والأنس هي العبادة ، كآية محكمة تفسر الغاية الجانبية في «ليزدادوا».

ثم قد تكون الغاية معنية كما العبادة غاية للخلق ، وأخرى غير معنية ولكنها واقعية كازدياد الإثم في إملاء الذين كفروا ، فإنها غير معنية لله ، وإنما هي واقعية لم يحجب الله عنها تكوينا كما في (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) ولم تكن هذه الغاية معنية لآل فرعون ، بل هي واقعية.

فانما التعمير يعني في عناية شرعية التذكير (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧) فقد أنعم الله عليهم ليشكروه واحسن إليهم ليطيعوه ، فتمادوا وتتابعوا في ضلالهم فتركهم وما افتعلوا ، وخلى بينهم وبين ما اختاروا ، فلم يمنعهم من ذلك اجبارا ، ولم يحل بينهم وبينه اقتسارا ، فسمي ذلك الترك إملاء ، فكما أجراهم الله في المضمار وأجرّهم طول الأنظار ولم يعاجلهم بمستحق العقاب تمادوا غيا ، وازدادوا إثما.

ذلك ، وحتى إذا كانت زيادة الإثم معنية في التعمير ، فهي عناية تكوينية لا تشريعية ، والعناية التكوينية الربانية تحلق على كافة الحوادث خيّرة وشريرة دون تناحر مع صالح الاختيار والتكليف.

لذلك ترى ان الله قد ينسب فعلة الشيطان الى نفسه ، تدليلا على انه تعالى غير منعزل ولا معتزل عما يفعله العباد مهما كان لهم اختيار في تكليفية الأفعال.

وهكذا توجه ارادة الله لزيادة الإثم كفاية معنية من إملاء الكافرين ، أنها غاية واقعية هي لهم مختارة ، عقوبة عليهم بإثمهم فيزدادوا إثما ، فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.

وترى إذا كان إملاء الكافر وامهاله شرا له فموته خير ، فهل ان المؤمن كما

١٠٠