الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

فما صدقت «الوصية» تمت حسب طليق الآية وصريح أو ظاهر الرواية ، اللهم إلا إذا ردّت.

ولا بد في الوصية من الإرادة الطليقة بما يبرزها للوصي بحضور عدلين اثنين لأقل تقدير : ف (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥ : ١٠٨).

وقد تكفي الإشارة الصريحة اضطراريا (١) بل وفي حالة الإختيار ما صدقت الوصية ، وبأحرى الكتابة إذا كانت متأكدة منه دون نسخ لها فإنها وصية مكتوبة كما الملفوظة ، والمشار إليها وصية ولا دليل على اشتراط اللفظ وان كان أصح ، فهي ـ إذا ـ أصح.

__________________

(١) وكما يدل عليه صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (ع) أن أباه حدثه عن أبيه أن أمامة بنت أبي العاص بن الربيع وأمها زينب بنت رسول الله (ص) كانت تحت علي صلوات الله عليه بعد فاطمة عليها السلام فخلف عليها بعد علي (ع) المغيرة بن النوفل فذكر أنها وجعت وجعا شديدا حتى اعتقل لسانها وأتاها الحسن والحسين ابنا علي عليهم السلام وهي لا تستطيع الكلام فجعلا يقولان لها ـ والمغيرة كاره لما يقولان ـ اعتقت فلانا وأهله فجعلت تشير برأسها : لا ، كذا وكذا فجعلت تشير برأسها نعم ، لا تفصح بالكلام فأجازا ذلك (التهذيب آخر كتاب العتق وموضع آخر ص ٤٠٠).

أقول : ولكنها لا تدل إلّا على الإقرار ولا فرق بينه وبين الوصية.

٣٢١

واركان الوصية اربعة الموصي والموصى له والموصى اليه والموصى به ، ولا بد للموصي من عدم السفه مهما كان بالغا فتصح وصية غير البالغ الرشيد إذا كانت في حق (١) فانها وصية بالمعروف تدل على صحتها طليق آية الوصية بالمعروف.

وهل تصح وصية القاتل نفسه إذا كانت بعد قتله ولمّا يمت؟ ظاهر اطلاق القرآن : نعم ، وصريح صحيحة (٢) انه لا ، والمرجع هو الكتاب فيما لم يقطع بصدوره تقييدا لإطلاق الكتاب.

بل وقد لا يقبل ذلك الإطلاق تقييدا حيث القدر المعلوم من (حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) في آية الوصية هو القاتل نفسه دون من يظن انه يموت ، مهما كان مشمولا لها حيث تظهر علائم الموت ، فكيف يصح للقاتل نفسه نقض واجب الوصية للوالدين والأقربين وهو أحوج من غيره في ذلك البر الواجب؟.

__________________

(١) روى المشايخ الثلاثة بأسانيدهم عن زرارة عن أبي جعفر عليهما السلام قال : إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف وحق جائز(الوسائل ٢ : ٦٧٣) ومثله صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) إذا بلغ الغلام عشر سنين فأوصى بثلث ماله في حق جازت وصيته (المصدر)

وعن أبي بصير في الموثق عن أبي عبد الله (ع) في الغلام ابن عشر سنين يوصي؟ قال : إذا أصاب موضع الوصية جازت (المصدر). وعليها تحمل الإطلاقات في جواز وصية غير البالغ ، وأما ما في الصحيح عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : ان الغلام إذا حضره الموت فأوصى ولم يدرك جازت وصيته لأولي الأرحام ولم تجز للغرباء (المصدر) فمحمولة على ما كانت وصيته للغرباء جنفا أو إثما لإطلاق الكتاب والسنة بجواز الوصية في حق.

(٢) هي صحيحة أبي ولاد المروية بطريق المشايخ الثلاثة قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها ، قيل له : أرأيت إن كان أوصى بوصيته ثم قتل نفسه؟ متعمدا من ساعته تنفذ وصيته؟ قال : فقال : إن كان أوصى قبل أن يحدث حدث في نفسه من جراحة أو فعل لعله يموت لم تجز وصيته (الوسائل باب الوصايا ب ٥٢ ح ١).

٣٢٢

وهل يجوز أن يرجع عن وصية عهدية او تمليكية ، ام يفصّل بينهما فلا يجوز في التمليكية ولا سيما إذا قبلها الموصى له لأنه خلاف العقد الواجب الوفاء به ، أم والإيقاع الذي هو لصالح الموصى له ف (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَوْفُوا بِالْعَهْدِ) وما أشبه تفرض عدم الرجوع اللهم إلّا إذا كان إلى أصلح منها ، وقد تحمل عليه الروايات المجوزة (١) أو يقال : إن من طبع الوصية أن يملكها الموصي إيجابا وسلبا كالوكالة.

فهي من القرارات الجائزة ، فلا تعارض بين آيات الوفاء بالعقود والعهود والروايات المجوزة لحلها أو تبديلها.

فالأشبه جواز تبديل الوصية ، لا سيما وان محط آية التبديل المنددة به هو غير الموصي نفسه.

ولكن هذا التبديل إذا كان جنفا او إثما ام كان نقصا او نقضا للوصية الصالحة للوالدين والأقربين لا يجوز.

فتبديل الوصية مبدئيا يجوز ولكنه في أمثال هذه الموارد المحظورة بحجة الكتاب او السنة لا يجوز.

واما الموصى له فأحراه الوالدان والأقربون كما في آية الوصية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فانها لا تحصر الوصية فيهم و (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) طليقة تشمل صالح الوصية التي

__________________

(١) منها ما رواه المشايخ الثلاثة عن عبيد بن زرارة قال قد سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : للموصي أن يرجع في وصيته إن كان في صحة أو في مرض» (المصدر ب ١٨ ح ٣) وعن بريد بن معاوية في الموثق عن أبي عبد الله (ع) قال : لصاحب الوصية أن يرجع فيها ويحدث في وصيته ما دام حيا» (المصدر ح ٤) وعن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبي عبد الله (ع) المدبر من الثلث وقال : للرجل أن يرجع في ثلثه إن كان أوصى في صحة أو مرض» (الكافي ٧ : ٢٢).

٣٢٣

ليست جنفا أو إثما ، وأحراها «الوصية للوارث» وما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «لا وصية لوارث» (١) محمول على الوصية للوارث بالإرث حيث يرثه دون وصية ، ام هي مطروحة بمخالفة القرآن.

وهل تصح الوصية للحمل؟ ظاهر إطلاقها نعم مهما كان تحقيقها بعد موت المورث وولادة الحمل.

واطلاق الوصية للأولاد هل يقتضي التسوية لمكان الإطلاق ، ام (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لإطلاق الضابطة مثلث الميراث والوصية والتقسيم حال الحياة ، والأشبه هو الثاني لإطلاق الآية حيث تقيد إطلاق الوصية ، فحتى إن اوصي بخلاف (مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ردت إلى الضابطة ، اللهم إلا أن يسوي بين الذكر والأنثى لرجاحة شرعية ، كما وقررت الوصية لسد الفراغات الاستثنائية.

وهل يشترط في الوصي العدالة لأنها ولاية ربما هي على الصغار كما على سائر مواد الوصية ، ولا يؤتمن الخائن؟ أم لا تشترط لعدم الدليل ، والولاية لا تشترط فيها العدالة كما في ولاية الأب والجد ، والأمانة أعم من العدالة ، وعدم وجود نص على اشتراط العدالة في الوصي هو كالنص على عدم اشتراطها فيه حيث المسألة مما تعم بها البلوى فالواجب ورود نصوص مبيّنة لشرطها لو كانت.

نعم إن اوصى شرط العدالة ولم يكن عادلا ، أو فسق ، سقط عن الوصاية قضية الشرط ، أجل تشترط العدالة في شاهدي الوصية بنص الآية ، وحتى إذا لم يكونا منكم فآخران من غيركم.

وهل يجوز رد الوصية؟ ومتى؟ قد يقال نعم بصورة طليقة حيث الموصي

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنن ٢ : ١٠٣ وابن ماجة في السنن ٢ : ٩٠٥ ، والأحاديث حول جواز الوصية للوارث مستفيضة كما استفاضت في الوصية لغير الوارث.

٣٢٤

لا يملك رضى الوصي ، وتسلط الغير على المكلف خلاف الأصل اللهم إلّا بدليل.

ولكنه يقال : لا ، إلا ان يخبر الموصي برده وله مجال الوصية الى غيره كما في صحاح عدة (١) وان لم تبلغه الوصية إلّا بعد موت الموصي لم يكن له ردها لأن مجال الوصية فائت ككل ، اللهم إلّا إذا لم يستطع تطبيق الوصية فيوكل غيره أم لا يستطيع فيها أمرا حتى التوكيل.

وتصح وصية الموصي فيما اوصي به شرط الإذن فيها وإلا فلا تصح لا سيما إذا حصر الوصية في شخصه.

واما الموصى به تمليكيا او عهديا فالمفروض حلّه وعدم تجاوزه عن الثلث (٢) وان يملكه الموصي عند تنفيذ الوصية وان لم يملكه حين الوصية كأن يوصي بثمر البستان لردح من الزمن ، فكما يجوز بيع الثمر سلفا كذلك وباحرى الوصية به.

__________________

(١) منها ما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبي عبد الله (ع) قال : إن أوصي إلى رجل وهو غائب فليس له أن يرد وصيته فإن أوصى إليه وهو بالبلد فهو بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل (الفقيه ٥٢٥ والكافي ٧ : ٦٠ والتهذيب ٢ : ٣٩١) ومثله عن فضيل بن يسار في الصحيح عنه (ع) (المصدر) وعن منصور بن حازم عنه مثله بزيادة «لأنه لو كان شاهدا فأبى أن يقبلها طلب غيره» (المصدر) وصحيح ابن يسار عنه (ع) في رجل يوصى إليه فقال : إذا بعث إليه من بلده ليس له ردها وإن كان في مصر يوجد فيه غيره فذلك إليه والصحيح أو الحسن عن هشام بن سالم عنه (ع) في الرجل يوصي إلى الرجل بوصيته فأبى أن يقبلها فقال أبو عبد الله (ع) لا يخذله على هذه الحال.

(٢) لقد تظافرت روايات الفريقين على عدم جواز الوصية بما زاد عن الثلث ، والرواية القائلة بجوازها في كل المال مطروحة بمخالفة الكتاب حيث فرض السهام ، وكيف يجوز رد فرائض الله بالوصية ، وهي رواية عمار الساباطي عن الصادق (ع) قال : الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح إن أوصى به كله فهو جائز له (الفقيه ٥٢٧) وهكذا الرواية الواردة باختصاصها بما دون الثلث.

٣٢٥

وتجوز الوصية بالزائد عن الثلث بإمضاء الورثة دون الصغار.

والواجب المالي يخرج من أصل التركة أوصى به أم لم يوص ، وسائر الواجب إن اوصى به فهو من الثلث وإن لم يوص به كالصلاة الفائتة والصوم وما أشبههما فقد يقال إنه يخرج من الأصل لأنه دين مهما لم يكن واجبا ماليا زمن حياته ، ولكنه انتقل بموته الى واجب مالي.

ذلك ، فان «او دين» طليقة تشمل كل دين ، مالي صرف كسائر الديون وكالحقوق الواجبة ، ام مالي بدني كالحج ، ام بدني حال الحياة ومالي بعده كالصوم والصلاة ، وكذلك الواجبات المالية الحكمية كواجب الإنفاق على أهله وواجب الرزق على من حضر القسمة ، إذا فكل الواجبات التي تتطلب المال بعد الموت هي مشمولة ل «دين» كما الوصية تشمل صالح الوصية ككل.

هذا! ولكن «أو دين» إنما تشمل الدين المالي قبل الموت ، لا الذي ينتقل الى المالي ولم يكن قبله إلا دينا عمليا ، فلا يخرج مما ترك إلا وصية بمال او دين مالي مهما كان ماليا صرفا او الذي يستلزم المال ، او الواجب المالي كالانفاقات الواجبة معينة وسواها.

ذلك ولكن «او دين» تشمل بإطلاقها كل ما يصدق عليه انه دين ، سواء تحول بعد الموت بدين ام كان قبله ، كما هو سواء أكان دينا بشريا ام إلهيا ، ومثاله دية الدم حيث لم تكن مما ترك فأصبحت بالموت مما ترك ، وعل مثل الصلاة والصوم أحرى ـ إذا ـ ان يدخل في نطاق «او دين».

فكل الواجبات التي تتطلب بعد الموت مالا هي داخلة في «دين» مهما لم تكن من الواجبات المالية قبل الموت ، ولا تدل «او دين» إلا على الدين المالي ، سواء ا كان ماليا قبل الموت ام انتقل بالموت الى المالي حيث يتطلب الأجر.

واما «غير مضار» فهي حال للمورث ألا يضار بوصيته او دينه الورثة ،

٣٢٦

والمضارة في الوصية معلومة (١) ، وهي في الدين بين محتملات عدة ، ومنها ـ الذي قد يستثنى من واجب الأداء ـ الدين في محرم والدائن عارف بذلك ، والإقرار بدين وهو متهم في إقراره ، فقد يخرج بتلك المضارة عن «دين» واما سائر الدين فهي مشمولة ل «دين» قضية استغراق الإطلاق.

صحيح ان استثناء «او دين» في نطاق الميراث بشيء بكونه دينا ماليا ولكنه لا يقتضي كونه ماليا قبل الموت ، كما لم يقتض «ما ترك» كون المال واقعيا قبل الموت كدية الدم ، بل والذي يتحول الى مالي بالموت كما تحول الدم الى المال بعده ، وهذا ليس من القياس وإنما هو تقريب سلبا لاستغراب كون هذا الواجب داخلا في «دين».

هذا كله! ولكن في تحول مثل الصلاة والصوم من غير المالي اصليا الى دين مالي نقد واضح فاصح ، إذ لا يتحول الدين غير المالي ماليا إلا إذا وجب الاستيجار وهو اوّل الكلام.

إذا فتبقى هذه الواجبات ديونا على عواتق تاركيها ، فلا تستثنى لأنها ليست ديونا مالية لا قبل الموت ولا بعده إلا إذا اوصى بها فتنقلب بها مالية.

و «او دين» في حقل الميراث لا تشمل الديون غير المالية في حد ذواتها.

ثم وتارك الصلاة والصوم دون عذر مضار في دينه فلا يجب الاستيجار له دون وصية ، تأمل.

ذلك! ولا اشارة في الكتاب والسنة على وجوب قضاء أمثال هذه الواجبات غير المالية ، وشمول «او دين» ظاهر السلب ام غير ظاهر الإيجاب

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٣ : ٣٥٦ قال علي (ع) ما أبالي أضررت بورثتي أو سرقتهم ذلك المال.

وفيه عنه (ع) قال : من أوصى ولم يحف ولم يضار كان كمن تصدق به في حياته.

٣٢٧

وهذا كاف في عدم التأكد من دليل يفرض أداء أمثال هذه الديون.

فالأشبه عدم الوجوب فيها اللهم إلا بوصية غير زائدة عن الثلث.

ولو كانت مثل الصلاة والصوم مشمولة ل «او دين» لم يكن مجال للروايات القائلة بوجوبها على ولي الميت الأكبر ، تأمل.

ذلك ، ولان «او دين» ناظرة إلى ما بعد الموت فقد تشمل دين الصلاة والصوم مهما تحولتا الى دين مالي بعد الموت كما يستأجر شخصا لعمل ما شرط ان يستحق الأجرة بعد العمل فصادف موته قبل العمل فانه دين لما بعد الموت وتشمله «او دين».

فالأحوط الاستيجار لامثال هذه الديون غير المالية قبل الموت حيث لا تتجاوز عن الثلث ، وان كان الأقوى عدم وجوبه.

ومن الدين المضار الدين الذي يدعيه او يوصي به مضارة للوارث ، فلا يصغى إلى اقرار المضار ولا وصيته المضارة (١).

فلا تمضي وصية ولا يمضي إقرار فيها مضارة ام هو متهم ، لأنه إقرار في حق الغير ، حيث التركة هي حق الورثة.

والدين غير مضار هو الإقرار بدين غير ثابت ، ام ثابت في غير حق

__________________

(١) المصدر ٣٧٨ عن أبي عبد الله (ع) في رجل أوصى لبعض ورثته أن عليه دينا؟ فقال : إن كان الميت مرضيا فأعطه الذي أوصى له.

وفيه ٣٧٩ عن محمد بن عبد الجبار قال كتبت إلى العسكري (ع) ـ إلى أن قال ـ : فكتب بخطه إن كان الدين صحيحا معروفا مفهوما فيخرج الدين من رأس المال إن شاء وإن لم يكن الدين حقا أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو لم يكف.

أقول : وذلك إذا لم تكن الوصية كالدين فيها مضارة على الورثة والألم تنفذ وصيتها أبدا.

٣٢٨

والدائن عارف بذلك ، وتخيل التعارض بين «غير مضار» وبين وجوب أداء الدين مردود بان الدائن هدر ماله حين أقرضه لمن يعلم انه مضار في ذلك فلا يمضي دينه ، واما التعارض بينه وبين واجب الأداء فيما لا يعلم الدائن فلتقدم أدلة الدين.

فغير مضار عام من وجه بالنسبة للدين وفي مورد الاجتماع تقدم أدلة الدين لأنه حق ثابت لا يسقط بتقصير المديون ، وعلى الورثة ان يمنعوا عن هكذا دين حتى لا تكون مضارة في البين.

احكام الحبوة :

الحبوة هي اختصاصات للميت كثياب بدنه وخاتمه وسيفه ومصحفه ، وهي ـ حسب مختلف الأخبار في عديدها ـ للولد الأكبر إن كان ويقضي عنه ما تركه من صلاة او صيام.

او لا يصح تقييد آيات الميراث بالحبوة فان «ما ترك» تشملها كما شملت ما استثنوه عن ميراث الزوجات ، ولا سيما إذا لم يملك إلا الحبوة أم هي اكثر ما يملكه وهناك ضعاف وصغار.

وقد اختلفت الأخبار على ضعفها في أنفسها في مقادير الحبوة بين «سيفه ومصحفه وخاتمه ودرعه» (١) ام هي مع كتبه ورحله ورحلته وكسوته إلا درعه (٢) ام سيفه وسلاحه (٣) ام السيف والرحل والثياب ثياب جلده (٤)

__________________

(١) وهي صحيح ربعي ابن عبد الله عن أبي عبد الله (ع) إذا مات الرجل فلأكبر ولده سيفه ومصحفه وخاتمه ودرعه (الكافي ٧ : ٨٦ والتهذيب ٢ : ٤١٢).

(٢) وهي صحيح الربعي الآخر عنه (ع) إذا مات الرجل فسيفه وخاتمه ومصحفه وكتبه ورحله وراحلته وكسوته لأكبر ولده فإن كان الأكبر ابنة فللأكبر من الذكور(الكافي ٧ : ٨٦).

(٣) وهي مرسل ابن أذينة عن أحدهما : إذا ترك سيفا وسلاحا فهو لابنه وإن كان له بنون فهو ـ

٣٢٩

ام لا تختص الحبوة بالأكبر (١).

فهي ـ إذا ـ بين ٢ و ٣ و ٤ و ٧ ، مما قد يدل على رجاحة الحبوة للولد الأكبر إن يرضى بها الورثة ، أم تتساقط هذه الروايات في أنفسها إضافة الى مخالفة الكتاب.

وقد تكون الحبوة ـ ان كانت ـ بديلة عما فات عنه من صلاة وصيام ، فلا حبوة ان لم تكن عليه فائتة ، وهي له إن كانت عليه فائتة.

وهل يجب على الولد الأكبر قضاء الصلاة والصوم الفائتان عن الميت؟ النصوص الدالة على الوجوب خالية عن الولد الأكبر (٢) اللهم إلّا اكبر ولييه (١)

__________________

ـ لأكبرهم (الكافي ٧ : ٨٥ والتهذيب ٢ : ٤١٢).

(٤) وهي رواية أبي بصير عنه (ع) إذا مات الميت فإن لابنه الأكبر السيف والرحل والثياب ثياب جلده (الفقيه باب نوادر المواريث ح ١).

(١) خبر علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا (ع) في قصة اليتيمين قال كان لوحا من ذهب فيه علم فقال له حسين بن أسباط فإلى من صار إلى أكبرهما؟ قال : نعم (التهذيب ٢ : ٤١٢).

أقول : هذه الأخبار للاختلاف بينها أنفسها في تقدير الحبوة ومخالفتها كلها لطليق الآية في «ما ترك» لا يجوز أن يفتي بها ، ولا سيما الأخيرة فإنها في اختصاص اللوحة الذهبية بأكبر الولدين خلاف نص القرآن (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) المفسر فيها باللوحة الذهبية التي كان عليها علم ، إدخالا لها في الكتب العلمية.

(٢) ومنها صحيح حفص عن أبي عبد الله (ع) في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام؟ قال : يقضي عنه أولى الناس بميراثه ، قلت : فإن كان أولى الناس به امرأة؟ قال : لا إلّا الرجال.(الكافي ٤ : ١٢٣ والتهذيب ١ : ٤٢١ والإستبصار ٢ : ١٠٨).

وموثقة ابن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) في من يموت في شهر رمضان قال : ليس على وليه أن يقضي عنه ـ إلى أن قال ـ : فإن مرض فلم يصم شهر رمضان ثم صح بعد ذلك فلم يقضه ثم مرض فمات فعلى وليه أن يقضي لأنه قد صح فلم يقض ووجب عليه (التهذيب ١ : ٤٢٢ والإستبصار ٢ : ١١٠).

٣٣٠

وهو أعم من ولده وسائر ورثته الذكور ، وبعض النصوص مصرحة بعدم الوجوب (٢).

وهل تستفاد فرائض الجدود ، ثم الأعمام والعمات والأخوال والخالات من آيات الميراث؟ الظاهر نعم ، فان كلا من الجد والجدة يأخذ نصيب الأب والأم ، وللاخوة نصيبهم المفروض في نص القرآن ، ولكل من ولد الابن والبنت نصيبه للذكر مثل حظ الأنثيين ، وللأعمام والعمات نصيب الآباء وللأخوال والخالات نصيب الأمهات للذكر مثل حظ الأنثيين ففي ذكر انصبة الطبقة الاولى وقسم من الثانية ذكر لكل الأنصبة حيث إن كل لاحق يأخذ نصيب سابقه ، مع رعاية الأقرب إلى الميت فالأقرب.

فأولاد الابن يأخذون نصيبه وإن كان فيهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، وكذلك أولاد البنت ، ولا نجد نقضا لهذه القاعدة إلّا في الأبوين فقد تزيد الأم على الأب وقد يزيد الأب على الأم وقد يتساويان.

ثم التسوية بين مختلف الاخوة من الأب او من الأم ، حسب آية الكلالة الأولى ، ثم للذكر مثل حظ الأنثيين لمختلف الأخوة من الأبوين.

وكضابطة عامة في حقل الميراث «إن كل ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجبر به إلا ان يكون وارث اقرب منه الى الميت فيحجبه» (١).

__________________

(١) في الفقيه كتب محمد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام رجل مات وعليه قضاء من شهر رمضان عشرة أيام وله وليان هل يجوز لهما أن يقضيا عنه جميعا خمسة أيام أحد الوليين وخمسة أيام الآخر؟ فوقع يقضي عنه أكبر ولييه عشرة أيام ولاء إن شاء الله (التهذيب ١ : ٤٢٢ والفقيه باب قضاء الصوم عن الميت رقم ٣).

(٢) مثل صحيح ابن بزيع عن أبي جعفر الثاني (ع) قلت : رجل مات وعليه صوم يصام عنه أو يتصدق؟ قال: يتصدق فإنه أفضل (جواهر الكلام كتاب الصوم في وجوب القضاء على الولي).

٣٣١

وحصيلة البحث في حقل الميراث أن الأقربية الرحمية تحقق الأحقية في أصل الميراث ، ثم للذكر مثل حظ الأنثيين إلا في الاخوة من أب أو أم تماما والأبوين أحيانا ، ثم لكل طبقة درجات ، فالأولى هي الأبوان والأولاد ، وأولاد الأولاد يقومون مقام آباءهم إذا لم يبق أحد من الأولاد ، والثانية الأجداد والجدات وان علوا في آباءهم ، والإخوة والأخوات وان نزلوا في أولادهم ، والثالثة الأعمام والعمات والأخوال والخالات ، وكل يأخذ نصيب من يتقرب به ، وإذا اجتمع المتقرب بالأبوين مع المتقرب بأحدهما فلا يرث الثاني مع الأول ، ويرث كل من الثاني مع زميله.

وضابطة الأقربية الرحمية ثابتة في كل طبقات الميراث ، فلا يرث الدرجة الثانية في الطبقة الاولى مع وجود الدرجة الاولى ، كولد الولد مع الوالدين ، كما لا يرث الجدان مع الأولاد ، ثم يرث الإخوة مع الجدود ، ولا يرث جد الجد مع الأخ كما لا يرث ولد الأخ مع الجد ، ولا يرث الإخوة من احد الأبوين مع الإخوة من الأبوين ، ثم في الطبقة الثالثة وهم الأعمام والعمات والأخوال والخالات ، لا يرث أحدهم من أحد العمودين مع أحدهم من العمودين ، فأخو أبيك من أحد أبويه لا يرث مع أخي أبيك من أبويه وهكذا الأمر ، ولا تستثنى هذه الضابطة في حقل الميراث أبدا مهما توفرت الروايات لنقضها او نقصها فضلا عن الفتاوى.

__________________

ـ أقول : وفي أصل قضاء الواجب غير الموصى به عن الميت اشكال فإنه ترك مقصرا وتقصير آخر أنه لم يوص ، وحتى إن أوصى فما ذا تفيده الواجبات المقضاة بعد موته اللهم إلّا تخفيفا خفيفا ، ولو أن الوصية فضلا عن النيابة بلا وصية ـ كانت ترفع عبء التكليف الثابت على عواتق المكلفين كان الأثرياء في يسر وراحة عن تكاليف الله كما هم في يسر وراحة في الحياة الدنيا.

(١) كما في صحيحة أبي أيوب عن أبي عبد الله (ع) قال : إن في كتاب علي (ع) : ...(التهذيب ٢ : ٤٢٥) ومثله ما روي عنه (ع) أيضا قال : إذا التفت القرابات فالسابق أحق بميراث قريبه ـ

٣٣٢

وهل يرث ولد الولد مع وجود الوالدين او أحدهما؟ (أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ) يحكم بحرمان ولد الولد مع وجودهما او أحدهما ، وكما (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...) تحكم بان الأقرب يمنع الأبعد ، ومتضارب الحديث معروض على القرآن فيرد ما يخالفه (١)

ففي الأقربية الرحمية الأصل هو الاتصال إلى مبدء صلبا ورحما أو أحدهما او اتصالهما إليهما او أحدهما على سواء.

__________________

ـ فإن استوت قام كل واحد منهم مقام قريبه (الكافي ٧ : ٧٧).

(١) من الموافق للقرآن صحيحة أبي أيوب الخزار عن أبي عبد الله (ع) قال : إن في كتاب علي (ع) أن كل ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجربه إلّا أن يكون أقرب إلى الميت منه فيحجبه (الكافي ٧ : ٧٧)

وصحيحة سعد بن أبي خلق عن أبي الحسن الأول قال : بنات الابنة يقمن مقام البنت إذا لم يكن للميت بنات ولا وارث غيرهن وبنات الابن يقمن مقام الابن إذا لم يكن للميت ولد ولا وارث غيرهن (المصدر ٨٨).

أقول : يعني وارث في طبقتهن لا كالزوجين حيث يرثان مع كل الطبقات ، وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (ع) قال : بنات الابنة يقمن مقام الابنة إذا لم يكن للميت بنات ولا وارث غيرهن وبنات الابن يقمن مقام الابن إذا لم يكن للميت ولد ولا وارث غيرهن (المصدر).

ثم لا دليل للقول المشهور إلّا قوله تعالى (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) وولد الولد ولد إذ لا يحجب ولد الولد الأم عما زاد عن ثلثها إلّا إذا ورث مع الوالدين ، ولكن صدق الولد على ولد الولد لا يثبت كونه وارثا مع الوالد كما إن الأخوة يحجبون الأم ولا يرثون معها ، ثم على فرض الإطلاق حجبا وارثا فهي مخصوصة في الإرث بآيتي أولوا الأرحام ـ (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ..).

ولا دور لعموم المنزلة ان ولد الولد يقوم مقام الولد فإنه مخصص بها إذا لم يكن وارث أقرب منهم بنص القرآن.

٣٣٣

وانما خرج الزوجان عن هذه الضابطة بنص القرآن ، فلا يقدم أحدهما على قريب في الرحم ام بعيد.

وقاعدة الرد بعد الفريضة ثابتة للوارث أيا كان بسبب او نسب ، فالأقرب كما يأخذ نصيبه المفروض كذلك يأخذ الباقي ان لم يكن وارث آخر.

وليس للزوجين رد ما دام هناك وارث من النسب ، وانما الرد لهما فيما لا وارث من النسب ، مهما كان الوارث ذا فرضين كما الزوجين.

وإذا ورث اثنان لكلّ فرض غير الزوجين فالرد مقسم بينهما بحساب نصيبه ، وكل ذلك قضية الأولوية والأقربية والأحقية في الميراث ، المستفادة كضابطة ثابتة من القرآن.

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ

__________________

ـ وإلّا ما رواه في الكافي ٧ : ٩٧ عن أبي عبد الله وعن أبي جعفر عليهما السلام في مسائل منها «ولا يرث أحد من خلق الله تعالى مع الولد إلّا الأبوان والزوج والزوجة فإن لم يكن ولد وكان ولد الولد ذكورا كانوا أم إناثا فإنهم بمنزلة الولد وولد البنين بمنزلة البنين يرثون ميراث البنين وولد البنات بمنزلة البنات يرثون ميراث البنات ويحجبون الأبوين والزوجين عن سهامهم الأكثر وإن سفلوا ببطنين أو أكثر يرثون ما يرث الولد الصلب ويحجبون ما يحجب الولد الصلب.

والخبر المروي عنه دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال في رجل ترك أبا وابن ابن قال : للأب السدس وما بقي فلابن الابن لأنه قام مقام أبيه إذا لم يكن ابن وكذلك ولد الولد ما تناسلوا إذا لم يكن أقرب منهم ومن قرب منهم حجب من بعد وكذلك بنو البنت.

٣٣٤

الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠)

٣٣٥

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١)

شوط من أشواط التربية الإسلامية في هذه السورة بعد ما مضت ، تنظيما لحياة المسلم على النظافة والنزاهة من رواسب الفحشاء من الجاهلية الجهلاء ، وتأديبا للعناصر الملوثة التي تقارفها من الرجال والنساء ، مع فتح السبيل حاضرا ومستقبلا للخروج عن تبعة الفحشاء ، وعضلا للنساء عن بعض حقوقهن إن أتين بالفحشاء ، وإيفاءها لهن إن لم يأتين.

والآيتان الأوليان هما اولى ما نزلت في حدّ الفاحشة زنا ولواطا ومساحقة ، فإن كلا فاحشة واللواط أفحش الفاحشة ، مهما اختصت فاحشة المساحقة بنص السنة ، فأما الزنا : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (١٧ : ٣٢) ثم اللواط : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٢٧ : ٥٤).

ذلك وإن كانت الفاحشة تعم هذه الثلاث إلى سائر المعاصي الفاحشة حد العصيان أو الفاحشة إلى غير العاصي ، ولكنها هنا بمناسبة الموضوع نساء ورجالا ردف بعض هي الفاحشة الجنسية في ثالوثها النجسة النحسة ، دون عموم الفاحشة ولا خصوص الزنا إذ لم يأت باسمها.

ثم «الفاحشة» دون «فاحشة» مما تزيدها بيانا لخاصتها دون عامتها ، واختصاصها بفاحشة الزنا غير وارد مهما كانت هي السابقة الى بعض الخواطر ، ولكنها في (اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) ليست لتشمل اللواط ـ مهما عني من «يأتيانهما» استخداما لمرجعه ـ حيث المرأة لا تلوط ولا يلاط بها ، فإن إتيانها

٣٣٦

من دبرها لغير حليلها زنا كإتيانها من قبلها.

فلا تعني إتيانهن الفاحشة إلا الزنا والمساحقة ، والرواية المفسرة لها بالزنا (١) تعني أبرز مصاديقها فيهن.

ولعل «يأتين» دون «أتين» تلمح الى دائب الإتيان ، دون مرة يتيمة تابت عنها أم لم تتب ، وقد تؤيده (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) دون «حتى يتبن».

ولكن لا نرى فرقا أدبيا بين الصيغتين إلا بفارق المضي والاستقبال ، والثاني أوسع نطاقا حيث المضي يختص الحكم بنفسه ، ثم وهذا الحد نافذ منذ نزول الآية ولا يشمل ماضي الفاحشة.

ثم (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ) لامحة الى أصل الفاحشة دون خصوص المستمرة منها ، و (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) شاملة لسبيل التوبة كما ذكرت دون فصل.

ثم من المستبعد جدا في التنظيم التربوي الإسلامي ألا تقرر مضايقة على الزانية إلا إذا تكررت منها الفاحشة.

ومن ثم «واللذان يأتيانها» موضوعا ل «آذوهما» ليست لتعني استمرارية إتيانها ، حيث النهي عن المنكر لا يتوقف نظرة تكرر المنكر ، والإيذاء هو المرحلة الأخيرة من النهي عن المنكر أيا كان.

و «من نساءكم» دون أزواجكم تعم النساء المسلمات ككل ، سواء أزواجكم وسواهن ممن يأتين الفاحشة وكما تعم الأبكار الى الثيبات ، المدخول بهن وغيرهن ، الدائمات والمنقطعات ، دون اختصاص بذوات الأزواج ولا

__________________

(١) عن الراوندي أنه مروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.

٣٣٧

غيرهن ، فالحد لهن ـ ككل ـ (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) وحين تعني «نساءكم» في آيات اخرى أزواجكم (١) بقرائن قاطعة غير موجودة هنا ، لم يصح حملها على أزواجكم هنا دون قرينة ، وقد عنيت البنات منهن أحيانا أم وسواهن مع الأزواج أو سواهن.

وقد تعم «نساءكم» غير المسلمات أيضا فإن اختصاص «كم» بالمسلمين الذكور ليس ليختص النساء المضافة إليهم بالمسلمات ، فقد تعمهن الى الكتابيات كما سمحت بنكاحهن آية المائدة : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

والحد هنا كلمة واحدة بالنسبة لهن (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) بعد ثبوت الفاحشة بالبينة ، فلا ملاعنة ـ إذا ـ بالنسبة للأزواج هنا ولا مائة جلدة في أصل الزنا حتى (يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) ومن السبيل حدا المذكور في آية النور وكما قررت فيها الملاعنة بالنسبة للأزواج ، مما يؤكد نزول النور بعد النساء لمكان ذلك النسخ (٢) وكما يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله «لا حبس بعد سورة النساء» (٣).

__________________

(١) ك «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ» ـ «مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ» حيث المظاهرة والدخول يختصان بالأزواج دون الأغارب.

وقد يعني من النساء مضافة إلى الرجال غير أزواجكم ك (وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) ٣ : ٦١ أو ك (قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) ٧ : ١٢٧ و ٢٨ : ٤ و ٤٠ : ٢٥ ، فهذه آيات أربع لا تعني من النساء المضافة إلى الرجال خصوص الأزواج وواحدة منها عنت خصوص البنات.

(٢) نور الثقلين ١ : ٤٥٥ عن الكافي بسند متصل عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليهما السلام حديث طويل يقول فيه (ع) وسورة النور أنزلت بعد سورة النساء وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة النساء (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ... أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) والسبيل الذي قال الله عز وجل (سُورَةٌ أَنْزَلْناها .. الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ...).

(٣) الدر المنثور ٢ : ١٢٩ ـ أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال لما نزلت الفرائض في ـ

٣٣٨

وترى الإمساك في البيوت سياجا على الفاحشة يختص ـ فقط ـ بثبوت الفاحشة بشهادة أربعة منكم ، وأما الزوج الشاهد لفاحشة زوجه غير القادر على استشهاد الشهود ، عليه أن يصبر على فاحشتها وليس له إمساكها؟.

لأن إمساك الزوجة في البيت إعلان صارخ بثبوت الفاحشة وهي غير ثابتة ، فهنا طريقة أخرى للسياج عليها كالرقابة عليها داخلة وخارجة ، وإيذاءها ممن يشهد أنها أتت الفاحشة بعد سائر نهيها ، إن كان الناهي هو الزوج أم غيره.

و «كم» في «نساءكم» تعني مع الأزواج وسائر الأولياء حكام الشرع وسائر المسلمين الذين يشهدون عملية الفاحشة ، فلا تكفي المشاهدة ـ فقط ـ في الحد المحدّد على النساء : «فأمسكوهن» بل المفروض ـ إذا ـ استشهاد (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) حتى وإن كان شاهد الفاحشة حاكما شرعيا.

فكما لا يكفي العلم بالفاحشة لإثبات الحد لغير الحاكم الشرعي ، كذلك الحاكم نفسه حيث الخطاب يشمله كما يشملهم ، بل هو أحرى بشموله له لأنه من مدراء الشرع والمخاطبين المسؤولين الخصوص بين عامة المسلمين في السياسات الإسلامية كما في سواها.

ومما يشهد لشمول «نساءكم» غير أزواجكم ، ان الاستشهاد على الأزواج ليس بميسور إلّا نزرا قليلا ، ثم ولا يختص الحد بهن دون سواهن من النساء ولئن اختص هنا بهن فليس الجلد سبيلا موعودة لهن فإنه الرجم غير المذكور في القرآن وهو سبيل عليهن لا لهن ، وليس ليختص السبيل الموعود هنا بالتوبة فإنها مذكورة في تالية الآية ، اللهم إلّا ان يعنى ضمن المعني من «سبيلا».

__________________

ـ سورة النساء قال رسول الله (ص): «لا حبس بعد سورة النساء».

أقول : يعني لما نزلت سورة النور بعدها.

٣٣٩

ذلك ، وأما إذا عمت «نساءكم» غير الأزواج فسبيلا قد تعم مثلث السبيل مهما كان البعض عليهن كالرجم ، ف «لهن» تغليب للأكثر مصداقا على الأقل.

ذلك ، ويأتين هنا ويأتيان في التالية يخص الحد إيذاء وسواه بحالة الإختيار في عملية الفاحشة ، فالذي يؤتى رجلا كان أو امرأة إجبارا أم إكراها ، ليس عليه أي حد أو إيذاء حيث النص هنا يخص حالة الإختيار وكما في غيرها (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٤ : ٣٣).

هذا ، وقد لا تشمل «يأتين» مورد التوافق على الفحشاء دون إرادة مستقلة ، ولكنه إتيان إذ لا يختص بمورد الاستقلال ، مهما اختلفت الفحشاء عصيانا وإيذاء حسب اختلاف الفاعليات في تحقيقها قضية العدل في القضية.

فما صدق (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) ففيه حكمه ، وإن كان دور الإختيار فيه ضئيلا قليلا حيث المستفاد من «يأتين» هو أصل الإختيار دون تمامه وكماله.

ثم فليستشهد المدعي إتيان الفاحشة ـ أيا كان ـ (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) رجالا لمكان «أربعة» ومسلمين لمكان «منكم» فلا تكفي شهادة النساء منضمات فضلا عن المنفردات ، كما لا تكفي شهادة غير المسلمين.

ثم و (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) لا تقبل أية توسعة أو تضييق في عدد الشهود وجنسهم وإسلامهم ، فقد ذكرت امرأتان بدلا عن رجل في (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) في حقل الدين ، وهنا ـ فقط ـ (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) دون أي بديل.

والأولوية القطعية في الحفاظ على العفاف بالنسبة للأموال دليل ألّا بديل عن (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) وكما لا بديل عن العدلين في الطلاق : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ

٣٤٠