الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

تقتضي سائر الإشهاد في سائر المجالات.

كما وأن صرف الإشهاد الذي لا يحق الحق لا يكفي حيث الله لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ، فعلى الولي رقابة الواقع لصالح اليتيم ثم الدفع السليم والإشهاد السليم.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠)

ان الجاهلية الجهلاء كانت تمنع النساء والبنات والصغار والضعاف بوجه عام حقوقهم مما ترك الوالدان والأقربون ، اللهم إلّا التافه القليل ، ففرض الله

٢٤١

الميراث في كل قليل وجليل مما ترك الوالدان والأقربون للرجال والنساء على سواء مهما اختلفت الأقدار حسب مختلف الأقدار والقرابات في ميزان الله (١).

فشرعة القرآن تقرر أصل الميراث حقا ثابتا وفرضا صامدا للأقربين نسبا وسببا ، حسب مراتبهم وأنصبتهم ، المسرودة في التالية من آي الميراث ، تطبيقا للنظرية الإسلامية السامية في عامة التكافل بين أفراد الأسرة ، المحلّقة على الأحياء والأموات ، في الحياة وفي الممات ، فكما على الوالدين والأقربين كفالة الأسرة المحتاجة قدر الحاجة في حياتهم ، كذلك الله قرر في أموالهم فروضا لهم حسب مراتبهم ، إضافة إلى تبصرات لموارد الحاجات كالثلث الموصى به للأكثر حاجة أو غير الوارث لبعد القرابة أو فقدها ، وكحضور القسمة لأولى القربى المحرومين وكذا اليتامى والمساكين : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

في ذلك التنظيم الاقتصادي العادل الحافل يجد كل ذي حاجة من الأقارب

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٢٢ ـ أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيرا فجاء ابنا عمه وهما عصبة فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما تزوجا بهما وكان بهما دمامة فأبيا فأتت رسول الله (ص) فقالت يا رسول الله (ص) توفى أوس وترك ابنا صغيرا وابنتين فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه فقلت لهما تزوجا ابنتيه فأبيا؟ فقال رسول الله (ص) ما أدري ما أقول فنزلت (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ...) ثم نزل بعد ذلك : (يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) ـ إلى قوله ـ «عليما» ، ثم نزل (يُوصِيكُمُ اللهُ ـ إلى قوله ـ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) فدعى الميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين.

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : نزلت في أم كلثوم وابنة كحلة أو أم كحة وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الأنصار كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالت يا رسول الله (ص) توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها يا رسول الله (ص) : لا تركب فرسا ولا تنكأ عدوا يكسب عليها ولا تكتسب ، فنزلت (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ..).

٢٤٢

وسواهم حاجته مما تركه الميت في مثلث : الفرض والثلث والتبرع ، لمثلث الحاضرين عند حضور القسمة.

ذلك! رغم الكثير من اللغطات والغلطات الدعائية الزور والغرور ضد مبدء الإرث ، المستطيرة من المتطاولين على شرعة الله ، الجاهلين بطبيعة الإنسان وحاجيته الفطرية والواقعية.

فقاعدة النظام الإسلامي هي التكافل في كافة حلقات الحياة ، ابتداء من الأسرة ، قريبة وبعيدة ، وإلى الجيران ، وإلى الفقراء والمساكين ، والى المجموعة المسلمة ككل.

وإنها روابط فطرية ذاتية المصدر ، غير مصطنعة في جيل دون جيل حتى تفترى على شرعة دون شرعة ، أم على شرعة الله ككل بأنها رأسمالية أماهيه؟.

وليس الجدال في جديدة هذه الروابط الفطرية إلا مراء ، وقد جعلها القرآن ـ كأصل ـ حجر الأساس في بناء الهيكل الإسلامي ، والإرث مظهر من مظاهرها الباهرة ، تأشيرا إلى مدى العمق العريق لذلك التكافل الذي يتخطى الحياة الى الممات.

ومن قضايا التكافل الجماعي أنه لم يلق العب كله على عاتق الأجهزة الحكومية ، وإنما تبنيّ الأسرة أساسا أوليا لذلك التكافل ، ثم سائر الجماعة المسلمة ومن ثم الدولة تتكفلان كل قصور او تقصير في الزاوية الأولى وهي الأسرة ، تخطيا من قضية الفطرة في تكافل الأسرة إلى قضية القانون فيما بعد العسرة ، حتى تصبح التكافلات بعد الأسرة يسرة غير عسرة حيث تبدأ من قضية الفطرة ، المتكاملة فيها وفيما بعدها بقوانين الشرعة التي تعمم ذلك التكافل.

٢٤٣

فشعور الفرد بأن جهده سيعود بأثره على المختصين به نسبا أو سببا ، إنه يحفره إلى مضاعفة جهده ليحفظه في استمرارية كيانه وهي الأقربون.

وفي ذلك نتاج مباشر للأقربين ، وآخر غير مباشر للجماعة المسلمة حيث الإسلام ليس ليقيم الفواصل بين الأفراد والجماعات ، فكل ما يملكه الأفراد هو بالنتيجة للجماعة وكل ما تملكه الجماعة هو للأفراد ، فهو ـ إذا ـ يبتنى الأصلين : أصالة الفرد والجماعة ، الفرد في الجماعة والجماعة لصالح الأفراد!.

إن الوارث ـ أيا كان ـ هو امتداد للمورث في الكيان قضية الفطرة المحبّة للبقاء ، فالذي يعترض على الإرث أنه أكل دون مقابل ، هو معترض على امتداد كيان المورث ، فلا أقل أنه هبة من المورّث للذي يراه امتدادا له بعد موته.

فهؤلاء الحماقى الذين يسمحون لأنفسهم أخذ المال وصرفه بغير الحلال ، هنا لا يسمحون بما يوافق فطرة الله وشرعة الله!.

ولقد كان الميراث قبل نزول آياته هذه مقررا بين المؤمنين بأخوة الإيمان كما كان بالقرابة ، فلما قويت شوكة الإسلام وضعفت الشائكة ضد الإسلام ، انحصر الميراث بالأقربين : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) (٣٣ : ٦) كما فصلناه في الأحزاب.

فقد نسخ التوريث الجاهلي عن بكرته أولا بميراث بين الإخوة في الإيمان والمهاجرة والنصرة الإيمانية ، ثم نسخ مرة ثانية بنسخ هذا الميراث المشارك للأقربين باختصاصه بهم.

فإلى قاعدة رصينة متينة قرآنية في حقل التوريث لم تنسخ ـ ولن ـ الى يوم القيامة :

٢٤٤

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٧).

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٤ : ٣٣).

فآية (أُولُوا الْأَرْحامِ) وآيتا النصيب ، ومن ثم آيات الميراث ، هدمت الإرث الجاهلي كما هدمت الإرث بالأخوة الإيمانية وحصرته في الأقربين بعد ما حسرته عمن سواهم (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) وصية في الثلث أم رزقا للحضور عند القسمة.

والترتيب الرتيب التصاعدي في إسلامية الإرث أنه كان في العهد المكي بالأخوة الإسلامية ترغيبا في التماسك بها والتزود منها حيث الجو شركي مطلق ومظلم مطبق ، فالميراث بالأخوة في تلك الظروف القاسية أحرى من الميراث بالقرابة الخليط بين المسلمين والكفار.

ثم نسخت الأخوة المورثة منذ الهجرة إلى المدينة بالهجرة ، بديلة هي أقوى من الأخوة الإيمانية دون هجرة ، إذ كانت الهجرة بالإيمان عن الأموال والأهلين صعبة ملتوية ، وفي نفس الوقت كانت ضرورة لتأسيس دولة الإسلام في المدينة ، بأعضاد لها هم يحملون أخوة الإيمان والمهاجرة ، ثم لما قويت شوكة الإسلام في المدينة وتمت هامة الهجرة فخطوة ثالثة في الميراث هي أصل الرحمية بصورة طليقة بديلة عن كلا الأخوة والمهاجرة مع التأشير إلى أن البعض من الأرحام أولى ببعض.

وقد تكفلت آية (أُولُوا الْأَرْحامِ) بيان هذه الخطوات الثلاث (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً).

٢٤٥

ثم خطوة رابعة تكفلتها آية النصيب حيث حصرت الميراث في الأقرب ، فلا تكفي ـ فقط ـ الرحمية ، وعممت إلى الأقرباء سببيا كما الأقرباء نسبيا.

ومن ثم خطوة خامسة هي الأنصبة المفروضة كما تكفلتها آيات الفرائض المفصلة.

فلقد نرى كيف مسح القرآن غبار الزور والغرور عن جبين الإنسانية الجهلاء في جاهلية الميراث ان ما يتركه الوالدان والأقربون من أموالهم اختزانا لها وتجميدا ام إسرافا وتبذيرا او ما تركوه فصلا لها عن ملكتهم لآخرين أم لا لهم ولا لآخرين ، فهو نصيب الوارثين دون الآخرين.

فذلك مربع للتركة قد تشملها «ما ترك» مهما لا تعني التركة خصوص الدية وما يترك في بعدية ، ولكنها تعنيها فيما تعنيها بعناية الإطلاق مهما اختلفت مصاديقه.

فقد أزال النقطة الاولى المظلمة الظالمة : الميراث للأقوى الأغوى الشرير مهما كان أبعد الأهلين إلى المورث ، فقرره في الأخوة الإيمانية ، كسحا عن كل الأهلين غير الآهلين إلا بالإيمان.

ثم أضاف أخوة المهاجرة ، ومن ثم ولاية الرحم ، ثم الأقرب ، ومن ثم الأنصبة المفروضة رفضا لكل الأعلام الجاهلية في حقل الإرث.

ويا لها من حكمة حكيمة عظيمة في سياسة سرد الأحكام ونضدها ، ما لا يسطع لها اي نظام من الأنظمة الإنسانية طوال قرونها الخالية والخالدة.

وترى حين يعم الميراث كل الذكران والأناث من الأقربين ، فلما ذا هنا «للرجال .. والنساء»؟ ولا تشملان الصغار والصغيرات!.

قد يعني ذكر الرجال والنساء هنا سياسة التدرج في سرد الأحكام

٢٤٦

المعارضة للعرف الجاهلي تصاعديا ، حيث كانوا يحرمون النساء فسوى بينهن وبين الرجال في نصيب المتروكات ، ثم إنه قد عممت الأخرى الفرض إلى كل الذكران والأناث (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ...) أم إن الرجال والنساء يعنيانهم ـ ككل ـ على التغليب لجانب الكبار وكما في (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) بعد «الأنثيين» مما يدل على عناية النساء قبيل الأنثى ككلّ ، مهما كان تغليبا أم سواه.

وعلى أية حال فهذه الآية ضابطة لم تذكر فيها أقدار السهام ، ولا صريح التحليق لكل الذكران والأناث ، فانما عرضت مشاركة القبيلين في الميراث على وجه الإجمال ، ثم تخصيصه بما ترك الوالدان والأقربون ، ومن ثم تعميمه لكل ما تركوا (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) ثم الإشارة إلى أن لكل نصيبا مفروضا لم يذكر بعد.

ثم الرجال والنساء لا يرثون إلّا مما ترك الوالدان وهما المولدان لهم دون وسيط ، فلا يشملان الأجداد والجدات إلّا إذا كانوا هم الأقربين بالفعل لفقد الوالدين ، ام وتشملهم «الوالدان» فان والد الوالد والد ، مهما لا يرث ولد الولد ما دام الولد حيا ، أم وإذا خف الشمول وخفي ف «الأقربون» تشمل الأجداد عند فقدان الآباء ، فالأقربية هي سارية المفعول في حقل الميراث على أية حال ، ضابطة ثابتة غير حابطة في حال.

ثم الأقربون هنا هم الأقربون بصورة طليقة بالنسبة للوارثين ، وهي تعم قرابة السبب الى النسب ، دون الرضاعة فانها ليست قرابة ، اللهم إلا بديلة في خاصة الحقول.

ذلك لأن الرضاع لا يخلف قرابة إلّا حرمة الزواج في موارد منه خاصة ، ولكن الولادة والزواج هما الأصيلان في انتشاء القرابة نسبيا كانت أم سببيا ، فلا

٢٤٧

مبرر ـ إذا ـ لإخراج الأقربين سببا وهم الزوجان ، وهناك بعدهم قرباء سببا ـ كما في النسب ـ ولكن الاوّلين لا يرثون إطلاقا إلّا في الأقربين منهم وهم الزوجان ، والآخرون يرثون في مثلث الطبقات الوارثة.

إذا فهم الأولاد والأزواج ، طبقات ثلاث هم أصول الإرث على أية حال.

فإذا كان الميت من الوالدين والزوجين أو الأولاد ، ورثه الأولاد وأحد الزوجين والوالدان ، نصيبا مفروضا ثابتا لكلّ من هؤلاء ، يذكر في تالية آيات الميراث ، و «مفروضا» مهما كان مجملا في قدر الفرض ، ولكنه يشي بواقع الفرض في شرعة الله نظرة بيانه كما بيّن في آيات الميراث.

إذا ففي فرض وجود الأولاد لا فرض للأحفاد فضلا عن سواهم مهما شمل الوالدان الأجداد والجدات ، ولكنهما بعد ليسوا من الأقربين والبنت الواحدة مهما كان فرضها النصف حسب النص ولكن الباقي لا يرثه إلا هي لأنها الأقرب دون العصبة وسواهم ، وليس التعصيب عند إخواننا إلا من رواسب التعصيب عند الجاهليين الذين كانوا يحرمون الأناث فغربله إخواننا وخصوه بما زادت التركة عن فرض البنت أو الأم والأخت أمن هي من الأناث.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) تعم الفرض وسواه ، فالأولوية تعم

كل ما ترك الوالدان والأقربون ، فلا نصيب للعصبة ردا كما لا نصيب لهم فرضا مع وجود الأقربين إطلاقا دونما استثناء.

وفي فرض وجود الوالدين لا فرض لوالديهما حيث «الوالدان» لا تشملهما وعلى فرض الشمول فليس الجدود هنا من الأقربين ، وكضابطة عامة كما الوالدان والأولاد يحجبون الجدود والأحفاد ، كذلك الأقربون بوجه عام ـ يحجبون القريبين فضلا عن البعيدين.

٢٤٨

وهنا ذكر «الوالدان» قبل «الأقربون» تخصيص قبل تعميم ، اعتبارا بأنهما من أقرب الأقربين إلى الأموات ، ومهما كان الأولاد ـ كما هما ـ من الأقربين ، ولكن الوصية بحقهما أحرى ، حيث الرعاية من الأولاد بالنسبة لهما أقل من رعايتهما بالنسبة لهم فليقدما بعينهما ذكرا في الذكر الحكيم ، إضافة إلى انهما هما المورثان للأولاد في أكثر الأحوال دون العكس إلّا فلتة نادرة ، وقد نبه عليه بعد.

فلا ميراث من الميت لوارث إلّا إذا كان الميت من الوالدين أو الأقربين ، والأقربون تشمل الأزواج والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأجداد والجدات ، إذا كان الميت هو الأقرب إليهم حين لا أقرب منهم.

فالوالدان يورثان أولادهما ، والأقربون وهم الأولاد والأزواج يورثون الوالدين والأزواج ، فالوالدية والأقربية هما الأصلان الأصيلان في حقل الميراث للوارث في كل طبقات الإرث ، فالآية ـ إذا ـ تشملهم كلّهم.

و «ما ترك» تعم كل الأموال والحقوق الحالية التي يتركها الميت حتى الدية فإنها تثبت بمجرد القتل وقد يدل على إرث الدية قوله تعالى «ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى هله» (٤ : ١٢) فأهله يرثون الدية شرط الإيمان ، ام والميثاق «فإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة» وذلك لحرمة الميثاق ، فلا يرث أهله الكافرون في غير الميثاق (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (١).

__________________

(١) ومما يدل عليه من الأخبار قول الصادق (ع) على المحكي في خبر إسحاق أن رسول الله (ص) قال : إذا قبلت دية العمد فصارت مالا فهي كسائر الأموال (التهذيب ٢ : ٤٣٩) ٨

وقول الكاظم (ع) على المحكي في خبر يحيى الأزرق في رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا فأخذ ـ

٢٤٩

ثم «إلى أهله» ظاهر كالصريح ان القاتل لا يرث من الدية وان كان من أهله فإن (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) تخرجه عن المسلم إليهم لأنه هو المسلّم ولا يسلم الإنسان مالا إلى نفسه.

ذلك ، ولا تعم «ما ترك» المناصب الروحية والزمنية لأنها لا تنفصل عنه بالموت حتى يتركها ، بل هي بين ما تبطل بالموت ككل المناصب الدنيوية ، ام هي معه في البرزخ والقيامة كتقواه وسائر ميزاته الروحية والجسمية.

وهنا القيلة القائلة ان (يُوصِيكُمُ اللهُ) لا تدل على واجب السهام لأنها موعظة تعم الراجح والواجب.

إنها مردودة أولا بصيغة الوصية حيث هي التقدم الى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ ، فقد يفوق الأمر دون وعظ ، ومسرح الوعظ هو الأوامر والنواهي الأكيدة حيث تقرن بوعظ تأكيدا لها ، فهي تعني في إيجابها فوق الواجب وهو الفرض ، وفي سلبها فوق المحرم وهي الكبيرة ك (لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) (٦ : ١٥١) وكما نجد فرض الوصية ككل في كل ما ذكرت فيه في القرآن (١).

__________________

ـ أهل الدية من قاتله عليهم أن يقضوا دينه؟ قال : نعم ، قال وهو لم يترك شيئا؟ قال : إنما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه (الكافي ٧ : ٢٥).

وصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قال : قضى أمير المؤمنين (ع) في دية المقتول أنه يرثها الورثة على كتاب الله وسهامهم إذا لم يكن للمقتول دين إلّا الاخوة والأخوات من الأم فإنهم لا يرثون من ديته شيئا(التهذيب ٢ : ٤٢٩).

وصحيحة عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد الله (ع) قضى أمير المؤمنين (ع) أن الدية يرثها الورثة إلّا الاخوة والأخوات من الأم (المصدر).

(١) وهي اثنا عشر موضعا ك «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ» (٤ : ١٣١) «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً» (٢٩ : ٨) (١٤ : ٣١) (٤٦ : ١٥) «وَما ـ

٢٥٠

ثم ومن سياج الفرض ـ أولا وأخيرا ـ في بيان الفرائض يجعل السهام المقررة مفروضة ، فأولا (نَصِيباً مَفْرُوضاً) في الضابطة السابقة (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ..) وأخيرا (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) في خضمّ السهام المفروضة في نفس آية الوصية ، مما يزيل كل ريبة ودغدغة عن واجب السهام فرضا وهو فوق سائر الواجب في شرعة الله.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٨).

اولوا القربى المحجوبون عما ترك بالأقربين ، واليتامى والمساكين منهم وسواهم هؤلاء المحاويج مهما كانوا محجوبين حسب الضابطة الأصيلة في حقل الميراث ، ولكنهم لا يحجبون عن واجب العطف من جانب الورثة الأصليين ، كما لم يحرموا من عطف المورث في وصيته بالمعروف.

فللقريب حق القرابة بعد الممات كما في الحياة وإن لم يفرض له فرض ولليتامى والمساكين حق اليتم والمسكنة كما في الحياة وإن لم يفرض لهما فرض ، وقد ينوب عنه فرض العطف من الورثة لهم إذا حضروا القسمة.

أترى واجب الرزق لهؤلاء الثلاث إذا حضروا القسمة منسوخ بآيات المواريث كما قيل (١)؟ ولا تعارض بينهما حتى تنسخ هذه بتلك ، فتلك تحدد مواريث الأقربين ، وهذه تأمر الورثة برزق ذوي القربى واليتامى والمساكين ،

__________________

ـ وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (٤٢ : ١٣) «وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (١٩ : ٣١) ... وكلما ذكرت لفظة الوصية نجدها تحمل فرضا أو محرما كبيرا دونما استثناء.

(١) نور الثقلين ١ : ٤٤٦ عن تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) عن الآية قال : نسختها آية الفرائض ، وفي الدر المنثور ٢ : ١٣٣ عن ابن عباس في الآية قال : نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك مما قل منه أو كثر ، ومثله عن سعيد بن المسيب.

٢٥١

فالموردان مختلفان حيث الاولى تقرر أنصبة المواريث والثانية تقرر الواجب فيها بعد ثبوتها وكما تجب سائر الحقوق المالية ، فالآيتان لا تختلفان حتى يصح النسخ او يحتمل ، فليست هي منسوخة (١) ولو كانت مخصصة مقيدة ، والنسخ في مصطلح الحديث يعم التخصيص والتقييد إلى مصطلح النسخ بين الفقهاء وهو ازالة الحكم عن بكرته.

ذلك وقد تكفينا آية النصيب المفروض السالفة حسما لغائلة النسخ حيث التالية ليست لتنسخ بالسالفة دون واسطة فانه خلاف الترتيب الصالح في تأليف الآيات الذي لم يكن إلا بوحي ، ثم التالية لها لا تنسخها لاختلاف الموردين. فمع أن لكلّ نصيبا مفروضا ، على كل ان يرزق اولي القربى واليتامى والمساكين من نصيبه المفروض (إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) اللهم إلّا من الثلث الموصى به والدين ونصيب الوارث اليتيم ، وقد يكون هذه الثلاث هي المخصصة لآية الرزق المعبر عنه بالنسخ.

وعدم القائل بالوجوب ام قلته لا يحوّل النص ـ او الظاهر كالنص ـ الى الندب فهنا أمران (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ولا يدل القول المعروف على الندب بل هو على بالغ الوجوب أدل ، أنه إذا رزقوهم او قل رزقهم ام لم

__________________

(١) مجمع البيان في الآية قولان أحدهما أنها محكمة غير منسوخة وهو المروي عن الباقر (ع).

وفي الدر المنثور ٢ : ١٢٣ عن ابن عباس قال : هي قائمة يعمل بها ، وعن حطان بن عبد الله قال : قضى بها أبو موسى ، وعن يحيى بن معمر قال : ثلاث آيات مدنيات محكمات ضيعهن كثير من الناس (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ..) وآية الاستئذان والذين لم يبلغوا الحكم منكم وقوله إنا خلقناكم من ذكر وأنثى الآية.

وفيه عن ابن عباس قال : إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ..) لا والله ما نسخت ولكنه مما تهاون به الناس ، هما واليان وال يرث فذاك الذي يرزق ويكسو ووال ليس بوارث فذاك الذي يقول قولا معروفا يقول انه مال يتيم وما له فيه شيء.

٢٥٢

يتحمل الميراث رزقا لهم ، ف (قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) احتراما لحضورهم وتبجيلا لمحضرهم وبديلا عما كانوا ينتظرون ، كما في (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً).

فلا حجة في حكم من أحكام الله إلّا الكتاب والسنة الثابتة ، والكتاب ناطق بوجوب رزقهم وقول معروف لهم ، إضافة إلى لمحات صارحة في الآية التالية : (وَلْيَخْشَ ... فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا) ولا مجال لتقوى الله إلّا فعل الواجبات وترك المحرمات ، كما لا خشية عن عقوبات إلا فيها تقصيرا بحقها.

والروايات متعارضة في نسخها ولا نسخ هنا ـ لو كان ـ إلّا في وجوبه ام ـ كما يصح ـ قيدت رزقهم بالوصية والدين وما يحق لهم كورثة أصليين.

ولا شاهد للنسخ من القرآن ، بل الآية محتفة بما يؤيد ثابت الحكم دون اي نسخ.

فلا عبرة باجماعات او شهرات في نفي الوجوب ، فانها والروايات الموافقة لها ـ لو كانت ـ هي مضروبة كلها عرض الحائط لمخالفة القرآن.

والقول ان وجوب رزقهم منه ينافي عدم تحديده ، مردود بانه واجب غير محدّد ، محولا الى المستطاع منه كالنفقة الواجبة (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) (٦٥ : ٧) وإلى ما سمحت نفوس كريمة كما أكرمها الله بذلك الرزق.

وكما (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) لا يحدد واجب التقوى ، فما عدم التحديد المعني في واجب دليلا على عدم وجوبه ، وكذلك القول : لو كان واجبا لتوفرت الدواعي لنقله متواترا وليس فليس ، ونقل القرآن كاف (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)! فانه يفوق كل تواتر.

ثم و «ارزقوهم» دون سائر التعبير من «آتوهم ـ أعطوهم» والرازق هو

٢٥٣

الله ، لتأشير الى واجب التخلق بأخلاق الله ، فكما رزقكم ما ترثون فارزقوا الضعاف المحاويج مما ترثون.

والفرق بين النصيب المفروض ورزق هؤلاء أن الفرض هو من صلب المال بقدر معلوم فرضا فوق الواجب ، وليس كذلك الرزق الواجب لمن حضر ، إذ ليس مقدرا ولا هو في عين المال ، ولا هو فوق الواجب ، إنما هو واجب الورثة أن يرزقوا من نصيبهم المفروض لهم قدر الإمكان والمعروف من كل ما ترك كما يناسب الوارث والحاضر ، كما وعليهم ان يقولوا قولا معروفا ، وقد يختلف الرزق المعروف والقول المعروف مادة وكيفية حسب مختلف الظروف والبيئات لكل من الوارثين والحاضرين ، فلترع البيئة حسب المكنة ، ثم قول معروف يجبر قصور رزقهم مما ترك او تقصيرهم ، فقد لا يرزقون ـ على مكنتهم ـ ويقولون قولا غير معروف ، فترك لواجبين اثنين وبئسما ، او يرزقون معروفا ويقولون معه قولا معروفا ، فتطبيق للاثنين ونعمّا ، أم هم عوان بينهما : رزقا غير معروف بقول غير معروف فدرك ثان ، أم قول معروف برزق غير معروف ، أو رزق معروف بقول غير معروف وهما ثالثة الدركات أما ذا من ترك للجمع بين المعروفين.

فحتى إذا لم يسطع على رزقهم ، أو استطاع قليلا لا يناسب شؤونهم لقلة النصيب ، وجب عليه قول معروف يجبر به قليل الرزق او عديمه.

إذا فرزق وقول معروف لهؤلاء الثلاث من الورثة واجب بذلك النص ، كما هو واجب على ضوء واجب التكافل الإسلامي العام ، وذلك شيء آخر سوى الأنصبة المفروضة للورثة ، نافلة واجبة على الفرض القاطع ، تطييبا لخواطر المحجوبين بالاقربين أمّن لا قرابة لهم كاليتامى والمساكين ، كيلا يرووا المال يقسم وهم ينظرون محرومين ، وتحكيما لوشائج القرابة الخاصة والعامة الأخوية بين المؤمنين ، وكما روعيت أحوال ذوي القربى واليتامى والمساكين حال حياة

٢٥٤

المنفق عليهم على هامش النفقات المفروضة عليهم للوالدين والأقربين ، كذلك هم في حقل الوصية والمفروض على الورثة إذا حضروا القسمة ، فليست النفقة والفرائض المفروضة للطبقة الاولى حياة ومماتا على المنفقين بالتي يمنع رزق هؤلاء الثلاث بجنبهم مهما كان على هوامش الأولين كما هم في القرب على هامشهم.

وذلك الرزق الواجب على الورثة مهما لم يقدر بقدر خاص رعاية لهم ، ولكنه قد لا يجب كونه أكثر من الثلث ، ولا سيما إذا أوصى بالثلث لغيرهم.

وترى (أُولُوا الْقُرْبى) هنا هم الفقراء منهم المحاويج؟ وتشملهم ـ وبأحرى ـ المساكين! فنحن مع طليق النص نرى واجب الرزق لذوي القربى أعم من فقراءهم وسواهم ، وان كان لفقرائهم ويتاماهم مضاعف الرزق حسب مضاعفة الموضوع.

فذو القربى اليتيم المسكين يتقدم على مجمع العنوانين بينهم ، كما ان مجمعهما يتقدم على كل واحد منهم.

أترى «القربي» وهي مؤنث الأقرب وصفا ل «الرحمية» التي هي الموضوع الأصيل للميراث ، كيف تكون على هامش الميراث والأقربون هم الطبقة الاولى الوارثة؟.

انهم هم الأقربون بعد الطبقة القربى الوارثة ، تدليلا على الحضور الواجب رزقهم وليسوا كل الأقارب ، فانما هم الأقربون بعد الوارثين.

وهل إن على الورثة إعلام زمن القسمة حتى يحضره من شاء من هؤلاء؟ ولا دليل عليه نصا! وقد يخلق الفوضى حين يحضر أكثر عدد من هؤلاء فلا يمكن رزقهم كلهم ، ولا التبعيض فيهم ، ولا ينفع قول معروف بعد الإعلام ، حيث الإعلام يعني أن للحضور رزقا يكفيهم فليس الاعتذار ـ إذا ـ قولا معروفا.

٢٥٥

أم يجوز لهم الإخفاء في القسمة زمنا ومكانا؟ فكيف يعلم ذووا القربى حتى يحضروا ، فضلا عن اليتامى والمساكين! وفي ذلك الإخفاء حسم للشرط «إذا حضر» فإمحاء لواجب رزقهم حين يحضرون ، فالوسط بين الأمرين هو الوسط بين طليق الإعلام والإخفاء أن يعلموا أقرب القربى بعدهم أنفسهم وأسكن المساكين وأيتم الأيتام ، هؤلاء الذين كانوا يرزقون زمن حياة المورث من قبله ، فليرزقوهم بقدر يكفيهم كلهم مهما كان قليلا ، ومجال قول معروف يعم المدعوين وسواهم ، فحين يحضر من لم يدع ولم يعلم ، فيقل الرزق المقسم بينهم فقول معروف ، أم وإذا حضر المعلمون فقول معروف اعتذارا عن كمّ الرزق وكيفه.

وقد يكفي عدم الإخفاء حيث ان زمن القسمة معروف بطبيعة الحال ، يعرفه المترددون الى بيت المورث تسلية للوارثين وتعزية وذلك الظرف المتعود الطبيعي للواردين يطلعهم على زمن القسمة ، فإذا حضروا القسمة وهم بطبيعة الحال ناظرون لهم قسمة حرموا عنها إذ ليسوا من طبقة الوارثين ، ام هم لا يرثون إطلاقا فنفس (حَضَرَ الْقِسْمَةَ) يبين أن لهم أملا في هذه القسمة ، وإلا فلما ذا الحضور ، فغير الآمل أو الأبي يخرج عند القسمة إن صادفت حضوره ، والآمل يحضر القسمة إن صادفت علمه بها ، والقريب الكبير يأمل حضور القسمة فليعلم إن لم يعلم وقت القسمة.

إذا ففي ذلك الرزق من التركة تحقيق لآمال هؤلاء وتطبيق للواجب على المورث إن لم يوص أم أوصى قليلا ، وصلة للرحم المحروم.

وترى إذا كان الوارث واحدا فلا انقسام لتركته ، فهل يشمله (إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ)؟ قد نقول : لا ، وقوفا على حرفية النص ، او نقول : نعم وبأحرى حيث المقصود وصول رزق الى غير المورث ولا سيما إذا قل الوارثون فضلا عن الواحد.

٢٥٦

ذلك ولا سيما شركاء الوصية والدين حيث «القسمة» لا تعني ـ فقط ـ قسمة التركة بين المورثة ، بل وأحرى منهم قسمة الديان ، ثم الوصية بينهما عوان.

وهنا لا حاجة الى إعلام ، فحضور اي منهم عند الوارث في الوقت المتعود كاف في وجوب الأمرين عليه بالنسبة لهم.

ومن القول المعروف اعتذار الكبار عن أنصبة الصغار أننا لا نستطيع أن نرزقكم من أموالهم شيئا لأنهم يتامى ، فإذا كبروا فالأمر إليهم لينظروا ماذا يعملون.

ثم القسمة تعم كل ما ترك أعيانا وحقوقا وأموالا أخرى ، ومهما لم يقدر رزق منها في النص ، ولكن المعروف منه ما يناسب قدر الميراث وبيئة الوارثين حسب العرف المنصف المؤمن.

وهل يختص الرزق بحضور قسمة الميراث فقط من الورثة ، ام ويعم قسمة المورث ميراثه عند الوصية الى وصية ودين ثم الباقي للورثة؟.

ظاهر «ما ترك» أن القسمة المعنية هنا هي قسمة ما ترك وليس إلا بعد الموت ، ولكنها قد تعني ضمن المعني «مما ترك».

فكما ان للقربى واليتامى والمساكين عند قسمة التركة نصيبا غير مقدر ، كذلك لهم ـ وبأحرى ـ عند الوصية نصيبا من الثلث ان يوصي لهم به او ينفق عليهم بذات يمينه.

ولأن الوصية الواجبة هي إذا حضر الموت فليعلم هؤلاء لحضور الموت حتى يرزقهم المورث مما يتركه مخافة ألا يرزقهم الورثة ، ولأن لهم حقا مهما كان في مرحلة ثانوية هامشية.

٢٥٧

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٩).

هنا محور الأمر في «وليخش» هم الورثة الذين لا يرزقون هؤلاء الثلاثة الحضور الضعفاء ، إذ لا يحضر رغبة فيه الّا الضعيف قريبا او يتيما او مسكينا ، والروايات القائلة انهم الذين يأكلون اموال اليتامى تفسير لهم بالمصداق الخفي المستفاد بالتأمّل اعتبارا بسابق الآيات فيهم واللاحقة هنا (١).

وكذلك المورثون الذين يضرون بورثتهم حيث يوصون لغيرهم ما يضرّ بهم ، أم لا يوصون للضعفاء من الأقرباء أو اليتامى والمساكين ، والذين يقولون لهم أوص بمالك فإن الله رازق ولدك (٢).

فترك الواجب في ذلك المثلث وأضرابه يخوّف تاركيه بذريتهم الضعاف أن يعامل معهم كما يعاملون أضرابهم من الضعاف ، إذ ليس يحضر قسمة الإرث في الأغلب إلا الضعاف ، ولا تعني الضعاف المساكين حتى تختص ذووا القربى

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٤٦ في عيون الأخبار في باب ما كتبه الرضا (ع) إلى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل : وحرم أكل مال اليتيم ظلما لعلل كثيرة من وجوه الفساد أوّل ذلك أنه إذا أكل الإنسان مال اليتيم ظلما فقد أعان على قتله إذ اليتيم غير مستغن ولا محتمل لنفسه ولا عليم لشأنه ولا له من يقوم عليه ويكفيه كقيام والديه فإذا أكل من ماله فكأنه قد قتله وصيره إلى الفقر والفاقة مع ما خوف الله تعالى وجعل من العقوبة في قوله تعالى (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ ...) ... وفيه عن ثواب الأعمال عن سماعة بن مهران قال سمعته (ع) يقول : إن الله عز وجل وعد في أكل مال اليتيم عقوبتين أما أحدهما فعقوبة الآخرة بالنار وأما عقوبة الدنيا فهو قوله عز وجل (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ ...) يعني بذلك ليخش إن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى.

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٢٤ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : إذا حضر الرجل عند الوصية فليس ينبغي أن يقال : أوصي بمالك فإن الله رازق ولدك ولكن يقال قدم لنفسك واترك لولدك فذلك القول السديد فإن الذي يأمر بهذا يخاف على نفسه العيلة.

٢٥٨

واليتامى بالمساكين.

وتلك ـ إذا ـ بلية يبلي الله بما تارك الواجب في هذه الحقول ، مما يؤكد الوجوب فيها ، والمحور المعني دلاليا هنا هو الوارث الذي لا يرزق هؤلاء الثلاث كما يجب ، حيث المورث مهما قصر بحقهم فهناك مجال رزقهم في حضور القسمة ، فحين لا يرزقون فقد صد عليهم ذلك الرزق المأمور به.

إذا فليس رزقهم من النصيب واجبا عاديا يخلف تركه والاستهانة به ـ فقط ـ عقوبة الأخرى ، بل وفي الأولى ايضا خشية على الذرية الضعاف أن يعامل معهم كما هم عاملوا الضعاف جزاء وفاقا.

وهل الأمر في «ليخش» يخص الورثة أم والمورثين المقصرين بحق هؤلاء الحضور عند الوصية او بعد الموت ، وسائر هؤلاء الذين يقصرون بحقهم توصية الى المورثين أو الوارثين ألا يرزقوهم شيئا أم يرزقوهم قليلا؟.

أم ويشمل هؤلاء الذين يفتون ـ فقط ـ برجاحة رزقهم من المال دون وجوبه؟ الظاهر هو الشمول والآخرون أحرى حيث هم اصل المشكلة في ذلك المسرح العصيب.

فتلك الخشية من عاقبة الذرية الضعاف تحلق على كافة المقصرين في حقل الميراث ورثة ومورثين أم سواهم ، تعديا عن طور العدالة في حقوق ذوي القربى واليتامى والمساكين ، ام الورثة الأصليين ، ام والمورث نقضا لوصية ، أما ذا من تخلفات في حقل الوصية والميراث ورزق هؤلاء الثلاث.

فقد يربو عديد المهددين بالخشية على ذريتهم الضعاف الى سبعة محظورة :

المورثين ـ الوارثين ـ القائلين للفريقين لا ترزقوا اولى القربي واليتامى والمساكين ـ كل هؤلاء الذين يتجاوزن الى حقوقهم أولاء سلبيا وايجابيا ، فهؤلاء من الناحية العملية.

٢٥٩

ثم المأولين امر الرزق الى الاستحباب ـ والناسخين له ـ والقائلين بعدم العمل بظاهر الوجوب لشهرة المعظم على الاستحباب!

وترى ما هو موقف «لو» هنا وهي لاستحالة مدخولها؟.

إنها قد تعني مسايرة هؤلاء المغرورين بأموالهم ألّا يخلفوا ذرية ضعافا ، ورعاية لواقع العقم لبعضهم فاستجاشة الضمير الإنساني المؤمن ان يحسب لنفسه ذرية ضعافا يخاف عليهم ، حيث يرجو بالغ العطف عليهم فليعطف الى هؤلاء الضعاف المحاويج.

وهنا (خافُوا عَلَيْهِمْ) تعني أولا خوفهم بعد موتهم ، فقد يخافون قبل موتهم لذلك الخوف المستقبل ، فليرزقوا هؤلاء الضعاف حتى ترزق ذريتهم الضعاف.

ثم الذرية لا تعني ـ فقط ـ الولد الصغار ، بل هم الصغار في كيانهم المعيشي ، من المرتبطين بهؤلاء رباطا بالنسب او السبب او الأخوة الإيمانية ، الذين لهم عليهم عطف قبل الممات ، فهم يعطفون ـ كذلك ـ عليهم لما بعد الممات.

لذلك (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) فيما امر ونهى (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) يسد عن هؤلاء المحاويج كل ثغرة ، فيسد عنهم أنفسهم تلك المخافة لذريتهم الضعاف.

وقد ننتبه من (قَوْلاً سَدِيداً) ان أمر الخشية هنا تعم كل هؤلاء السبع ، قولا سديدا في الوصية للموصين ولمن حضرها من المشيرين عليهم ، وقولا سديدا من الوارثين ومن سائر الناظرين فيما ترك ، وقولا سديدا من المفتين.

وسديد القول ـ فتوى وسواها ـ هو الذي يسد كل ثغرة وعناء وشحناء بينهم ككل ، تحببا جماعيا بينكم وبين الضعاف المحاويج ، ولا سيما الأيتام

٢٦٠