الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

فإذا كانت إحدى الأربع او غيرهن منقطعة ، جاز نكاح أختها دواما او انقطاعا قبل انقضاء العدة لأنها بائنة كما ورد في جواز نكاح أخت المطلقة البائنة قبل انقضاء عدتها «إذا برء عصمتها فلم يكن له عليها رجعة فله أن يخطب أختها» (١).

وليس ذلك من الجمع بين أختين حتى تشمله الآية (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) لا جمعا واقعيا ولا حكميا ، حيث المطلقة رجعيا زوجة ، دون البائنة مطلقة وغير مطلقة ، وهذه الأخت المنقطعة بائنة بانقضاء مدتها وان لم تنقض عدتها ، وجواز الرجوع إليها بعقد جديد لا يجعلها كزوجة ، كما ويجوز الرجوع الى الدائمة المطلقة بعد انقضاء عدتها بعقد جديد! وقد يأتي القول الفصل على أحكام الجمع بين الأختين على ضوء آيته إن شاء الله تعالى.

__________________

ـ بها فلا بأس أن يتزوج أخرى من يومه ذلك وإن طلق من الثلاث النسوة اللاتي دخل بهن واحدة لم يكن له أن يتزوج امرأة أخرى حتى تنقضي عدة المطلقة) (الفقيه باب ما أحل الله من النكاح تحت رقم ٤٧).

أقول : إنما يحلل الطلاق البائن لأصل البينونة وانقطاع العصمة فلا فرق ـ إذا ـ بينه وبين البينونة بغير طلاق كما في النكاح المنقطع حيث تبين بانقضاء المدة أم هبة المدة وكما في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (ع) في رجل طلق امرأته أو اختلعت من أو بارئت أله أن يتزوج بأختها؟ قال فقال : إذا برئت عصمتها ولم يكن له عليها رجعة فله أن يخطب أختها(الكافي ٥ : ٤٣٢ والتهذيب ٢ : ١٩٨) وفي حديث الضرير والصحيح عن أبي عبد الله (ع) قال سألته عن رجل اختلعت منه امرأته أيحل له أن يخطب أختها من قبل أن تنقضي عدة المختلعة؟ قال : نعم قد برئت عصمتها وليس له عليها رجعة(الكافي ٦ : ١٤٤).

أقول : فإذا كانت المختلعة والمبارأة التي يكن الرجوع إليها برجوعها إلى ما بذلت هي منقطعة العصمة فيجوز نكاح أختها في عدتها ، فجواز نكاح أخت المنقطعة بعد انفصالها أحرى!.

(١) مما يدل عليه صحيحة زرارة عن الصادق (ع) : إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج ـ

٢٠١

__________________

ـ الخامسة حتى تنقضي عدة المرأة التي طلق (الكافي ٥ : ٣٢٩).

وروى المشايخ الثلاثة عن أبي بصير قال : سئل أبو عبد الله (ع) عن المتعة أهي من الأربع؟ قال : لا ولا من السبعين (المصدر).

وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السلام في المتعة قال : ليست من الأربع لأنها لا تطلق ولا ترث وإنما هي مستأجرة (المصدر).

وعن إسماعيل بن فضل في الصحيح أو الحسن قال سألت أبا عبد الله (ع) عن المتعة فقال : التي عبد الملك بن جريح فاسأله عنها فإن عنده منها علما فأتيته فأملي علي شيئا في استحلالها فكان فيما روى لي ابن جريح قال : ليس فيها وقت ولا عدد إنما هي بمنزلة الإماء يتزوج منهن كم شاء وصاحب الأربع نسوة يتزوج منهن ما شاء بغير ولي ولا شهود فإذا انقضى الأجل بانت منه بغير طلاق ويعطيها الشيء اليسير وعدتها حيضتان فإن كانت لا تحيض فخمسة وأربعون يوما ، فأتيت بالكتاب أبا عبد الله (ع) فعرضت عليه فقال : صدق وأقرّ به ، قال ابن أذينة وكان زرارة بن أعين يقول هذا ويحلف أنه الحق إلّا أنه يقول : إن كانت تحيض فحيضة وإن كانت لا تحيض فشهر ونصف (الكافي ٥ : ٤٥١).

(١) روى الشيخ عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن (ع) قال : سألته عن الرجل يكون عنده المرأة أيحل له أن يتزوج بأختها متعة؟ قال : لا ، قلت حكى زرارة عن أبي جعفر عليهما السلام : إنما هي مثل الإماء يتزوج ما شاء؟ قال : لا هي من الأربع (التهذيب ٢ : ١٨٨ والإستبصار ٣ : ١٤٧) وفي موثق عمار الساباطي عن أبي عبد الله (ع) عن المتعة؟ قال : هي إحدى الأربع (المصدر).

أقول : أولا إن كونها مثل الإماء لا يمنع من حرمة الجمع بينها وبين أختها الدائمة أو المنقطعة أو المملوكة ، حيث الجمع بين الأختين محرم بصورة مطلقة حسب إطلاق الآية (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) دون تقيد في حرمة هذا الجمع بالنكاح الدائم أم أي قيد آخر ، وأما كونها من الأربع فهو خلاف الآية ومتظافر الرواية ، ومما يؤيدنا رواية البزنطي الأخرى عن أبي الحسن الرضا (ع) قال قال أبو جعفر (ع) اجعلوهن من الأربع ، فقال له صفوان بن يحيى : على الاحتياط؟ قال : نعم» (المصدر) فإن الاحتياط بمعناه المعروف في الحكم ليس من شأن المعصوم ، فإنما يعني التقية من العامة المشنعين على الشيعة نكاح المتعة ، فإذا كانت من الأربع فلا مدخل لتشنيعهم حيث تنحسب من الأربع المسموحة.

٢٠٢

قول فصل حول زواجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

لقد تحدثنا حول زواجاته (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحزاب ونزيد هنا طرفا منها بمناسبة الموقف ، إذ كثرت الدعايات الكنسية المعادية حولها ، أنه تزوج بسبعة عشر وبنى بثلاثة عشر منهن وتوفي عن تسع ، فلم يقنع بما سمحه الله لأمته لكثرة شرهه وشبقه وولعه في النساء؟!.

ذلك! والمسألة ـ رغم هذه العربدة النكراء ـ ذات أبعاد عريقة لمصلحة هذه الرسالة السامية الحانية سياسيا وروحيا وعاطفيا اكثر بكثير من البعد الشهواني الذي يعم الرسول بطبيعة الحال لأنه بشر له ما لسائر البشر من الحاجيات البشرية.

فقد يتزوج الرجل لحاجته ، وأخرى لحاجة المرأة ، وثالثة لحاجتهما ، وكل ذلك في حقل الجنس أم تأسيس العائلة أم السؤل المعيشي.

ورغم أن هذه كلها تسمح للزواج بشروطه لم تكن زواجات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا على هامش رسالته دعوة وترغيبا وتشجيعا ، والحاجة الجنسية التي هي لزام كل إنسان كانت على هامش البغية الرسالية له (صلى الله عليه وآله وسلم).

فتزوجه (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمس عشرة امرأة دخل بثلاث عشرة منهن وقبض عن تسع (١) ام بثماني عشرة (٢) ام إحدى وعشرين (٣) ام ثلاثة وعشرين ، ام انه اجتمع له إحدى عشرة امرأة في وقت (٤) كان كله وفق المصلحة الملزمة الرسالية.

__________________

(١) البحار ٢٢ : ١٩١ عن المناقب قال الصادق (ع).

(٢) عن المبسوط.

(٣) في أعلام الورى ونزهة الأبصار.

(٤) عن ابن جرير وابن مهدي.

٢٠٣

١ ـ وترتيب زواجاته كالتالي : تزوج بمكة خديجة بنت خويلد وكانت عند عتيق بن عائذ المخزومي ثم عند أبي هالة زرارة بن نباش الأسيديّ ، مهما روي أنها كانت عذراء.

٢ ـ ثم تزوج بسودة بنت زمعة بعد موت خديجة بسنة وكانت عند السكران بن عمر من مهاجري الحبشة فتنصر ومات بها.

٣ ـ ثم تزوج بعائشة بنت أبي بكر وهي ابنة تسع قبل الهجرة بسنتين ولم يتزوج غيرها بكرا.

٤ ـ ثم تزوج أم سلمة واسمها هند بنت امية المخزومية وهي بنت عمة عائكة بنت عبد المطلب ، وكانت عند أبي سلمة بن عبد الأسد بعد وقعة بدر ثانية الهجرة.

٥ ـ وتزوج في هذه السنة بحفصة بنت عمر وكانت قبله تحت خنيس بن عبد الله ابن حذافة السهمي.

٦ ـ ثم تزوج بزينب بنت جحش الأسدية وهي أول من ماتت من نساءه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد خديجة.

٧ ـ ثم جويرية بنت الحارث بن ضرار المصطلقية وكانت عند مالك بن صفوان بن ذي السفرتين.

٨ ـ ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان واسمها رملة وكانت عند عبد الله بن جحش في سنة ست.

٩ ـ ثم صفية بنت حي بن أخطب النضري وكانت عند سلّام بن مشكم ثم عند كنانة بن الربيع.

٢٠٤

١٠ ـ ثم ميمونة بنت الحارث البلالية خالة ابن عباس وكانت عند عمير بن عمرو الثقفي ثم عند أبي زيد بن عبد العامري وقد دخل بهؤلاء.

ثم المطلقات منهن او من لم يدخل بهن أو من خطبها ولم يعقد عليها هن :

١١ ـ فاطمة بنت شريح فانها من اللاتي خيرهن فتخيرت السراح.

١٢ ـ وزينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين وكانت عند عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.

١٣ ـ وأسماء بنت النعمان بن الأسود الكندي ، لما دخلت عليه قالت أعوذ بالله منك ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أعذتك الحقي بأهلك.

١٤ ـ وقتيلة أخت الأشعث بن قيس الكندي ماتت قبل ان يدخل بها.

١٥ ـ وام شريك واسمها غزيّة بنت جابر من بني النجار.

١٦ ـ وسنى بنت الصلت من بني سليم ماتت قبل أن يدخل بها.

١٧ ـ وسراف أخت دحية الكلبي و ١٨ ـ عمرة الكلابية و ١٩ ـ اميمة بنت النعمان الجونية و ٢٠ ـ العالية بنت ظبيان الكلابية و ٢١ ـ مليكة الليثية و ٢٢ ـ عمرة بنت بريد و ٢٣ ـ ليلى ابنة الحطيم الأنصارية.

والتسع اللاتي قبض عنهن : أم سلمة ـ زينب ـ ميمونة ـ أم حبيبة ـ صفية ـ سودة ـ عائشة ـ حفصة جويرية وماتت قبل النبي خديجة وأم هاني وزينب بنت خزيمة.

فلقد تزوج في بزوغ زواجاته ـ وهو ابن خمسة وعشرين ـ بخديجة وهي أرملة عرفت قبله زوجين ولها أربعون وظل معها ثمان وعشرون ، فتوفيت عنه ولها ثمان وستون وهو ابن ثلاث وخمسون ، فقد مضى بما مضى عمر الشبق

٢٠٥

والشره والولع في النساء ولم يتزوج على خديجة ما كانت معه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والمتولع بالنساء كنساء ، المغرم بحبهن ، المفتون بغنجهن ودلالهن ، هو بطبيعة الحال يستغل شبابه قبل هرمه ، لا أن يختص غزارة شبابه لحد الخمسين بامرأة هي أكبر منه بخمسة عشر!.

كما وأن طبيعة الحال البناء بالبكر بعد الثيب او البكر ، وهو بنى بالثيب بعد البكر ، وبالعجوز بعد الفتاة ، ولم يبن ببكر إلا واحدة هي عائشة قضية المصلحة السياسية الرسالية ، وقد بنى بعدها بأم سلمة وزينب بنت جحش وهما في الخمسينات من العمر!.

وقد تزوج بالبعض منهن ترغيبا في الجهاد كاللاتي استشهد أزواجهن كزينب بنت خزيمة حيث قتل زوجها عبد الله بن جحش في أحد ، وبصفية بنت حي بن أخطب سيد بني النضير حيث قتل زوجها بخيبر وقتل أبوها مع بني النضير وكانت في سبي خيبر ، وتزوج بحفصة بنت عمر وقد قتل زوجها خنيس بن حذافة ببدر وبقيت ارملة ...

تزوج بأمثال هؤلاء ، وقد كانت تدعى أولاهن بأم المساكين لعطفها وحنانها البالغ بهم ، فصانها عن الانكسار ، وشجع أقرانها في الجهاد نفسيا وماليا.

كما وصل بالثانية سببه ببني إسرائيل حيث أعتقها بعد سبيها وشرّفها بذلك الزواج ، ووصل بالثالثة سببه بالخليفة عمر حتى يكسر من ثورته ويشجع المجاهدين في القتال.

وتزوج بعائشة فوصل بها سببه الى أبي بكر لنفس المصلحة في عمر إلا في تشجيع الجهاد.

٢٠٦

وتزوج بجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق ، وقد أسر المسلمون مأتي بيت منهم بالنساء والجواري ، فسبب بزواجها أن اعتقهن المسلمون فأسلم بنو المصطلق جميعا.

وتزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوجة عبيد الله بن جحش الذي هاجر معها الى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك وثبتت هي على الإسلام ، وقد كان أبوها ابو سفيان يجمع الجموع ضد المسلمين ، فتزوجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترغيبا الى صبغة الإسلام وإحصانا لها وإحسانا إليها حيث ثبتت على إسلامها رغم زوجها وأبيها.

وتزوج بأم سلمة زوجة عبد الله أبي سلمة ابن عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة ، وقد كانت زاهدة تقية نقية ، ومسنة ذات أيتام فصانها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك الزواج.

وتزوج بزينب بنت جحش بعد ما طلقها زيد بن حارثة ، هدما لسنة جاهلية هي حرمة حلائل الأدعياء ، كما وأن زواجها بزيد حسب أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت هدما لسنة الفوارق ، فشريفة بني هاشم تتزوج بوضيع في العرف الجاهلي ، لكي تزول أمثال هذه الفوارق.

ولقد تزوج بعد خديجة بسودة بنت زمعة ، وقد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية ، وكانت سودة مؤمنة مهاجرة ، في رجوعها إلى أهلها الكفار رجوع إلى الكفر بطبيعة الحال ، وكما فتنوا غيرها من المؤمنات بالزجر والقتل والحمل على الكفر.

ثم تزوج ما تزوج لأسباب كلها غير الحاجة الجنسية ، وانما هي ـ كأصول ـ أسباب رسالية ، ترغيبا الى الايمان وتثبيتا عليه.

٢٠٧

ذلك ، إضافة الى ترغيب الأمة الى الزواج تأمينا للحال وتزويدا للنسل وجبرا لنقص الرجال وزيادة النساء.

ففي أصل الزواج رجاحة بشروطه ، وفي تعدده إلى أربع رجاحة أخرى بشروط أكثر من أصله ، ثم في عديد زواجات النبي إلى تسع مصالح رسالية ملزمة ما كانت تحصل إلّا بالزواج الدائم ، ومن ذلك ـ ككل ـ رباطه سببيا بمختلف قبائل العرب.

توحيدا بينهم ، واندفاعا فيهم ، وصدا عن بأسهم ، كسياسة حيادية ودية تربط بين المختلفين!.

فقد كانت زواجاته (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد خديجة ذات ابعاد سياسية ـ عاطفية ـ حيادية ـ قيادية ـ ترغيبية أماهيه من مصالح رسالية ، ثم حرم عليه كل زواج لما انتهت تلك المصالح : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ...) (٣٣ : ٥٢).

وذلك تحريم مؤبد وان بقي دون زوج ، وجاه تحليل شاسع له قبله ، وكلّ تابع لمصلحة رسالية تختص بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الأمة.

فكما أن للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ميزة العصمة العليا عن الأمة ، كذا يمتاز على ضوء العبء الرسالي بأحكام خاصة تبنيا لواقع رسالته في أمته ولكي يؤتسى فيها كما أمر الله.

فقد فرضت عليه صلاة الليل دون الأمة لأنه يحمل من المسؤولية الروحية ما يفرض عليه نافلة في واجبات تكمّل الروح الرسالية.

كما سمح له بزواجات هي أكثر مما حدد للأمة قضية الدعوة الرسالية التي

٢٠٨

تختصه كحامل شرعة دون من سواه من المكلفين ، وقد كانت كلها مفروضة عليه زائدة على فرض الأمة.

فزواجه بخديجة فرض في بزوغ الرسالة لأنها كانت أصلح النساء الصالحات لزواجه ، ولذلك لم يتزوج عليها ـ ما كانت باقية ـ لا شابة ولا هرمة ، إضافة إلى أنه استفاد من ثروتها الغزيرة لبثّ الإسلام في الفقر القارع المدقع للمسلمين.

كما أن زواجه بمن قتل أزواجهن أو ارتدوا عن الإسلام ترغيبا في الجهاد وتشويقا على الثبات في الإيمان ، وزواجه بالتي وهبت نفسها كذلك ترغيب إلى الإيمان به (صلى الله عليه وآله وسلم) لحد الوهبة.

وزواجه بزينب كان فيه تهديم لسنة جاهلية هي حرمة حلائل الأدعياء ، كما ان تزويجها قبله بزيد تهديم لسنة الفوارق.

وهكذا نرى زواجاته كلها مفروضة عليه رساليا ، أم ولأقل تقدير راجحة له دونما استثناء ، ورغم انه بشر لم يتزوج ـ فقط ـ قضية حظوة الجنس بشريا مهما كانت ضمن القصد من زواجاته!.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ٤.

وترى من هم المخاطبون ب «آتوا»؟ القدر المعلوم أنهم الأزواج حيث الصدقات حق لهن عليهم ، ثم الجو الجاهلي يضيف إليهم أولياءهن إذ كانوا يأكلون صدقاتهن أم ينكحونهن نكاح الشغار ، ولا معارضة بينه وبين آية البقرة : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) فإنه ليس أكلا من ولي البنت وإنما هو سماح حسب المصلحة عند الطلاق قبل الدخول ، فيختص بمورده ، كما هي

٢٠٩

تسامح حسبها ، فلا يجوز لولي البنت ـ كما الزوج ـ أن يأكل صدقتها إلا بطيبة نفسها.

والصدقات هي جمع صدقة ، عبارة أخرى عن الصّداق والصّداق والصّدقة ، وهي مهر المرأة ، واختلاف بناء الصدقة عن الصدقة تشي باختلاف المعني مهما اتحد الأصل ، فهما واحد في الإيتاء مجانا ، والصدقة تزيد عليه أنها نحلة ، تبرّع كتبرع النّحلة بعسلها دونما ابتغاء جزاء ولا شكور ، فالصدقة ـ إذا ـ نحلة عسيلة أصيلة من جانب الزوج الى الزوجة ، هدية لأصل الزواج.

وقد تعني «نحلة» ـ بما عنت ـ نحلة الشّرعة الربانية ، والشرعة كلها نحلة عسيلة ، فصدقات النساء نحلة في بعديها ، فريضة (١) بأصل الشرعة نحلة ، وإيتاء لكرامة الزوجية نحلة ، فهما ـ إذا ـ نحلتان عسيلتان أصيلتان في حقل الزواج ، ويا لها من طيبة وحلاوة وطلاوة!.

ثم «نحلة» على المعنيين قد تكون حالا أو تمييزا للمؤتين وإتيانهم والنساء وصدقاتهن ـ حسب التصور الأدبي الحرّ ، مهما لا تعني البعض منها أدبيا أو معنويا (٢).

وفي إضافة الصدقات إليهن لمحة أخرى بذلك الاختصاص ، فلم يقل «صدقاتكم» كيلا يخيل إليهم أنها تجاف عن حقوق لهم دونما بديل كسائر الصدقات ، وإنما «صدقاتهن» الخاصة بهن كحق أصيل في حقل الزواج ، وليست بديلة عن البضع إذ يحق لهن كلها قبل الدخول إلا إذا طلقها قبل

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٢٠ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن عائشة «نحلة» قالت : واجبة ، وعن أبي جريح قال : فريضة مسماة.

(٢) كالنساء النحلة فقد لا تكون حلوة نحلة ، كما الرجال ، ولكن الإيتاء كما الصدقة لا بد أن تكون نحلة.

٢١٠

فنصف ، ولو كانت مبادلة لعمت كلها ، ثم هي غررية إذ لا يعلم عدد الحظوات الجنسية ولا زمنها ، والبديل المجهول في عدده وزمنه لا يصلح بديلا في أية مبادلة!.

ذلك! مهما كانت الصدقة بديلة أصل الزواج كهدية لذلك الاتصال العريق وتقدمة.

إذا فليست النحلة بديلة فقط عن الخدمات البيتية ولا عن البضع فانه مشترك بينهما ، ثم ولا يملك الزوج بضعها وإنما هو استباحة (١) فإنها تستحق نصف الصدقة ان طلقت قبل الدخول بها ، وتستحق كلها ابن دخل بها وإن مرة يتيمة ثم تمنّعت او منعت من مزاولة الجنس ، أم نشزت عن واجبات الزوجية ، ولا يقطع عنها شيء من حقوقها إلّا النفقة بنشوزها إذا لم يقابل بنشوزه ، اللهم إلا ان يأتين بفاحشة مبينة يتهدم بها صرح الزوجية عن بكرتها : (... وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ..) (٤ : ١٩)! ـ (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما) (٢ : ٢٢٩).

هنا يسمى المهر صدقة كمرة يتيمة ، ثم «فريضة» في آيات ثلاث (٢)

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٤٠ في عيون الأخبار في باب ما كتب به الرضا (ع) إلى محمد بن سنان في جواب مسائله وعلة المهر ووجوبه على الرجل ولا يجب على النساء أن يعطين أزواجهن لأن على الرجل مؤنة المرأة لأن المرأة بايعة نفسها والرجل مشترى ولا يكون البيع إلّا بثمن ولا الشراء بغير إعطاء الثمن مع أن النساء محظورات عن التعامل والمتجر مع علل كثيرة.

وفي العلل روى في خبر آخر أن الصادق (ع) قال : إنما صار الصداق على الرجل دون المرأة وإن كان فعلهما واحدا فإن الرجل إذا قضى حاجته منها قام عنها ولم ينتظر فراغها فصار الصداق عليه دونه.

(٢) وهي «ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» (٢ : ٢٣٦) ـ وإن طلقتموهن وقد فرضتم لهن

٢١١

فالصدقة الفريضة نحلة ، عبارات أخرى عن حق الزواج للزوجة دون مقابل إلّا أصل الزوجية.

فهو ليس صدقة مشروط فيها فقر المتصدّق عليه ، محدود حسب ما حددته الشرعة ، بل هو نحلة تقدّر كما ترضاها الزوجة وإن كانت قنطارا.

وآيات الأجر (١) لا تعني أن المهر بدل البضع ، بل هو هدية النكاح ، أجرا لذلك الرباط العريق الذي تتقبله المرأة.

وحتى إذا كان أجرا عن ذلك الرباط فهو فريضة صدقة نحلة ، تختلف اختلافا شاسعا عن سائر الأجر.

ولو كان البضع هو المقابل لكان له عليها كمتقابل حيث الحظوة الجنسية مشتركة بينهما ، ولا سيما إذا كانت للمرأة أكثر من الرجل.

فلا مقابل للصداق إلّا أصل الزواج نحلة وهدية مفروضة مهما سميت أجرا ، ولا ينتصف الصداق إلا في طلاق قبل الدخول قضية النص ، دون الموت قبل إمّا ذا من موارد عدم الدخول.

ثم «آتوا» هنا دون «أعطوا» تشير الى كيان تلك الصدقة النحلة ، أنها ليست عطية مجانية يمنّ فيها على مستعطيتها ، بل هي حق لها بزواجها كأصل ثابت لا مرد له ، حق لا يحول دونه أي حائل اللهم إلا فاحشة مبينة كما نبين على

__________________

ـ فريضة (٢ : ٢٣٧) ـ «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ» (٤ : ٢٤).

(١) وهي «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً» (٤ : ٢٥) «فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» (٤ : ٢٥) «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» (٥ : ٥) «إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» (٣٣ : ٥٠) «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (٦٠ : ١٠).

٢١٢

ضوء آيتها الآتية ، أو اللهم إلّا بطيبة أنفسهن دونما إغراء وتسويل :

(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) وأما إذا سمحن عن شيء منه دون طيب نفس ، بل بضغط من الزوج وترعيب أو ترغيب له في عشرة حسنة ، او إغراء منه في إبراء من الصدقة ، أماذا من غير (طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) فلا يحل شيء منها أبدا.

وهنا بين طيب النفس ولفظة السماح عموم من وجه ، فقد تطيب نفسها بلا قال ، وإنما بحال وفعال ، وقد لا تطيب نفسها مهما كثر القال والفعال ، وليس (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) إلّا (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) و «هنيئا» هو كونه بلا نكد ولا تبعة ، كما «مريئا» هو السائغ أكله ، الداخل في المري بسهولة دونما غصة.

ف «يا هذا! إن كنت تعلم أنها قد أفضت بذلك إليك فيما بينك وبينها وبين الله فحلال طيب ..» (١) وإلا فلا يحل لكم منهن شيء.

وحين لا يحل للزوج شيء من صدقة الزوجة ، فبأحرى لا يحل له شيء من أموالها الأصيلة غير الصدقة ، ويقابل تلك الحرمة الجازمة ، الحليلة الحازمة لحد قد يكون فيها شفاء من داء وكما يروى عن الإمام علي (عليه السلام) سنادا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٤٠ في الكافي بسند متصل عن سعيد بن يسار قال قلت لأبي عبد الله (ع) جعلت فداك امرأة رفعت إلى زوجها مالا من مالها ليعمل به وقالت له حين دفعت إليه : أنفق منه فإن حدث بك حدث فما أنفقت منه حلالا طيبا فإن حدث بي حدث فما أنفقت منه فهو حلال طيب؟ فقال : أعد عليّ يا سعيد المسألة ، فلما ذهبت أعيد المسألة اعترض فيها صاحبها وكان معي حاضرا فأعاد عليه مثل ذلك فما فرغ أشار بأصبعه إلى صاحب المسألة فقال : يا هذا ... ثلاث مرات ثم قال : يقول الله في كتابه : «فإن طبن ..».

٢١٣

الى الآية وسواها التي هي بمحتواها (١).

وليست الحرمة خاصة بأموالهن الخاصة وصدقاتهن ، بل والموهوبات والهديات فإنها كلها ممن آتيتموهن (أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) تعمها الى الصدقات والنفقات الواجبة.

فلا يرجع الزوج فيما وهب لزوجته ولا الزوجة فيما وهبت لزوجها لإطلاق الآية فيهما فإن أكل الهدية التي يجوز الرجوع فيها ليس هنيئا مريئا (٢).

فالمفروض على الزوج أولا إيتاء الصدقة لزوجه ، ف «من نكح امرأة وهو يريد أن يذهب بمهرها فهو عند الله زان يوم القيامة» (٣).

ذلك ، وبالنظر الى الجو الجاهلي الغاشم بالنسبة للنساء نعرف مدى العطف واللطف بهن في شرعة الله ، فقد كانت حقوقهن بأسرها مهضومة بصور شتى ، ومنها نكاح الشغار وهو أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته قبال أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية الآخر ، واحدة بواحدة دونما أية صدقة ، صفقة

__________________

(١) المصدر ٤٤١ عن المجمع وفي كتاب العياشي مرفوعا إلى أمير المؤمنين (ع) أنه جاء رجل فقال يا أمير المؤمنين إني يوجع بطني فقال : ألك زوجة؟ قال : نعم ، قال : استوهب منها شيئا طيبته به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فإني سمعت الله سبحانه يقول في كتابه (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) وقال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) وقال (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ، فإذا اجتمع البركة والشفاء والهنأ والمريء شفيت إن شاء الله تعالى ، قال : ففعل ذلك فشفى.

(٢) المصدر عن الكافي بسند متصل عن علي بن رئاب عن زرارة عن أبي عبد الله (ع) قال : لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته ولا المرأة فيما تهب لزوجها حيز أو لم يحز أليس الله تبارك وتعالى يقول : «أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» وقال (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) وهذا يدخل في الصداق والهبة.

(٣) الدر المنثور ٢ : ١٢٠ ـ أخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال قال النبي (ص) : ...

٢١٤

عارمة بين الوليين وهما محرومتان عن حقوقهما بهذه الولاية الجاهلية! وكأنما تبدل بهيمة ببهيمة.

كما ومنها سائر النكاح التي لا تراعى فيها لهن حقوقهن ، فاستبعد القرآن بذلك الإجراء الفضيل كل هذه الرواسب الجاهلية الرذيلة حفاظا على كرامة المرأة كإنسانة مثل الرجل ، ولها حقها في زواجها ، بما لها سائر الكرامات.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ٥.

السفه في الأصل هو مطلق الخفة فيما من شأنه الصالح ألا يكون خفيفا كالزمام السفيه وهو كثير الاضطراب ، والثوب السفيه وهو رديء النسج او الخلق الموهون ، وهو بالنسبة للإنسان وأشباهه خفة الإنسانية وهي العقلية الرزينة الرصينة ، سواء أكانت في الأمور المعيشية أو الدينية مما يعنيه الإنسان أو يعني الإنسان كإنسان من سائر النواميس الخمس (١).

فالسفه هنا اعتبارا بالمال هو السفه في تدبير المال من الناحتين ، فكما أن الخاسر في معاملاته سفيه ، كذلك المسرف والمبذر (٢) والذي يصرف أمواله فيما لا يحل (٣) والجامع لخفة العقل في حقل الأموال هو التخلف عن شرعة الله في

__________________

(١) وهي ناموس الدين والنفس والعقل والمال والعرض ، والقيام في كلها واجب شخصيا وجماعيا ، فحين جعل الله الأموال للعقلاء المؤمنين قياما ، فبأحرى سائر النواميس ، والقيام في ناموس المال يعني القيام في صالح النواميس الأربع كما هو القيام في صالح الأموال نفسها والصالح الاقتصادي لسائر شؤون المسلمين جماعات وفرادى.

(٢) في المجمع أنه عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير وقريب منه ما روي عن أبي عبد الله (ع) أن السفيه شارب الخمر ومن جرى مجراه.

(٣) في تفسير القمي عن أبي جعفر عليهما السلام في هذه الآية : لا تؤتوها شرّاب الخمر ولا النساء ثم ـ

٢١٥

صروفها بمختلف الأحوال ، سواء أكان لسفه العقلية الإنسانية أو الإيمانية ، والثانية أولى بالسفه من الأولى لأنها سفه عن تقصير فأضل سبيلا.

والسفيه ممنوع عن التصرفات المالية الحالية والمستقبلية ، بل والماضية إقرارا أن عليه مالا فلا ينفذ إقراره إلا إذا أحرز عدم تفريطه فيه ، وأما إقراراته وسائر تصرفاته غير المالية فغير محجور عليها.

وذلك قضية طليق النهي في الآية عن إيتاء السفهاء أموالا حيث القصد السياج عن ضياعها ، ولا يختص بما يؤتون ، بل وما عندهم من أموال أم لهم من إقرارات مالية ، حيث النتيجة من الكل واحد هو تفريط المال الذي جعل قياما لصالح العباد ، سواء أكان تفريطا في حياته تبذيرا أو إسرافا أو صرفا في معصية الله أو إعطاء لغير الوارثين حيث يضربهم ، أم لما بعد موته كالوصية بثلثه خروجا عن العقلية الإسلامية ، فإنه جنف أو إثم وقد منع الله عنهما : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (٢ : ١٨٢).

وترى «السفهاء» هنا كل السفهاء تقصيرا وقصورا وفي اي سفه في اي مال؟ ألّا تؤتوهم (أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً)؟ (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) تختصهم بمن له حق في أموالكم! أم إنها أموالهم دون أموالكم؟ فلما ذا ـ إذا ـ أموالكم!.

قضية الجمع بين «أموالكم» و «ارزقوهم» في البداية أنهم سفهاء خصوص لهم حق في أموالكم كسفهاء النساء والأولاد وسائر الأهلين (١)

__________________

ـ قال : وأي سفيه أسفه من شارب الخمر؟.

(١) الدر المنثور ٢ : ١٢٠ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال قال رسول الله (ص) : إن النساء السفهاء إلّا التي أطاعت قيمها.

٢١٦

الواجب نفقاتهم أصليا كواجبي النفقة الأصول وهم الأبوان والأولاد والأزواج ، أم الفروع كالأقارب الفقراء ، أم راجحي النفقة ، ومن ثم سفهاء الأيتام بالنسبة لأوليائهم حيث يجب عليهم الإنفاق عليهم من أموالهم ، فذلك ـ إذا ـ استثناء عن (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ـ (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) حيث الإيتاء فيهما مشروط بعدم السفه عقليا وشرعيا ، وإلّا فالإتياء محرم على أية حال.

فمن «أموالكم» هنا (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) هي أموال اليتامى المخولة إلى أولياءهم لصالح التدبير فيها كصالح التدبير في أموالهم أنفسهم ، فهي كأموالهم أنفسهم من هذه الجهة ، وقد جعلها الله لهم قياما بواجب الولاية ، وقياما لصالح اليتامى ، فبهدرها في أيدي السفهاء يهدر الواجبان.

ثم سائر السفهاء الفقراء حيث تجب الولاية عليهم فيها ، فلا تؤتوهم أموالكم ولا أموالهم ، بل (ارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

وأخيرا سائر السفهاء غير الفقراء ولا الصغار ، وهنا «أموالكم» هي أموالهم ، ونسبة الأموال ـ إذا ـ إلى الأولياء هي قضية الجمع بين السفهاء الأربعة كما هي قضية صالح تصرفات الأولياء في أموال السفهاء ، وهي قضية أن أموالهم هي لصالح المجموعة مهما كانت أموالا شخصية ، فإن أموالك كما لها رباط خاص بك لصالحك شخصيا ، كذلك لها رباط بأشخاص آخرين وبالمجموعة المسلمة إذ (جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) كمجموعة ، مهما جعل الله لكم قياما لصالح الأشخاص الخصوص ، حيث الإسلام يراعي صالح الأفراد ضمن المجموعة ،

__________________

ـ وفي تفسير القمي عن الباقر (ع) أنه سئل عن هذه الآية قال : السفهاء النساء والولد إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وولده سفيه مفسد لا ينبغي له أن يسلط واحدا منهم على ماله الذي جعله الله له قياما.

٢١٧

وصالح المجموعة على كاهل الأشخاص ، فذلك المثلث من رباط الأموال بالأولياء يقتضي نسبتها إليهم أصليا وإلى السفهاء فرعيا.

إذا ف «أموالكم» الأولياء وسائر العقلاء ، تعم مخمس الأموال : ١ الأموال الشخصية لكم حيث يجب الإنفاق منها على واجبي النفقة ، ٢ والتي يجب ايتاءها صدقة ونفقة للنساء ، ٣ وأموال السفهاء المورّثين لهم حيث جعل الله لكم فيها قياما بعدهم ، ٤ وأموالهم التي فيها قيام للأولياء في تدبير شؤونهم أولاء السفهاء ، ٥ وأموالهم التي ليست بأيديكم فالواجب استرجاعها منهم للقيام في صالحهم المعيشي.

والمخاطبون في هذه المصلحة المالية هم العقلاء إنسانيا وشرعيا ، فهم الأتقياء النبهاء ، العدول في الناحية المالية مهما لم يكونوا عدولا بإطلاق الكلمة.

فأحسن تعبير عن هذه الأموال هو «أموالكم» لا «أموالهم» ولا هما معا ، حيث القائم في مطلق الأموال لأي صالح من المصالح شخصية وجماعية هم عقلاء المؤمنين.

وهنا سابق ذكر اليتامى والنساء يؤكد ـ فيما أكد ـ أنهما من المعنيين بالسفهاء ، كما وأن الأكثرية الساحقة من السفهاء هم من النساء واليتامى ، فلا يؤتون أموالهم على أية حال إلا عند إيناس الرشد من يتاماهم وزوال السفه ممن سواهم.

ثم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) بين «أموالكم» و «ارزقوهم» تعمم الحكم لكل السفهاء ، أنهم لا يؤتون أموالا على أية حال ، سواء في ذلك أموالهم الشخصية ، أو الواجب ايتاءه لهم نفقة أو إنفاقا أو الراجح فيهما ، فإنما (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

ثم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) تحدد موقف الأموال ككل أنها مجعولة في

٢١٨

شرعة الله (لَكُمْ قِياماً) لصالح النشأتين ، قياما اقتصاديا ـ عقيديا ـ ثقافيا ـ سياسيا ـ حربيا ام اي قيام وإقدام صالح لكم فرديا وجماعيا ، وفي صيغة مختصرة قياما بالعقلية الإسلامية لصالح الأفراد والجماعات.

فالقاعد عن القيام في أمواله ، أو القائم فيها خلاف شرعة الله وخلاف صالح الجماعة المسلمة او صالحه ، ليس حرا في قيامه وقعوده ، فهو من موارد النهي عن المنكر بمراتبه الصالحة ، فمن المفروض أن تكون الأموال في المجموعة المسلمة لهم قياما في الحيوية الإسلامية في كل حقولها وبكل عقولها الرزينة الرصينة.

إذا فكنز المال وتسميده دونما فائدة عائدة وقيام محرم ، كما أن إسرافه وتبذيره وصرفه في المحظور محظور ، ومما ينافي القيام تسليط السفهاء على الأموال مهما كانت أموالهم الشخصية فضلا عن الجماعية أم أموال آخرين.

ذلك! فالأموال التي جعل الله لكم قياما يجب أن تكون بأيدي العقلاء الصالحين ، دون السفهاء الكالحين ، فهي ككل لصالح العقلاء ، ومن صالحهم تدبير أمور السفهاء في أموالهم الشخصية او سائر الأموال التي يحق صرفها لصالحهم ، فهي ـ إذا ـ حقا «أموالكم» لا «أموالهم» اللهم إلا رزقا لهم وكسوة.

فقد اقتسمت هذه الآية المجموعة المؤمنة الى عقلاء وسفهاء فخاطبت العقلاء أولياء وسواهم ب (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) فالسفهاء ـ إذا ـ هم صفر الأيدي عن الأموال التي يحق لهم صرفها فيهم ، فإنما (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ألا تخاطبوهم بالسفهاء ، بل وجاملوهم وحاولوا في حصولهم على رشدهم كما يأتي في آية الابتلاء.

والجعل في (جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) يعم الجعلين : التكويني والتشريعي ،

٢١٩

كما ان «قياما» يعم قيام المخاطبين في واجب الإصلاح لأموال السفهاء ما هم أحياء ، وقيامهم أنفسهم لصالحهم إن كانوا هم من ورثة السفهاء.

فعلى كل من الوارث والمورّث أن يقوم بالحفاظ على أموال المورث والوارث (١) حفاظا عليها عن الضياع بسفاهة التصرفات غير المشروعة ، حيث الأموال الحاضرة ليست ـ فقط ـ لحاضر القيام في المصالح ، بل ولمستقبله ، حيث الجعل يعم المستقبل الى الحاضر.

فحين يرى الأولاد أو الوالدان أو الزوج ان وارثه أو مورثه يتهدر في صرف الأموال ، وجب على العقلاء منهم الحفاظ عليها ، فيحجر على السفيه في أمواله ، قياما له حاضرا وحتى الموت ، وقياما للوارث بعد موت السفيه.

وعلى الجملة فنسبة الأموال ككل الى عقلاء المؤمنين دون السفهاء ، نسبة رئيسية تعم كافة المصالح الفردية والجماعية لهم ولآخرين ، في مثلث الأموال شخصية لهم وللسفهاء وجماعية كما الأموال العامة المشركة.

ولكن نسبة الأموال الى السفهاء ليست إلا نسبة مصرفية ، كأنها ليست لهم وإنما تصرف لصالحهم ، فليس لهم تحصيلها ولا اختزانها ولا صرفها إلا على رقابة العقلاء المؤمنين ورقابهم.

لذلك فلتنسب كل الأموال إلى عقلاء المؤمنين لمكان ولايتهم فيها والسفهاء هم المولّى عليهم حتى في أموالهم الخاصة فضلا عما سواها! ومهما كانت لأموال السفهاء نسبة إليهم فهي منسوبة بأحرى إلى العقلاء فإنها لهم قياما ولأولاء قواما معيشيا.

__________________

(١) في تفسير العياشي في تفسير الآية عن علي بن أبي حمزة عن الصادق (ع) قال : هم اليتامى ولا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد قلت : فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ فقال : إذا كنت أنت الوارث لهم.

٢٢٠