الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

منبها انه حي قائلا : «إلي عباد الله ارجعوا إلي عباد الله ارجعوا» (١) ، ولأنه لم يصعد ما صعدوا فهو ـ إذا ـ في أخراهم من جهتين.

وقد تلمح «فأثابكم» أنهم استجابوا له فرجعوا ـ وكما في الأثر ـ وقالوا : والله لنأتينهم ثم لنقتلنهم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مهلا فانما أصابكم الذي أصابكم من أجل انكم عصيتموني (٢) ، (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ..) وترى ما هو الغم المثاب به ، ثم ما هو المبدل عنه؟.

الأمر الذي لا بد منه في الغم الأوّل أنه هو الغم الثواب الصواب حيث يخلّف سلب الحزن على ما فاتكم وما أصابكم ، فتراه الندم على ما فشلوا وتنازعوا في الأمر وعصوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وليس الندم وحده هو الذي يزيل الحزن على الفائتة والمصيبة وإن كان يخففه!.

ولكن المبدل عنه وهو بطبيعة الحال غم قتال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يجاوب الندم على ما كان ، تناصرا في إزالة الحزن ، مهما كان بضمنه غم الهزيمة وانفلات الغنيمة.

فالغم الثاني هو انفلات الغنيمة والهزيمة العظيمة والإصابة الفادحة ، وكل ذلك أمام غم الرسول الإمام لا يحسب بشيء ، فلقد تناسوا الحزن على ما فاتهم

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٨٧ عن ابن عباس قال صعدوا في أحد فرأوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوهم في أخراهم.

(٢) المصدر اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس (إذ تصعدون في اخراكم) فرجعوا وقالوا ... فبينما هم كذلك إذا أتاهم القوم وقد ايسوا واخترطوا سيوفهم فأثابكم غما بغم فكان غم الهزيمة وغمهم حين أتوهم (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) ..

أقول : تفسير الغمين بهذين خلاف الاثابة في الغم الأول فلا يصغى اليه ، والحق هو الذي استفدناه من الآية.

٤١

وما أصابهم لما علموا أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حي بعد ، فلهم رجاء استمرارية النضال وجبر كل انكسار في تلك الهزيمة.

إن الحزن على كل فائتة صالحة ومصيبة فادحة ، هو طبيعة الحال للإنسان أيّا كان ، ولأن ذلك كتاب وليس ليخطأ المصاب ـ سواء أكان بفعل الله فقط ام وبما قدمته نفسه ـ فلا دور للحزن عليه ف (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ... لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ...) (٥٧ : ٢٣).

ولكن غم الأسى على ما مضى من الفشل والتنازع في الأمر وعصيان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي خلّفت فوت الغنيمة والنصرة وفادح الإصابة ، ذلك الغم المقارن باستبشار حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يزيل وينسي كل «ما فاتكم وما أصابكم».

فالغم الأول بديلا عن الثاني ومسببا عنه (١) مع ذلك الاستبشار يحقق تلك السلبية الصالحة : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) فكل نقمة أمام هذه النعمة منفية مطفية ، فإن حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي فوق كل غنيمة ونصرة.

إذا (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) تعني ـ بصورة مختصرة ـ غما هو الندم على ما قصرتم وزعمتم وظننتم ، بغم هو زعم انتقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وواقع الهزيمة وانقطاع الغنيمة ، وما أعمقه ندما على ما قصّروا والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حي وهم يزعمون أنه قد قتل ففشلوا وأصعدوا ،

__________________

(١) حيث تتحمل الباء كلا البدلية والسببية ، فكما ان الغم الأول بدل عن الثاني ، كذلك هو سبب عنه الا في غم انقتال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

٤٢

حتى أدركهم في أخراهم وهو يناديهم : «إلي عباد الله ارجعوا ..».

ويا لها من إثابة مصيبة دورها في تناسي كل حزن ومصيبة ، كما وان فتح مكة المكرمة أنسى كل المآسي السابقة عليه واللاحقة به ، فأين ذلك الفتح المبين ، وتلكم المآسي بحق الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم).

اجل (فَأَثابَكُمْ غَمًّا) هو الثواب الصواب بعد الهزيمة وحين الإصعاد ، ذلك الغم المنبه المريح بعد التأكد من حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سكونا نفسيا بعد الاستكانة حيث تابوا الى ربهم وثابوا الى نبيهم ، ومن ثم شملهم نعاس لطيف فيه خلاص عما تعبوا :

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً .... ١٥٤)

هنا انقسم الذين مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى قسمين طائفة الفضيلة: (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) وطائفة الرذيلة : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ..). فالطائفة المغشوة بالامنة النعاس بعد إثابة الغم ، هم المثابون بالغم المصيبون في أقوالهم وأحوالهم وأعمالهم بعد إثابة الغم ، حيث تابوا وثابوا ، وقبلهم الذين صمدوا دون اي تقصير ، وثالث هم الطائفة الثانية في هذا العرض : (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ...) لا نفس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا نفيس دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فانما (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٨٧ ـ اخرج ابن جرير عن السدي ان المشركين انصرفوا يوم احد بعد الذي كان من أمرهم وامر المسلمين فواعدوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدرا من قابل فقال لهم نعم فتخوف المسلمون ان ينزلوا المدينة فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا فقال انظر فان رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم فان القوم ذاهبون وان رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم فان القوم ينزلون المدينة فاتقوا الله واصبروا ووطنهم على القتال فلما ابصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعا عجالا نادى بأعلى صوته بذهابهم فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبيّ الله ـ

٤٣

و «أمنة» هي الأمن ذي الحراك ، تعني حالة آمنة مطمئنة ، و «نعاسا» هي بدل عن «أمنة» او عطف بيان أم صفة ، وهي على أية حال تضيق دائرة الأمنة بالنعاس والنعاس بالأمنة ، فقد ينعس الإنسان دون أمن نعاسا من شدة الفتور والمرض ، ولكنه نعاس يؤمّن.

فالنعاس ظاهرة باهرة من رحمات الله ، فحين يلمّ بالمجهدين المرهقين المفزعين وإن لحظة واحدة يفعل في كيانهم فعل المعجزة حيث يردهم الى حياة جديدة ، ويسكب في قلوبهم الأمنة وفي كيانهم الراحة (١).

وهنا تتقدم «أمنة» على «نعاسا» وفي بدر يتعاكسان : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٨ : ١١) واين أمنة من أمنة ونعاس من نعاس ، طالما يتشاركان في نازل النعمة الربانية رحمة على المسلمين.

ولقد غشاهم ـ كلهم ـ النعاس أمنة منه يوم بدر ، وتفرقوا في أحد إلى ثلاث : منهم من نعس دون تغشية وهو السنة قبل النوم ، وآخرون بتغشية هي كامل النوم ، ف (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) تعني أن الاخرى نعست دون تغشية ، وثالثة لم تنعس وهي التي (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ).

ثم «وطائفة» هنا مبتدء خبره «يظنون» ووصفه (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) فهم خارجون عن النعاس وغشيانه.

__________________

ـ فناموا وبقي أناس من المنافقين يظنون ان القوم يأتونهم فقال الله يذكر حين أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ثم انزل ...

(١) روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن أبي سلمة عن ثابت عن انس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم احد وجعلت انظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته.

وفي لفظ آخر عن أبي طلحة : خشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم احد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه.

٤٤

أترى هذه الطائفة الأخيرة هي من المؤمنين؟ وقد (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) لا رسول الله ولا شرعة الله! ثم المواصفات التالية لا تناسب صادق الايمان ولا أصله!.

ام هم المنافقون أصحاب عبد الله بن أبي الذين تخلفوا عن حرب أحد منذ البداية؟ وهم ليس بمغفور لهم (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥)! وانما ذكروا بعد في (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧) وتلك الطائفة قد شاركت في القتال مهما تخلفت قبل الهزيمة وفشلت بعدها وكما تؤيده (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) و (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ..) واصحاب ابن أبي رجعوا الى المدينة قبل الحرب فكانوا في بيوتهم عندها ، فلا تصدق في حقهم الآيتان.

فهم إذا ضعفاء الايمان ، لا مؤمنون تماما ولا منافقون تماما ، بل هم عوان بينهما ، طائفة متزعزعة الايمان حيث شغلتهم أنفسهم وأهمتهم إذ لم يتخلصوا بعد من تصورات الجاهلية وهم مؤمنون ، وليس انهم تخلوا من الله عن أولياءه لأعدائه ، ولا قضاء منه سبحانه عليهم بالكفر والنفاق ، وإلا لم يشاركوا في النضال.

إنهم بعد في قلق وتأرجف ، يحسون أنهم ضايعون فيما هم يجهلون ، فيظنون بالله غير الحق انهم مندفعون في هذه المعركة الصاخبة اندفاعا دونما تصميم واضح ولا هدف صالح إذ لم ينصرهم الله فانهزموا أذلة صغارا.

وهنا مواصفات لهذه الطائفة تقرر موقفها العوان :

١ (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) فهم مهما دخلوا في معارك الشرف والكرامة ولهم

٤٥

حظ من الايمان ولكنهم عند البلية (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) حفاظا عليها وجلبا لمصلحياتها النفسية ، فلا يدينون دين الحق إلا لأنفسهم لأنه عامل غير مغلوب ، يدورون معه ما درت عليه معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.

٢ (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) والظن بالحق المطلق غير الحق هو من أنحس الظن وأتعسه ، وهو ظن الجاهلية الناكرة لوحدة الربوبية ، ظنا انها مقسمة بين أرباب عدة ، فلنا إذا من الأمر شيء!.

٣ (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) امر التشريع وامر الشرعة وامر التكوين ، ومن الأخير امر الغلبة كما من الثاني امر الحق ، وإذا كان لنا كمسلمين من أمر الغلبة شيء فلما ذا الهزيمة الفادحة؟ وإذا كنا على الحق فلما ذا غلب الباطل علينا؟ (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) فإذا (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) وأنت رسول ، فبأحرى ليس لهم من الأمر شيء وهم متخلفون عن أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي استئصال الأمر عنهم كلهم لله دليل على المعني من الأمر هنا انه أمر الله ، فلا بد وأن يشركنا الله به في بعض أمره ومنه الغلبة على أعداءه ، ف «هل لنا» اعتراض على فاعلية الإيمان ، كأنه لا فاعلية له فالمؤمن وسواه سواء في الغلبة وسواها ، فإنما لكلّ أسبابه المتعودة دون نصرة من الله خاصة لقبيل الايمان!.

ف (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) إجابة عن هذه الجهالة الفاتكة وايكال للأمور الخاصة بالله الى الله ، ثم الله ينصر المؤمنين إن أقاموا شرائط الايمان ، وحين يصبح الإيمان في هوّة السقوط أمام اللّاايمان ، والمؤمنون موفون بشرائط الايمان فقد ينصرهم الله كما نصرهم في بدر وهم أذلة.

٤ (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) ونحن قد نبديه لك لتعرفهم وهو :

٤٦

٥ (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) و «هل لنا ..» استفهام إنكار في مظهر الشك ، ولكنهم يخفون (لَوْ كانَ لَنا) حيث أحالوا أن لهم (مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).

وقد يعنون بالأمر هنا أمر الإنتصار او الحق او تحقيق وعد الله ناكرين أنه لهم خلاف ما وعد الله ، و (ما قُتِلْنا هاهُنا) قد تعني ما وقعنا في موقف القتل بعد الهزيمة ، حيث القتيل ليس له هكذا قول ، أم وتعني ما قتل من قتل منّا وقد قتلوا ، والجواب :

(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ..) فليس القتل صدفة عمياء وفوضى جزاف ، إنما هو مكتوب كما الموت ، يحصلان عند أجلهما شئت أم أبيت : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ..) (٤ : ٧٨).

أجل ، وإن القتال في سبيل الله لا يعجّل أجلا ، كما الفرار من الزحف او عدم المشاركة فيها لا يؤجل عجلا ، فالأجل بمحتومه ومعلّقه مكتوب عند الله ، وليس لنا أو علينا إلّا المضي في طاعة الله مهما كلف الأمر.

فالحذر في غير الصواب لا يدفع القدر ، والتدبير فيه لا يقاوم التقدير ، فالذين كتب عليهم القتل أو الموت لا بد لهم ان يقتلوا أو يموتوا على أية حال في الوقت المقدر لهما.

وهنا سئوال يفرض نفسه هو انه لو انحصر الموت بإذن الله دون تدخل للأسباب المقدمة له منا ، فلا علينا أن نتعرض لأسباب الموت والقتل على أية

٤٧

حال ، وليس القاتل ـ إذا ـ إلّا عاملا من عمال الله في إذنه للموت؟.

والجواب أن الأجل بين محتوم ومعلّق ، ولا مرد للمحتوم سواء خرجت من بيتك في سبيل الحق او الباطل ، فقد يأتيك الأجل المقرر.

فالتارك للقتال خوفة عن القتل ليس يتركه الأجل المحتوم بتركه وسواه.

وأما الأجل المعلق ، فقد يعلق على محظور محذور كالاسباب المحرمة للموت فحذار حذار منها ، فان مات بذلك الأجل فبتقصيره تكليفا وإذن الله تكوينا ، وقد لا يأذن فلا يموت ، او يعلق على سبب مشكور فبتطبيقه واجبه امام الله وبإذن الله ، وقد لا يأذن فلا يموت.

فالموت بأجل معلق على تشريع الله وتكوينه موت محبور حيث اذن الله كالقتيل في سبيل الله ، وهو معلقا على اجل في التكوين دون التشريع محظور إذا كان باختياره ، وهو لا محبور ولا محظور إذا لم يكن باختياره.

ففي ملتقى المشيئتين الإلهيتين للموت هو مشكور وصاحبه شهيد ، وفي مفترقهما ان يموت دون اذن في شرعة الله فليس مشكورا وهو محظور إن أقدم عليه بعلم واختيار.

وترى (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) كتابة شرعية؟ وقتل المؤمن في الجهاد هو فعل الكافر فكيف كتب؟ إنها كتابة تكوينية بما يعلم الله ان نفوسا يموتون عند أجلهم قتلى ، ولا تنافي هذه الكتابة في علم الله وتقديره إختيار المتقاتلين في القتال ، فلا القاتل مسيّر ولا المقتول ، بل هما مخيران في أسباب القتل وانما الموت المسبب عنه بيد الله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) ، وهو كتابة شرعية حيث امر الله ، فالشهادة هي مجمع الكتابتين.

ذلك ـ (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) في هذه المعارك المكتوبة عليكم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

٤٨

فليس كالمحنة محك يبتلى بها ما في الصدور ويمحّص ويصهّر ما في القلوب ، فتنفي عنها الزيف والرئاء ، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء ولا أي خفاء ، وهذا هو حق التصحيح للتصور فلا يبقى فيه غبش ولا خلل ولا أية علل.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥).

المتولون هنا هم الرماة العصاة الذين تركوا مقاعد القتال التي قررها عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم واضرابهم (١) ، لا والمنافقون فإنهم انحازوا قبل التقاء الجمعين ، فهم أولاء الموصوفون في آية مضت وأضرابها ، فلم يكونوا هم من المنافقين المعاندين (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) في معركة نفسية ، فتخلوا في معركة الميدان ، فلذلك (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) إذ لم يكونوا معاندين (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ، يغفر ويحلم ما له موضع صالح ، والمؤمن مهما أخطأ ببعض ما كسب فاستزله الشيطان ، فهو بعد مؤمن ، ليس كافرا ولا منافقا معاندين ، وكما يخاطبون في آيات تالية بخطاب الإيمان.

وهذه ضابطة ثابتة ان كل زلة تخلّف زلة أخرى إلا ان يتاب عنها ، فمكاسب السوء غير المنجبرة بالتوبة تستزل أصحابها في اضرابها ، وبأسوء وأنكى.

ولعلّ من بعض ما كسبوا هنا ما جال في نفوسهم أن رسول الله (صلى

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٠٣ في تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) فهو عقبة بن عثمان وعثمان بن سعيد ، وفيه عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هم اصحاب العقبة.

٤٩

الله عليه وآله وسلم) قد يحرمهم أنصبتهم من الغنيمة فاستزلهم الشيطان بهذه الزلة التي كسبوها ، فعصوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتركوا مقاعدهم (١).

ذلك ولكن الآية تصور صورة دائمة للنفس البشرية حين ارتكاب الخطيئة أنها تفقد ثقتها في قوتها ويختل توازنها وتماسكها فتصبح عرضة لكل عارض من الوساوس والهواجس وعندئذ يجد الشيطان سبيله الى هذه النفس الفاترة ، فيقودها إلى زلة بعد زلة ، حتى ينقطع بهم في تيه الضلالة ومتاهة الغواية.

وانما (عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) هنا زلتهم بعد زلة لأنهم بعد مؤمنون مهما أخطأوا ، وتاركون لقسم كبير من الكبائر وهم في خضمّ القتال في سبيل الله : ف (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٨٩ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ان الذين تولوا منكم ـ يعني انصرفوا عن القتال منهزمين يوم التقى الجمعان يوم احد حين التقى الجمعان جمع المسلمين وجمع المشركين فانهزم المسلمون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبقي في ثمانية عشر رجلا انما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا يعني حين تركوا المركز وعصوا امر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال للرماة يوم احد لا تبرحوا مكانكم فترك بعضهم المركز ولقد عفا الله عنهم حين لم يعاقبهم فيستأصلهم جميعا ان الله غفور حليم فلم يجعل لمن انهزم يوم احد بعد قتال بدر النار كما فعل بدر فهذه رخصة بعد التشديد.

٥٠

وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ

٥١

عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١٦٤)

هذه الآيات هي سنادات أخرى بعد ما قدمنا هنا ، على أن (الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ..) و (طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) هم كانوا من المؤمنين لا المنافقين ، فالمنافق لا يخاطب أبدا بخطاب الإيمان ، وقد يخاطب بخطاب الكفر ، إذ هو كافر في قلبه مهما كان مسلما بلسانه فليس من المؤمنين.

والمنافق لا يشاور بحضرة الرسالة وقد أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشاورهم ضمن سائر المؤمنين فان (لِنْتَ لَهُمْ) ليس إلا وجاه من خالف وتخلّف عن امر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما و «هم درجات» يجعلهم كلهم في كتلة الايمان ، وليس المنافق في أية درجة من درجات الإيمان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦).

هنا (كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعم المنافقين إلى الكفار الرسميين ، فيشمل قول عبد الله بن أبي سلول والمنافقين الذين انحازوا معه يوم أحد قبل الحرب ، الى

٥٢

قول المشركين وسائر الكافرين ، فذلك الثالوث من الكفر المنحوس له هذه القولة القائلة : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ...).

ويكأن عندهم أمانا عن مضيّ تقدير الله ، منعة عن الموت المقدر أم قتله؟ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً)!

هنا (ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) حيث تقابل (أَوْ كانُوا غُزًّى) تختص بالسفر في غير الجهاد ، مهما اختص أحيانا اخرى بسفر الجهاد ك (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٤ : ١٠١) إذا فالضرب في الأرض هو مطلق السفر ام مطلق سفر الخوف في جهاد وسواه ، و (أَوْ كانُوا غُزًّى) مطلق الجهاد في سفر أو حضر.

فليس الضرب في الأرض أي سفر ، انما هو الإنجاد في السير والإيغال في الأرض ، تشبيها للخابط في البر بالسابح في البحر لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء شقا لها واستعانة على قطعها.

إذا فهو السفر الشاق في غزو كان أم في تجارة ، دون الأسفار المريحة التي ليست فيها أية صعوبة نفسية أو جسدية ، فانها يعبر عنها بالسفر.

ثم (ما ماتُوا) تختص ب (إِذا ضَرَبُوا) و (ما قُتِلُوا) ب (أَوْ كانُوا غُزًّى) مما يدل على اختلاف الموت عن القتل.

فهل هما متباينان ، فالقتيل غير الميت والميت غير القتيل؟ (١) أم بينهما

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٠٢ في تفسير العياشي عن زرارة قال : كرهت ان اسأل أبا جعفر (عليهما السلام) عن الرجعة واستخفيت ذلك ، قلت لأسألن مسألة لطيفة ابلغ فيها حاجتي فقلت : أخبرني عمن قتل او مات؟ قال : لا ـ الموت موت والقتل قتل ، قلت : ما أحد يقتل إلا وقد مات؟ فقال : قول الله أصدق من قولك فرق بينهما في القرآن فقال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) وقال (لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) ليس كما قلت يا زرارة ، الموت موت والقتل قتل ، ـ

٥٣

عموم مطلق ، فكل قتيل ميت وليس كل ميت قتيلا؟ لكلّ وجه ، وقد يساعد الأوّل أن القتيل إن كان في سبيل الله رجع يوم الرجعة ليموت ، وان كان في غير سبيل الله رجع كذلك وكما في المستفيضة : «يرجع من محض الايمان محضا او محض الكفر محضا».

ولكنه يبقى السؤال بالنسبة لمن يقتل خارجا عن السبيلين كاصطدام السيارة أم السقوط عن الطائرة او غرق الباخرة أما شابه ، فمهما كان في هؤلاء من محّض الايمان محضا أو محض الكفر محضا ولكن بينهما منهم عوان وهم الاكثرية الساحقة.

ثم الموت لا يعني إلا خروج النفس عن البدن بأي سبب كان ، فانما اشتهر في غير السبب الظاهر للموت بالموت ، وفي الظاهر بالصلب والغرق والحرق والقتل وما أشبه ، ومن ثم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) انما تصلح جوابا عن (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) إذا عم «يميت» كلا الموت والقتل ، فطالما الموت لازم لا يشمل القتل لتعديه ولكنه يشمله اعتبارا بحاصل القتل وهو الموت وليس إلّا بإذن الله.

بل والموت على لزومه يشمل القتل على تعدّيه اعتبارا بالحاصل عنهما وتصديق ذلك قوله تعالى (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٣ : ١٤٣) حيث المورد هنا هو القتل المعني بالموت ، فلا تعني مقابلة الموت بالقتل تباينهما كليا بل هو عموم مطلق.

ثم (قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) هل تعني إخوانهم في النسب؟ وهذه القولة لا

__________________

ـ قلت : فان الله يقول : كل نفس ذائقة الموت؟ قال : من قتل لم يذق الموت ثم قال : لا بد من ان يرجع حتى يذوق الموت.

٥٤

تختصهم مهما كانت لهم انسب ، أم لإخوانهم في الدين وهم الكافرون الذين ماتوا او قتلوا ، قولة غائلة تثبط عن كل ضرب في الأرض أم قتال ، فيهما خوف الموت او القتل ، تجميدا للحياة الحركية في سبيل المصالح الهامة المعنية لكمال الإنسان؟.

قد تعني «إخوانهم» كل من لهم بهم صلة الأخوة نسبية او سببية أماهيه ، قولا يعني الميت والقتلى من المسلمين الذين كانوا من قبل كافرين ، يقولونها لهم تجميدا عن كل حراك صالح في سبيل الحق (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) مشاركين معنا في الكفر أو مسلمين (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) كما ويعني الميت والقتلى من أنفسهم ، تحسرا على ما أصابهم في القتال ، مهما كانت مفروضة عليهم حفاظا على ضفة الكفر.

وترى كيف (قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) وهم ميت او قتلى؟ علّهم قالوها قبل ضربهم في الأرض او غزوهم ، وكما قالوا لهم ـ اي : لأجلهم ، بعد ما ما ماتوا او قتلوا كما (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (٤٦ : ١١) والجمع أجمل واجمع وأوسع لهذه الدعاية المجمدة للطاقات ، بثا لهذه الدعاية في صفوف المجاهدين في خطوط النار ، ولكي يربحوا الحرب لأنفسهم.

(لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) ـ (لا تَكُونُوا ... لِيَجْعَلَ اللهُ) فحين لا تؤثر فيكم تلك الدعاية الكافرة فتتدفقون إلى الجهاد ، أصبح ذلك حسرة في قلوبهم.

و (قالُوا لِإِخْوانِهِمْ ... لِيَجْعَلَ اللهُ) فإنهم متحسرون بموت أو قتل إخوانهم في الكفر ، حيث يخيّل إليهم (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا).

ف «ليجعل» في الأوّل غاية معلومة مقصودة «لا تكونوا ليجعل» وفي

٥٥

الثاني غير مقصودة ولا معلومة لهم ، فانما هي غاية ثابتة مهما لم يشعروها كما في (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢٨ : ٨) والمعنيان معنيّان فإنهما لهم عانيان حسرة على حسرة في تلك القالة الغائلة ، فحين يسمع أقارب هؤلاء الميت والقتلى الكافرون هذه القالة يتحسرون كما القائلون.

وحين يذيعون هذه الشبهة بين المسلمين فلا يجدون لها موضعا عند اقوياءهم بسناد إيمانهم ، ولا عند ضعفائهم حيث نهاهم الله عن هذه القولة ، فهم يتحسرون أن خاب كيدهم وغاب ميدهم عن كتلة الايمان.

ثم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) تأكيد على حصر الإماتة كما الإحياء بحضرة الربوبية ف (ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً).

وهنا «قالوا ..» من الفوارق الرئيسية بين ضفّة الإيمان والكفر ، فلا يرى المؤمن في نضاله إلا إحدى الحسنيين ، والكافر متحسر في موته أو قتله إذ لا مولى له ولا رجاء إلّا هذه الدنيّة.

فالمؤمن الصالح مدرك لسنن الله ، متعرف إلى مشيئة الله ، متعرّق في حب الله والثقة بالله ، عارف انه لن يصيبه في سبيل الله إلّا ما كتب الله ، وأن ما أصابه فيها لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، فلا يتلقى الضراء بالجزع ولا السرّاء بالزهو والهلع.

وعارف ان مجال التقدير والتدبير والرأي والشورى ، كل ذلك قبل الإقدام ، فإذا أقدم في حدود علمه وصالحه ومسئوليته المحمّلة عليه استسلم لكل الخلفيّات ، عارفا انها مقضيّة له في كتاب (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٥٧ : ٢٣).

ويا له من توازن بين الكدح والسعي ، والتسليم أمام الواقع الممضاة من

٥٦

الله ، فهو يعيش بين الإيجابية والتوكل فيستقيم عليه خطوه ويستريح عليه ضميره.

ذلك ـ واما الفارغ قلبه من هذه المعرفة والطمأنينة ، فهو يعيش مستطارا قلقا فلقا ، فهو عشير «لو ـ لولا ـ يا ليت ووا أسفاه» (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ)! فهم يعيشون حسرة على اية حال ، حسرة أن لم يضربوا في الأرض أو لم يغزوا فيخسروا التجارة والحرب ، وحسرة أن ضربوا وغزوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا).

ففي حين يعيش المؤمنون المجاهدون إحدى الحسينين ، هم عائشون احدى السوأتين.

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (١٥٨).

إنما الأصل هو الفناء (فِي سَبِيلِ اللهِ) قتلا او موتا ، فمن يعيش هذه السبيل ويحقق مسئولياته تجاه الله ف (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ، ولا فارق ـ إذا ـ بين القتل والموت ، إذا كانا في سبيل الله ، ولا تقدّم لقتل على موت أو لموت على قتل إلا ما يتقدم منهما على صاحبه في سبيل الله فيقدّم صاحبه ـ ميتا او قتيلا ـ في سبيل الله.

ولكي نعرف تلك المساوات تتقدم «متم» بعد ما تأخرت عن «قتلتم» تأشيرا إلى أن الأصل فيهما هو سبيل الله ، وقضاء النحب موتا او قتلا في هذه السبيل.

فإذا الموت كائن لا محالة فموت في سبيل الله أو قتل خير ـ لو علموا

٥٧

واتقوا ـ مما يجمعون من الدنيا التي لها يتأخرون عن الجهاد تخوّف الموت والقتل لما جمعوا من زهيد الدنيا ووهيدها زهادة في الآخرة.

والمجاهد في سبيل الله تشمله مغفرة الله ورحمة الله سواء أمات على فراشه ، ام ضاربا في الأرض لمعاشه ، أم قتلا في ميادين الشرف والكرامة ، فمسيرهم كلهم واحد ، كما مصيرهم الى الله الواحد : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً).

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (١٥٩).

لقد لان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم أولاء الذين عصوه في حرب أحد بما ألانه الله ورحمه ، وهنا عرض موجز عن ذلك اللين المكين المتين مع ضعفاء المؤمنين ، دون المنافقين الذين لا يعرفون لينا ولا يعرف في شرعة الحق لهم لين.

وترى ماذا تعني «ما» في (فَبِما رَحْمَةٍ)؟ هل هي زائدة كما يتقولون؟ والزائدة بلا فائدة بائدة في القرآن العظيم!.

أظنها استفهامية في موضع العجاب : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) حيث الموقف كان يتطلب أعلى قمم الرحمة الربانية ، فكما أن (عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) ـ وهم من عرفناهم ـ يقتضي غاية الرحمة واللين ، فكذلك الرحمة الرسالية مع هؤلاء العصاة الذين هزموا صالح المؤمنين في المعركة وجاءوا بالبوار والخسار.

وتلك الرحمة العالية كانت لزاما لتلك الرسالة الغالية ، كما ان «ولو» تحيل سلبها عنه إلى الفظاظة وغلظة القلب.

وترى إحالة الفظاظة وغلظة القلب بالنسبة للعصاة المجاهيل لا تحيلهما

٥٨

بالنسبة للمؤمن الضرير الفقير الذي يستقرأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) آيات من الذكر الحكيم ، كما افتري عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في (عَبَسَ وَتَوَلَّى) وقد فصلنا البحث حولها ذودا عن ساحة الرسالة القدسية تلك الوصمة الغاشمة.

فمن الشروط الرئيسية لصالح الرسالة ولا سيما هذه الأخيرة الجامعة العالمية ، ان تكون لها جاذبية شاملة تجذب من بالإمكان أن ينجذب إليها فيهتدي ، فضلا عمن آمن ولمّا يكمل إيمانه.

ومن الصعب جدا كمستحيل أن يلين القائد مع جيش يتحمس للخروج في البداية ثم يضطرب ويخالف عن أمره ويضعف أمام إغراء الغنيمة وأمام إشاعة مقتل القائد وينقلب على عقبيه مهزوما هزيلا ذليلا ، ويتركه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع قلة قليلة يثخن بالجراح وهو يدعوهم في أخراهم ، وهو مع كل ذلك لا يفزّ ولا يفظّ عليهم ، ولا بشطر كلمة فظة او عملية رثّة بذة ، بل (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والعظيم عند الله هو إله العظمة ـ لو صح التعبير ـ!

فليس ذلك الّا أن أدركته الرحمة العاصمة الربانية كما أدركته العصمة الرسالية فلان معهم بكل لطف وحنان ، فما من احد رآه او عاشره إلا امتلأ قلبه بحبه لما كان يفيض من نفسه الرحيمة الرحيبة ، رغم كونها رهيبة ، وقد تعني «فظا» مقرونة ب (غَلِيظَ الْقَلْبِ) ، الفظاظة في مظاهر الأقوال والأفعال ، وغلظة القلب هي الفظاظة في الجوانح ، فما من أحد يغلظ قلبه إلّا وقد تفلت منه الفظاظة مهما راقب ودائب ، فلا بد للداعية أن يكون لين الجوارح والجوانح.

ذلك! ومع كل هذه يأمره الله تعالى هنا بمزيد اللين والرحمة بمثلث من زائد العناية :

٥٩

١ (فَاعْفُ عَنْهُمْ) ما عصوك كقائد رسالي ، واصفح متجاوزا عما فعلوا وافتعلوا وفتكوا وهتكوا ، ولكنما العفو من جانب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس ليكفي غفرهم من جانب الله لأنهم عصوا الله في عصيان الرسول ، فليس ذلك حقا شخصيا يعفو عنه صاحبه فيعفى عنه ، بل هو بين المرسل والرسول ، ولذلك :

٢ (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الله ، أن يغفر لهم ما سلف ، ويستر عنهم ما يأتي ويهجم من عصيان ، فقد لا يستغفرون الله ظنا منهم أن عفوك عنهم كاف ، أم تساهلا وتماحلا فيه ، ام لان استغفارهم لا يكفيه ، إذا (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٤ : ٦٤).

ثم ولا فحسب اللين والعفو والاستغفار ، بل :

٣ (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) كأنهم أولاء في محتدك في معرفة الأمر ، تشويقا لهم إلى كامل الايمان ، حيث تجعلهم ـ وهم عصاة ـ في حساب شورى الأمر ، و «الأمر» هنا أخص من الأمر في (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) فان أمر الأحكام الشرعية زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدخل في نطاق الشورى لأن أمرها بوحي الله فانه الشارع لا سواه ، فانما هو الأمور الزمنية التي لا نص فيها قطعيا ، فان أمرها راجع الى ولي الأمر وهو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكنه يؤمر هنا ان يشاورهم في هذه الأمور لمصلحة راجعة إلى الامة على مدار الزمن.

ثم وليس أمر انتصاب خلافة الإسلام ـ مهما كان من أهم الأمور الاسلامية ـ ليس داخلا في نطاق ذلك الأمر ، ومثلث الأمر إمرة وسياسة واحكاما مشمولة ل (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) لأنهم في غياب الوحي الرسالي فلا

٦٠