الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠)

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (١٨٧).

«و» اذكر (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهم حملته العلماء دون الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، حيث التبيين لا دور له إلّا بعد التبينّ وليس ذلك إلّا للعلماء.

(لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) واللّام هنا في موضع القسم تأكيدا لمدخولها ، والناس هم أعم من الناس الكتابيين والمشركين والمسلمين مهما اختلفت فاعلية التبيين فيهم ، ومما تدل عليه «لتبيننه» وجوب تبيين الكتاب وتفسيره حسب نصه وظاهره المستقر ، تبيينا لبعضه ببعض دون نثره نثر الدقل وضرب بعضه ببعض ، فانه ليس من تبيين الكتاب وتفسيره ، بل هو تفسير للكتاب عن مراده وتبيين لآراء الذين أوتوا الكتاب ، وهو كتمان للكتاب عن مراداته ومقاصده.

ترى ولماذا «لا تكتمونه» نهيا وقضية صحيح الأدب «لا تكتموه»؟ لأن

١٢١

«لتبيننه» ليس امرا حتى يعطف عليه النهي ، إنما هو إخبار آكد من الإنشاء ، فكذلك «لا تكتمونه» عطفا كمعطوف عليه.

وقد تكون (وَلا تَكْتُمُونَهُ) حالا عن واجب التبيين ، تبيننا حال عدم الكتمان ، فقد لا يبيّن الحق ، وأخرى يبين ويكتم واقع المعني منه تحريفا في لفظه أو تجديفا في معناه.

فلا يكفي تبيين الحق لفظيا حال كتمان صالح معناه ، وإنما هو تبيين له متين دون خفاء وإخفاء ذلك ، ولكن «فنبذوه» : ميثاق الكتاب (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) نبذا لتبيينه كأصل ، أو نبذا لمعناه كما يعني بعد تبيين الأصل ، وكلاهما كتمان للحق مهما اختلفا في أصل وفصل ، والنبذ وراء الظهور يعني أنهم تغافلوا عن ذكره وتشاغلوا عن فهمه وتفهيمه فأصبح كالشيء الملقى خلف الظهر لا يراه فيذكره ولا يلفت إليه نظره.

(فَنَبَذُوهُ ... وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) مالا ومنالا في قيادات زمنية أو روحية وكل ثمن الدنيا أمام الحق قليل ضئيل (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) من ثمن بخير ما يبيعون من مثمن.

إنهم نبذوا ذلك الميثاق وراء ظهورهم بين مثلث الناس ، ناسهم الأميين ، والناس المشركين والناس المسلمين ، ومن أهم ما نبذوه البشارات المحمدية المودوعة في كتابات السماء تحريفا وتجديفا أم إخفاء وكتمانا لها عن بكرتها (١).

هنا (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) حين تعني اهل الكتاب الاصطلاحيين ، بأحرى تعني اهل القرآن المسلمين ، فعلى علماء الإسلام ان يمحوروا القرآن في كل علومهم ومعارفهم ، ثم عليهم التبيين دون كتمان ، فالكاتمون كتاب الله في

__________________

(١) لمعرفة شاملة بما افتعلوه راجع كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية).

١٢٢

ثالوثة : تعلما وتعليما وبيانا صالحا لما يعلمونه ، إنهم هم الملعونون أيا كانوا : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٢ : ١٥٩) وقد يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار» (١) ، وعن علي (عليه السلام) : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨٨).

(الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) به من منكر بديل المعروف (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من معروف ، أولئك الحماقى الأنكاد عليهم وزران اثنان : الفرح بفعلهم المنكر ، وحبهم ان يحمدوا بما لم يفعلوه من المعروف وهذا كفر ذو بعدين بعيدين عن اصل الايمان حيث الفرح بالعصيان نكران للعقاب كما الحمد بما لم يفعل تحريف لموقف الثواب عن الصواب.

(فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) كما يزعمون ، بل (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) والمفازة هي الأرض البعيدة التي إذا قطعها الإنسان فاز بقطعها وأمن من خوفها.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٩ : ١٣١ وفيه حكي ان الحجاج أرسل إلى الحسن وقال : ما الذي بلغني عنك؟ فقال : ما كل الذي بلغك عني قلته ولا كل ما قلته بلغك ، قال : أنت الذي قلت النفاق كان مقموعا فأصبح قد تعمم وتقلد سيفا؟ فقال : نعم ، فقال : وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه؟ قال : لان الله أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه.

وفيه قال قتادة : مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب ، وكان يقول : طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع ، هذا علم علما فبذله وهذا سمع خيرا فوعاه.

١٢٣

و (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) تشمل الى سلبية الأفعال المحمودة عن بكرتها ، سلبية العدّة والعدّة فيها ، أنهم فعلوا خيرا مّا ويحبون أن يحمدوا بأكثر مما يستحقون ولم يفعلوا القدر الذي يستحق الأكثر ، فمهما كان الاول ظلما طليقا فهذا ظلم نسبي.

ثم ان مناسبة السياق واطلاق الآية تصدق الرواية القائلة انهم اليهود والمنافقون (١) وكذلك غيرهم من نصارى ومسلمين وان لم ترد به الرواية ، هؤلاء الذين يفرحون بما أتوا من نقض الميثاق في تبيين الكتاب وهم ـ مع ذلك ـ يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من ميثاق الكتاب.

وذلك حسب أصلهم النحس النجس : «الغاية تبرر الوسيلة» فالحفاظ على الشرعة الإسرائيلية ، أو الحفاظ على باطن الكفر وظاهر الإيمان ، يبرر عندهم التخلف عن ميثاق الكتاب فرحين وهم يحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا : فهم من الأخسرين اعمالا : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٣).

وقد تظل الآية تذم بطليق مضمونها كل هؤلاء الذين يفرحون بما أتوا من نقض الميثاق الرباني ، ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا ، تلبيسا على المجاهيل

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٠٨ ـ اخرج جماعة عن ابن عباس سألهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن شيء فكتموه فكتموه إياه واخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه ان قد اخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك اليه وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.

وفيه اخرج جماعة عن أبي سعيد الخدري ان رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الغزو وتخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغزو اعتذروا اليه وحلفوا وأحبوا ان يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت الآية.

١٢٤

الأغفال ، فارحين فارهين بذلك الإغفال ، (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) على حد زعم هؤلاء المجاهيل (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وكم من فرق فارق بين هؤلاء النحسين وبين (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٢٣ : ٦٠) فقد تعتبر طائفة او اشخاص أنفسهم من الناجين مهما ظلموا او بغوا او طغوا ، وكأن الله يختصهم برحمته دونما شرط شرطه على سائر عباده كما (قالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ..).

كلّا! (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) دون ما ادعى ف (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم لم يكسبوا إلّا خيرا فلما ذا يرهنون؟!.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٨٩).

«ولله» لا سواه (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وملكهما ضمن ملكهما بما فيهما وما بينهما (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من فعل او شيء ممكن ذاتي «قدير».

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠).

(إِنَّ فِي خَلْقِ) الله (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وان في مخلوقية السماوات والأرض ، بما لهما من مختلف الصنع المنضّد ، «و» في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وهو إتيان كلّ خلف الآخر بصورة منظمة «لآيات» على وجود الخالق وتوحيده وقاصدية خلقه (لِأُولِي الْأَلْبابِ) ألباب لعقولهم حيث القشور مقشّرة.

ذلك ـ لأن الخلق دليل الخالق واختلاف الخلق دليل قصده وتصميمه ، ونضد الخلق دليل توحيده.

١٢٥

وهذه حقيقة هي حقيقة بالتفكير الكثير ، كمقوم قائم من مقومات التصور الاسلامي السامي عن الكون كله ، والصلة الأصلية بينه وبين الإنسان فطريا وعقليا وحسيا وعلميا ، حيث يدل على ضوء هذه الجهات الأربع الإنسانية على خالق الكون من جهة وعلى الناموس الذي يصرفه وما يصاحبه من غاية وقصد وحكمة من أخرى.

وإن في ذلك لآيات لأولي الألباب ، آية الوحدة والحكمة والحيطة العلمية وفي القدرة الخلاقة أماهيه من آيات الربوبية ، وقد اتجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب ـ والله من وراءهم رقيب مجيب ـ وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح بكل مصاريعه ، متأملين ما ينطق به آيات وما يوحي به من حكم وغايات.

فالعقول القشرية تكتفي بألفاظ الإيمان ، ومن ثم بعقيدة الإيمان والفكر دون العمل بالأركان ، فأما أولوا الألباب فهم يصدقون باللسان معتقدون بالجنان وعاملون بالأركان كما جمعت لهم هذه الثلاث في هذه الآية ، ابتداء بظاهر اللسان ثم التصديق بالجنان ثم التحقيق ، بالأركان ، فإذا كان اللسان مستغرقا في الذكر ، والأركان في الشكر ، والجنان في الفكر ، كان العبد مستغرقا بكل كيانه في العبودية وأصبح من أولي الألباب ...

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١).

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) قالا وحالا وافعالا في مثلثة الأحوال : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) فانها تحلق على كافة الأحوال فيصبحون هم أنفسهم بكل حالاتهم ذكر الله ، ومن مخلفاته التفكر في خلق الله ، ومن منتجات ذلك التفكر

١٢٦

(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) :

من باطل الخلق وعاطله ، فحين ذكرناك في أحوالنا كلها وفكرنا في صالح خلقك وآمنا أنك ما خلقت هذا باطلا فأيقنا بالمعاد كما أيقنا بالمبدء ، وحقّقنا العقيدة والعمل بما بين المبدء والمعاد ، إذا (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ، ذلك! و «لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله قائما كان او جالسا او مضطجعا» (١).

ولان الصلاة هي أفضل ذكر الله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فقد تعني الحالات الثلاث لذكر الله الحالات المترتبة في الصلاة «قياما» ان أمكن ، ثم «قعودا» حين لم يستطع على القيام ثم (عَلى جُنُوبِهِمْ) على أقل تقدير حين لا يستطيع على القيام فيها ولا القعود ، فقد يستفاد منها المروي «لا تترك الصلاة بحال» وكما يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) : «صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطع فعلى جنب» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٢٣ في امالي الشيخ الطوسي باسناده إلى الباقر (عليه السلام) قال : لا يزال المؤمن ... ان الله يقول : الذين يذكرون الله ....

(٢) الدر المنثور ٣ : ١١٠ ـ اخرج البخاري عن عمران بن حصين قال : كانت بي بواسير فسألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصلاة فقال : ...

وفيه في لفظ آخر عن عمران بن حصين قال سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن صلاة الرجل وهو قاعد؟ فقال : «من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف اجر القائم ومن صلى نائما فله نصف اجر القاعد».

أقول : هذا يختص بصلاة الليل واما سائر النوافل فلا صلاة فيها نائما ، واما الفرائض فلا تصح الا قائما اللهم إلّا للمضطر ، وفي نور الثقلين ١ : ٤٢٣ في الكافي علي عن أبيه عن ابن محبوب عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية قال : الصحيح يصلي قائما وقعودا ، المريض يصلي جالسا و (عَلى جُنُوبِهِمْ) الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلي جالسا أقول : قائما وقعودا للصحيح هو على الصحيح حالتا الصلاة فانها بين قيام وقعود ، والقعود هو الذي بعد قيام ، دون الجلوس فانه عن النيام او هو أعم.

١٢٧

ولقد وردت بشأن هذه الآيات روايات ما أرواها وأروعها ، منها قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد بالغ تعبده «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» (١) و «ويل لمن لاكها بين فكيه فلم يتأمل فيها» (٢).

فالتفكر التفكر ، فانه حياة قلب البصير ، و «فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة» (٣) ولكن فيم؟ في خلق الله وليس في ذات الله وكما يروى عن

__________________

(١) المصدر اخرج جماعة عن عطاء قال قلت لعائشة اخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت : وأي شأنه لم يكن عجبا اتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال : ذريني أتعبد لربي فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : أفلا أكون عبدا شكورا ولم لا افعل وقد أنزل علي هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ ـ) ثم قال : ويل ...

(٢)مجمع البيان وقد اشتهرت الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه لما نزلت هذه الآية قال : ويل ...

وفي نور الثقلين ١ : ٤٢٣ عن الكافي باسناده الى عبيدة عن أبيه وأبي رافع كلام يحكيان فيه ذهاب علي (عليه السلام) بالفواطم من مكة الى المدينة ملتحقا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين هاجر ومقارعته (عليه السلام) الفرسان من قريش ـ وفيه ـ ثم سار ظاهرا قاهرا حتى نزل ضجنان فلزم فيها قدر يومه وليلته ولحق به نفر من المستضعفين المؤمنين وفيهم ام ايمن مولاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصلى ليلته تلك الليلة ، والفواطم امه بنت اسد وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة بنت الزبير ، يصلون ليلتهم ويذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم فلن يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فصلى (عليه السلام) صلاة الفجر ثم سار لوجهه فجعل وهم يصنعون ذلك منزلا بعد منزل يعبدون الله عز وجل ويرغبون اليه كذلك حتى قدم المدينة وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) ـ الى قوله ـ : «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ...».

(٣) الدر المنثور ٢ : ١١١ ـ اخرج ابو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

١٢٨

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) ومن لطيف الجمع في هاتين الآيتين الجمع بين أطوار العبودية الثلاثة : الذكر باللسان حيث يشمله وسائر الذكر (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) والعمل بالأركان (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) والتصديق بالجنان «ويتفكرون» إشارة إلى عبودية القلب والفكر والروح ، وهذه الثلاث تحلّق على كيان الإنسان ككل.

هنا (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) يعني لغوا دون هدف صالح وهو لعب بالخلق (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢١ : ١٦).

«سبحانك ربنا» من اللعب واللغو ، فسبحانك من عدم إقامة يوم القيامة الجزاء (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) التي هي للناكرين حقّ الخلق والمعاد ، ونحن معترفون به وعاملون له داعين إليه.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (١٩٢).

أترى ربنا تدخلنا النار ونحن عبيدك الطائعون لك العابدون إياك؟ وذلك خزي والمؤمن عزيز؟!.

إنه الخوف من خزي النار قبل خوف النار ، والخزي فيها إنما هو للبعيدين عن ساحة قدسه تعالى ، فإنما يهمهم أولاء الداعين قربه ورضاه إن في الجنة أو في النار ، فهم أشد حساسية في بعدهم عنه تعالى من دخول النار ، وبقرنهم

__________________

(١) المصدر اخرج جماعة عن عبد الله بن سلام قال خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أصحابه وهم يتفكرون فقال : لا تفكروا في الله ولكن تفكروا فيما خلق ، واخرج مثله عن عمرو بن مرة وعثمان بن أبي دهرين وابن عمرو ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما في معناه.

١٢٩

بالبعدين عن الله من نفس النار ، ف «العار والتخزية يبلغ من ابن آدم يوم القيامة في المقام بين يدي الله ما يتمنى العبد ان يؤمر به الى النار» (١).

ولان المؤمن لا يخزى يوم القيامة : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) (٦٦ : ٨) إذا فهو لا يدخل النار مهما كان مؤقتا يخرج بعده ، فأصحاب الكبائر من المؤمنين لا يدخلون النار ، انما يعذبون في البرزخ او يشفع لهم يوم القيامة في بقية باقية من كبائرهم.

فالخزي الدخول في النار يختص بالكافرين كما (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (١٦ : ٢٧) طالما الكافرون ليسوا على سواء في عذاب النار مادة ومدة ، فمنهم من يخرج عنها إلى الجنة إذا لم يمحض الكفر محضا وله حظ من الايمان وهو التوحيد ، وآخرون يظلون فيها خالدين ابدا ثم يخمدون مع خمود النار.

ثم المنفي عن المؤمنين هو الخزي يوم القيامة ، واما البرزخ فقد يخزى المؤمن بالكبائر لتعزيزه يوم القيامة بدخول الجنة.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) (١٩٣).

أوّل مناد هنا ينادي للإيمان هو الرسول المنادي بالقرآن : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٥٠ : ٤٥) ثم خلفاءه المعصومون (عليهم السلام) ، ثم العلماء الربانيون.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١١١ ـ اخرج ابو يعلى عن جابر ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : العار ... وفيه اخرج أبو بكر الشافعي في رباعياته عن أبي قرصافة قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : اللهم لا تخزنا يوم القيامة ولا تفضحنا يوم اللقاء.

١٣٠

ولأنهم كلهم ميتون ، فالمنادي للايمان على مدار الزمان هو القرآن ، نودي به أم لم يناد به ، فانه هو الناطق بالحق لمن ألقى السمع وهو شهيد ، مهما كان في نداء من يعرف القرآن رسوليا او رساليا دخلا في تفهم القرآن.

وذلك النداء أيا كان نداء صارم لا قبل له ببراهين الآيات الربانية آفاقية وأنفسية ، فليس نداء مجردا عن البرهان كما ليس مجردا عن البيان ، بل هو بيان وبرهان ، بيان ببرهان وبرهان ببيان.

و (يُنادِي لِلْإِيمانِ) دون (إِلَى الْإِيمانِ) كما (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) وفوقهما (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)؟

لأنه نداء وسيط ، لا إلى الإيمان ككل ، ولا هدى دون وسيط كما في الصراط المستقيم ، فهو لمحة لامعة الى ان اولي الألباب تخطّوا المرحلة الاولي وهي النداء إلى الايمان ، فإنهم ـ مبدئيا ـ كانوا مؤمنين قبل النداء ، إذ كانوا يتحرون عن صالح الايمان ، فالقرآن ورسول القرآن لهم نداء للايمان ، اي لصالح الايمان حتى يكمل برسالة القرآن ، إذا «فآمنا» هو كمال الإيمان لحدّمّا لا بدايته البدائية فانها لغير اولي الألباب.

(رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) السابقة على هذا الايمان قصورا دون تقصير ، واللاحقة عن الايمان ، غفرا عما تهجم علينا من ذنوب فنقترفها ، ام نقتربها ، غفرا بعد واقع الذنوب كالأول ، وآخر قبل واقعها كالثاني.

(وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) وهي أصغر من الذنوب ، حيث الذنب ما يستوخم عقباه ، والسيئة هي أعم منها حين تنفرد ، وهي أخص منها حين تقرن بالذنوب كما هنا فهي ـ إذا ـ أصغر منها.

(وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) الذين هم براء من الذنوب والسيئات بما غفرت وكفرت.

١٣١

وقد يتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها في اتجاهها في خضم المعركة الشاملة مع الشهوات ، اتجاها الى الله في النجاة منها إلى مرضاته تعالى.

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ).(١٩٤)

وهنا اكتملت الأدعية الثمان لأهل الجنة عدد أبواب الجنة ـ الثمان (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ...).

وذلك استنجاز لوعد الله الذي بلغته رسله ، و (عَلى رُسُلِكَ) دون برسلك أمّا شابه اعتبارا بتضمن «على» معنى العهدة ، ان الله تعالى عاهدهم على بلاغ هذه الرسالة ، لزاما في بلاغهم الرسالي.

وترى كيف يدعون (آتِنا ما وَعَدْتَنا) ومحال على الله ان يخلف الميعاد كما اعترفوا به؟ (آتِنا ما وَعَدْتَنا) له جانبان ، وعد الجزاء على صالح الأعمال ، والتوفيق لتلك الأعمال حتى ينطبق عليهم وعد الله ، فكما ان الدعاء للثاني صالح للصالحين استمدادا من الله ، كذلك للاوّل تخضعا له وتذللا بأننا لا نليق تحقيق وعدك فلو تركته ما كنت تاركا لحق ، ولكنا نسألك ان تحقق وعدك فينا على قصورنا وتقصيرنا (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) مهما أخلفنا نحن الميعاد.

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥).

ويا لها من استجابة حبيبة غالية كضابطة ثابتة (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) فنفس العمل الصالح ـ قولا وفعلا وحالا ـ باق وكما تدل عليه آيات

١٣٢

انعكاس الأعمال والأقوال والأحوال ، فحين لا يضيع عمل عامل وهو باق غير حابط ، فليجز به يوم القيامة ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فليس ـ إذا ـ مجرد العقيدة والتفكير والذكر هي الغاية الايمانية ، وانما هذه التي تنحو نحو العمل ، العمل الايجابي تحقيقا واقعيا لذكر الله والايمان بالله ، فالعمل الصالح هو الثمرة الواقعية للفظ الايمان وعقيدته وطويته ، ولا سيما العمل الجاد في الجهاد.

ثم ولا فارق في عدم الضياع بين ذكر وأنثى فلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس ، فان

بعضكم من بعض (١) فانما الفارق هو فارق الأعمال ، حسب درجاتها ودرجات النيات والطويات.

(فَالَّذِينَ هاجَرُوا) في الله حفاظا على شرعة الله ، (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) وعلّ الفارق بينهما ان الأولين هاجروا بايمانهم دون إخراج مهما كان إحراج ، خرجوا أو لم يخرجوا ، فانما هو عموم الهجرة في الله مهما كان من مصاديقه الهجرة من الديار ، والآخرين أحرجوا حتى أخرجوا ، كمصداق من مصاديق الهجرة في الله : (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) محرجين ومخرجين ، إيذاء في نفس او مال او منال.

«وقاتلوا» في سبيل الله حتى «وقتلوا» فمن المقاتلين من يقاتل دون ان يقتل او يقتل ، ومنهم من يقال ليقتل ولا يقتل ، ثم منهم من يقاتل ليقتل وإذا لزم الأمر أن يقتل ، وهؤلاء الآخرون هم المعنيون ب (قاتَلُوا وَقُتِلُوا).

(لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) كلها دون إبقاء حيث استقصوا التضحيات

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١١٢ ـ اخرج جماعة عن ام سلمة قالت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا اسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) ، قالت الأنصار هي اوّل ظعينة قدمت علينا.

١٣٣

كلها ، وتفانوا في سبيل الله دون إبقاء.

(وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وذلك (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) عندية الرحمة البالغة السابغة والزلفى البائقة وهم من اوّل من يدخل الجنة (١) (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ).

لقد ذكر هؤلاء الأكارم في أدعيتهم الثمان «ربنا» خمس مرات ، فكما ان للثماينة حساب كعدد أبواب الجنة ، كذلك للخمسة حساب قد تؤثر في استجابة الدعاء ، وكما

يروى عن الامام الصادق (عليه السلام) : من حزنه امر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية قال : لان الله حكى عنهم انهم قالوا خمس مرات «ربنا» ثم اخبر انه استجاب لهم (٢) فيا ربنا وفقنا لما تحبه وترضاه بحق الخمسة الطاهرة الباهرة.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٩٧).

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (٤٠ : ٤) والتقلب هو كثرة الاضطراب في مختلف البلاد والتقلقل في الاسفار

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١١٢ ـ اخرج ابن جرير وابو الشيخ والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر وسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ان اوّل ثلة يدخلون الجنة الفقراء المهاجرون الذين تتقى بهم المكارة إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وان كانت لرجل منهم حاجة الى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره وان الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول : اين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب ويأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا فيقول : هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار.

(٢) تفسير الفخر الرازي ٩ : ١٥١ روي عن جعفر الصادق (عليه السلام) : ...

١٣٤

والانتقال من حال الى حال ، بوفور النعمة وكثرة القوة والسلطة.

(الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) لا يغررك تقلبهم في البلاد ، تقلبا في اي تغلب بمتاع ، في دولة المال ام دولة الحال ، وتغلبا في اي تقلب ، فانما ذلك على طوله وطوله (مَتاعٌ قَلِيلٌ) فان الدنيا بكل متاعها بجنب الآخرة قليل (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ).

فالغرور هو الذي يغر اهل الغرور بذلك التقلب التغلب بمتاع ، وهو عند الله متاع قليل ، (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ).

وقد تعم (فِي الْبِلادِ) الى تقلبهم في البلاد كفرهم في البلاد ، فقد يتقلب الكفار في البلاد تقلب التجوال تغلبا ، ام يكفرون في البلاد تقلبا فيها في أهواءهم ، والمعنيان معنيّان.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (١٩٨).

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) عن كل تقلب عاطل وتغلب باطل ، وانحصرت تقلباتهم في تقدمات المعرفة بالله والخدمة لعباد الله مهما كانوا فقراء او اثرياء ، حيث وقفوا كل حياتهم في مرضات الله (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ، عطاء غير مجذوذ ، فهم داخلون فيها دون خروج (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهي المضايف الربانية المخضّرة المحضّرة للمتقين ولهم نعيم مقيم (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما عندهم وعند الناس ، فلذلك يضحون بهما ابتغاء ما عند الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (١٨ : ١٠٧).

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ

١٣٥

خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩٩).

اجل و (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٣ : ١١٥).

فمنهم (لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من كتاباتهم السماوية دونما تحريف وتجديف ، يؤمنون (خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وهي عبارة أخرى عن انهم لا يشترون بها اي ثمن لان ثمن الدنيا كله قليل أمام ما أنزل الله الجليل من الجليل ف «أولئك» الأكارم (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) قدر سعيهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

فهؤلاء هم الكتابيون الذين يؤمنون بهذه الرسالة الأخيرة دونما تعصب على شرعتهم كعبد الله بن سلام والنجاشي ، واضرابهما على مدار الزمن الاسلامي السامي ، مهما نزلت الآية بشأن جموع منهم حضور زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١١٣ ـ اخرج النسائي والبزاز وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن انس قال : لما مات النجاشي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلوا عليه قالوا يا رسول الله نصلي على عبد حبشي فانزل الله الآية.

وفيه اخرج ابن جرير عن جابر ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : اخرجوا فصلوا على أخ لكم فصلّى بنا فكبر اربع تكبيرات فقال هذا النجاشي اصحمة فقال المنافقون : انظروا الى هذا يصلي على علج نصراني لم نره قط فأنزل الله الآية.

أقول : اربع تكبيرات هي حسب مذهب إخواننا ونحن نكبر خمسا كما وصلاة الغائب من مذهبهم ولا نذهب إليها.

١٣٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠).

تلحيقة ختامية لهذه السورة تحلق على كل شروطات الايمان المفلح فرديا وجماعيا ، كنموذجة شاملة كاملة عن ناجح الايمان وفالحه وكل صالحه ، حيث يحافظ على كافة المصالح الايمانية السامية.

هنا يدعم مفلح الايمان على دعائم اربع : الصبر ـ المصابرة ـ المرابطة ـ التقوى ، والنتيجة : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وهذه الأربع كلها مربوطة بسبيل الله لا سواه ، كما الزاوية الرابعة هي تقوى الله في كل شروطات الايمان ولا سيما الصبر والمصابرة والمرابطة.

١ «اصبروا» في الأفراح والأتراح ، في البأساء والضراء ، في تكاليف الايمان ايجابية وسلبية ، فالصبر ـ وهو رأس الايمان ـ هو زاد الطريق في هذه الدعوة الطائلة الشاقة ، الحافلة بالعقبات والحرمانات والشهوات والرغبات ، وعلى تنفّج الباطل ووقاحة الطغيان وفاحشة العصيان ووساوس الشيطان ، وعلى الجملة الصبر في كل عسرة ويسرة على طاعة الله وترك معصية الله ، والقوامة لشرعة الله ، فلا يعني صبر التخاذل والتكاسل والتغافل في حقول الايمان فانه من الشيطان.

ولان واجب الصبر ـ فقط ـ شخصيا لا يفي بصالح الجماعة المؤمنة وحده او صالح عامة الشرعة الإلهية فلذلك :

٢ «وصابروا» : صابروا في مختلف طاقاتكم ورغباتكم صيانة عن تفلتها او تلفتها في غير صالح ، وصابروا مع إخوانكم تعاونا على البر والتقوى ، وتواصيا بالحق وتواصيا بالصبر ، تكريسا لكل الطاقات لحمل بعضكم بعضا على الصبر كما تحملون أنفسكم عليه ، تعاونا وتازرا في التصابر ، وصابروا على شهوات المؤمنين ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم وانحراف طبائعهم

١٣٧

وأثرتهم وغرورهم والتوائهم.

وصابروا على تنفج الباطل وتبلّجه عند اهله ، وعلى انتفاش الشر والضر ، وقلة الناصر ، وكثرة الغادر.

وصابروا على مرارة الجهاد وما تثيره في النفس من مختلف الانفعالات ، في الانتصار والانهزام سواء.

وصابروا أعداء الإيمان في سباق الصمود على العقيدة ، حيث الأعداء يحاولون جاهدين ان يقل صبر المؤمنين فيفلّ ، فلا ينفد صبركم على طول الجهاد ، فذلك رهان في الصبر بينكم وبين أعدائكم ، يبرزون فيه ويبارزون لمقابلة الصبر بالصبر والإصرار بالإصرار ثم تكون لكم عاقبة الأشواط ، فإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي قدما إلى الأمام ، فما أجدر الحق ان يسبق في رهان الصبر.

٣ «ورابطوا» رباطا بين طاقاتكم الشخصية ، وآخر بين طاقاتكم الجماعية ومنها الصلاة جماعة (١) وأخيرا في معارك الشرف والكرامة رباطا في الحرب ورباطا في المحراب ، في الحروب الباردة الدعائية ، وفي الحروب الحارة ، حفاظا على ثغور الإسلام زمنيا وروحيا.

و «رابطوا» في كل ذلك مع قياداتكم الزمنية والروحية المتمثلة في الإمام ، بعد الله وبعد النبي ، فالإمام هو الرباط الأدنى (٢) في هذه الثلاث والله

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١١٤ ـ اخرج جماعة عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا الى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذالكم الرباط فذالكم الرباط فذالكم الرباط.

(٢) نور الثقلين ١ : ٤٢٥ عن تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية : «اصبروا» يقول عن المعاصي «وصابروا» على الفرائض (وَاتَّقُوا اللهَ) يقول ائتمروا ـ

١٣٨

هو الأعلى والنبي هو الأوسط ، والرباط مع القائد يشملهم على مراتبهم متوحدة في سبيل الله (١).

__________________

ـ بالمعروف وانهوا عن المنكر ثم قال : وأي منكر أنكر من ظلم الامة لنا وقتلهم إيانا «ورابطوا» يقول في سبيل الله ونحن السبيل فيما بين الله وخلقه ونحن الرباط الأدنى فمن جاهد عنا فقد جاهد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما جاء به من عند الله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وفيه في رواية اخرى عنه (عليه السلام) «ورابطوا قال : المقام مع إمامكم» .. وفيه عن أبي جعفر (عليهما السلام) «وصابروا» يعني التقية «ورابطوا» يعني الائمة ، وفي المعاني عن الصادق (عليه السلام) في الآية اصبروا على المصائب وصابروهم على الفتنة ورابطوا على من تقتدون به.

(١) الدر المنثور ٢ : ١١٤ ـ اخرج ابو نعيم عن أبي الدرداء قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا ايها الذين آمنوا اصبروا على الصلوات الخمس وصابروا على قتال عدوكم بالسيف ورابطوا في سبيل الله ، وفيه عن فضالة بن عبيد سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : كل ميت يختم على عمله الا الذي مات مرابطا في سبيل الله فانه ينمو عمله الى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر ، وفيه عن ابن عابد قال خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جنازة رجل فلما وضع قال عمر بن الخطاب لا تصل عليه يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانه رجل فاجر فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الناس قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : هل رآه احد منكم على الإسلام؟ فقال رجل نعم يا رسول الله حرس ليلة في سبيل الله فصلى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحثى عليه التراب وقال : أصحابك يظنون انك من اهل النار وانا اشهد انك من اهل الجنة ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) يا عمر انك لا تسأل عن اعمال الناس ولكن تسأل عن الفطرة ، وفيه اخرج ابن ماجة عن أبي بن كعب قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم اجرا من عبادة الفي سنة صيامها وقيامها فان رده الله الى اهله سالما لم تكتب له سيئة وتكتب له الحسنات ويجري له اجر الرباط إلى يوم القيامة ، وفيه اخرج البيهقي عن أبي امامة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ان صلاة المرابط تعدل خمسمائة صلاة ونفقة الدينار والدرهم منه أفضل من سبعمائة دينار ينفقه في غيره.

١٣٩

ولقد كانت الجماعة المؤمنة لا تغفل عيونها أبدا ، ولا تستسلم للرقاد ، فما هادنها أعداءها قط منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة ، اللهم إلا من حمّلوها فلم يحملوها فأصبحوا غثاء للنسناس إذ لم يلتزموا بشرعة الناس ، وطاعة إله الناس.

فلا بد من مرابطة دائمة في الثغور العقيدية والأخلاقية والعلمية الثقافية ، والسياسية ، والاقتصادية والحربية ، حيث الكل هي ميادين السباق بين الكتلة المؤمنة والزمرة الكافرة ، فالعلماء الربانيون مرابطون في الحقول الروحية كما هم قواد في سائر الحقول.

والجيوش الإسلامية مرابطون في الحروب الدامية الحامية المستمرة بين فريقي الحق والباطل ، والأغنياء الأثرياء المؤمنون مرابطون في الحقول الاقتصادية.

والساسة الأزكياء الأذكياء مرابطون في ميادين السياسة بكل حراسة وكياسة.

وكل هؤلاء المرابطون يترابطون فيما بينهم لتنسيق الوحدة ووحدة التنسيق ، حتى يصبحوا يدا واحدة على من سواهم ، تسعى بذمتهم أدناهم.

٤ (وَاتَّقُوا اللهَ) في الصبر والمصابرة والمرابطة ألا تتفلت عن سبيل الله ، (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل حركات الحياة وسكناتها ، وفي كل ثكناتها الحربية ضد أعداء الايمان.

فالتقوى والتقوى فقط هي الحارسة اليقظة في كل كارثة سلبية او ايجابية ، فهي هي زاد الطريق وراحلتها (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وهذه التفاصيل هي قضية الإطلاق في هذه القواعد الأربع ـ ف :

«اصبروا» في ـ على ـ ل ـ من .... «وصابروا» بين ـ في ـ ل ـ

١٤٠