الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٦٥ : ٢) ، اللهم إلا أن تنسخ «أربعة» توسعة أو تضييقا ، ولا نسخ فيما نعرف ، وليست السنة بمستأهلة لنسخ القرآن على أية حال.

والقول الفصل هنا أن (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) إنما تأتي في واقع الفاحشة الثابتة ، و (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) ليست إلا فيما لم تحضر الشهود عند الحاكم الشرعي ، ولا تعني إلا إذا كانت هناك شهود في علم المدعي ثبوت الفاحشة ، مهما كان هو منهم ، وكذلك حين يرى الفاحشة بمرأى من الناس فعليه أن يستشهد آخرين حتى تكمل الشهادة ، فلا تعني ـ فاستشهدوا فيما عنت ـ اختلاق شهود ، وإنما شهود كانوا حاضرين ، أم وحاضرين لم يشهدوا فيحملهم على تحمل الشهادة الواجبة كما يتحملها هو.

والذي يعلم قد يعلم دون شهادته نفسه أو بشهادته نفسه ، وهما معنيان في حقل (اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) سواء أكانا من الحكام الشرعيين أم سواهم فعليهم في ظرف العلم ـ أيا كان ـ استشهاد أربعة رجال ، ولا استشهاد ـ بطبيعة الحال ـ إلا فيما يعلم المدعي ان هناك شهودا.

فليس لمن لا يعلم الفاحشة استشهاد ولا ادعاء ، ولا لمن يعلم الفاحشة ولا يعلم أن هناك شهودا أن يستشهد فان ذلك اما اختلاق للشهود ام تجسّس عمن يحتمل انهم شهود.

فحين يتبين لمسلم ـ حاكما وسواه ـ أن فلانة أتت بالفاحشة وان هناك شهودا بشرائطها ، فإن كان هو من الشهود فليكمل بثلاثة آخرين ، وإلّا فأربعة كاملة دونه ، و (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) ليس إلا اعتبارا باحتمال أن العالم بالفاحشة ليس من الشهود ، ف «أربعة» تعمه والذي هو من الشهود.

ولأن تلقي الشهادة في الفاحشة واجبة على من يتمكن منه ، لغرض إلقاء الشهادة عند الحاكم الشرعي حفاظا على العفاف الجماهيري بين المسلمين وسياجا

٣٤١

عن هذه الشذوذات الجنسية الجاهرة ، فاستشهاد من يعلم الفاحشة شاهدا وسواه واجب عليه كما عليه استشهاد الحضور في عملية الفاحشة ولمّا يشهدوا ، فعلى المستشهد بهم الحضور لأداء الشهادة ، فإن واجب الاستشهاد على العالم بالفاحشة يقتضي واجب القبول من الشهداء وإلّا لكان تكليفا بما لا يتمكن من تحقيقه لو لم يجب قبول الشهادة من المستشهد بهم.

وكيف لا يجب قبول الشهادة في الفاحشة وهو واجب في الدين (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (٢ : ٢٨٢) وواجب في كافة الشهادات (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢ : ١٤٠).

وترى (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) تعم المساحقة الى الزنا ، ولزام الشهادة في المساحقة أن تكون من النساء أنفسهن؟.

إن كل شهادة تناسب الفاحشة المشهود عليها ، ففي اللواط والزنا ليست إلا (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) وأما المساحقة فلا أقل من قبول شهادة النساء ، ولا بأس أن تقيد السنة الشهادة في فاحشة المساحقة ، لا سيما وانها أخفي مصاديق الفاحشة.

ولكن لم تثبت في السنة نوعية الشهادة للمساحقة ، فالمرجع هو طليق الآية.

إذا فلا تثبت مثلث الفاحشة إلّا بأربعة منكم ، وتلقي فاحشة المساحقة كما الزنا لا ينافي شهادة الرجال ، وخوض الرجال في أمثال هذه الميادين أبعد عن الكذب وأقرب الى العفاف.

ولولا نص القرآن في انضمام شهادة امرأتين برجل في الدين لكان الأصل

٣٤٢

فيه ايضا شهادة الرجال ، فلا تقبل شهادة النساء إلا فيما لا يعلم إلا من قبلهن كالعذرة والحمل والطهارة وسواها.

ذلك! إضافة الى أن تحمّل الشهادة في الفاحشة للنساء هو نفسه قد يعد من الفاحشة ـ اللهم إلا في المساحقة ـ فلا تقبل شهادة النساء في الزنا واللواط.

وهل تشترط العدالة في «أربعة» كما هي مشروطة في شاهدي الطلاق؟ أم ـ ولأقل تقدير ـ الوثاقة كما في شاهدي الدّين (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ)؟.

(أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) تشترط فقط الإسلام دون عدالة ـ أم ـ ولا وثاقة! ولكن كيف تصح شهادة الفساق على الفاحشة وهذه الشهادة فاحشة لا تثبت بها فاحشة.

(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٤٩ : ٦) ـ وقد نزلت بشأن الشاهد الفاسق في حقل الفاحشة ـ! إنها تخصص (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) بمن لم يثبت فسقه ، ثم «فتبينوا» تثبت بصورة عامة شرط الوثاقة وهي أعم من العدالة ، فلتكن (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) موثوقا بهم في حقل الشهادة مهما لم يكونوا من العدول ، والاكتفاء بالوثاقة في حقل الشهادة على الفاحشة هي طبيعة الحال ، إذ لو شرطت العدالة لاستحالت تلك الشهادة ، وتلقيّها ليس إلا أمرا عابرا للعابرين على محضر الفاحشة ، فإن عبور العدول على الفاحشة البينة قلة وإن عبروا فتلقيهم قلة لأنه ليس واجبا عينيا وللعادل التقي أن يتحذر عنه ما لم يفرض عليه عينيا ، ثم ونفس هذه الفاحشة قلة قليلة ، فلا تثبت ـ إذا ـ فاحشة بهذه المضايقة في الشهود أن يكونوا عدولا ، فإنما يكتفى بوثاقتهم ، أو عدم تبين الفسق فيهم.

فعند ثبوت الفاحشة عندكم (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) لإجراء حدود الله عليهن ، او الشهود الأخر ثلاثة إن كان الرامي من الشاهدين ، وإلا

٣٤٣

فأربعة إن لم يكن وإنما علم من طرق أخرى.

(فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) بيوتهن أو بيوت أزواجهن أو أهليهن ، فالممسك لهن هو البيت الأنسب الأحق لهن ، الأحفظ لعفافهن والأضبط عن تفلتهن.

والمأمور بالإمساك ككل هو الحاكم الشرعي مهما كان هو المستشهد أم سواه ، أم هو الشاهد أمّن سواه ، كما أنه المشهود عنده إذا لم يكن هو شاهدا من الأربعة ، ثم المنفذ لذلك الإمساك هم الأزواج والأهلون ، ام والرقابة عليهن من الحكام.

وذلك الإمساك لهن سياج صارم لا مرد له ، حيث التعرض للفاحشة في قبيل النساء لا مجال له عاديا إلّا الخروج عن بيوتهن ، فأسلم السبل وأسبلها لصدهن عن إتيان الفاحشة ـ قبل سائر السبل ـ هو الإمساك في البيوت ، نفيا عن مخالطتهن بالمجتمع حفاظا عليها وعليهم وبالتالي سلبا عن زواجهن إن لم يكن لهن أزواج ، فتركا ـ إذا ـ لكل النشاطات التي تستلزم الخروج عن البيوت.

وأما الرجال فليس إمساكهم في البيوت أو السجون سبيلا لهم صالحة لإمساكهم عن الفاحشة حيث الحياة المعيشية لا تصلح إلا بخروج الرجال ، فلا بد لهم من سبيل أخرى كالإيذاء المذكور في الآية التالية.

ذلك! وفي تحرير الفاحشات في المجتمع الإسلامي الطاهر تغرير للمحصنات بشذوذاتهن جنسيا ، وفسح لمجال الفحشاء للرجال ، اللهم إلّا بسبيل أخرى هي سياج آخر عن ذلك الشذوذ.

إذا (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) حتى متى؟ (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) وتوفي الموت هو أخذه إياهن عن أصل الحياة ، فلا يعني التوفي الموت كما يعنيه الموت ،

٣٤٤

إنما هو الأخذ ، فقد يتوفى النوم (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (٣٩ : ٤٠) وأخرى يتوفى الحياة فوق الأرضية عن الحياة الأرضية ك (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) وثالثة الموت حيث يأخذ الحي عن أصل الحياة.

(أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) هي لهن أسهل ، ولكرامتهن أجمل ، ولصدهن عن الفاحشة أكمل ، فلا تعني ـ إذا ـ سبيلا عليهن أعضل وعذابا كالرجم أشكل.

فهذه التلحيقة تبشيرة لهن بسبيل أخرى مهما كانت وحيدة أو عديدة ، فمنها الحد المقرر في النور لهن والمساحقات وللزانين : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ..) فإنه ينسخ حد إمساكهن في البيوت كما ينسخ طليق الإيذاء بالنسبة للزانين ، اللهم إلّا من لم تثبت عليه الفاحشة ، فالإيذاء لزامه وهو طبعا دون الحد ، فهو القدر الذي ينتهي به عامل الفحشاء عن الفاحشة.

ومنها توبتهن عن الفاحشة قبل الإمساك في البيوت أم ضمنه (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) إمساكا وإيذاء (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) ولكن التوبة مكفرة كضابطة حسب كل آيات التوبة منذ بداية العهد المكي حتى آخر العهد المدني ، إذا فقد لا تعنى التوبة من السبيل فيما عنته السبيل ، اللهم إلّا أن تعنى خاصة التوبة هنا لمكان «أصلحا» وإن آيات التوبة ليست لتعم الآتية بالفاحشة المحدد لها الحدّ كما هنا إلا بهذه التصريحة.

ذلك! وأما الرجم الخاص بحالة الإحصان فليس لهن سبيلا بل هو عليهن ، حيث السبيل لهن بعد حكم إمساكهن في البيوت هي السبيل الصالحة الأسهل من الإمساك ، كالتوبة للتائبة والحدّ لغير التائبة ، أو التائبة بعد القدرة عليها فإنه توبة من بعيد.

٣٤٥

فالقصد من السبيل لهن هنا هو التوبة المقبولة والحد المذكور في النور ، والرجم غير مقصود بهذه السبيل مهما ثبت بالسنة على المحصنين والمحصنات ، أم إن القصد من ضمير الجمع في «لهن» (اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) ككل ، ثم الاستثناءات لها دور آخر ومنها المحصنين والمحصنات ، وليست «لهن» تشمل الرجم ، فإنما ثبت بالسنة.

وترى كيف يكون الجلد لهن سبيلا وسبيل التوبة قبل نزول الجلد أسهل من إمساكهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ، فحين تتوب بعد الإمساك يخلى عنها؟.

إن «سبيلا» هنا الشاملة لمثلث التوبة والجلد والرجم ، هي في مجموعها «لهن» مهما كان البعض منها في البعض من حالاتهن عليهن.

فحين تتوب ضمن إمساكها فهي سبيل لها ، وحين لا تتوب حتى آخر العمر فمائة جلدة سبيل لها ، أيا كانت سائر السبيل عليها ، ف «لهن» حين تعم ما لهن وما عليهن تصلح جامعة لهما ، إضافة الى أن الحد أيا كان فهو لصالحهن مهما كان موجعا ، فلا يحكم الله بحد على أي حد إلّا لصالح الطالحين أن يرجعوا عن غيهم ويتخلصوا عن عيّهم ، أم تخفيفا عن عذابهم بعد الموت.

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) وتراهما الذكرين في فاحشة اللواط لمكان التذكير في «اللذان»؟ ولا يختص ضمير الغائب باللواط ، بل «الفاحشة» ككل ، مهما اختصت في النساء بغير اللواط! ثم يهمل حد الزانين بعد حد الزناة كأن لا حد عليهم وهم أغوى فاحشة وأقوى فاعلية في الزنا وسائر الفحشاء!.

ولا بالآتين الفاحشة زنا ولواطا من الرجال قضية طليق الاستخدام في المرجع «الفاحشة»

٣٤٦

ف «اللذان» قد تجمع كلّ الآتين ثالوث الفاحشة فاعلا ومفعولا ، كاللوطيين والزانيين والمساحقتين حيث المقطوع به هنا استخدام «الفاحشة» مرجعا لضمير «يأتيانها» والإيذاء تأديب عام في ثالوث الفاحشة ، فهي ضابطة عامة في حد الفاحشة في مثلثها من القبيلين ، بعد التصريح بحد (اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) فقد كفى إمساكهن في البيوت أذى لهن ، ثم غيرهن يؤذى حسب ما يراه الحاكم صالحا لإمساكه عن الفاحشة.

فاللاتي يأتين الفاحشة ولم تكن عليهن شهداء منكم فلا تخليد في بيوتهن ، إلا إيذاء لهن وسياجا عليهن تقليلا من خروجهن ورقابة مدخلا ومخرجا.

ثم الزاني واللائط والملوط به يؤذون تأديبا إذا ثبتت عليهم الفاحشة بالبينة ، فأما إذا لم تثبت بالبينة وإنما ثبتت بحضرتك أم علمك فيؤذون دونها وطبيعة الحال قاضية بالفرق بين الإيذائين كالفرق بين دركات الفاحشة في حدودها.

وقد ثبت بآيات اللواط حد القتل فعله هو المعني بإيذاء اللوطيين إن ثبت بالشهود ، ولكن الإيذاء لا يعم القتل ، ولم يثبت لمجرد اللواط إلّا مائة جلدة في السنة ، الثابتة بالقرآن في الزنا ، وكما في المساحقة.

وشهادة النساء في الفواحش الجنسية ممنوعة إطلاقا فإن تلقيها واجب وقد قرر له الرجال كما عليهم الشهادة لطليق (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) في الفاحشة.

وبخصوص المساحقة التي قد يظن جواز شهادة النساء فيها (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) بإطلاق لها كالنص تمنع عن شهادتهن فيها كما في اللواط والزنا ، فحد المساحقة وشهادتها مع الزنا متماثلان (١) وقد تلمح له (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ

__________________

(١) ومما يدل عليه صحيحة محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام ـ

٣٤٧

سَبِيلاً) فقد تعني «الزانية» في آية النور المساحقة الى الزانية اعتبارا بإن التخلف الأنثوى زنا على أية حال وكما وطئهن من الدبر زنا ، وقد جعل الله «لهن» : (اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) جعل لهن سبيل ذلك الحد ، فلئن لم تكف «الزانية» شمولا للمساحقة فشمول «الفاحشة» لها وآية النور للّاتي يأتين الفاحشة قد يكفي دلالة ظاهرة على ذلك الشمول.

ذلك ، وماذا نسخت آيات النور من هذه الآية؟

إنها نسخت ـ فقط ـ حد الإمساك في البيوت بحق الفاحشات حدا ، وبحق الفاحشين إيذاء طليقا بعد إقامة البينة ، فالإيذاء بثبوت دون بيّنة غير منسوخ بآية النور ، كما أن (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) غير منسوخ بل وهي متأيدة بأربعة النور ، بل والإمساك ليس منسوخا بها لمكان (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) المصرحة بان الإمساك حكم عليهن محدد حتى تأتي سبيل أخرى وقد أتت.

ثم الإيذاء يقدر بقدر الفاحشة كما وكيفا ، كما يقدر بقدر الانتهاء عنها ،

__________________

ـ يقولان : بينا الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين (ع) إذا أقبل قوم فقالوا : يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين (ع) قال : وما حاجتكم؟ قالوا : أردنا أن نسأله عن مسألة قال : وما هي تخبرونا بها؟ فقالوا : امرأة جامعها زوجها فلما قام عنها قامت بحموتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها فوقعت النطفة فيها فحملت فما تقول في هذا؟ فقال الحسن (ع) معضلة وأبو الحسن لها وأقول فإن أصبت فمن الله ثم من أمير المؤمنين (ع) وإن أخطأت فمن نفسي فأرجو أن لا أخطأ إن شاء الله تعالى ، تعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أوّل وهلة لأن الولد لا يخرج منها حتى تشقّ فتذهب عذرتها ، ثم ترجم المرأة لأنها محصنة وينتظر بالجارية حتى تضع ما في بطنها ويرد الولد إلى أبيه صاحب النطفة ثم تجلد الجارية ، قال : فانصرف القوم من عند الحسن (ع) فلقوا أمير المؤمنين (ع) فقال : ما قلتم لأبي محمد (ع) وما قال؟ فأخبروه فقال : لو أنني المسؤول ما كان عندي أكثر مما قال ابني (الكافي ٧ : ٢٠٢) والتهذيب بسند آخر في حدود السحق رقم (٤) عن عمرو بن عثمان.

٣٤٨

ابتداء باللسان وانتهاء بالضرب كما في باب النهي عن المنكر ككل ، فلا يؤذى بالضرب من ينتهي باللوم ، ولا يكتفى باللوم من لا ينتهي إلا بالضرب ، وليس الإيذاء ـ فقط ـ نهيا عن استمرارية الفاحشة ، بل هو حد ونهي ، فإن تاب وأصلح فلا إيذاء مهما كانت التوبة قبل الإيذاء حيث يزول الحد بهما (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً).

ذلك ، (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا) توبة الى الله عن الفحشاء وإصلاحا بها وبعدها ، فقد يتوبان عما سلف دونما تصميم على تركها بعد ، أم يتوبان نصوحا دونما إعلان للذين شهدوا الفحشاء أم عرفوها ، فهاتان من التوبة غير المصلحة مهما كانت صالحة في نفسها بقدرها ، وطليق «أصلحا» يعمم الإصلاح ما أمكن فيما أفسدا ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

والتفريع في «فإن» يؤذن بإن الحد والإيذاء محدودان بما قبل التوبة المصلحة ، (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا) من ذي قبل فلا حد ولا إيذاء ، ولا سيما إذا كانت التوبة قبل الشهادة.

(فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) على أية حال ، فإن كانت التوبة قبل الإيذاء فإعراضا عن أصله ، وإن كان ضمنه فإمساكا عنه (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) توابا على التوابين ، رحيما بالمسترحمين.

وفي ذلك الاعراض سلبية الإيذاء وإيجابية الإصلاح ، فكما التوبة منهن اعراض عن الفاحشة والإصلاح تطهير لهن عن مخلفاتها ، كذلك على المجتمع الإسلامي التماشي والتجاوب معهن مساعدة لهن في كلتا المرحلتين (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً).

إذ كما أنه هو الذي شرع العقوبة كذلك هو الذي أمر بالكف عند التوبة والإصلاح ، فإنما المخاطبون في (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) هم أداة تنفيذ لما يأمر الله ،

٣٤٩

ليس لهم من الأمر شيء إلّا إياه ، وعليهم الاقتباس من خلق الله أن يكونوا فيما بينهم متسامحين ما وجدوا لها سبيلا.

ليس ذلك تسامحا عن الجريمة ورحمة بعمال الفحشاء ، وإنما هو سماحة ورحمة بالتائبين المصلحين ، دون أي تذكير وتعيير بسابق فحشاءهم ، بل مساعدة لهم على استئناف حياة جديدة طيبة نظيفة تناسيا عما سلف ، فإن ذكر الذنب يحمل المذنب على النكسة والركسة وعلهما الأنكس والأركس من الأولى.

وهكذا يواجه الإسلام الجاهلية في كل أبعادها ، طبيبا دوارا بطبه ، يضع الدواء حيث الحاجة إليه ، ولا سيما أمام الفوضى الجنسية والانطلاق البهيمي اللذين يعتبران في الجاهلية الحاضرة والغابرة مظهرا من مظاهر الحرية الشخصية لا يقف في وجهها ـ على حد زعمهم ـ إلا كل متعنت متزمت!.

فكما المجتمعات الجاهلية تتعاون بكل اجهزتها على تحطيم الحواجز الأخلاقية ، فعلى المجتمعات الإنسانية تحطيم الجاهليات بكل صورها وسيرها ، وتقديم الإصلاحات بكل وسائلها وحصائلها.

حصيلة البحث حول آيتي الفاحشة :

آية النور تبين «سبيلا» الموعودة في آية النساء فلا نسخ إذا حيث النسخ هو إزالة حكم عن بكرته أو توسعة فيه أو تضييق بعد العمل به وموقف آية النور ليس إلّا التبيين.

كما النسخ في سائر موارده ليس إزالة لحكم كيفما كان ، فإنما هو تبيين أمد الحكم السابق الذي لم يخلد بخلد أن له أمدا ، حيث الأحكام الإسلامية كما الإسلام مخلدة حتى آخر زمن التكليف ، فما النسخ إلّا بيانا أن للحكم السابق أمدا وقد انتهى.

٣٥٠

وقد تشمل «الزنا» المساحقة اعتبارا بأنها انحراف جنسي انثوي كما الرجولي في اللواط ، بل هما أسوء سبيلا من الزنا فلا أقل من تشابه الحكم شهودا وحدا في هذه الثلاث كما جمعت في (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) وضمير الغائب المؤنث راجع الى الفاحشة المعنية منها الزنا والمساحقة.

المطلع على الفاحشة عليه أن يستشهد أربعة وشاهدها ثلاثة ، سواء أكان هو الحاكم الشرعي ام سواه ، والاستشهاد يعم محضر الفاحشة العلنية بالفعل فإن على الشاهد أن يستكمل الشهادة بحمل الآخرين مثله على تحمل الشهادة ، ام الشهادة الكاملة الحاصلة من ذي قبل ، فعلى كل من الشهود ان يستحث الباقين لإلقاء الشهادة ، كما على العالم غير الشاهد أن يستشهد الشهود الأربع لإلقائها.

«فآذوهما» ضابطة عامة بالنسبة للآتين الفاحشة في ثالوثها الجنسي ، فإن ثبتت بأربعة منكم فإيذاء في اللواط وبالنسبة للزاني أكثر مما لم تثبت بهم ، حيث الثابتة بشهود فاحشة ذات بعدين أبعدهما التجاهر الهاتك للعفة العامة بين المسلمين ، وإن لم تثبت بهم فإيذاء دون ذلك وليس ـ فقط ـ نهيا عن المنكر حيث الإيذاء هو الشوط الأخير منه وليس حكمه الحاكم ككل.

ولم تنسخ آية النور إلا شاكلة الحدّ في الفاحشات وحد الإيذاء في الزاني وأما قبل الثبوت بأربعة منكم فحكم الإيذاء باق كما كان.

وقد تلمح «فإن تابوا» أن الإيذاء معنيّ بالتوبة المصلحة ، فإن تابا وأصلحا قبل الإيذاء فلا إيذاء ، وإن استمرت الفاحشة فمستمر الإيذاء ، اللهم إلا أن تثبت بالشهود فمائة جلدة كما في آية النور.

فكل من رأى فاحشة من الثلاث عليه أن يستشهد مع إيذاء صاحبها ، فإن شهدت الأربع فمائة جلدة ، وإلا فالإيذاء ممن يرى دون النهي عن المنكر فقط.

٣٥١

ولا يشمل الإيذاء القتل ، بل ولا الكسر والجرح ، إنما هو تضييق على فاعل الفاحشة ليرتدع.

ومما تدل عليه «فآذوهما» عدم جواز قتلهما مهما كان الناظر زوجا أم سواه ، فلا يجوز قتلهما إطلاقا للناظر ، فإنما الإيذاء ان لم تكن شهود ثم اللعان من الزوج كما فصلناه في آيات النور.

وليس أمر الإيذاء هنا يخص حكام الشرع ، اللهم إلا فيما ثبت بالشهادة ، فكل شاهد دون الشهادة عليه إيذاء من يأتي بالفاحشة حالها وبعدها لغاية التوبة والإصلاح قدر ما يكفي لتحصيلهما ، اللهم إلا الثابتة بالشهادة فإنها تزيد إيذاء وهو على عاتق الحكام الشرعيين.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧).

«التوبة» في الأصل هي الرجوع ، وهي من العبد الرجوع إلى الله عما أساء ، ومن الله الرجوع على العبد بسابق رحمته وسابغها بقبول توبته ، وتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله: (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (٩ : ١١٨) ـ (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (٥ : ٣٩).

والتوبة فيما يرجع إلى الله هي مثلثة الزوايا ، من مفروضة على الله بما فرضها الله على نفسه : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ ..) ومرفوضة عند الله (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) وعوان بينهما ككل من سواهما مهما اختلفت الدرجات.

فالعبد قد يعمل السوء بجهالة وغلبة الشهوة والشقوة وضعف القدرة في الاستقامة ثم يتوب من قريب دونما تسويف ، فالتوبة عليه هي المفروضة على الله بما فرض و (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ

٣٥٢

وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦ : ٥٤) فقد تعني «من بعده» ما عنته هنا «من قريب» ما صدق أنه قريب : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦ : ١١٩).

نصوص ثلاثة يكتب الله فيها على نفسه الرحمة التوبة ـ ويعد ـ على تائبين من عباده الخصوص ، دونما حول عنها ولا تحويل.

ولا يعني الفرض على الله ما يعنيه على المكلفين ، فانه فيهم يخلّف وجوب التوبة ، أو استحقاق الذم والعقوبة ، وفي الله يخلّف خلاف العدل تخلّفا عن الوعد ، وذلك قضية أنه هو الذي كتب على نفسه رحمة التوبة لا سواه ، حتى يكون في تركها كمن سواه.

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٨).

(يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ككل ودون إبقاء ، وهناك «السوء» بجهالة أم سواها ، مستمرين فيها دونما توبة (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) لا أنه تاب ، فلو تاب مهما كانت عند رؤية البأس فعسى الله أن يعفو عنه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٠ : ٩٨).

فقولة التوبة والإيمان عند الموت وعند رؤية البأس لا تنفع ، اللهم إلا واقعها وقليل ما هو لهؤلاء الذين عاشوا عصاة أو كافرين (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٨١) : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي

٣٥٣

آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١٠ : ٩١) (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (٦ : ١٥٨).

اجل (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) مهما قالوا قولة الإيمان كفرعون لما أدركه الغرق.

ذلك ، وأما العوان بينهما : بين توبة مفروضة على الله ومرفوضة ، فإن شاء تاب وإن لم يشأ لم يتب ، ايجابية وسلبية حكيمة حسب الظروف المواتية المساعدة وسواها ، فهم أولاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يسوّفون التوبة ، ام يعملون السوء على عمد تابوا من قريب أم سوفوا أمّن ذا من هؤلاء الذين يتوبون مصلحين ما قدروا عليه مهما كان عند رؤية البأس والموت ، فقد يتوب الله عليهم وقد لا يتوب ، وكما تقتضيه الرحمة والعدالة الربانية : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (٣٣ : ٢٤) وذلك حين يتوب المنافق من بعيد ولا سيما عند الموت وعند رؤية البأس.

ف (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى ..) فرضا للأولين ، (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) إطلاقا لا على الله ولا لله للآخرين ، ثم تكون التوبة لله ـ لا مفروضة عليه ولا مرفوضة عنده ـ للعوان بين الفريقين ، إذا ففي واقع التوبة إلى الله أينما حصلت توبة من الله محتومة أم مرجوة على شروطها المسرودة في الذكر الحكيم : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (٥ : ٣٩) مهما سوّف التوبة عن سوء عامد فعوان بينهما ، أم تاب من قريب عن سوء بجهالة فمفروض على الله ، والمسوّف العامة هو داخل في نطاق (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٩ : ١٠٦) وذلك بعد الإعلان العام (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٠٤).

٣٥٤

والجهالة التي تقرض التوبة على الله ليست هي الجهل بحكم الله قصورا او تقصيرا ، ألّا يرى السوء سوأ ثم بعد العلم يتوب من قريب حيث العصيان مع الجهل بالحكم او الموضوع ليس عصيانا مهما كان مقصرا في جهله ، حيث الجهل هنا هو العصيان لا العمل الجاهل ، و «كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه ..»(١) فليست هي الجهالة بل هي الحماقة على علم بالسوء ، أن غلبت عليه شقوته وشهوته دونما تهتك لساحة الربوبية ، ولا تعمد عصيان ، فلذلك يتوب من قريب لما خمدت نيران شهوته وزال غبارها عن وجه ايمانه ندمانا أسفا.

وأما المسوف للتوبة فهو العامد ، أو المستغل شطرا من حياته للسوء رجاء التوبة قبل الموت أم بعد ردح يقضي فيه وطره.

والجهالة على علم اثنتان أخراهما أن يجهل عقاب الله ويتجاهل حضوره وحكمه كسنة في حياته بقليل أو كثير ، والجهالة في الآية هي الأولى ، دون العامة التي هي لزام كل عصيان أيا كان.

ومن الأولى المعنية هنا (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) ـ (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ـ (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فانها وأضرابها تعني الجهلالة على علم دون طليق الجهل حكما او موضوعا ، وانما جهالة بحضرة الربوبية غفلة عنها وتساهلا.

فالأصل في حقل التوبة هو الإيمان والاعتراف بالذنب والندم عليه : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٥٧ المجمع عن أبي عبد الله (ع) ... فقد حكى الله سبحانه وتعالى قول يوسف لإخوته (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.

٣٥٥

عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٠٢).

وهم المرجون لأمر الله (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦).

ثم التوبة من الله واجبة أم مرجوة ـ مشروطة بشروط عدة ، لا توبة كاملة إلّا بها ، أن تكون نصوحا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (٦٦ : ٨) والإيمان والعمل الصالح بعدها : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٢٥ : ٧٠) والإصلاح والبيان : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) (٣ : ١٦٠) وجماع الأمر في التوبة الصالحة هو الذي يرجع فيه التائب إلى حالته الشخصية والجماعية قبل العصيان ، إصلاحا خارجيا بعد إصلاح داخلي وهو يختلف حسب اختلاف حقول العصيان وإبعاده بآثاره وأبعاده.

فالذي ضل وأضل آخرين ليست توبته ـ فقط ـ إصلاح نفسه ، بل وإصلاح الآخرين ، فلو تاب الله عليه ولمّا يصلح المضلّلين ام لم يسطع عليه ، كانت هذه توبة من الله ظالمة بحق المضلّلين ، واما الظلم في غير الإضلال فقد توجد للتوبة عنه سبيل دون ذلك ، كأن يعمل من الصالحات وهو لا يسطع على رضى المظلوم فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم قضية رحمته الواسعة ، ما لم يناف العدل ، فقد كتب على نفسه العدل كما كتب على نفسه الرحمة.

ذلك ، وأما التوبة عما عصى الله ، بينه وبين الله ، دونما تعدّ على عباد الله ، فقد يكفي في توبته إلى الله واقعها النّصوح مهما كان عند الموت ، ولكن قبولها ليس على الله فهو من (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ).

فإنما التوبة الواجبة على الله إلى عبده هي في سيئة عن جهالة ثم توبة من قريب ، دون فصل أم بفصل قريب غير غريب لكيلا يعد من المصرين العامدين

٣٥٦

غير النادمين (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) ومن سواهم ف (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).

والقول انه لن تقبل التوبة عند الموت لأنها رجوع إلى عبودية وليست إلّا في حياة التكليف الراحلة عند الموت ، مردود بأن أصل التوبة هو الرجوع إلى الله (تُوبُوا إِلَى اللهِ) مهما كان نصوحها إصلاح المستقبل في التصميم إن كان ، ثم والرجوع إلى العبودية لا واقع له للتائب عن الكفر الذي نشأ عليه منذ بداية التكليف ، فهلا توبة له إطلاقا إذ ليست له سابقة عبودية ، وواقع العبودية بعد التوبة للذي عاش كافرا ليس رجوعا الى العبودية بل هو رجوع الى الله ، الصادق فيه وفيمن يتوب إلى الله عند الموت.

ذلك ، فأصل التوبة ـ إذا ـ مقبول مهما لم يسطع التائب على شروط لها قضية انقضاء المجال فقد تقبل تماما إذا لم تكن التوبة عن مظالم فادحة غير منجبرة ، ثم وفيها أيضا يخفف عنه بالنسبة لحق الله مهما ظل عليه حق الناس.

فواقع التوبة مقبول على أية حال بالنسبة لساحة الربوبية ، محتوما أم مرجوا ، شرط أن تكون نصوحا مهما لم يبق مجال لمستقبل ، ثم التبعات الأخرى للعصيان ـ أيا كان ـ قد تغفر وقد لا تغفر ، والمغفرة هي الأصل ما كان لها مجال في حقل العدل والرحمة ، فلا يستثنى إلّا المغفرة الظالمة بحق الظالمين ، وقد يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله عن الله تعالى : «وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام فيه روح» (١) و «ان الله يقبل توبة العبد ما لم

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٣٠ ـ أخرج ابن جرير عن الحسن قال بلغني أن رسول الله (ص) قال : ان إبليس لما رأى آدم أجوف قال : وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح فقال الله تبارك وتعالى : ...

٣٥٧

يغرغر» (١) والتفصيل بين الجاهل والعالم في قبول التوبة (٢) خلاف الآية إلا ان يؤوّل إلى صعوبة قبولها عن العالم.

ثم (الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) وطبعا دون قالة التوبة ولا واقعها ، ليست توبتهم غير المقبولة إلا بعد الموت ومنهم القائلون (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) فيجابون (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها).

فقالة التوبة دون حالتها عند الموت ، وواقعها بعد الموت ، هي مرفوضة مرضوضة ، وواقع التوبة بين مفروض القبول ومرجوه كما فصلناه على ضوء الآية.

__________________

(١) المصدر ـ أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي (ص) قال : ... وفيه أخرج البيهقي في الشعب عن رجل من الصحابة سمعت رسول الله (ص) يقول : ما من إنسان يتوب إلى الله عز وجل قبل أن تغرغر نفسه في شدقه إلّا قبل الله توبته.

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر وقال : من تاب قبل موته بفواق يتب عليه قيل ألم يقل الله : وليست التوبة للذين يعملون السيآت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن؟ فقال : إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله (ص).

أقول : لا منافاة بين الآية وهذه الرواية حتى يحتج بها ضدها فإن مورد الآية قولة التوبة عند الموت ومورد الرواية واقعها.

وفيه أخرج أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردوية عن أبي ذر أن رسول الله (ص) قال : «إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب قيل وما وقوع الحجاب؟ قال : تخرج النفس وهي مشركة»

وفي نهج البلاغة عن الإمام علي (ع) من أعطي التوبة لم يحرم القبول قال : «إِنَّمَا التَّوْبَةُ ...».

(٢) نور الثقلين ١ : ٤٥٦ في أصول الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (ع) يقول : إذا بلغت النفس هاهنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة ، ثم قرء (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ).

أقول : والآية تنفي واجب التوبة لا مرجوها.

٣٥٨

فقد تسد باب التوبة ان سوفت حتى الموت فقال اني تبت الآن ، ام تاب خوفة من الموت ام تاب بعد الموت ، ثالوث التوبة غير المقبولة ابدا «فاعملوا وأنتم في نفس البقاء والصحف منشورة والتوبة مبسوطة والمدبر يدعى ، والمسيء يرجى قبل ان يجمد العمل وينقطع المهل وتنقضي المدة ويسد باب التوبة ويصعد الملائكة» (عليهم السلام) (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩).

«النساء» هنا دون الأزواج مما يشي بشمولها للأزواج وسواهن ممن يورثن جاهليا أو شرعيا ، ومن إرث النساء المحظور هنا هو إرث ذواتهن كما كانت سنة الجاهلية ، إذا مات الرجل ورث وارثه امرأته بماله (٢) وكان يرث مالها كنفسها كرها ، أن ينكحها دون صداق لأنها ميراث رضيت أم كرهت ، أم لا ينكحها حين لا يرغب إليها ام لا يسمح له كأمّ ولكنه يعضلها عن الزواج حتى تموت

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي (ع).

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٣٢ ـ أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال نزلت هذه الآية في كبشة ابنة معن بن عاصم أبي الأوس كانت عند أبي قبيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ابنه فجاءت النبي (ص) فقالت : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت هذه الآية ، وفي تفسير البرهان ١ : ٣٥٤ العياشي عن هاشم بن عبد الله عن السري البجلي قال سألته عن قوله (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ...) قال : فحكى كلاما ثم قال : كما يقول النبطية إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره وكان هذا في الجاهلية.

وفيه عن تفسير العياشي عن إبراهيم بن ميمون عن أبي عبد الله (ع) عن قول الله (لا يَحِلُّ لَكُمْ ..) قال الرجل تكون في حجره اليتيمة فيمنعها من التزويج يضربها تكون قريبة له قلت (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ..)؟ قال : الرجل تكون له المرأة فيضربها حتى تفتدي منه فنهى الله عن ذلك.

٣٥٩

ويرثها ، او تنكح ويأخذ من حقها (١) وهذا إرث مالها كرها ، او كانت عنده زوجة لا ترغب إليها فهو غير محتاج إليها ، ولكنه لا يخلي سبيلها رغبة في إرثها (٢) أم تفتدي بشيء مما آتاها حتى يسرّحها ، أم أن يرث من زوجها المطلقة الميتة الخلية عن زوج آخر ، سنادا إلى الزوجية السالفة ، وكذلك كل نقلة من مالها إليه دون رضاها أم سبب ناقل ، حيث الإرث لغويا هو انتقال قنية إليك عن غيرك دون عقد ولا ما يجري مجراه ، ومنه المال المتنقل عن الميت ، وقد كان الإرث من النساء يحلق على كل هذه الجاهليات استضعافا لهن ، فنزلت (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) حيث تشمل كل هذه الجاهليات ، ثم (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ) الخاصة بالأزواج المعضلة ضغطا عليهن في العشرة الزوجية ، ذهابا ببعض ما أوتين فدية منهن لكي يتخلصن عن عبء الزواج وأسره ويسرّحن.

فإرث النساء كرها محظور على أية حال ، ثم إرث ذواتهن إذا كن نساء الآباء محظور على أية حال لخصوص آية الحظر (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) فكما إرثهن وتملكهن دون نكاح محظور كذلك نكاحهن وهو أشد حظرا.

ثم العضل محظور كضابطة ، أن تعضل زوجتك تضييقا عليها في حياة الزوجية لتفتدي هي ببعض ما آتيتها ، أم عضلها عن الزواج بعد طلاقها :

__________________

(١) أبو الجارود عن أبي جعفر عليهما السلام معناه ما كان يعلمه أهل الجاهلية من أن الرجل إذا مات وترك امرأته قال وليه ورثت امرأته كما ورثت ماله فإن شاء تزوجها بالصداق الأول ولا يعطيها شيئا وإن شاء زوجها وأخذ صداقها.

(٢) روى الشيخ الطوسي عن أبي جعفر الباقر (ع) قال : هو أن يحبس الرجل المرأة عنده لا حاجة له إليها وينتظر موتها حتى يرثها فنهى الله عن ذلك.

٣٦٠