الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

على ... «ورابطوا» بين ـ مع ـ على ـ في ـ ل ... (وَاتَّقُوا اللهَ) في هذه وسواها (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في سبيل الرحمان كما تفلجون سبيل الشيطان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)!.

اجل وان المرابطة في سبيل الله في كل حقولها هي السياج الصارم للمجموعة المؤمنة عن التفلت والتفكك والانهيار ، ولا سيما المرابطة في الثغور العقيدية ومن ثم الثغور الجغرافية ، وعلى ضوءها سائر الثغور : السياسية والاقتصادية والثقافية أماهيه.

والروايات الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل المرابطين تعمم المرابطة في سبيل الله وأفضلها سبيل الحفاظ على العقيدة وعلى ضوءها سائر الثغور الاسلامية.

فكل ثغر من الثغور الاسلامية بحاجة إلى مرابطة ممن يأهل لها ويقومون بحقها وحاقها ، فالحافظون لحدود الله ـ ككل ـ هم المرابطون في سبيل الله ، دفاعا عن الحرمات الايمانية بألسنتهم وأقلامهم وسائر جهادهم وجهودهم ما لزم الأمر.

فالربط في أصله هو الايثاق ، فالمرابطة هي المواثقة ، ايثاقا من الجانبين فيما يحتاجه للحفاظ على كيان المسلمين ، رباطا «بين» ورباطا «في» ، و «ل» و «مع» للكتلة المؤمنة بينهم ، ورباطا «على» لهم على أعدائهم.

ذلك والآيات في الترابط الجماعي بين المؤمنين كثيرة ومن أوضحها بين الناس كافة آية التعارف : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٤٩ : ١٣) وآية السخري : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) (٤٣ : ٣٢).

١٤١

وبين المؤمنون خاصة (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ...) و (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (٤٩ : ١٠) (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٥ : ٢) (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (٨ : ٤٦).

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣ : ١٠٤).

فالمسئولية الإيمانية مزدوجة وليست فردية انعزالية ، فانها صناعة لبنات بناية الايمان ، ثم صناعة البناية بهذه اللبنات ، أن يصنع كل واحد نفسه مسلما ثم يحاول في صنع الآخرين ، محاولة جماعية جماهيرية في تحسين وتحصين بناية رصينة متينة إسلامية لا تتهدم أمام أي قصف من اي قاصف ، ولا تتهدر من اي عصف لاي عاصف ، فلا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف.

لذلك نرى ان الإسلام يؤكد على التجمعات الإيمانية كأصل ايماني وحتى في العلاقات والصلات الشخصية بين المسلم وربه كالصلاة والحج وما أشبه ، فإنهما كأفضل النماذج الجماعية في العبادات تربطان المؤمنين بعضهم ببعض في صفوف متراصة من كل صنوفهم ولا سيما في مؤتمر الحج العالمي الذي يهدف ـ فيما يهدف ـ توحيد الدولة الاسلامية على مدار الزمن ، وفيما يسأل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن صلاة الجماعة لمن ظل وحده فأهله وولده في الشغل ، يقول : «المؤمن وحده جماعة» (١).

__________________

(١) مضمون الحديث فيما اذكر ان قرويا يسأله (صلى الله عليه وآله وسلم) انا أؤذن وأقيم وورائي أهلي وولدي هل نحن جماعة؟ قال : نعم ـ قال قد يذهب ولدي الى الشغل فتبقى معي أهلي فهل نحن جماعة؟ قال : نعم ـ قال : وتذهب اهلي وأظل وحدي هل لي جماعة؟ قال : نعم المؤمن وحده جماعة.

١٤٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ

١٤٣

صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٦)

سورة النساء هي ثورة حقوقية أخلاقية عقائدية أحكامية اماهية من صالحة الثورات الاسلامية لصالح النساء على الهاضمين حقوقهن في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، مبتدءة بأنهن والرجال من أصل واحد فهما اصل وفصل واحد ، كما وهي تختتم بمشاركتهن الرجال في حقوق الميراث.

وهي كالأكثرية الساحقة من سائر السور ليس ترتيب نزولها وترتيب آياتها في نزولها هو ترتيب تأليفها.

فلقد كانت تنزل آيات من سور عدة يؤمر النبي ـ عند نزولها او بعده ـ ان

١٤٤

يأمر بوضع كل منها في موضعها من سورة مفتوحة فترة طويلة او قصيرة حتى تنظم آياتها كما هي الآن بين أيدينا ، وكما كانت آيات من البقرة وآل عمران نزلت في مختلف العهد المدني على طوله.

كذلك سورة النساء ، فان آياتها مختلفة النزول في زمنها وقد اتسقت بالسياق الحاضر حسب الوحي كما انها نزلت بالوحي ، مهما لم يتعرف غير العارفين وحي القرآن الرباط القاصد بين آياته ، فكل آية او آيات تحمل وحيين اثنين ، ثانيهما هو الذي يقرر مكانها من سورة مقررة لها.

فترتيب الآي القرآنية حسب التأليف ترتيب قاصد من الله بخلاف ترتيب التنزيل فانه كان حسب الحاجات والمتطلبات التي لا رباط بينها ، فانما يوجد قاصد الترتيب بينها في التأليف دون التنزيل ، اللهم إلّا فيما كان مرتب الآيات تنزيلا وتأليفا كالسور والآيات المرتبة كما نزلت.

والأصل القرآني فيما يشك اختلاف تأليفه عن تنزيله هو وفاقهما ، لان الترتيب قاصد فالمناسبة فيه مقصودة كأفضلها في ميزان الله.

ففيما نتأكد اختلاف التأليف عن التنزيل أو نتأكد وفاقهما فالأمر بين الأمرين ، وحين نشك فهما محمولان على الوفاق لأنهما من الرفاق في قاصد التأليف.

ثم وهذه السورة الثورة تمثّل جانبا أصيلا منقطع المثل مما تبناه القرآن للحياة الإسلامية السامية ، تفاعلا للإنسان المؤمن مع المنهج الرباني وهو يقود خطاه في المرتقى الصاعد من السفح الهابط الخابط الى القمة السامقة المرقومة ـ خطوة تلو خطوة ـ بين تيارات المطامع والشهوات والرغبات المضادة من أضداد الايمان أم بسطاء الإيمان ولمّا يدخل الايمان في قلوبهم ، ومن ثم وسطاء الايمان حيث تعرضهم لهم.

١٤٥

نلمس فيها عملا جاهدا في محو ملامح الطابع الجاهلي الذي منه انبثقت مجموعة مؤمنة بهذا القرآن ، تطهيرا له من رواسب الجاهلية واستجاشة للدفاع عن كينونة الإنسان المميزة ، وتعريفا عريقا عريفا بأعداء ، الكتلة المؤمنة المتربصين بها كل دوائر السوء ، والمتميّعين فيها من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، كشفا لحيلهم ضدها وبينا لفساد تصوراتهم ، وسنّا لقوانين وضوابط ربانية تنظّم كل حياة المؤمنين وتصبها في القالب التنفيذي الثابت الضابط ، دون الهابط الخابط.

ولقد كان حقا حقيقا بالقرآن أن يصنع الإنسان بقمة الصنع ، لأنه من صنع المصدر الذي صنع الإنسان : (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ) .. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟.

إن الجاهلية الأولى وهذه الجاهلية الحاضرة المتحضرة ، تجدان ـ على سواء ـ مكانهما في النصوص التربوية القرآنية ، وتجدان ايضا من يأخذ بأيديهما من مكانتهما السحيقة الى القمة السامقة التي يحققها القرآن على ضوء تربياته وتزكياته العالية الغالية.

هذه السورة تتولى رسم مفرق الطريق ـ بكل بيان وإتقان ـ بين الجاهليات على مدار الزمن ، وبين إنسان القرآن ، المتمثل فيه خططه وارشاداته المنقطعة النظير بين كل بشير ونذير.

في مستهل السورة نجد تقريرا غريرا للربوبية السامية ووحدتها ، وللإنسانية ووحدة أصلها ونسلها ، في وصلها وفصلها ، ولحقيقة قيامها على قاعدة الأسرة دون اية أثرة او عسرة ، واتصالها سليما بوشيجة الرحم ، مع استجاشة هذه الروابط في الضمير الإنساني ككل ، واتخاذها ركيزة لتنظيم المجتمع الإسلامي على أساسها ، وحماية الضعفاء عن طريق التكافل بين الأسرة

١٤٦

الواحدة ، ذات الأصل الواحدة والخالق الواحد والاتجاه الواحد.

والكثير من آيات هذه السورة نجدها تعني رفع النساء عن السقوط الذي ارادتها لهن الجاهلية الاولى والأخيرة ، إحقاقا لحقوقهن أمام الرجال كما يحق لهن ويحق لهم دونما تمييز ، وانما لكلّ حقه كما يستحقه دونما زيادة او نقصان.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ١.

هذه الآية تقرر أصلا واحدا للنسل الانساني الحالي ككل ، وهي اظهر الآيات بهذا الصدد وتتلوها آيات أخرى تتجاوب معها في هذه المغزى ك (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها ...) (٧ : ١٨٩)

جعلا ذا بعدين : خلقا وزواجا (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ...) (٣٩ : ٦) ـ

(إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ...) (٤٩ : ١٣) ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (٦ : ٩٨).

آيات خمس تتجاوب في خلق الإنسان وإنشاءه من نفس واحدة ، فما هي هذه الواحدة؟ وكيف خلق الإنسان منها ككل «وخلق منها ـ وجعل منها ـ زوجها»؟.

«الناس» هنا تستعرض هذا النسل الذي نحن منه على مدار زمنه أولا وأخيرا دونما استثناء ، فلا يشمل ناسا قبلنا وقبل هذه النفس الواحدة ، ولا يفلت منه ناس من هذا النسل على طول خطه ، حيث الخطاب فيه على وجه القضايا الحقيقية فلا تخص ناسا دون ناس ولا زمنا او مكانا له دون زمن او

١٤٧

مكان ، فالناس في معنى الجمع وهو محلى باللام فيفيد الاستغراق ، وقضية التقوى وهي الخلق من نفس واحد تشملهم كلهم دونما استثناء ، فلا اختصاص له بناس دون ناس ، اللهم إلّا من انقرض من الأنسال السابقة التي ليس لها حظ في هذا القرآن من أي خطاب اللهم إلّا إشارة في آية الخلافة وأضرابها أنها كانت تعيش قبل هذا النسل الأخير.

وقد يشمل الناس كل الأنسال الانسانية ـ سابقة على هذا النسل ولاحقة ـ لولا قرينة قاطعة ، وهنا (نَفْسٍ واحِدَةٍ) قرينة على اختصاص الناس بهذا النسل ، وإلا فلا تصح (نَفْسٍ واحِدَةٍ) بل أنفس كل ناس خلق من واحدة.

ف (نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي الإنسان الأول من هذا الناس والأب الأول للناس ، فلا تعني كائنا آخر أيا كان ، ولم تأت النفس في القرآن بطيات الآيات ال (٢٩٥) إلّا وتعني الإنسان ، اللهم إلا في (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ) (٦ : ١٢) و (لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (٥ : ١١٦) ، فاحتمال انها تقصد حيوانا غير انسان ، إذا خليات ام ذا خلية واحدة ، إنه هابط خابط.

ف (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) تنهي خلق الناس كلهم إلى هذه النفس الواحدة ، ولكن (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) تضيف إليها زوجها المخلوق منها في انتسال الناس منهما ، والواو ـ بطبيعة الحال ـ هنا حالية تعني «خلقكم ..» والحال انه خلق منها زوجها ليخلقكم كلكم من ذكر وأنثى كما في آية اخرى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) فالذكر هو تلك النفس الواحدة وزوجها هي التي خلقت منها ، فخلقنا من نفس واحدة ـ وخلق منها زوجها ـ يختلف عن خلق زوجها منها ، فإنها خلقت منها دون توالد متعود ، ونحن خلقنا منها بتوالد بين ذكر وأنثى ، فلأن زوجها خلق منها يصح أننا خلقنا منها ، اي منها وزوجها المخلوق منها ، اللهم الا في عيسى المخلوق من أم دون أب ولكن امه مخلوقة

١٤٨

كسائر الناس من ذكر وأنثى و (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣ : ٥٩).

وقد تكون الواو بيانية تبين كيف (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ولا بد في خلق النسل الإنساني من نفسين ، فالجواب (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) التي لا بد منها في ذلك الخلق المنتسل ، ثم (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ، ولكنها ـ إذا ـ بيان الحال او حال البيان.

وترى ذلك النسل الأول هو من ولد النفس الواحدة وزوجها ، خلقوا منها ومنهما ، فهل ان سائر الأنسال ايضا كما الأول تنتهي الى هذه النفس الواحدة وزوجها دونما ثالثة ورابعة أماهيه؟ إذا فكيف التوالد في سائر الأنسال إذا انحصرت في مبدء النفس الواحدة وزوجها ، اللهم بسماح الزواج والتوالد بين الإخوة والأخوات من النسل الأول وذلك محرم في كافة الشرائع الإلهية دونما استثناء!.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) من ناحية (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ـ وهم «كم» و «الناس» ككل ـ من اخرى هما نصان اثنان على أن لا ثالث في أصل الانتسال ، فلو كان لبان في نص القرآن ، ولقد نص على حصر الأصل فيهما فلا دور لجنية ولا حورية في ذلك الانتسال خلاف ما جاءت به بعض الروايات المختلقة (١) فلا نصدقها وإنما نصدق الأخرى الموافقة للقرآن (٢).

__________________

(١) هنا روايات متعارضة مع بعضها البعض في الثالثة والرابعة من أمهات البشر ففي بعض انهما حوريتان وفي اخرى ان إحداهما حورية والاخرى جنية كما في نور الثقلين عن العلل باسناده الى القاسم بن عروة عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليهما السلام) «قال : ان الله عز وجل انزل حوراء من الجنة الى آدم فزوجها أحد ابنيه وتزوج الآخر الى الجن فولدتا جميعا فما كان ـ

١٤٩

النفس الواحدة الأولى المثناة بزوجها المخلوق منها هي أصل الناس جميعا في كل الأنسال ، فلو أن نفسا أخرى أم أنفسا غير الإنسان كانت هي الشريكة في بث رجال كثير ونساء منذ النسل الثاني ، أم إن نفسا ثالثة أماهيه خلقت من النفس الأول مع زوجها ، فمن زوجها معها انتسل النسل الأول ، ومن غيرها سائر الأنسال تناسلا بينه وبين النسل الأول ، لكان النص هارفا جارفا حيث ينهي كل أنسال الناس إلى هذه الواحدة مع زوجها الوحيد المخلوق منها.

وليست حرمة التزواج بين الأخوة والأخوات حرمة ذاتية كالمحرمات الذاتية التي لا تتحول ، إنما هي حرمة مصلحية إذ لو تداوم حل التناكح بينهما على مدار الزمن الرسالي لخلفت بلبلة دائبة داخل البيوت ليل نهار ، ولتسابق الإخوة بينهم إلى أخواتهم والأخوات بينهن الى إخوتهن وهما عائشان في بيت واحد دونما رادع وحجاب ، ولا أشكل من ذلك مشكلة عائلية عريقة عويصة منقطعة النظير بين كل مشاكل الإنسان.

فحل ذلك التزواج لفترة قليلة قدر إنجاب نسل في مستهل حياة الإنسان

__________________

ـ من الناس من جمال وحسن خلق فهو من الحوراء وما كان فيهم من سوء الخلق فمن نبت الجان وأنكر ان يكون زوج بنيه من بناته».

أقول : والأمر المتحد المآل بين الأحاديث المستنكرة لتزاوج الاخوة والأخوات هو الحرمة استغرابا كما في رواية زرارة قال ابو عبد الله (عليه السلام) سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا يقول من يقول هذا ان الله عز وجل جعل اصل صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال وقد أخذ ميثاقهم على الحلال والطهر الطاهر الطيب ...

أقول : وجوابه ما جاء في الأحاديث الاخرى انه كان قبل التحريم فلا استغراب إذا ، فانما المستغرب مخالفة نص القرآن الذي ينهي خلق الإنسان ككل الى نفس واحد وهنا اربعة نفوس!

١٥٠

لا يناحره اي رادع ومانع فطري او تشريعي ، والنص ينهي كل الأنسال إلى الأبوين الأولين.

ثم التزاوج بين أخ وأخت في فترتها القليلة ، هي أقرب من التزاوج بين النفس الواحدة وزوجها المخلوقة منها ، فالأخ والأخت راجعان إلى أصلين غيرهما ، والأم الأولى راجعة الى الأب الأول دون فصل! :

و «ان المجوس إنما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله فلا تنكر هذا إنما هي شرائع جرت أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له فكان ذلك شريعة من شرائعهم ثم انزل الله التحريم بعد ذلك» (١).

أترى بعد ان (نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي كل ذكر من نوع الإنسان (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) يعني من جنسها لا من شخصها ، فتخرج الآية ـ إذا ـ عن نطاق

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٣٣ في قرب الاسناد للحميري احمد بن محمد بن أبي نصر قال : سألت الرضا (عليه السلام) عن الناس كيف تناسلوا من آدم (عليه السلام) فقال : حملت حواء هابيل أختا له في بطن ثم حملت في البطن الثاني قابيل وأختا له في بطن ، تزوج ، هابيل التي مع قابيل وتزوج قابيل التي مع هابيل ثم حدث التحريم بعد ذلك ، وروى مثله فيه ح ٢١ عن أبي جعفر (عليهما السلام) ان امرأة آدم كانت تلد في كل بطن غلاما وجارية فولدت في أول بطن قابيل وتوأمته إقليما بنت آدم في البطن الثاني هابيل وتوأمته ليودا فلما أدركوا جميعا امر الله تعالى ان ينكح قابيل اخت هابيل وهابيل اخت قابيل فرضي هابيل وأبي قابيل لان أخته كانت أحسنهما وقال : ما امر الله بهذا ولكن هذا من رأيك فأمراهما الله ان يقربا قربانا فرضيا بذلك : وفيه مثله عن كتاب الاحتجاج عن أبي حمزة الثمالي قال سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) الا ان فيه المقارعة في انتخاب احدى الأختين بدلا عن القربان وفيه قال : فزوجهما على ما خرج لهما من عند الله قال : ثم حرم الله نكاح الأخوات بعد ذلك ، فقال له القرشي فأولداهما؟ قال : نعم ، فقال له القرشي فهذا فعل المجوس اليوم ، قال فقال علي بن الحسين (عليهما السلام) ان المجوس انما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله.

١٥١

انتسال كل الناس عن آدم الأول؟.

ولكن «خلقكم» جميعا ، دون خلق كلا منكم ، ينهي انتسالهم جميعا إلى نفس واحدة ، والعبارة الصالحة لذلك الاحتمال «خلقكم من نفوس متعددة وخلق منها أزواجها»! او «خلق كل واحد منكم من ..»!. ثم «الناس» و «كم» تعمان كل الناس ذكورا وإناثا ، المنتهون إلى نفس واحدة.

ومن ثم لم يخلق الناس فيما سوى الأم الأولى إلّا من نفسين هما الأبوان فكيف خلقوا ـ إذا ـ من نفس واحدة : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٨٦ : ٧) وهما صلب الذكر وترائب الأنثى ، فلم يخلق كل في حاضر خلقه إلّا من نفسين اثنتين ، ثم الجميع مخلوقون من نفس واحدة كأصل حيث (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) يفرّع زوجها عليها في الانتسال ، فيصدق أن النفس الواحدة هي المخلوق منها ـ كأصل ـ كل الناس من ذكر وأنثى ومنهم زوجها ، ولو أن زوجها لم يخلق من ذاتها بل من جنسها المنفصل عنها بطل إنهاء خلقنا الى نفس واحدة!.

وترى زوجها المخلوقة منها خلقت من ترابها (١) ولمّا تخلق هذه النفس

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٢٩ في تفسير العياشي عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال سألت أبا جعفر (عليهما السلام) من أي شيء خلق الله حوا؟ فقال : اي شيء يقولون هذا الخلق؟ قلت يقولون : ان الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم فقال : كذبوا ، كان يعجزه ان يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت : جعلت فداك يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من اي شيء خلقها؟ فقال : اخبرني أبي عن آبائه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ فخلق من آدم وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء ، وفيه ٤٣٤ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جواب السؤال فمن اين خلقت؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر .. وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ايضا خلق الله عز وجل آدم من طين ومن فضله وبقيته خلقت حواء ،

١٥٢

الواحدة إنسانا بجسمه او روحه؟ مهما كان بالهيكل الترابي؟.

والتراب المخلوق منه الإنسان ليس نفسا ولا إنسانا! ثم الانقسام في التراب الأصل ، ليس يجعل قسما منه أصلا فالآخر هو الفرع ، بل هما أصلان كلّ لنفس ذكرا أو أنثى! ، أم إنها خلقت منها وقد خلقت تلك النفس سوية ذات حياة وروح؟ (١) فهذا وإن كان أنسب في إطلاق النفس على الأصل ، إلا أنه يبعده بعد انفصال جزء حي عن حي تعذيبا للأصل والفرع والروح روح واحدة فيحتاج الفرع الى روح ثانية!.

أم إنها خلقت من جثمان النفس الواحدة بعد اكتمالها ولمّا تنفخ فيها الروح؟ (٢) وليس بذلك البعيد ، وصدق النفس عليها باعتبار المشارفة.

أم خلقت من هيكلها الانساني الترابي سويا قبل تحولها جثمان إنسان فضلا عن الحياة؟ (٣) وهذا اقرب المحتملات إلا الثالثة التي هي أحق بتعبير

__________________

ـ وفي تفسير البرهان ١ : ٢٣٦ في نهج البيان عن الباقر (عليه السلام) انها خلقت من فضل طينة آدم عند دخول الجنة.

أقول : الظاهر من «فضلت» انه التراب الزائد عن هيكل النفس الواحدة ، لا التراب الأصيل قبل صنع ظاهر الهيكل فيوافق الاحتمال الأخير.

(١) تفسير البرهان ١ : ٣٣٦ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : خلقت حوا من جنب آدم وهو راقد.

(٢) تفسير البرهان ١ : ٣٣٦ العياشي عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال : خلقت حوا من قصير جنب آدم والقصير هو الضلع الأصغر وابدل الله مكانه لحما.

وفي تفسير الرازي ٩ : ١٦١ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان المرأة خلقت من ضلع أعوج فان ذهبت تقيهما كسرتها وان تركتها وفيها عوج استمتعت بها. أقول : وهذا يتحمل انه قبل نفخ الروح فيناسب الاحتمال الثالث.

(٣) في العيون عن الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن علي (عليهما السلام) قال قال رسول الله (صلى ـ

١٥٣

النفس ، ولا يرد عليه الوارد على الأول لأصل المشارفة ، وانها أصبحت أصلا لاكتمال ظاهر البنية والشاكلة الإنسانية لها ، ونحن لا نملك هنا علما إلّا العلم أن : الله أعلم وما علمنا هنا إلا انها خلقت من نفس واحدة ، فليس الأصل هو اصل التراب إذ ليس نفسا وإن بالمشارفة ، فهو ـ إذا ـ بين خلقها من الهيكل الترابي او الانساني جسميّا او الانساني كلا ، وعلى كلّ خبر والثلاثة متعارضة.

وترى ما هي الرباط بين خلق الناس من نفس واحدة بزوجها المخلوقة منها ، وبين واجب التقوى؟ ولا بد هنا من ربط علّي واقتضائي بينهما!.

هنا زوايا ثلاث تصلح رباطا بينهما ، فخلقه إيانا وربوبيته لنا وإنهائنا إلى نفس واحدة علل ثلاث لواجب التقوى ، والآية في الأوليين تتجاوب مع أخرى هي (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢ : ١٢).

ثم الثالثة لها جهات عدة منها ان تخليق مختلف النفوس الإنسانية من حيث الألوان والطبايع والأقدار هو دليل الإختيار البدائع في الخالق البارئ الجبار.

ثم من تقوى الله تقوى الأرحام كما في تعقيبة الآية ، وقد يقويها انتهاء جميع الإنسال الإنسانية إلى نفس واحدة وقد خلقت زوجها منها ، فالناس كلهم أرحام مهما اختلفت الدرجات قربا وبعدا ، فقد كان بالإمكان خلق كل من الأبوين الأولين على حدة دون رباط وفصال ومن ثم خلق كل إنسان كما الإنسان الأول دون تناسل ، ولكن قضية الحكمة الربانية ذلك الرباط الوطيد بين بني الإنسان أولا وأخيرا ليتقوا الأرحام رعاية للأصلين أولا وأخيرا.

__________________

ـ الله عليه وآله وسلم) لما أسري بي إلى السماء رأيت رحما متعلقة بالعرش تشكو إلى ربها فقلت لها كم بينك وبينها من أب؟ فقالت نلتقي في أربعين أبا.

١٥٤

فذلك التذكير بوحدة الأصل ، وواقع التذكر بوحدة الآباء من بعد ، هما ظرفان ظريفان لتأثير التذكير بصلة الأرحام ، فلو لم يكن الأصل واحدا لكان التذكير بوحدة الأصل كذبا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ومن ثم فخلق الإنسان من نفس واحدة دليل قدرته تعالى على إعادته حيث الإعادة تشبه البداية في النفس الواحدة من جهة وفي نسلها من أخرى (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

وهنا (بَثَّ مِنْهُما) ـ وهو النشر والتفريق ـ دليل ان كل النطف الإنسانية المنتسلة منهما كانت في صلب الأولى وترائب الأخرى ـ وطبعا ـ بحالة الذر دون حاضر النطف ، بل هي أصولها.

ولماذا (رِجالاً كَثِيراً) ثم «نساء» دون كثرة وهن اكثر من الرجال بكثير؟.

إن قضية العطف في «ونساء» استعادة وصف المعطوف عليه وهو هنا «كثيرة» اضافة الى ان في طليق «نساء» جمعا منكرا دون وصف ظاهر ، لمحة إلى انهن اكثر.

أترى «كثيرا» هنا ـ ويقابله قليل ـ تصلح لاحتمال أن نسل الإنسان منذ الثاني لا ينحصر في الأبوين الأولين؟ كلّا حيث القليل لا يحمل كل الأنسال ما سوى الأول والأول هو القليل! فإنما يعني الكثير كافة الأنسال الإنسانية على طول الخط.

(اتَّقُوا رَبَّكُمُ ... وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) تتساءلون فيما بينكم به حيث الحاجات والسؤالات كلها من الكل راجعة إليه ، فاتقوه أن تنقطعوا عنه إلى سواه ، أو تطيعوا سواه أو تعبدوا إلّا إياه و «به» هنا قد تعني الحلف به فيما

١٥٥

عنت من سببية وخالقية ، ان كافة التساءلات في الحاجات قائمة به وحاصلة منه.

«واتقوا الأرحام» أن تقطعوها وهي كلها راجعة الى نفس واحدة وزوجها (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) في تقواكم وطغواكم ، بالنسبة لربكم وأرحامكم ، كما وكان عليكم رقيبا في خلقكم من نفس واحدة.

وهنا (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أو لا تربط التقوى بعلة الربوبية وحكمتها ، ثم (وَاتَّقُوا اللهَ) تربطها بألوهية إذ «تساءلون به» ربوبية ، ومن ثم «الأرحام» أن تصلوها ولا تقطعوها ، إذا فتقوى الأرحام هي من تقوى الله كما أن طغواها طغوى على الله!.

ولأن الوالدين هما من أرحم الأرحام وأقربهم نسمع قضاء الله بعبادته وحده تثنّى بقضاء بإحسان الوالدين (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

فالأرحام درجات أقربها الوالدان والأولاد وأبعدها من لا صلة بينك وبينه ظاهرا ، نسبا او سببا ، فانه يؤول معك إلى الوالدين الأولين ، إذا فكل الناس أرحام! (١) ومن عظيم أمر الأرحام انه جعل قطعها عدلا وقسيما لكل إفساد في الأرض : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ)

__________________

(١) في الكافي وتفسير العياشي هي أرحام الناس إن الله عز وجل امر بصلتها وعظمها ألا ترى انه جعلها معه؟ وفي تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة قال سمعت امير المؤمنين (عليه السلام) يقول : ان أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل النار فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه فان الرحم إذا مستها الرحم استقرت وانها متعلقة بالعرش انتقضه انتقاض الحديد فتنادي : اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني وذلك قول الله في كتابه (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) وأيما رجل غضب وهو قائم فليلزم الأرض من فوره فانه يذهب رجز الشيطان.

١٥٦

(٤٧ : ٢٢) ، كما و «انه جعلها منه» (١) هنا ، حيث «امر باتقاء الله وصلة الرحم فمن لم يصل رحمه لم يتق الله عز وجل» (٢).

وحصيلة البحث حول الآية ان النفس الواحدة هي الأب الأول لهذا النسل الحاضر وهو المسمى ب «آدم» في القرآن ، ولم يأت اسم زوجه إلّا بصيغة الزوج ، فهما ـ إذا ـ شخصان اثنان ، ولا دور لاحتمال النوعية فيهما ، فهل إن نوع الإنسان السابق المخلوق منه نسله هو نفس واحدة لها زوج واحد؟!.

ثم إن زوجها مخلوق منها ذاتيا ـ لا فحسب «منها» في صرف المجانسة ـ وإلا لما صح (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) في اي نسل من الأنسال الانسانية ، إذ لا بد لكلّ من نفسين أولا وأخيرا ، لذلك (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) حتى يجمع بين ثنوية الأصل ووحدته في الإنسال.

ومن أبرز الملامح في هذه الآية انتسال الناس منذ النسل الثاني في الإخوة والأخوات ، تزواجا بينهما لردح قليل من الزمن ثم تحريما له مع الأبد ، ولا نصدق الحرمة الفطرية في هكذا زواج حيث هو معمول متداول بين الزرادشت ، وليس تأبّي سائر المتشرعين عن هكذا زواج إلّا لحرمته في كافة الشرايع ، ولم تكن الفترة اليسيرة في حليته لقضاء حاجة التناسل شيئا مذكورا يصبح عمادا يعتمد عليه.

بل لو خلي الإنسان وطبعه تناسيا لشرعة التحريم ، وجعل نفسه في جو

__________________

(١) في نور الثقلين ١ : ٤٣٧ في اصول الكافي عن جميل بن دراج قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ ...) قال : هي أرحام الناس ان الله عز وجل امر بصلتها وعظمها الا ترى انه جعلها منه.

(٢) المصدر في عيون الاخبار باسناده الى الرضا (عليه السلام) قال : ان الله امر بثلاثة مقرون بها ثلاثة ـ الى قوله ـ وامر باتقاء الله ...

١٥٧

الإخوة والأخوات في النسل الأول ، لم ير بدّا من فرض ذلك التزاوج ، مهما حرم بعدها لمصلحة مستمرة على مدار الزمن.

هذا ـ ولا يدل وجود الإنسان فيما وراء البحار كأمريكا المكتشفة حديثا ، على اكثر من مبدء واحد لنسل الإنسان ، فلأن وصل القارات وفصلها حالة ارضية دائبة ، فاحتمال انفصال أمريكا بريا عن سائر القارات قبل التاريخ بعد ما كانت متصلة بها يزيل إحالة وحدة الأصل.

كما أن علم «الجيولوجي» : طبقات الأرض ، المثبت لعمر الإنسان منذر ملايين من السنين ، وبينهما وبين آدم هذا بون شاسع لأنه لأكثر تقدير خلق قبل عشرة آلاف.

إن ذلك لا يحيل انتسال النسل الحاضر من آدم ، حيث القرآن والسنة (١) شاهدان على وجود أنسال إنسانية قبل آدم انقرضت ، فذلك ـ إذا ـ هو الإنسان الأخير ، والمشابهة بينه وبين الأجساد المكتشفة لما قبل ملايين من السنين ، لا تقضي بوحدة السلسلة انتسالا والوحي القاطع دليل لأمر دله على ان النسل الحاضر متنسل من (نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها).

فلا العلم ولا الواقع الملموس ولا التاريخ الجغرافي وما أشبه ، لا تعارض انتسال النسل الحاضر من (نَفْسٍ واحِدَةٍ) خلقت قبل عشرة آلاف اما زادت من السنين ، وليست الاستبعادات القاحلة غير المسنودة إلى برهان مبين بالتي تبطل نصوص الذكر الحكيم.

__________________

(١) فمن القرآن آية الخلافة «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» حيث الاحتمال المتعين انه خليفة من انقرض من سنخه كما فصلنا على ضوء الآية في البقرة وذكرنا هناك أحاديث عدة فراجع ومنها ما في التوحيد عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال : لعلك ترى ان الله لم يخلق بشرا غيركم بلى والله لقد خلق الف الف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين.

١٥٨

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) ٢.

هذه الآية تحمل ثلاث مراحل من قرب أموال اليتامى :

١ (آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) وإن لم تأكلوها ولم تتبدلوا الخبيث بالطيب.

٢ ثم (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) وإن لم يكن أكلا لها عن بكرتها.

٣ ومن ثم (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) تحسّبا أموالهم أموالكم ، لأنها عندكم ، فكما أنهم يعيشون في ظل رعايتكم وأموالهم على هامش أموالكم وهي بأيديكم ، فتأكلون أموالهم أكلا كما يأكلون أموالكم ، فهما غاية واحدة مهما كان الأصل أموالكم.

كل ذلك حياطة وسياجا صارما على أموال اليتامى عن بكرتها فلا تقرب إلّا بالتي هي أحسن ، حتى الحسن ، فالقرب الحسن بالنسبة لأموال غير اليتامى حسن ولكنه بالنسبة لأموال اليتامى سيّ حيث الفرض والمسموح هو الأحسن (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).

وإذا كانت تقوى الأرحام فرضا في شرعة القرآن قضية القرابة المتواصلة فيها قريبة أم غريبة ، فتقوى الأيتام أحرى فرضا ، لأنهم هم المنقطعون عمن يعولهم ، ولا سيما المنقطعون عن الرحم البعيدون نسبا ، فأصل اليتم هو الانفراد وهو هنا الانفراد عن كافل الحياة حال الحاجة الحيوية إلى كافل ، وأبرزه هو في غير البالغ الذي مات عنه أبوه ، مهما شمل الأنثى البالغة المنقطعة عن أب وزوج ، وكما عنيت (فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) (١٢٧) وفي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «تستأمر اليتيمة» وهي لا تستأمر للزواج قبل بلوغها ، بل هو بعدها حين فقدت أباها.

١٥٩

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) أمر عام بالنسبة لأموال اليتامى كضابطة مهما كانت بحاجة الى شروط وقيود كما شرطت في آيات أخرى وقيدت ، فلا يؤتى اليتيم ماله إلا بعد بلوغه النكاح وإيناس رشد منه ، حيث ترشدنا آية الرشد الآتية إلى هذين الشرطين في الإيتاء.

والخطاب في «آتوا» يعم كل من عنده مال من اليتامى بحق كان أم بباطل ، وليا شرعيا أم سواه ، صحيح أنه إذا حصل الرشد فقد زال اليتم فلا يصدق هنا أنهم يتامى يؤتون أموالهم ، ولكنهم ـ بعد ـ يتامى لغويا مهما زال يتمهم شرعيا ، ثم علاقة الأول المشرف كما في (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) وهو الإشراف على بلوغه ، إشرافا لما مضى من يتمهم ، وأنّ في اليتامى من بلغ ورشد كيتامى النساء ، لذلك ف (آتُوا الْيَتامى) هي أصلح تعبير وأصحه كضابطة تحلق على كل مراحل اليتم ومصاديقه ، سواء استمر يتمه ام زال.

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) والتبدل هو تطلّب البدل وتكلّفه ، والخبيث والطيب هنا ـ كأصل المعني منهما ـ هما المال الخبيث والطيب ، مهما شملا على ضوء المال الحال والفعال منهما.

ف (لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ) من مالكم «بالطيب» من مالهم ، والطيب هنا هو المبدل به الموجود كبديلة عند اولياء اليتامى ، ولذلك صح (الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) دون «الطيب بالخبيث» فإنه صالح إذا كان الطيب عند اليتامى أنفسهم ، وموقف النهي هنا هو الأموال الكائنة عند أوليائهم لا عندهم أنفسهم ، ثم الحال الطيبة وهي التي أمر الله الأولياء بها وجاه اليتامى والخبيثة هي الحال الجاهلية ، وكذلك الفعال الطيب ، فلا يجوز بالنسبة لليتامى إلّا الطيب وكما تعنيه في خصوص أموالهم : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٦ : ١٥٢).

١٦٠