الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

ومن طليق الدلالة في هذه الآية انها تعني النهي عن هكذا تبدل في كافة الحقول ، ان يطلب الإنسان الخبيث بالطيب لنفسه او لآخرين ، مهما وردت هنا مورد اليتامى ، حيث الأصل هو عموم اللفظ لا خصوص المورد.

هذه التوصيات سلبية وايجابية تشي بواقع الجاهلية الجهلاء الظالمة بالنسبة لحقوق الضعاف ولا سيما اليتامى والنساء ، ولا نزال حتى اليوم نراهم مهضومين في مختلف حقوقهم ، لذلك نرى القرآن يسد كل الثغرات النافذة إلى حقوق الضعاف ، معالجا معاجلا بكل العلاجات الصالحة ، رعاية للأهم فالأهم حين لا يمكن الجمع بين المهم والأهم ، لكي تصبح الجماعة المؤمنة عادلة فاضلة في كل الحقول ، بريئة عن قضايا الجاهلية كلّها ، فتصلح أن تكون امة مصلحة بين الأمم ، وسطا بين الرسول وسائر الأمم.

لقد كانوا يحتالون في أموال اليتامى مختلف الحيل ، قد يحسبون البعض منها حقا شرعيا كأكل أموالهم الى أموالهم ، تحسبا اموال اليتامى التي بأيديهم كأموالهم أنفسهم فيأكلون أموالهم الى أموالهم ، غايتها كغايتها ، ولأنهم يتولّون أمورهم كآباءهم فليكونوا شركائهم في أموالهم كآبائهم ، ف «الى» هنا كما في سواها هي لمنتهى الغاية ، ولا تعني معنى «مع» كما قيل تصحيحا للمعني من (إِلَى الْمَرافِقِ) في آية الوضوء ، فانه غلط على غلط.

لقد تأرجف صاحب هذه القيلة كالأرشية في الطوى البعيدة ليحصل ـ في زعمه ـ على فتوى شيعية هي وجوب غسل اليدين من المرفقين ، فأوّل «إلى» في آية الوضوء الى «مع» واستدل بمشابه في زعمه هو (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) وهذه الآية ، وهما لا تنصرانه في تأويله ولو عنت «إلى» فيهما معنى «مع» ولن تعنه أبدا.

فعناية معنى خلاف الظاهر بقرينة في مجال لا تأتي قرينة على نفس الخلاف

١٦١

في مجالات أخرى دون قرينة.

ذلك! وقد بينا على ضوء آية أنصار الله أن «الى» فيها ليست لتعني إلّا معناها ، وهي هنا من نفس النمط ، إذ لا معنى للقول «لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم» حيث تشي بان المحظور هنا هو الجمع بينهما في الأكل ، فأما إذا أكل أموال اليتامى منعزلة عن أمواله فهي حل كما يأكل أمواله منعزلة عن أموالهم!.

كلّا! إنما هو أكل أموال اليتامى تحسّبا كأنها من أموالهم أنفسهم ، فيأكلون ـ إذا ـ أموالهم إلى أموالهم ف (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً).

ووجه آخر في متعلق «الى» أنه مقدر مثل كائن ، ف (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ) الكائنة (إِلى أَمْوالِكُمْ) حيث اختلط بعضها ببعض ، فلا تبرروا أكل أموالهم قضية ذلك الخلط ، حيث الحق غير مدخول ولا مخلوط ، فليست الغاية في أموالهم كالغاية في أموالكم مهما تبينت او اختلطت.

و «الى» في آية الوضوء هي «الى» في غيرها ، ولكنها لغاية المغسول دون الغسل: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) الكائنة (إِلَى الْمَرافِقِ) ، وأما كيف الغسل فقد بيّن في السنة.

(إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) قد يصلح ضمير الغائب هنا رجوعا الى مثلث الأمر والنهي ، أن عدم إيتاء اموال اليتامى ، وتبدل الخبيث بالطيب ، وأكل أموالهم الى أموالكم (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً).

واصل الحوب هو الوجع و «هو مما يخرج الأرض من أثقالها» (١) وهو هنا الإثم الموجع وجعا كبيرا ـ حيث يخرج أثقال من أرض الحياة لليتيم ـ لمكان يتم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٣٨ في تفسير العياشي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله او أبي الحسن (عليهما السلام) انه قال : حوبا كبيرا : هو مما يخرج الأرض من أثقالها.

١٦٢

صاحب المال ، ولا سيما إذا أكلت ماله إلى سائر الأموال ، كأنه من أموالكم فحق لك أن تأكله دون تمييز!.

ولأن القسط ـ وهو فوق العدل ـ فرض بالنسبة لليتامى ، وهو بحاجة إلى علاج في جمع المحظورين ، حظرا عن أكل من أموالهم أم تبدل الخبيث بالطيب فتضيع ، وحظرا عن تركهم فيضيعوا.

وقد روي انه لما نزلت هذه الآية في مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله سبحانه (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (١).

وكما يروى عن باقر العلوم (عليه السلام) ان العرب كانوا في صدر الإسلام يتجنبون مخالطة اليتامى تحرّجا وإشفاقا على دينهم فلا يأكلون لهم طعاما ولا يلبسون لهم ثوبا حتى أن الرجل منهم كان لا يستظل بجدار اليتيم احترازا لدينه واستظهارا ليقينه لما أنزل الله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) فتجنبوا حينئذ مخالطة اليتامى واستنكاح النساء منهم وعزل كل من كان يربي يتيما ويكفله ذلك اليتيم في بيت أفرده به وأخدمه خادما منقطعا إليه فشق ذلك على المسلمين فشكوا ذلك الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت (٢) :

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٣٧ عن المجمع روي ... وهو المروي عن السيدين الباقر والصادق (عليهما السلام).

(٢) حقائق التأويل في متشابه التنزيل ص ٢٩١ للسيد الشريف الرضي روي عن جدنا الباقر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهما السلام).

١٦٣

مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) ٣.

وهذه الآية منقطعة النظير فيما تحمل من توجيهات وأحكام ، وقد كثير في تفسيرها القيل والقال والإدغال ممن لم يمعنوا النظر فيها فلم يعرفوا الرباط بين شرطها وجزاءها ، فتسلموا لمختلقات إسرائيلية غائلة ، بين قائلة أن ثلث القرآن ساقط هنا بين شطري الشرط والجزاء (١) وقائلة أن نصف الآية هنا ونصفها على رأس المائة والعشرين هي (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ..) (٢).

فلقد خرف وانحرف من هرف بسقوط ثلث القرآن بين شطري آية واحدة ، ولم يسقط في هذه الفرية الساقطة إلا كل عقله!.

فكيف يسقط ثلث القرآن ـ وهو ـ إذا ـ زهاء ثلاث آلاف آية ـ ولم ينتبه له

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٣٨ عن كتاب الاحتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه لبعض الزنادقة : واما ظهورك على تناكر قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء ولا كل النساء يتامى ، فهو ما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن وهذا وما أشبهه مما ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر والتأمل ووجد المعطلون واهل الملل المخالفة للإسلام مساغا الى القدح في القرآن ولو شرحت لك كلّما أسقط وحرّف وبدل ما يجري هذا المجرى لطال وظهر ما يحظر التقية إظهاره من مناقب الأولياء ومثالب الأعداء.

(٢) المصدر في تفسير علي بن ابراهيم قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ ..) قال : نزلت مع قوله (وَيَسْتَفْتُونَكَ ... فَانْكِحُوا ..» فنصف الآية .. وذلك انهم كانوا لا يستحلون ان يتزوجوا يتيمة قد ربوها فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فأنزل الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ـ الى قوله ـ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)!.

١٦٤

إلا هذا الساقط الماقت ، وقد انتبه لسقوط حرف واحد من آية في خطبة لعمر بسطاء المسلمين ، وهي : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (٩ : ١٠٠).

فقد تلاها الخليفة عمر بإسقاط الواو بعد الأنصار ، فقام اعرابي قائلا : يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اين الواو؟ فاعتذر واستدرك.

وعلّه أسقطها لأنه كان من المهاجرين فأحب ان يتبعه الأنصار ، ام نسي الواو فنبهوه ... أم كيف يتساقط ثلث القرآن والله ضامن للحفاظ عليه وصيانته في آية الحفظ ، وحفّاظ المسلمين يسكتون عن هذه السقطة الهائلة الغائلة ، ثم لا يروى ذلك السقط عن أئمة المسلمين إلا يتيمة مختلقة على امير المؤمنين (عليه السلام)!.

ثم وكيف تفصل بين شطري الآية ـ حسب المختلقة الثانية ـ قرابة مائة وعشرين آية ، وذلك غير فصيح ولا صحيح ، ولا يوجد هكذا فصل عاطل باطل بين اي كلام ساقط من أسقط سقاط الناس ، ولا المجانين ، فضلا عن افصح الكلام وأبلغه لرب العالمين.

ثم وأين تقع الآية الأخرى في هذه ونصها (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧).

ثم وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ، ليس يوجد في الكتاب إلا آتيناه هذه : (وَإِنْ خِفْتُمْ ..) حيث تعني يتامى النساء كأصل ، وما كتب لهن يعم مواريثهن وصدقاتهن ونفقاتهن ، فحين ترغبون ان تنكحوهن ظلما

١٦٥

بهن (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) من غيرهن وذلك ادنى ان تعولوا وتميلوا عن الحق فيهن.

فالآية كما يرام متسق النظام ، سديد الانتظام ، شديد الرباط والوئام بين شطريها لمن أمعن فيها بإتقان ، دون من لا مساس لهم بكتاب الوحي وعقليته ، ولا أساس لهم في تفسيره ، اللهم إلا استخارة وقراءة على الموتى وحياتهم بواء خلاء عن معناه ومغزاه.

ونحن نعرف كامل الرباط بين الشطرين بعد ما نعرف مدى التحرج والتهرج بين المؤمنين بالنسبة لليتامى ، بعد ما جعل الله لهم حقا في كافة الإنفاقات (٢ : ١٧٧) والأنفال (٧ : ٥٦) وفي قسمة الميراث (٤ : ٨) وفرض الإحسان إليهم مع ذوي القربي (٤ : ٣٦) والقيام بالقسط لهم (٤ : ١٢٧) وألا يقرب مالهم إلّا بالتي هي أحسن (١٧ : ٣٤) وأمر بإصلاح لهم (٢ : ٢٢٠) وإكرامهم (٨٩ : ١٧).

وهذه الأوامر المشددة المغلّظة قضيتها الانعزال التام عن اليتامى او الخلط الذي يأتي فيه خلط المال على أية حال ، وقد كان جماعة من المؤمنين يرغبون ان ينكحوا اليتيمات فسحا لمجال هضم لحقوقهن (١) وآخرون لا يرغبون خوفة عن

__________________

(١) في الدر المنثور اخرج جماعة عن عروة انه قال قلت لعائشة ما معنى قول الله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) فقالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها الا انه يريد ان ينكحها بأدنى من صداقها ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزواج عنها فقال تعالى : «وان خفتم ان تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء» ، قالت عائشة ثم ان الناس استفتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) قالت : وقوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) المراد منه هذه الآية وهي قوله» (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا).

١٦٦

ميل عليهن ، فجاء العلاج الحاسم وهو نكاح ما طاب لهم من النساء فان كنتم متحرجين عن الخلط باليتامى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) اليتيمات حتى يزول يتمهن بزواجهن ، ويزول الحرج عن الخلط بأموالهن وأموال أولادهن بذلك القرب القريب ، فالأنثى يتيمة إلّا ان يكون لها والد او زوج ، فالمتوفى عنها والدها وزوجها ، أم والدها ولما تتزوج ، إنها يتيمة مهما كانت بالغة رشيدة كما تدل عليه آية يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن.

فإذا نكحتها فقد أزلت يتمها تماما ، كما أزلت يتم ولدها بعضا ، فقد كان القسط فيهن وهن يتامى فرضا ، ولكنهن الآن لسن بيتامى فينتقل الفرض من القسط الى العدل وهو أسهل وأوسع نطاقا.

وإن خفتم ألّا تقسطوا في يتامى النساء إن نكحتم منهن ألا تؤتونهن ما كتب لهن فلا يطيب لكم ـ إذا ـ نكاحهن (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) غير اليتيمات ، حين لا تطيب لكم اليتيمات.

فقد يكون نكاحهن مما يزيل الخوف عن ترك القسط فيهن وفي أولادهن (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) اليتيمات ، حتى يسهل الخلط بين الأموال لزوال اليتم عنهن وقلته في أولادهن ، او يكون في نكاحهن الخوف من عدم القسط (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) غير اليتيمات ، فقد كانوا إذا كفل الواحد منهم جماعة من يتامى النساء تزوج منهن بالعدد الكثير رغبة في أموالهن وتمنعا عن حقوقهن لضعفهن ويتمهن بفقد آباءهن ، فأمروا ان ينكحوا نساء غيرهن إذا كان القصد هو النكاح.

إذا فذلك النكاح فيهن او في سواهن مما يؤمّن المؤمن عن ذلك الخوف ، فحيث القسط بالنسبة لليتامى فرض على أية حال ، كان أحد النكاحين علاجا

١٦٧

حاسما لهذه المشكلة التي أحرجت المؤمنين وجاه اليتامى.

وبصيغة اخرى ، بما ان المتوفى عنها زوجها ـ هي على الأغلب ـ متوفى عنها أبوها ايضا فهي يتيمة ، ذات أولاد وسواها ، وهنا الحرج في أمرها بالنسبة لوليها خلطا معها فخوفا عن ترك الاقساط ، او بعدا عنها فخوفا عن ضياعها ، وقد كان جماعة يستغلون فرصة اليتم فيهن فيتزوجون اكثر عدد منهن لكي يحصلوا على أموالهن ، لذلك جاء العلاج الحاسم أولا «قل إصلاح لهم خير وان تخالطوهم فإخوانكم» اعتبارا بكل اليتامى ، ثم (إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ..) فالمتولع للزواج إذا كان يطلب من زواج يتامى النساء أموالهن وهو ترك للإقساط ـ بل والعدل ـ فانكحوا ما طاب لكم من النساء غير اليتيمات ، وإذا يطلب الخلط معهن ادارة لشؤونهن ويخاف ترك الإقساط دون قصد فانكحوا ما طاب لكم من النساء اليتيمات.

وذلك من أربط الربط بين شطري الآية نظرا الى مختلف النظر بالنسبة لليتامى ، فنكاح اليتيمات قد يزيل خوف ترك القسط فينكحن ، أو يزيد فيه فلا ينكحن ، وطيب النكاح ليس إلّا ما لا محظور فيه ، وبأحرى ما يزيل المحظور ، وليس تعدد الزواج ـ إذا ـ إلّا حكما هامشيا لا بد له من رجاحة يعبر عنها هنا ب (إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) والإقساط بينهم واجب ، وخوف ترك الواجب يسمح بعديد الزواج ، وإلغاء لخصوصية اليتامى في ترك الاقساط ، فتعديا الى كل ترك لواجب نحكم بجواز عديد الزواج فيما إذا لزم الأمر كبالغ الشبق والشهوة المتطرفة ، ام سواها مما يتطلب عديد الأزواج.

ولماذا «ما طاب» هنا دون «من طاب» والنساء من ذوي العقول؟ فقد تجاوب «ما» عقلية الجاهلية التي ما كانت تعامل النساء إنسانيا كأنهن حيوان!.

علّها «ما» لكي تعني المصدرية مع ما عنت من الموصولية ، ففي

١٦٨

الأولى : فانكحوا طيبا ، استطابة لهن في قسطاس الحق مع سائر الاستطابة في طبيعة الحال الأنثوية ، طيبا في العدد وطيبا في العدد فلا يصح ـ إذا ـ «من طاب» و «ما طاب» تشمل طيب النساء كأناسي ، وطيب الكينونة الأنثوية ، كما شملت طيب العدد الى طيب العدد.

والطيب في النكاح أقله ما لا يخرج فيخرج عن حدود الله ومرضاته ، وأكثره ان يذود عن محظور او يزيد في محبور مشكور ، فلا ينافي طيب النكاح كون المرأة غير مؤمنة ولا سيما إذا دعوتها إلى إيمان بذريعة النكاح ، وهو ينافي كون المرأة غير مأمونة مهما كانت مؤمنة ، وهي تحملك على ما لا يجوز.

وعلى الجملة ف «ما طاب» تعم الطيب الإيماني إلى الإنساني ، الطيب في جمال وكمال وكل طيب في الناحية الأنثوية التي تسد عن محظور وتسدد المشكور.

فالزواج إسلاميا هو عبادة بجانب كونه قضاء للشهوة الجنسية واستيلادا أماهيه.

ثم «ما طاب» تعم كمّه إلى كيفه ، ما طاب عددا وعددا أنثوية ، ولكنه في طيب الكمّ محدد ب (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ثم و (ما طابَ لَكُمْ) كمؤمنين بشرعة الله فتخرج المحرمات نسبية وسببية أماهيه.

وهذه الأعداد الثلاثة تعني تكرير أنفسها : «اثنتين اثنتين ـ ثلاث ثلاث ـ أربع أربع» وذلك تكرير وجاه المجموعة المؤمنة المخاطبة هنا فيعني لينكح كل واحد منكم ثنتين او ثلاث او أربع كما في (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ ... أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (٣٥ :١).

فليست لتعني الأعداد الثلاث مجموعها التسع لكل واحد رغم ما قيل (١)

__________________

(١) وجوب الاقتصار على الأربع في النكاح الدائم وحرمة الزيادة عليها جمعا مجمع عليه بين علماء ـ

١٦٩

فانه فتّ في عضد البلاغة وثلم في جانب الفصاحة ، أن يقول القائل إذا أراد تسعة : ثنتين وثلاث وأربع ، مع ان قضية الجمع ثمانية عشر لأقل تقدير فان كلا يعني تكريرا أقله مرتان ، كما ولا تعني في كلّ اضافة المكرر فهي : أربع ـ ست ـ ثمان ، ولا ضرب كل في نفسه فهي تسعة وعشرون ، حيث التعبير عن كل بحاجة إلى نصه بنفسه ، ولو كان القصد هو الجمع تسعا او ثمانية عشر او تسعة وعشرين ، لما جاز إلّا نكاح واحدة ام جمع من هذه الجموع حيث المسموح واحدة ام واحدة من هذه الجموع!.

ثم قضية التنزل من هذه الجموع ان تكون من تسع الى ثمان ومن نزل ، وكذلك الأمر في ثمانية عشر وتسعة وعشرين ، لا ان يتنزل دفعة إلى واحدة او ما ملكت إيمانكم!.

ذلك ، وكما ان التكرير بمناسبة المجموعة جمعا وجاه الجمع ، كذلك الواو جمع للجمع لا لكل واحد ف «أو» هنا لا تناسب حيث تعني «إما مثنى وإما

__________________

ـ الإسلام اجمع وهو من ضروريات الإسلام ولا يضر ذهاب مثل القاسم بن ابراهيم الزيدي إلى خلاقه. وفي الدر المنثور ٢ : ١١٩ ـ اخرج الشافعي وابن أبي شيبة واحمد والترمذي وابن ماجة والنحاس في ناسخه والدار قطني والبيهقي عن ابن عمران غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختر منهن ـ وفي لفظ ـ امسك أربعا وفارق سائرهن ، وفيه اخرج ابن أبي شيبة والنحاس في ناسخه عن قيس بن الحارث قال أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبرته فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : اختر منهن أربعا وخل سائرهن ففعلت.

وفي مسند الشافعي عن نوفل بن معاوية الديلمي قال : أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اختر أربعا أيتهن شئت وفارق الاخرى.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) لا يحل لماء الرجل ان يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر.

١٧٠

ثلاث وإما رباع» اي لا يجوز للكل إلا ثنتين ثنتين او ثلاث ثلاث او اربع اربع ، واما التفريق لهذه الثلاث بين المجموعة فلا ، ولكن الواو تجمع كل مجموعة من هذه الثلاث تخييرا.

فلا تدل الآية ولا تلمح لأكثر من اربع نساء لأكثر تقدير وأقلهن في حقل النكاح (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

ثم ان سماح ما فوق الواحدة بل والواحدة ايضا مشروط مربوط بالعدل (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

ولأن شرط العدل هنا طليق غير مخصوص بما بين النساء ولا سيما بالنسبة لواحدة ، فهو بإطلاق شرط في ذلك النكاح ، فليشمل العدل في المجتمع والعدل بين النساء والعدل مع واحدة والعدل في نفسه بحقل الزواج ، مربع من العدل مقصود بطليق ، «ألا تعدلوا» في ذلك السماح ، وإلا لكان صحيح التنزل من رباع الى ثلاث الى مثنى ثم الى واحدة ، ولقد انتقل واجب الإقساط لليتامى الى العدل في حقل الأزواج يتامى وسواهن ، ولكنه لا يختص بما بينهن فقط لمكان الإطلاق و (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) حيث تنزل من واحدة إليها ، ولا يصح ذلك التنزل إلا إذا شمل واجب العدل الواحدة كما شمل الجمع.

إذا فالمحور الأصيل في الزواج هو العدل في كل زواياه الأربع ، بين النساء نازلا من أربع إلى ثلاث إلى ثنتين إلى واحدة والى ما ملكت إيمانكم.

فان خفتم الّا تعدلوا بين الأربع فثلاث ، او بين الثلاث فثنتين او بينهما فواحدة ، او بالنسبة لهذه الواحدة الدائمة فالى غيرها المعبر عنها هنا ب (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ولها مصداقان اثنان ثانيهما المتمتع بها في عقد الانقطاع فانها أخف عيلة وشروطا في حقل الزواج.

١٧١

ثم ان خفتم ألا تعدلوا بما فوق الواحدة في مجتمع يتساوى فيه عدد القبيلين كبعض البلاد ، فلو أنك نكحت فوق الواحدة ظلمت الذي لا يجد واحدة قضية تساوي العدد ، أو أقلية النساء ، لا يسمح لك إلّا واحدة ام زائدة ليس فيها ظلم على سائر الذكران (١).

ومن ثم ان خفتم ألا تعدلوا بالنسبة لأنفسكم في حقل الزواج ، بواحدة او زائدة ، مهما عدلتم بينهن وبين المجتمع ، لا يسمح كذلك إلا ما لا ظلم فيه ، ثلاث او ثنتين او واحدة او ما ملكت إيمانكم ملكا او نكاحا منقطعا.

و (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في تفسير طليق تعم ما يستطيعه الرجل من حظوة الجنس المحللة ، دون اختصاص بالأمة المملوكة ، حيث الموهوبة المحللة يجوز وطئها وليست هي مملوكة للمحلل له ، ثم آية المتعة المحلّلة للنكاح المنقطع ملّكتها أيماننا كما ان آيات النكاح الدائم حللت الدائمة ، وقد تشمل (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في حقل الزواج كل زواج محلل ، ولكن ذكرها بعد الزواج الدائم يحولها الى غير الدائم سواء الأمة المملوكة او الموهوبة او الحرة والأمة المحللة بالعقد المنقطع.

(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أتراها من العيلولة وهي ثقل العيال؟ (٢) ولا

__________________

(١) اذكر في زمن المغفور له آية الله السيد ابو القاسم الكاشاني قدس الله روحه انه جاءته رسالة من ميشيكان امريكا ، فيها بعض الاسئلة الغامضة منها انه إذا تساوى العددان في بلد فهل من العدل ان ينكح الاثرياء اكثر من واحدة فيبقى جماعة اخرى عزبا لا يجدون نكاحا ، فأعطاني الرسالة وطلب مني الجواب قائلا انك أجرأ من يقدر على الإفتاء في هذه الموارد واعلم من غيرك بكتاب الله ، فكتبت جوابا عن هذا السؤال انه لا يجوز نكاح اكثر من واحدة في مفروض المسألة لقوله تعالى «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» والعدل المشروط هنا في جواز التعدد طليق يشمل العدل في المجتمع ، فشكرني رحمه الله تعالى وقال فتوى مشرقة لم ننتبه لها.

(٢) الدر المنثور عن زيد بن اسلم في الآية قال : ذلك ادنى ان لا يكثر من تعولوا ، وفيه عن ابن زيد ـ

١٧٢

رباط بينها وبين «ألا تعدلوا» فقد يعدل الإنسان في النفقة بين عيال ثقيل ولا يعدل في سائر قضايا النكاح ، او يعدل فيها ولا يعدل في النفقة او لا يعدل فيهما او يعدل فيهما تماما ، ثم العيلولة تعم واحدة او ما ملكت إيمانكم الى مثنى وثلاث ورباع ، فالراجح إذا ـ بهذه الحكمة ـ ألا ينكح الإنسان أيا كان ولا ما ملكت يمينه فإنه (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا)!

ولو كانت هذه هي الحكمة لكان النص «فان خفتم أن تعيلوا فواحدة ..» دون (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا)! إلّا أن يراد من «تعولوا» مزيد العيلولة واللفظ لا يساعد خصوص المزيد ، ثم «فواحدة» ليس فيها ذلك المزيد حتى ينتقل الى (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)!

ف (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) لا تصلح علة او حكمة في الفرار عن الظلم بالنسبة للعائلة.

هذا من الناحية المعنوية ، ثم من الناحية الأدبية لو كانت «تعولوا» من العيلولة والعيل لكان النص «ألا تعيلوا» من العيل يائيا دون «أن تعولوا» من العول الميل واويا.

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل

دون متى يعول حيث يعني العيلولة.

فاختصاص «ألا تعولوا» بالعيلولة بعد عن علم اللغة وغربة عن وطن العربية ، ثم وليست «تعولوا» من الطول كعالني القميص إذا طالني ، والرجل إذا أكثر عياله ضعف عن القيام بهم وعجز عن كفالتهم فكأن ثقلهم بهضه وأمرهم طاله وغلبه؟.

__________________

ـ في الآية قال : ذلك اقل لنفقتك الواحدة اقل من عدد وجاريتك أهون نفقة من حرة أهون عليك في العيال ، وفيه عن سفيان بن عيينة ان لا تعدلوا قال : ان لا تفتقروا.

١٧٣

فان قضيته ان يكون النص «تعالوا» من عال يعال ، إضافة إلى أن الثقل ليس في واحدة وقد شملها «ألا تعولوا»!

فهي ـ إذا ـ من العول وهو الميل والانحراف عن العدل ، ف «عال عيلا» يائيا من العيلولة ، وعال عولا وأويّا بمعنى الميل والخيانة ، فذلك ادنى ألا تميلوا إلى بعض دون بعض أو على بعض لبعض وهذا يناسب (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً).

وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معنى العول الجور قائلا «أن لا تجوروا» (١) وحقيقة العول وأصله في اللغة الخروج عن حد الاعتدال والمجاوزة للقدر ، فالعول في الفريضة خروج عن حد السهام المسماة لأهلها ، ومن العول هنا هو الزاوية الأكثر ابتلاء ألا تقسم منهن إلّا لبعض دون بعض ، ان تجور على بعض تفضيلا في العشرة خلقا ومأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومنكحا ، ذلك والأصح هو الجمع بينها إذ لو عنيت إحدى هذه الثلاث لجيء بصيغتها ، مهما كانت «لا تعولوا» اظهر في الميل لا سيما وان العيلولة هي من موجبات العول والميل على العيال ، ثم العيلولة لا تختص بعيلولة النفقة ، بل تعم الأعم منها والأهم وهي عيلولة العدالة من زواياها الأربع ، فمهما كان

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١١٩ ـ اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «ذلك ادنى ان لا تعولوا» قال : ان لا تجوروا ، وفيه عن ابن عباس قال : أن لا تميلوا كما في قول الشاعر :

انا تبعنا رسول الله واطرحوا

قول النبي وعالوا في الموازين

وقول أبي طالب :

بميزان قسط لا تخيس سعيرة

ووزان صدق وزنه غير عائل

وفيه عن أبي إسحاق الكوفي قال : كتب عثمان بن عفان الى اهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : اني لست بميزان لا أعول ، وفيه نفس المعنى عن مجاهد والضحاك.

١٧٤

الأرجح في «تعولوا» انها من العول الميل دون العيل والطول الثقل ، ولكن الأجمل هو الجمع بين هذه الثلاث ، حيث الثقل لا يختص بثقل النفقة ، بل هو مطلق الثقل في الزواج الدائم ولا سيما بالنسبة لما فوق الواحدة ، إلّا أن الثقل ـ فقط ـ لا يكفي معونة طليق المعنى المقابل للعدل الطليق لزواياه الأربع ، ولا سيما العدل بين المجتمع ، حيث الزواج بأكثر من واحدة في فرض المساوات بين القبيلين جور على المجتمع وليس ثقلا على الجامع بينهن إلا في سائر العدل.

ومن القرائن القاطعة على رجاحة الميل في معنى «ألا تعولوا» أن تعنيه آية العدل الأخرى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) (٤ : ١٢٩) حيث ذكر الميل بعد العدل ، مما يفسر «تعولوا» بالميل بعد العدل.

ف «ذلك» السماح لمثنى وثلاث ورباع خوف عدم القسط ، و «ذلك» التقليل من عديد النساء ، ام وحتى من واحدة «أدنى ألّا تعولوا» ميلا عن العدل قضية ثقل التكليف ، ولا سيما فيما بين النساء ، حيث العدل الواجب بينهن هو على أشراف المحال ، وهو أسبق ميادين السباق في العدالة بين كل الرفاق ، فان التحسد الغامض المغلظ بين عديد النساء ليس مما يتحمله الرجال إلا القليل ممن وفي لرعاية الحق فيهن ، فحين يقل العدول بالنسبة لزوجة واحدة ، فالعدل بين زوجات هو أصعب بكثير حيث العديدة تتعارك بطبيعة الحال الأنثوية غيرة على شريكة وحسدا ، فلا بد ـ إذا ـ من عدل صارم يحلّ مشكلة النزاع بينهن عدلا بينهن كما يرام ويستطاع.

إذا تقل مشاكلهن وتذل رقابهن في الأمر الواقع مهما كان إمرا في جو العدالة الصالحة.

ومهما قل العدل من الجانبين واقعيا ، فهو مع الوصف ثمين قمين بسنّ

١٧٥

السماح لتعدد الزوجات حصولا على عمق العدالة الصعبة الملتوية والحفاظ على مصلحية التعدد التي قد تفرضه على القادرين على واجب العدل ، وكما يجب على الزوج العدل بينهن كذلك على الزوجات العدل بينهن انفسهن وبالنسبة للزوج ما هو يعدل ، ولا يعدل عن مفروض العدل ، فإذا عدل الزوج كما يجب قل النزاع بين الزوجات وبينه وبينهن ، ثم إذا عدلت النساء زال هذا القلّ ايضا وأصبح الجو العائلي أمثولة للعدالة ، التي تصلح أن تصلح سائر الأجواء مهما كانت متخلفة.

فكما الصوم ارتياض «لعلكم تتقون» كذلك عديد الزوجات ارتياضة عالية غالية للزوجين بالإمكان ان يصلحا لإصلاح سائر البيئات.

إذا فميدان تعدد الزواج هو أضيق الميادين التواء وصعوبة وميدا للمتسابقين عدلا فيما بين النساء ، ثم عدلا بالنسبة للزوجة وإن كانت واحدة ، ثم عدلا في نفس الناكح ، ومن ثم عدلا بين المجتمع ، فإن تساوي القبيلين هو فرض بعيد مهما اتفق في بعض البلاد ، وهذه من أصعب الرياضات النفسية أن تطبق العدالة والعدل في تعدد الزوجات وهنا ضرورات تقتضي السماح في تعدد الزواج تقضي على كافة الصعوبات في ذلك الحقل العسيب.

١ فطرية شهوة عديد الجنس وطبيعته في قبيل الرجال دون النساء مما يحكم بضرورة التعدد ، كضابطة هامشية على متن النكاح ، لا دائبة ولا غائبة عن الموقف بأسره ، وإنما شريطة مربع العدالة.

فلو ان تعدد الزواج كان محظورا كان خلق الرجال بهذه الطبيعة محظورا سبحان الخلاق العظيم! فقد تجاوب كتاب التشريع وكتاب التكوين في قصة التعدد ، فلا سبيل للحظر عنه في أية شرعة من شرائع الدين ، وليس حظر التعدد في المسيحيين إلا اختلاقا من عند أنفسهم يخالف كافة التشريعات الدينية

١٧٦

على مدار الزمن الرسالي.

فقد جاء القرآن ليحدد الزواج بين العدالة والحكمة ، جاء ولم يكن لعديد الزوجات حد محدود ، ولا للعدل بينهن أثر ، فقد حدد العدد دون ان يترك الأمر لهوى الرجال ، وقيّد العدد بإمكانية العدل والعدل وإلّا (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

إن الإسلام نظام قائم على الفطرة ومتطلباتها ، يلتقط الإنسان من واقعه القاصر وموقفه المقصر على ضوء فطرته ليرتفع به في المرتقى الصاعد السامق السابغ ، السائغ لكيانه ، في غير عنف واعتساف.

فانه نظام لا يقوم على الحذالق الجوفاء الخواء ، ولا التظرف والتطرف المائع الضائع ، ولا المثالية الفارغة والأمنيات الحالمة ، المصطدمة بفطرة الإنسان وعقليته السليمة ثم تتبخر في الهواء ليذهب جفاء.

وليست صعوبة الجمع بين زوجات عدة بالتي تحيل العدل بينهن ، وليست هي أصعب من خلفيات الحظر عن تعدد الزواج ، فحين نقايس بين الصعوبتين نجد التحديد بواحدة أصعب بكثير للقبيلين من التعدد ، وعلى النساء المؤمنات هضم انفسهن عند واجب التعدد او راجحه صيانة لرجالهن وأخرى لذوات جنسهن المحرومات عن البعولة.

ثم (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) (٤ : ١٢٩) ليست لتعارض او تنسخ آية السماح ، إذ لا مجال لحكم مستحيل في البداية حتى تنسخه آية تحيله في النهاية ، ثم الاستحالة في آيتها لا. تعني إلّا المستحيل من العدالة وهي في المحبة لمكان (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) عدولا عن مظاهر العدالة نتيجة المحبة الباطنية الكثيرة بالنسبة لبعض دون بعض ، فالميل إلى بعض النساء عن بعض بعضه ميسور وهو القسم ،

١٧٧

وبعضه غير ميسور وهو المحبة ، فحين (لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) عدلا في عدل المحبة (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أن تتركوا العدل في عدل القسم بينهن.

هذا هو العدل الذي تحمله الآية ، ثم المستحيل تحمله الأخرى دون تناحر بينهما ، فشريعة الله ليست هازلة غير حكيمة حتى تشرع أمرا في آية ثم تحرمه إحالة له في أخرى ، إعطاء باليمين وسلبا بالشمال بإحالة ما أعطته اليمين ، فانما اعطت فرض العدل فيما يمكن ، وأحالت في الأخرى ما يزعمه الزاعمون من واجب العدل في المحبة!.

ولقد كان يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حول العدلين : «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (١).

وهذه الآية إجابة عن سؤال شائك حول العدالة المفروضة ، أنها ككلّ غير ممكنة فكيف السماح في تعدد الزواج ، فجاء الجواب (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) (٢) ولم يقل «في النساء» فهو العدل وليس كل العدل (فَلا تَمِيلُوا

__________________

(١) أخرجه ابو داود والترمذي والنسائي.

(٢) نور الثقلين ١ : ٤٣٩ في الكافي علي بن ابراهيم عن أبيه عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن قال : سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم فقال له : أليس الله حكيما؟ قال : بلى هو احكم الحاكمين قال فأخبرني عن قول الله عز وجل (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) أليس هذا فرض؟ قال : بلى ، قال : فأخبرني عن قوله عز وجل (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) اي حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب فرحل إلى المدينة الى أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له يا هشام في غير وقت حج ولا عمرة؟ قال : نعم جعلت فداك لأمر اهمني ، ان ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء قال وما هي؟ قال : فأخبره بالقصة فقال له ابو عبد الله (عليه السلام) اما قوله عز وجل (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) يعني ـ

١٧٨

كُلَّ الْمَيْلِ) إلى من تحبونها اكثر من غيرها ، وعمن لا تحبونها ، ميلا في ظاهر العدل والعدل كما في باطنه ، فالميسور لا يسقط بالمعسور ، فما دام الميل الباطني وعدله غير ميسور ، لم يسمح ذلك بظاهر الميل عن واجب القسم والعدل بين النساء.

فمن لا يجد من نفسه ومكنته نفسية أم بدنية أم مالية أن يعدل في هذه الزوايا الأربع ولا سيما بين النساء ، لم يسمح له عديدهن ، فليعد نفسه بكل المعدات المفروضة أولا ثم يقدم على عديد الزواج ، ام ونفس الزواج بواحدة ، وأما ما ملكت إيمانكم فميسور لكل أحد إلّا من شذ.

٢ وضرورة أخرى اختلاف القبيلين من حيث العدد والعدد.

فالعدد خلقة وبقاء هو في قبيل الأنثى اكثر من قبيل الذكر ، حيث نرى على مدار الزمن اكثرية ساحقة في الأنثى لا تتجاوز ـ فيما عرفنا تاريخيا حتى اليوم ـ عن نسبة اربع الى واحد ، وهذه النسبة مهما كانت غير مستقرة فقد تنزل الى ثلاث وما دونها ام فوق الأربع ، ولكنها تناسب وأحيانية تعدد الزوجات ولا سيما شرط العدالة الكاملة ، إذ ليس كل رجل بإمكانيته أن يتزوج أربعا إلّا في قلة قليلة ، ثم هناك من لا يتزوج لحالات استثنائية.

فسماح الزواج مثنى وثلاث ورباع شرط العدالة المربعة مما يعالج مشكلة المضاعفة في قبيل الأنثى في الحد المتوسط من اختلاف العدد النسائية والعدد الرجالية.

فحتى إذا ثبت واقعيا ان ليست المضاعفة اربعة أم ولا ثلاثة في الأنثى ،

__________________

ـ النفقة واما قوله (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) يعني في المودة فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب قال : والله ما هذا من عندك.

١٧٩

فأحيانية الأربعة في امكانية الزواج العادل تجاوب ذلك الواقع تماما.

ومهما يكن من شيء فالأكثرية الأنثوية مما لا تنكر بين المجتمعات على طول الخط مهما شذ زمان او مكان عنها ، لا سيما وان التلف للذكور بالأمراض والحروب أكثر من الأناث (١).

ولقد اضطررن النساء في المانيا الغربية الى تقديم طلب الى المجلس النيابي لإجراء قانون تعدد الزوجات تخلصا عن العزوبة ولكن الكنائس عارضه ، كما وان وكلاء المجلس النيابي هناك قدموا لائحة سماح اللواط حيث الرجال ليسوا ليصبروا على امرأة واحدة (٢).

أضف إلى فطرة طلب التعدد في الرجال والأكثرية الساحقة في النساء ، استعداد الرجال لعملية الجنس والإخصاب اكثر بكثير من النساء.

فالرجل مستعد للإنجاب في معتدل التقدير منذ خمسة عشر حتى المائة ، ولكن المرأة لا تعدو الخمسين فهو أضعافها من هذه الناحية إنجابا ، فيبقى الرجل خمسون سنة لا مقابل له إخصابا في حياة المرأة ، وما من شك ان من أهم الأهداف في الزواج هو الإنجاب ، فلو حرم اكثر من واحدة للرجال لكان تكوين حالة الانجاب الأكثر فيه بكثير باطلا من التكوين ، سبحان الخلاق العظيم ، حيث تجاوب في مشيئة التشريع والتكوين ، ثم الرجل يستعد للغشيان في كافة الأوقات والمرأة لا تستعد إلا في ثلثيها حيث الثلث هي ـ في العادة ـ تمضي في العادة الشهرية ، فللرجل هنا ـ ايضا ـ ثلث زائد.

__________________

(١) ففي جريدة الاطلاعات الايرانية ١١ / ١٠ / ٣٥ ان التلفات المسببة عن الأمراض في الذكور الى سن ١١ هي ٥ / ١٠٠ اكثر من الإناث ، ومن ٢٥ ـ ٣٠ و ٦٠ ـ ٦٥ هي ضعف النساء ففي قبال ٠٠٠ / ٥٠٠ / ١ من الأنثى لا يبقى الا ، ٠٠٠ / ٧٥٠ من الذكر.

(٢) المصدر أن ذلك حصل في المانيا الغربية سنة ٣٥ هجرية شمسية.

١٨٠