الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤

بد لهم من الشورى في كافة الأمور المشتبهة كما فصلناها على ضوء آية الشورى.

ذلك رغم ما سبق قبل قليل من شوره معهم في مرة خطيرة مرة انشأت فتا في عضد الوحدة ، إذ رأت مجموعة ـ من جراء الشورى ومخالفة رأيهم ـ أن تنسحب عن الحرب كليا ، وتحمّست أخرى للخروج ، فكان من حق القيادة الرسالية أن تنبذ الشورى معهم عن بكرتها بعد المعركة ، التي اعطت درسا كاملا أن صالح الرأي ـ فقط ـ هو ما يراه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن الإسلام ـ وهو ينشئ أمة خالدة ويعدها لقيادة البشرية ـ عليه أن يجعل مبدأ الشورى أصلا يرتكن عليه في كل شاردة وواردة ، وكل خالجة وخارجة.

وهذه الآية نص قاطع لأمر دله أن الشورى مبدأ رئيسي لا يقوم نظام الإسلام في قيادتيه الزمنية والروحية إلّا عليها.

صحيح أن الرسول المتلقي عن الله ليس ليحتاج إلى شوراهم ، كما وأن (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) تنهي صالح الرأي فيها إليه نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكنّما الشورى من القائد قد تشير المقود تدريبا له كما قد تشير القائد إلى ما يغفل عنه ، ومشاورة الرسول إياهم لا تعني إلّا تدريبهم وإيصالهم بالوحي الرسالي إلى صالح الأمر ، «أما إن الله ورسوله غنيان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيا» (١) ف «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار» (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٩٠ ـ اخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أما ..

(٢) المصدر اخرج الطبراني في الأوسط عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٦١

ذلك! فقد علم الله انه ما به إليهم من حاجة ولكن أراد ان يستن به من بعده فيكون (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) كما فصلناه على ضوء آية الشورى مشبعا فلا نعيده هنا.

لقد أمر الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشاورهم في الأمر ـ المختلف فيه ـ وهو يأتيه وحي السماء ، لأنه أطيب لنفوسهم حيث تكبر عند مشاورته ، بأنه يهتم بهم كأنهم مشاركوه في رسالته.

كما ولم يؤمر بمشاورة العابد من أمته ، بل مشاورة هؤلاء العصاة المجاهيل ، مما يبرهن على مغزى تلك المشاورة أنها فقط لصالح الأمة تدربا وتعرفا إلى هامة الأمور بإعمال العقل والتفكير ، دون صالح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا بلاغا شيّقا لرسالته حيث يعد أمته في عداد رسالته وأداتها.

ومما يبرهن على ذلك «وشاورهم» دون «تشاور وإياهم» حيث الثاني تشاور وتفاعل بين جانبين دون فضل لأحدهما على الآخر ، ولكن «شاورهم» تجعل المشاور هو البادئ ، لا لحاجة منه إليهم ـ دونهم إليه ـ حيث العقلية الكاملة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل رسالته كانت أكمل منهم كلهم كما كانوا يعترفون ، فضلا عما بعد رسالته ، بل لحاجتهم إليه أن يتدربوا في غوامض الأمور كيف يتشاوروا.

ثم (فَإِذا عَزَمْتَ) دون «عزم أكثرهم» دليل آخر على أصالته في أمر الشورى دونهم (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) الذي أوحى إليك صائب الأمر ، ولا تخف من يخالفك في الأمر ، فإن أمره في إمر وهو يفضح نفسه بخلافه على صاحب الأمر كعبد الله بن أبي سلول حيث خالفه (صلى الله عليه وآله وسلم) في عزم الخروج عن المدينة للحرب ، وانقطع بثلث الجيش عن الخروج.

٦٢

هنا (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) لها أبعاد ، منها إمضاء العزم بعد المشاورة بما عزمت بوحي الله ، دون أن تخاف أحدا خالفك في الأمر كما حصل في ابن أبي سلول.

ومنها ان لا دور للتوكل على الله إلا بعد تقديم كل المساعي في سبيل التعرف الى صالح الأمر وتحقيقه ، تقديما فرديا وجماعيا ، ومن ثم (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

ومنها ألا يتكل الإنسان على ما اهتم وقدّم ، بل وعليه ان يتوكل على الله في إمضاء ما يمضي دون استقلال لنفسه ولا استغلال ، بل هو توكل على الله فيما يسعى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

ولقد كانت هذه سنة رسالية زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة من آل الرسول (عليهم السلام) ، حيث كانوا يضعون الضائعين على الطريق الواضح على ضوء الشورى ، مفيدين غير مستفيدين إلّا تدريبا أريبا (١).

وقد أشار ابن عباس على الامام علي (عليه السلام) ما لم يوافق رأيه فقال : لك أن تشير علي وأرى فان عصيتك فأطعني (٢).

فما استشارته (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته إلا كما استشاره الله تعالى

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٠٥ في تفسير العياشي احمد بن محمد عن علي بن مهزيار قال : كتب إلى ابو جعفر (عليهما السلام) أن سل فلانا أن يشير علي ويتخير لنفسه فهو يعلم ما يجوز في بلده وكيف يعامل السلاطين فان المشورة مباركة قال الله لنبيه في محكم كتابه (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) فان كان ما يقول مما يجوز كنت أصوب رأيه وان كان غير ذلك رجوت ان أضعه على الطريق الواضح إنشاء الله (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال : يعني الاستخارة.

(٢) نهج البلاغة باب الحكم الرقم ٣٢١ عنه (عليه السلام).

٦٣

في أمته على حد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «ان ربي تبارك وتعالى استشارني في امتي» (١).

هكذا تربى الامة بالشورى بينهم وتدرب على حمل التبعة ، لتعرف كيف تصلح آراءها وتصحح أخطاءها ، فالإسلام لا يريد من الأمة المسلمة ان تظل كالطفل والقاصر تحت الوصاية ، فكما يأمر بمواصلة التعلم والتعقل ، كذلك بالشورى بينهم في هامة الأمور وعامتها لصالح الأمة على مر الزمن ، ومشاورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إياهم تترك في نفوسهم حبا لهذه الرسالة السامية انه اعتبرهم كأنهم لهم شأن من الشأن في الأمر عند الله وعند رسوله وعند الناس ، ثم ليختبر مدى عقولهم في صالحهم ، ومن ثم إذا شاورتهم في الأمر فقد حملتهم على اجتهاد جماهيري في صالحهم فإذا أصابوا صدقتهم وفي ذلك بهجة لهم ونهجة في حياتهم العقلية الإسلامية ، وان اخطأوا أرشدتهم الى صالح الأمر بما أوحى الله إليك.

وما أحلاه وأحناه عناية بأمرهم في شورى الأمر وهم العصاة ، لكيلا يعتبروا أنفسهم بعد خارجين عن نطاق الأمر ، اجتذابا لهم أكثر واجتلابا إلى امر الشرعة الربانية دون مجانبة وابتعاد عنها لأنهم كانوا عصاة.

و «الأمر» هنا في حقل المشاورة هو بطبيعة الحال ليس مما جاء في نص القرآن او السنة ، انما هو الأمر الذي لا نص فيه ، او فيه اختلاف وشبهة تعتريه كما و «أمرهم» في (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ولكنه أوسع دائرة لمكان اختلاف الانظار في الأحكام غير الضرورية ، فلتشملها الشورى.

__________________

(١) كما في حم ٥ / ٢٩٢ بإخراج المعجم المفهرس عن ألفاظ الحديث النبوي ، وفيه عن النسائي قسامة (٤٠) ان النبي استشار الناس ، وفي حم ٣ : ٢٤٣ ـ استشارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأسارى يوم بدر.

٦٤

فليأخذ القواعد المسلمون ، روحيون وزمنيون ، درسا نابغا من سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نابعا من منبع الوحي ، فلا يستبدوا بآراءهم بسند الطاقات العلمية والعقلية ، فضلا عن سيادة القوة الزمنية ، وليحسبوا للامة الاسلامية الحساب الذي حوسب به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فالمستبد برأيه مهما كان صائبا هو خائب حيث يخسر عطف الأمة واستصلاحها لمعرفة صالحها عن طالحها ، ويخسر نضوج العقلية بينهم فهم كالطفل تحت الولاية في الأمر.

كلّا! وإن على القائد ان يقود المقود الى ما استأهله للقيادة ، حتى تسود مختلف القابليات والفاعليات في الامة ، ف «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» والراعي بحاجة الى صائب الرأي فيمن يرعاه.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٦٠).

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) لا تختص بميادين النضال الخارجية بل وبأحرى بميادين النضال النفسية ، فما لم تكن النصرة الربانية لم يوفّق العبد في أي حقل من الحقول الحيوية الايمانية ، فردية كانت او جماعية ، و (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) يتغلب عليكم ، فكل طاقة مبذولة امام النصرة الربانية مغلوبة مخذولة ومرذولة.

ف «إذا فعل العبد ما أمره الله عز وجل به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عز وجل وسمي العبد به موفقا ، وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي الله فحال الله تبارك وتعالى بينه وبين تلك المعصية فيتركها كان تركه بتوفيق الله تعالى ذكره ومتى خلى بينه وبين المعصية فلم يخل بينه وبينها حتى

٦٥

يرتكبها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفقه» (١).

ثم (فَلا غالِبَ) استغراق في سلب أي غالب من دون الله ، سواء أكانت النفس الأمارة بالسوء ام سائر شياطين الجن والانس ، حيث تنتظم (فَلا غالِبَ) كل غلبة من اي غالب من بعد الله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦ : ١٧) (... وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١٠ : ١٠٧).

وترى ما هو دور «لكم» بعد سلبية مطلقة لأي غلب؟ والغلب المحظور هو «عليكم» لا «لكم»؟

«الغلبة» هي متعدية بنفسها دون اية حاجة لها إلى معدّ : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) (٢ : ٢٤٩) ـ (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) (٨ : ٦٥) (غُلِبَتِ الرُّومُ) (٣٠ : ٢).

إذا فتلحيقها بجار لا يعني التعدية ، سواء في ذلك «على ـ او ـ ل ـ او ـ في» فانها لإفادة فائدة أخرى. تأكيدا لتحليق الغلبة كما في «على» : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) (١٢ : ٢١) ام لاختصاص النفي بخاص كما في (فَلا غالِبَ لَكُمْ) حيث اللام تعني الإختصاص لسلب الغلبة بذلك المورد الخاص ، صدقا كما هنا وكذبا كما (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ..) (٨ : ٤٨).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٠٥ في كتاب التوحيد باسناده إلى عبد الله بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه فقلت قوله عز وجل (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) وقوله عز وجل (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) فقال : ...

٦٦

فليست «لكم» لتعني «عليكم» ، إنما هي لكم اختصاصا للسلب بكم المؤمنين (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ). ويقال نصر الله وخذلانه إذ لا يخلو لعبيده من نصر وخذلان ، وليس العوان بينهما ـ دون نصر ولا خذلان ـ يناسب ساحة الربوبية الوحيدة غير الوهيدة ، التي تحلّق على كل سلب وإيجاب ، تخييرا كما في النصرة والخذلان فإنهما من مخلّفات الإيمان واللّاإيمان ، أم تسييرا كما في الأمور المسيّرة غير الميسّرة للمكلفين سلبا ولا إيجابا.

(وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) فيكلكم إلى أنفسكم وإن في طرفة عين (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) من بعد خذلانه ، ف (اللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) غير مغلوب ، إذا (وَعَلَى اللهِ) لا سواه (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ف (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ١٦١.

(وَما كانَ) هنا كأضرابها في ساير القرآن تضرب هذه السلبية إلى اعماق الماضي سلبا عن مثلث الزمان ، حيث تسلب الغلول عن الكينونة الرسالية ككل وبأحرى هذه الرسالة السامية ، فليس ـ إذا ـ سلبا للجواز وتثبيتا للحرمة فحسب ، بل هو سلب لإمكانية الغلول للنبيين.

والغلول هو تدرع الخيانة كما الغل : العداوة ، والغل هو الاغتيال : القتل ، فما كان لنبي أن يغل ولا أن يغل وله ان يغل ويقتل في سبيل الله من يغل او يغل او يغل إذ كان يستحق الغل.

فالخيانة بأية صورة من صورها وأية سيرة من سيرها مسلوبة عن النبيين ، سواء أكانت خيانة في النفس أو النفيس ، خيانة بحق الله في شرعته أم بحق عباد الله في حقوقهم ، فإن الأمانة هي من اللزامات الأولية الرئيسية للرسالة

٦٧

الإلهية على أية حال في قال وحال وفعال ، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٦٩ : ٤٧).

وكيف يخون الله شرعته وخلقه أن يأتمن الخائن ، وما هو إلّا جهلا او تجاهلا او عجزا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

فالآية لها دور طليق بالنسبة لمطلق الخيانة عن ساحة النبوة على مدار الزمن الرسالي ، فتشمل كافة الشؤون لنزولها وسواها مما لم تحصل ، اجتثاثا للغلول عن هذه الساحة السامية عن بكرته وبكرتها ، سواء أكانت خيانة في الرسالة ، أم في الغنائم الحربية اختصاصا بنفسه (١) ام في تقسيمها (٢) ام قبولها (٣) ام في السكوت عنها (٤) ومن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «اجتنبوا الغلول فانه

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٩١ ـ اخرج عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر فقال بعض الناس لعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذها فأنزل الله : وما كان لنبي ان يغل ...

(٢) المصدر اخرج ابن أبي شيبة وابن جرير من طريق سلمة بن نبيط عن الضحاك قال بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طلائع فغنم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقسم بين الناس ولم يقسم بين الطلائع شيئا فقالوا : قسم الفيء ولم يقسم لنا فأنزل الله الآية.

(٣) المصدر اخرج الطبراني بسند جيد عن ابن عباس قال بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جيشا فردت رابته ثم بعث فردت بغلول رأس غزالة من ذهب فنزلت : وما كان لنبي أن يغل.

(٤) المصدر اخرج ابن أبي شيبة عن انس بن مالك قال قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استشهد مولاك فلان قال كلا إني رأيت عليه عباءة قد غلّها ، وفي نقل آخر ، بل هو الآن يجر إلى النار في عباءة غلها الله ورسوله.

وفيه اخرج الترمذي وحسنه عن معاذ بن جبل قال بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن فلما سرت أرسل في أثري فرددت فقال أتدري لم بعثت إليك لا تصيبن شيئا بغير إذني فانه غلول ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة لهذا دعوتك فامض لذلك.

٦٨

عار وشنار ونار (١).

وان رضا الناس لا تملك وألسنتهم لا تضبط ألم ينسبوه يوم بدر إلى أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتى أظهره الله على القطيفة وبرأ نبيه من الخيانة وأنزل في كتابه (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ..) (٢).

وان تهمة الغلول ـ الوقحة ـ كانت من العوامل التي جعلت الرماة يزايلون مكانهم من الجبل خوفة ألا يقسم لهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغنائم كما سبقت يوم بدر بالنسبة للقطيفة الحمراء وساحة النبوة منها براء ، فهنا يأتي النص بحكم عام ينفي عن الأنبياء إمكانية الغلول فضلا عن خاتم الأنبياء.

ولقد تقولوا عليه قولة الغلول حتى أنه كان يقول : «لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم منه درهما أتحسبون أني اغلكم مغنمكم» (٣) ويقول «لا إسلال ولا غلول»(٤) ولم يضمن الإغاثة لمن يغل يوم القيامة (٥) وهو الشفيع فيه.

__________________

(١) المصدر ذكر لنا ان نبي الله كان يقول : ...

(٢) نور الثقلين ١ : ٤٠٤ في امالي الصدوق باسناده الى الصادق (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه يا علقمة ...

(٣) .....

(٤) الدر المنثور ٢ : ٩٢ ـ اخرج الطبراني عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة.

(٥) المصدر اخرج ابن أبي شيبة واحمد والبخاري ومسلم وابن جرير والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال قام بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال : لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله اغثني فأقول لا املك لك من الله شيئا قد أبلغتك ، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة ـ

٦٩

ولقد اثرت آية الغلول وأضرابها في نفوس الجماعة المؤمنة أثرا عميقا حتى أتت بالعجاب ، فكانوا يجتنبون الخيط والمخيط (١) وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «أدوا الخيط والمخيط فانه عار وشنار يوم القيامة» (٢).

ذلك (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذه هي عينية التبعة أن يؤتى من غل بما غل ، سواء أكان قولا او فعلا ام شيئا غل فيه ، حيث المحشر يحشر فيه الإنسان بكل أعماله قالة وحالة وفعالة (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وهنا (ما كَسَبَتْ) في التوفية دون «بما كسبت» مما يدل على ان المكاسب يوم الدنيا هي بنفسها الجزاء يوم الآخرة ، أن تظهر بملكوتها تحولا لها إلى الجزاء بنفسها.

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ١٦٢.

فكيف يساوى بين ضفتي الرضوان والسخط من الله ، أن يبعث الله الساخط عليه كما يبعث الراضي عنه ، أم كيف يبتعث الذي مأواه جهنم وبئس

__________________

ـ فيقول يا رسول الله اغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفف فيقول يا رسول الله اغثني فأقول لا املك من الله شيئا قد أبلغتك.

(١) تفسير الفخر الرازي ٩ : ٧٠ روى انه (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل سلمان على الغنيمة فجاءه رجل وقال يا سليمان كان في ثوبي خرق فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطه به فهل علي جناح؟ فقال سلمان : كل شيء بقدره فسل الخيط من ثوبه ثم ألقاه في المتاع ، وروي ان رجلا جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشراك او شراكين من المغنم فقال أصبت هذا يوم خيبر فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شراك او شراكان من نار ، ورمي رجل بسهم في خيبر فقال القوم لما مات ، هنيئا له الشهادة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّا والذي نفس محمد بيده ان الشملة التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلتهب عليه نارا.

(٢) المصدر وقال عليه الصلاة والسلام.

٧٠

المصير ويترك الذي مأواه الجنة ونعم المصير؟ فكيف يفترى على رسول الهدى الغلول وصاحبه في سخط من الله وقد باء ورجع في أولاه وأخره بسخط من الله! (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) ١٦٣.

أترى (هُمْ دَرَجاتٌ) تختص بمن (اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) حيث الدرجة كأصل هي ما يرقى عليه فيرتقى كما وجلّ آيات الدرجات تعني درجات الرحمة والرضوان (١).

أم تعم إلى هؤلاء الأكارم (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) إقحاما للدرجات الخلقية الى الدرجات الخلقية : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) (٤٣ : ٣٢) فالناس كمعادن الذهب والفضة (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٣٢) تشمل درجات الدركات بالأعمال السيئة.

ثم وكيف (هُمْ دَرَجاتٌ) وليسوا إلا أصحاب الدرجات بالأعمال والعقائد والصفات ، فانها مما عملوا كما في آيات؟ لأن «درجات» تعم الدرجات الخلقية في الذوات ، ثم الدرجات الخلقية تتعامل مع الذوات ، متعاكسة في تأثيرات ، فالدرجات الذاتية تنعكس على الأفعال والصفات ، وهما تنعكسان ايضا على الذوات ، إذا ف (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) ، في ذواتهم وحالاتهم وأفعالهم وصفاتهم ، فالمؤمن درجته مرتفعة والكافر درجته متّضعه ،

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٠٦ في تفسير العياشي عن عمار بن مروان قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ ..) فقال : هم والله درجات المؤمنين عند الله وبموالاتهم ومعرفتهم إيانا يضاعف الله للمؤمنين حسناتهم ويرفع لهم الدرجات العلى.

٧١

كلّ ينال درجته باستحقاق فلا ظلم ولا إجحاف ولا محاباة ولا جزاف في الدرجات الخلقية المسيرة ولا في الخلقية المخيرة ، التي تؤثر في الذوات ، إذا (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) قابلية وفاعلية فجزاء وفاقا ، كما هم درجات عند الله عندية العلم والتقدير والتدبير ، فلا تخفى من درجاتهم خافية بحضرة الربوبية إعطاء وجزاء وبينهما عوان.

ثم وكما (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) يدرجون الى رضوانه (١) او سخطه ، كذلك يدرج بهم إليهما لأنهم اصول الخير والشر ، بهم يدرج أهل الخير إلى الخير وأهل الشر إلى الشر (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ).

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ١٦٤.

آية يتيمة لا نظيرة لها في القرآن ، بشأن الرسول اليتيم المنقطع النظير ، يمن الله فيها به على المؤمنين ، ترتكن في ذلك المن على قواعد اربع.

١ «إذ بعث فيهم رسولا منهم» ف «المؤمنين» هنا طليقة تعم كل المؤمنين على مدار الزمن الرسالي الأخير من اي العالمين كانوا ، من الجنة والناس وسواهما أجمعين ، فان «منهم» تعني مجانسة الإيمان ، لا المجانسة في البشرية.

واما (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (٦ : ١٣٠) المقرّرة

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٠٦ في اصول الكافي بسند متصل عن عمار الساباطي قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ ... هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ») فقال : الذين اتبعوا رضوان الله هم الأئمة (عليهم السلام) وهم والله يا عمار درجات للمؤمنين وبولايتهم ومعرفتهم إيانا يضاعف الله لهم اعمالهم ويرفع لهم درجات العلى.

٧٢

المجانسة بين الرسول والمرسل إليهم ، فقد تعني طليقة المجانسة ، غير المناحرة لاختلاف الجنس بين الرسل الأصليين والمرسل إليهم ، حيث تكفى المجانسة في الرسل الوسطاء ، جنا في الجن وسواه في سواه ، ثم الرسالة المحورية هي لقبيل الإنس ، و «رسولا منهم» تحمل بعدي البشرية والرسالية ، فهو بشر كما أنتم ، وهو مؤمن فيما أنتم ، فاصطفاه الله من البشر المؤمنين رسولا فيهم ، لا إليهم فقط فانه رسول للعالمين من الجنة والناس ومن سواهم من المكلفين أجمعين.

هنا (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وفي سواها منهم ، وليست الأنفس هنا زائدة غير قاصدة ، فانما تعني زائدا قاصدا وظلّا عميق الإيحاء والتدليل ، أن الصلة بينه وبين المؤمنين هي صلة النفس بالنفس ، واقعة بينه وبين قليل منهم ، وواجبة بين الآخرين أن يحصلوها ، فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى ، إنما هي (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهم بالإيمان الصالح يرتقون إلى هذا المرتقى ، ويرتفعون الى هذه الصلة ، فالمنة ـ إذا ـ مضاعفة في إرسال رسول من أنفسهم ، بهذه المواصلة النفسية النفيسة بينهم وبينه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو كان رسولا لا بشرا ولا من المؤمنين لكانت الخيبة في هذه الرسالة ذات بعدين ، حيث المجانسة بين الرسول والمرسل إليهم أصل من اصول الرسالة الرئيسية : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ..) (٦ : ١٣٠) كما أن أمانة الإيمان الأمين أصل وهو أقوى من اصل المجانسة ، ولو كان رسولا منهم لا من أنفسهم لقلت العائدة في هذه الرسالة ، فبفقد كلّ من الأصلين تنقص الرسالة حسبه فضلا عنهما جميعا ، فذلك ثالوث من انتقاص الرسالة أن يكون الرسول مؤمنا مؤمنا غير بشر او بشرا غير مؤمن ام يفقدهما ، ف (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) تجمع الأصلين معا ، انه بشر كما هم ومؤمن كما هم ولكنه اصطفي من بينهم فأوحي إليه : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) (١٨ : ١١٠) فأصبح (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فالروح الرسالية هي أرواح المؤمنين اجمع.

٧٣

٢ (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) تلاوة المتابعة فانها ليست إلا هيه كما (الشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) وقد ارتكزت رسالته على هذه التلاوة : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) متابعة في كل حقولها ترتلا وترتيلا ، تعلما وتعليما ، فهي ـ إذا ـ رسالة التلاوة التابعة لآيات الله في نفسه وأنفس العالمين.

٣ (وَيُزَكِّيهِمْ) بتلاوة آياته ، زكاة في علومهم وحلومهم ، عقائدهم وأخلاقهم ، اعمالهم وكل ما لهم من قالات وحالات وأفعال وصفات.

٤ (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) تعليما بعد التزكية وتلاوة للآيات ، حيث العلم الذي يتبنى الزكاة هو خالص العلم وصالحه ، وقد يقدم التعليم على التزكية كما في آية واحدة بين اربع (١) (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ..) (٢ : ١٢٩) وقد فصلنا القول حولها في محالها (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

وترى أن (بَعَثَ فِيهِمْ) تختص رسالته بالمؤمنين به؟ وهم حالكونهم مؤمنين ليسوا بحاجة إلى رسالة فإنها تحصيل لحاصل ، فغير المؤمن هو الذي يحتاجها حتى ينقلب مؤمنا ، وهو ليس فيهم! قد تكون هذه نظيرة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) قبل هداهم وبعدها ، فالذي يتحرى عن إيمان هو قد يحسب مؤمنا قبل الإيمان ، ثم يتكامل إيمانه بواقع الإيمان بالقرآن ، ثم تكاملا بالعلم والعمل بالقرآن ف : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) تشير إلى مزيد الإيمان بعد إيمان.

ذلك ، مهما كانت رسالته إلى العالمين أجمع من يؤمن ومن لا يؤمن ، فهو رسول في المؤمنين ورسول إلى العالمين (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ).

__________________

(١) والثلاثة الباقية هي آيتنا وآية الجمعة (٢) والبقرة (١٥١).

٧٤

ولأن المنة ليست إلا على ما فوق الواجب ، فضلا بعد عدل ، فقد حملت هذه الرسالة السامية واجب الدعوة ونفلها ، جامعة بين العدل والفضل قدر الإمكان منهما والحاجة إليهما للعالمين أجمعين ، ولا نرى منّا في رسالة على أمة من الأمم إلّا على هذه الأمة المرحومة بتلك الرحمة الغالية المتعالية ، فهل يخلد بخلد عاقل بعد انه (صلى الله عليه وآله وسلم) يغل وهو الأمين قبل رسالته عند الكل ، فكيف لا يكون أمينا بعدها ، وهو الأمين لدى الناس قبل رسالة الله فكيف لا يكون أمينا لدى الله بعد ما ائتمنه برسالته العليا!.

فالانشغال بغلول الغنيمة وغير غلولها ـ وهو السبب المباشر لقلب الموقف في أحد ـ بعيد كل البعد عن حامل تلك الرسالة العظمى ، حيث تبدو غنائم الأرض وأسلابها وأعراضها وكل ما عليها تافها زهيدا أمامها ، فليمت خجلا التافه السخيف الرذيل الذي يمس من كرامة ذلك الفضيل بغلول في ذلك التافه الرذيل.

ثم الامة المؤمنة التي غنمت هذه الرسالة الممنونة عليها ، المشكورة فيها ، لا يجدر لها أن تتحرى عن المغانم المادية ، ولا سيما التي فيها عصيان الرسول وخسارة الحرب.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ

٧٥

نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ

٧٦

فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧٥)

تتمة من قيلات المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، وعرض لمكانات الشهداء في سبيل الله عند الله تشجيعا على الجهاد وتنديدا بدعايات المختلفين.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ١٦٥.

هذه هي مصيبة الهزيمة العظيمة في أحد التي استقطبت واجهات النظر بين المنهزمين ، ومن اعتراضاتهم عليها بصيغة السؤال (أَنَّى هذا) وقد وعدنا النصر كما انتصرنا في بدر ، ومما هوّن هذه المصيبة (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) إذ هزمتموهم مرة في بدر وأخرى يوم أحد في مطلع المعركة قبل تخلفكم عن أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ووهنكم.

و «مثليها» في عديد الإصابات ومديدها ، إذ «كان المسلمون قد أصابوا ببدر مائة وأربعين رجلا قتلوا سبعين وأسروا سبعين فلما كان يوم أحد أصيب من

٧٧

المسلمين سبعون رجلا (١) فاغتموا بذلك فأنزل الله الآية» (٢).

وقد تعني «مثليها» كلا المثلين ، فانها طليقة في جنسهما الشامل لعدد

__________________

(١) شهداء احد على ما ذكره ابن هشام في سيرة النبي هم : حمزة بن عبد المطلب ـ مصعب بن عمير ـ عبد الله بن جحش ـ شماس بن عثمان وهؤلاء من المهاجرين ، ثم :

عمرو بن معاذ بن النعمان ـ الحارث بن انس بن رافع ـ عمارة بن زياد السكن ـ سلمة بن ثابت ـ عمرو بن ثابت بن وقش ـ ثابت بن وقش ـ رفاعة بن وقش ـ حسيل بن جابر ابو حذيفة اليمان ـ صيفي بن قيظي ـ حباب بن قيظي ـ عباد بن سهل ـ الحارث بن أوس بن معاذ ـ إياس بن أوس ـ عبيد بن التهيان ـ حبيب بن يزيد بن تيم ـ يزيد بن حاطب بن امية بن رافع ـ ابو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد ـ حنظلة بن أبي عامر وهو غسيل الملائكة ـ أنيس بن قتادة ـ أبو حبة بن عمر بن ثابت ـ عبد الله بن جبير بن النعمان وهو امير الرماة ـ ابو سعد خيثمة بن خيثمة ـ عبد الله بن سلمة ـ سبيع بن حاطب بن الحارث ـ عمرو بن قيس ـ قيس بن عمرو بن قيس ـ ثابت بن عمر بن زيد ـ عامر بن مخلد ـ ابو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو ـ عمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو ـ أوس بن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت ـ انس بن النضر عم انس ابن مالك خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ قيس بن مخلد ـ كيسان عبد لنبي نجار ـ سليم بن الحارث ـ نعمان بن عبد عمرو ـ خارجة بن زيد بن أبي زهر ـ سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهر ـ أوس بن الأرقم ـ مالك بن سنان من بني خدرة وهو والد أبي سعيد الخدري ـ سعيد بن سويد ـ عتبة بن ربيع ـ ثعلبة بن سعد بن مالك ـ سقف بن فروة بن البدي ـ عبد الله بن عمرو بن وهب ـ ضمرة حليف لبني طريف ـ نوفل بن عبد الله ـ عباس بن عبادة ـ نعمان بن مالك بن ثعلبة ـ المجدر بن زياد ـ عبادة بن الحسماس ـ رفاعة بن عمرو ـ عبد الله بن عمرو من بني حرام ـ عمرو بن الجموح من بني حرام ـ خلاد بن عمرو بن الجموح ـ ابو ايمن مولى عمرو بن الجموح ـ سليم بن عمرو بن جديدة ـ عنترة مولى سليم ـ سهل بن قيس ـ ذكوان بن عبد قيس ـ عبيد المعلى ـ مالك بن تميلة ـ حارث بن عدي بن خرشة ـ مالك بن إياس ـ إياس بن عدي وعمرو بن إياس ـ وهؤلاء من الأنصار.

(٢) نور الثقلين ١ : ٤٠٨ في تفسير العياشي محمد بن أبي حمزة عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية.

٧٨

الهزيمة وعدد المصابين ، ومما يجيب عن ذلك التساؤل كأصل في الإصابة (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) حيث تركتم مقاعدكم للقتال تخلفا عن أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبغية الغيمة حيث أهمتكم أنفسكم وظننتم بالله الظنونا.

ذلك ، وأما مبادلة أسرى بدر ـ بديلا عن قتلهم ـ بالفداء ، ومبادلة الفداء باستشهاد مثلهم من المسلمين في عام قابل ـ كما يروى ـ (١) فهو إغراء بأجهل الجهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

__________________

(١) المصدر في تفسير علي بن ابراهيم ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تبعوا قريشا بعد احد الى حمراء الأسد ثم رجعوا الى المدينة فلما دخلوا المدينة قال اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هذا الذي أصابنا وقد كنت تعدنا النصر؟ فأنزل الله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) وذلك ان يوم بدر قتل من قريش سبعون وأسر منهم سبعون وكان الحكم في الأسارى القتل فقامت الأنصار الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا يا رسول الله هبهم لنا ولا نقتلهم حتى نفاديهم فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال ان الله قد أباح لهم الفداء ان يأخذوا من هؤلاء يطلقوهم على ان يستشهد منهم في عام قابل بقدر من يأخذون منه الفداء فأخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الشرط فقالوا : قد رضينا نأخذ العام الفداء من هؤلاء ونتقوى به ويقتل منا في عام قابل بعدد من نأخذ منهم الفداء وندخل الجنة فأخذوا منهم الفداء واطلقوهم فلما كان هذا اليوم وهو يوم احد قتل من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعون فقالوا يا رسول الله ما هذا الذي أصابنا وقد كنت تعدنا النصر؟ فأنزل الله (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ ...).

وفي تفسير الفخر الرازي ٩ : ٨٢ روي عن علي (عليه السلام) قال : جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر فقال : يا محمد ان الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك ان تخيرهم بين ان يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على ان تقتل منهم عدتهم فذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك لقومه فقالوا : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم فنتقوى به على قتال العدو ونرضى ان يستشهد منا بعددهم فقتل يوم احد سبعون رجلا عدد أسارى بدر فهو معنى قوله (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) اي بأخذ الفداء واختياركم القتل.

٧٩

فلعمر إلهي الحق هذا من غرائب التأويل العليل ، أن يبدل الله حكم قتل الأسرى بالفداء لمجرد استيهاب بعض المسلمين شرط ان يستشهد بعددهم لعام قابل ، تجارة بائرة بائدة تبوء بذلك الخسار العظيم.

وكيف تباع نفوس طيبة منهم بمال والله يقبله منهم بما شرط ، ونفس واحدة منهم هي أثمن وانفس من أموال الدنيا بأسرها ، ثم الهزيمة العظيمة التي خلفتها هذه المبايعة هي أخسر من خسار أنفسهم!.

كلّا (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) كما قال الله إنهم تخلفوا عن أمر رسول الله ووهنوا ، لا كما تقولوا على الله أنه أغراهم وأقرّهم بجهلهم فانهزموا.

ذلك (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : شيء النصرة بشروطها ، وشيء الهزيمة بالانهزام عن شروط النصرة ، فهناك يد القدرة الربانية تؤيد الربانيين ، كما وهي تقيّد من سواهم بما قيدوا به أنفسهم جزاء وفاقا.

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) ١٦٦.

فليست تلك الإصابة المخزية تغلبا على وعد الله ومشيئته في نصرتكم ، بل هي بإذن الله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) فالإذن هنا والصرف هناك متجاوبان في عناية مشيئة الله في ذلك الانهزام الذي سببه في الأصل (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) ، وذلك حين تخلّفتم وفشلتم ، فلا سلب ولا إيجاب في الكون ـ ككل ـ إلا بإذن الله تسييرا في قسم وتخييرا في آخر ، فليست مشيئة الخير والشر بمقدماتها وأسبابها الخلقية هي الكافية في حاصل الخير والشر إلّا بإذن الله ، ولا يعني إذن الله «تسييرا» فانما هو السبب الأخير في كل فاعلية سلبية أو إيجابية قضية التوحيد في كل الآثار ، فليس بالإمكان تكوين اي كائن إلّا بإذن الله ، المشترك بين ما لا اختيار فيه للخلق وما فيه اختيار.

(فَبِإِذْنِ اللهِ) كما هو (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) «وليعلم» الله علامة النجاح

٨٠