من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

الأرض ، ولكن ماذا كانت تبعة هذا الخطأ الفادح؟ إنها الضلالة لا غير.

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً

وحينما قاسوا قيادة الرسول بالقوى المادية ، حرموا أنفسهم من فهم الحقيقة ، ولا سبيل لهدايتهم ما دامت الأفكار الجاهلية تستبد بعقولهم.

[١٠] تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً

إذا شاء الله جعل للرسول جنات وقصورا ولكن أين كل ذلك؟

قال بعض من المفسرين : ان المراد من ذلك ـ جنّات وقصورا ـ في الدنيا وذلك محتمل ، إلا أن الأفضل القول : بأن ربنا يذكّر بالآخرة ، فليست الدنيا آخر المطاف بالنسبة للإنسان.

لهذا جاء الرد الالهي بأن الرسول كريم على الله وهو يحبه ، ولكنه لا يعطي له الدنيا جزاء لعمله ، لعدم كونها في مستواه ، بما فيها من زخرف وزينة ، وكذلك يتعامل الله مع المؤمنين ، ويسند هذا الرأي قوله تعالى مباشرة بعد هذه الآية :

[١١] بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً

فهم انما اقتصروا في مقاييسهم على الدنيا لتكذيبهم بالعالم الآخر ، وما جزاؤهم سوى السعير.

إن آيات الذكر تعالج الأمراض النفسية التي تصيب القلب وتمنع عنه الرؤية. أرأيت من غرق في لجة ، وتكاثفت عليه الأمواج ، هل يقدر على الاستقرار ، أو السيطرة على نفسه. كذلك الذي تتقاذفه أمواج الشهوات ، وتعصف به عواصف

٤٠١

العداوة والغيظ.

فلكي يستقر هذا القلب الذي يتقلّب على كف الشهوة والغضب ، حتى يفكر بموضوعية ، ويستضيء بنور العقل المودع فيه ، ويعود إلى فطرته التي خلق عليها. لا بدّ له من مرساة يحفظ سفينته عن هيجان الأمواج. لا بد له من قوة تصونه من التقلبات.

وان الايمان بالساعة لهو تلك المرساة وانه لتلك القوة.

وان الايمان بالساعة يعطي النفس موضع استقرار ينطلق منه نحو تقييم سائر الأشياء ، انه يعطيه قوة ، لتتعالى بها عن أمواج الشهوة والعصبية. كيف؟

لنضرب مثلا : من لا يملك إلا دينارا واحدا وخشي عليه من السرقة ، يكون كل تفكيره في ديناره ، حتى يكاد ينظر إلى الدنيا كلها من خلالها ، أما من يملك مليون دينار غيره فهو يتغافل عن ذلك الدينار الواحد ، فحتى لو سرق منه فله ما يسليه عنه.

هكذا الذي يؤمن بالجنة. يتسلى عن شهوات الدنيا ، ويتغلب نفسيا عليها ، وبالتالي يقوى على مقاومة ضغوطها.

كذلك من يخشى النار ، فان قلبه يلهو عن مصيبات الدنيا. أو ليست هي حقيرة جدا إذا قيست بسعير جهنم؟!

وهكذا يسمو قلبه عن الحب والبغض ، وعن الشهوة والغضب ، عن العصبية والعداوة ، ويتعالى على الخوف والطمع ، فيرى الحقائق كما هي لا كما توحي به مصالحه الآنية.

كذلك الذين كفروا بالرسالة لأن الرسول لا يملك كنزا أو جنة يأكل منها ، أو

٤٠٢

لم ينزل معه ملك نذيرا. إنما هم مرضى القلب ، ولا بدّ أن يستشفعوا وشفاؤهم في التذكرة بالساعة. حيث تتضاءل عندها ثروة الدنيا ومصيباتها ، وعندها تتحرر أفئدتهم من قيود الشهوات.

ومن هنا كانت الآية هذه والتي نتلوها بيانا لسبب كفرهم ، وأيضا شفاء لمرض كفرهم.

ويستمر السياق في وصف النار ليزداد القارئ تجردا عن أغلال القلب ، وبالتالي يزداد إيمانا بالكتاب. ذلك انّ القرآن لا يجادل الكفار بالرسالة فقط ، وانما هو يزيد ايمان المؤمنين بها عبر إنذارهم بالساعة ، فكلّما وعوا حقيقة العذاب كلّما أبصروا بنور قلوبهم حقائق الوحي أوضح وأجلى.

صور من العذاب :

[١٢] ومن صفات جهنم انها تلتقط طعمتها من مسافة بعيدة لقوة جذبها ، فاذا رأت أصحابها مصفدين بالأغلال ، مستسلمين لا يملكون حراكا ولا هربا ، فانها تسحبهم بلهيبها ، وفي الوقت نفسه تستعر استعارا شديدا وبصوت رهيب وهذا هو التغيظ. كل ذلك لاستقبال أعداء الله والرسالة ، و في الحديث الشريف عن الامام الصادق عليه السّلام

«إن جهنم تدعو أصحابها من مسيرة سنة» (١)

إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً

وبالاضافة إلى ذلك فإنهم لا يدخلون جهنم دخولا عاديا ، وانما يهوون فيها لأنها موجودة في مكان سحيق.

__________________

(١) المصدر ص ٧.

٤٠٣

[١٣] وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً

مقرنين : أي مصفدين بالاغلال ، والثبور : هو الهلاك.

وهنا تصور لنا الآية الكريمة أنواعا من العذاب في جهنم ، فبالاضافة للحريق هناك

١ ـ الإلقاء من شاهق : ويمكن للإنسان أن يكون قريبا ولو بعض الشيء من تخيل ذلك ، لو تصور شخصا يلقى من الطابق العاشر ليرتطم جسده برصيف الشارع ، فتسحق عظامه ، وإلا فان الإلقاء في جهنم يوم القيامة لا يستوعبه عقل الإنسان المحدود ، إذ من بين من يلقون من يهوي ألف عام حتى يصل إلى مقامه فيها.

٢ ـ المكان الضيق : وفيه التعذيب النفسي الشديد ، إذ يجلب الكآبة والضجر لصاحبه ، و جاء في الحديث :

«والذي نفسي بيده : انهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» (١)

٣ ـ التصفيد بالاغلال : حيث معاناة المصير التعيس بثقل الأصفاد وفقدان القدرة على الحركة تماما.

٤ ـ وينادي المكذبون بالويل والثبور ، لهول ما يرون ، فيأتيهم النداء الذي يزيدهم ألما لآلامهم.

[١٤] لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً .

__________________

(١) المصدر ص ٨.

٤٠٤

لا تتلفظون بهذا الكلام مرة واحدة ، بل كرروه مرارا ، ولن يجديكم ذلك نفعا لأنكم في العذاب خالدون.

[١٥] قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً

أيهما أفضل الدنيا بما فيها من ثمرات وكنوز. تعقبها النار والسعير ، أم جنة الخلد يسبقها العمل الصالح ، حيث النعيم المقيم والعز الدائم؟!

بالطبع لو حكم الإنسان عقله في هذه المسألة لأجاب الصواب ، ولكن ذلك وحده لا يكفيه لدخول الجنة إلا بالعمل الصالح في سبيل الله ، لأنها للذين يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، غير مستكبرين على الناس ، ولا مبتغين العز إلا من عند الله.

[١٦] لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً

لا أحد ينكر ما بلغت إليه مدنيّة اليوم من التقنية والمنهجيّة والعلمية ، ولكنها تبقى عاجزة أمام طموحات الإنسان ، فهي لم ولن تستطيع تحقيق كل ما يصبو إليه ، ومن كان عاجزا عن أن يهب للإنسان الحياة بعد الموت ، لهو أعجز على إعطائه الخلود.

إن أسمى ما يفكر الإنسان في الوصول إليه شيئان :

أـ أن يدرك ما يريد.

ب ـ الخلود وهو ما يسمى بغريزة حب البقاء.

ولا يمكن تحقيق هذه الطموحات في الدنيا بطبيعتها ، فلا بد أن يفكر الإنسان في

٤٠٥

الدار التي يمكنه تحقيق طموحاته فيها ، وليست إلّا الدار الآخرة ، وهذا وعد أكيد من الله للمتقين «وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ» «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً»؟

روي أن الفضل بن سهل وزير المأمون العباسي أراد تزويج المأمون من ابنته «يوران» وكان مترفا ، وجندوا كل أموال الدولة الاسلامية من أجل حفل الزفاف ، وكذلك الطغاة يصرفون المليارات من الدولارات على حفلات زواجهم.

فصنعا ما صنعا ، ومن جملة ذلك صنعوا فراشا منسوجا بخيوط الذهب ، ومرصعا باللآلئ والجواهر ، وعند ما أراد الأب الأخذ بيد ابنته يسلمها إلى عريسها ـ كما تقتضي التقاليد آنذاك ـ قال لها : يا بنيّتي هل قصرت في حقك؟ وهل تريدين مني شيئا آخر ، فقد أعددت لك كلّ ما تتمنى نفسك؟

قالت : لم تقصر في حقي ، ولكني أريد شيئا واحدا.

وما هو ذلك؟

أريد مسمارا ومطرقة أسمّر بهما الفلك حتى يتوقف عن الدوران ، كي تبقى كلّ الليالي مثل هذه الليلة.

وأنى لي بذلك؟

قالت العروس : وما تنفع ليلة واحدة إذن؟

إن الإنسان مهما أوتي من نعم الله في هذه الدنيا ، إلا أنه سيبقى قاصرا عن بلوغ تطلعاته البعيدة ، فلو فكر بعقله مليّا لأدرك الجنة هدفا لا الدنيا.

ج ـ كلما ازدادت النعم على الإنسان في الدنيا ، كلما ازداد خوفه من زوالها.

٤٠٦

ألا ترى أنه كلما أوتي الإنسان خيرا يزداد بخلا؟ و في الحديث :

«ما فتح الله على رجل بابا من الدنيا إلا وفتح عليه من الحرص ضعفيه»

لأنه كلما ازدادت النعمة عليه. كلما ازداد حرصه عليها كي لا تزول ، وهو يعلم في قرارة نفسه انها زائلة لا محالة.

لذلك لا يمكن للإنسان أن يفرح بالنعم ، واحساس عميق بخوف الزوال يساوره بين اللحظة والأخرى ، أما أصحاب الجنة فهم خالدون فيها لا يبغون عنها حولا.

٤٠٧

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ

___________________

١٨ [بورا] : البور الهلكى وهو جمع البائر.

٤٠٨

أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)

___________________

٢١ [وعتو عتوا] العتو هو الخروج الى أفحش الظلم.

٢٣ [هباء منثورا] : والهباء هو الغبار يدخل الكوة من شعاع الشمس.

٢٤ [مقيلا] : المقيل محل القيلولة.

٤٠٩

 وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً

هدى من الآيات :

لقد كفروا بالرسول ، وآمنوا بالجبت والطاغوت ، وقالوا : لولا القي عليه كنز؟! وتساءلوا : لماذا يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ولكن هل ينفعهم الأنداد شيئا يوم يحشرهم الله وما عبدوا ، فيتبرءون منهم ويقولون : سُبْحانَكَ .. ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ متعتهم ، ويرون أنّ طول متعتهم أنساهم الذكر ، فهلكوا.

إذا : غرورهم بقيم المادة ، وكفرهم بالرسول لأنه لم يلق اليه كنز أرداهم ، وجعلهم قوما بورا.

وهكذا ينسف الذكر الحكيم هذه العقبة عن طريق الايمان بالوحي. ويقول : ان سنة الله في بعث الرسل مضت على أنهم يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، وأمر الله الناس باتباع واحد منهم ليفتنهم. فهل يصبرون على طاعته؟! والله من ورائهم يبصرهم ، وهو عليم رقيب.

٤١٠

ثم ينسف العقبة الأخرى ، حيث قالوا : لولا أنزل علينا الملائكة ، أو نرى ربنا ، فيقول : انه عتوّ كبير. فكيف يطالبون برؤية الملائكة؟! فلا بشرى يومئذ للمجرمين إذ ينزل بهم عاقبهم العاجل في ذلك اليوم ، وتراهم يقولون حجرا محجورا ـ اشارة الى ذلهم واستسلامهم ـ ويجعل الله أعمالهم هباء منثورا ، بينما أصحاب الجنة خير مستقرا في ذلك اليوم ، الذي تشقق السماء بالغمام ، وتنزل الملائكة ، ويتجلى ملكوت الله لكل شخص ، وهو يوم عسير على الكافرين.

بينات من الآيات :

متعتهم حتّى نسوا الذكر :

[١٧] أهم عقبة تعترض الايمان بالوحي هي اتخاذ الأولياء من دون الله. ذلك أن الانتماء الى الجبت أو الطاغوت يجعل الإنسان يتّكئ على الشيء دون القيم ، ويعتمد على الباطل وليس الحق ، وبالتالي يضلّ السبيل.

ولأن يوم القيامة هو اليوم الذي تجلو فيه الحقائق ، وتتوضح السرايا ، فان الحقيقة التي يبينها القرآن هنا تكون اجلى حينذاك. إذ يتنصل كلّ من العابد والمعبود كل من صاحبه ، وذلك عند ما يكتشفون أنّ هؤلاء الأولياء لا يملكون صرفا ولا نصرا ، وفي ذلك اليوم لا تنفعهم معرفتهم. وانما يكشف الذكر هذه الحقيقة لينسف أساس تبريرهم الكفر بأن الرسول لا يملك كنزا أو جنة ، وأنه ليس رجلا من القريتين عظيم.

ذلك ان أساس هذه التبرير هو الاتكال على القيم المادية ، غافلين عن أنها تتلاشى ولا تغني عنهم شيئا يوم يكونون بأشد الحاجة إليها في الآخرة ، بل حتى في الدنيا إذا كشف عنها غطاء الغرور بدت خاوية زاهقة.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ

٤١١

 عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ

وهذا السؤال موجّه الى كل من يساهم في إضلال الناس ، كالصحفي المأجور ، والسلطان الظالم ، وعلماء البلاط. ويبدو أنّ الانتماء الى القيادة الجاهية كان من عوامل الكفر بالرسول ، الذي هو القائد الحق المطروح على الساحة بديلا عن القيادات الضالّة ، ولذلك نبّه الذكر الى ضرورة التخلص منها ، ومن الولاءات الجاهلية تمهيدا للايمان بالوحي.

[١٨] قالُوا سُبْحانَكَ

أنت المسبّح والمقدس عن أيّ شريك.

ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ

فنحن بدورنا عبيد لك أيضا ، فكيف نكون آلهة.

ثم بين الذكر الحكيم العامل الحقيقي للشرك والانتماءات الجاهلية ، فقال :

وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ

أنت الذي فتنتهم بالنعم حتّى نسوا الذكر.

وَكانُوا قَوْماً بُوراً

أي هالكين ، والاراضي البوار هي التي لا تصلح لشيء من الزراعة.

[١٩] إن الطغاة المؤلهين من دون الله ، يدركون أنهم ليسوا آلهة.

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً

٤١٢

للعذاب عن أنفسهم أو عمن عبدوهم.

وَلا نَصْراً

ولا ينصرونهم من دون الله.

وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً

إذا لم يساهم الإنسان في تسخير الناس لعبادته ، بل عبدوه بجهلهم ، فليس عليه شيء ، كالنبي عيسى ابن مريم (ع) ، الذي اتخذه النصارى إلها من دون الله ، بينما سيكون أول المتبرئين من عملهم يوم القيامة.

[٢٠] ويواصل السياق تزييف تبريرات الكافرين بالرسالة بعد نسف أساسها آنفا ، حيث يبطل هنا قولهم : كيف نتبع رسولا يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق.

أولا : بان تلك سنة الله التي مضت في الاوّلين ، إذ لم يبعث الله رسولا الّا وهو يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق.

وثانيا : بأنّ تلك وسيلة لامتحان الناس ، فهل يصبرون على الطاعة أم لا.

وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ

فلم يكن الرسول بدعا ، وإنما جاء خاتما لمسيرة مباركة ممتدة.

والجاهلون لم يستوعبوا هذه السنة لأحد الأسباب التالية :

ألف : لجهلهم بواقع البشر ، وزعمهم : أن الإنسان لا يمكن ان يكون رسولا لرب العالمين ، كلّا .. الإنسان كريم عند ربه إذا عبده وأطاعه.

٤١٣

باء : لزعمهم : انّ الرسول ينبغي ان يكون غنيّا أو مقتدرا ، وقد نسف القرآن آنفا أساس هذه الفكرة القائمة على تقديس المادة.

جيم : لجهلهم بحكمة الخلق ، حيث زعموا : ان الله يريد هدايتهم حتما ، بينما الله شاء بحكمته البالغة ان يهديهم بطوع إرادتهم ، وليس بصورة حتمية ، وهكذا امتحنهم بالرسول الذي هو منهم ، وأمرهم بطاعته لينظر هل يصبرون.

وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ

ومنهج القرآن الكريم هو بيان الحكم عند بيان ما يناسبها ، ولذلك تتسع آياته لتشمل ما وراء حدود السياق.

وهكذا نجد انّ هذه الحكمة البالغة تذكر هنا بمناسبة الحديث عن الرسول لتبيّن لنا : أن طاعة الرسول ، والمخالفة لهوى النفس نوع من الفتنة بالنسبة الى الناس. ولكنّ الآية تعطينا أيضا بصيرة نافذة تكشف الكثير من اسرار الحياة. فالغني فتنة للفقير الذي قد يفكر في الكذب أو الغش والسرقة كي يصبح مثله غنيا ، وكذلك الغني فتنة للفقير ، فهو مبتلى به امام الله ، اما بالبخل والربا أو بالغرور والتكبر.

جاء رجل فقير الى رسول الله (ص) يوما ، وجلس على مقربة من رجل غني ـ كان قد سبقه الى مجلس الرسول ـ فتنحى الغني بعد ان لملم ثيابه بطريقة تنم عن الاحتقار ، فنظر الرسول اليه وقال : اخشيت ان ينتقل غناك اليه أم فقره إليك؟ فقام الغني وقد أدرك سوء عمله يقول : اخطأت يا رسول الله .. اخطأت .. ثم دار بوجهه الى ذلك الفقير وقال : اني أهب لك نصف مالي ، فقال الفقير : أتريدني ان أصبح غنيا فأصنع مثل ما صنعت؟ فأتكبر على الفقراء؟ احفظ عليك مالك فاني لا أريد غنى هذه نهايته.

٤١٤

هكذا كانت الحكمة من تفاضل الناس. ابتلاؤهم ببعضهم لمعرفة مدى صمودهم أمام اغراءات الدنيا.

وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً

يحصي على الناس تصرفاتهم ، ويرصد سلوكهم تجاه بعضهم ، وكيف لا والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

[٢١] الى هنا يكون السياق القرآني قد عالج العقبة الاولى في طريق الايمان ، وهي النظرة الخاطئة للرسول ، لذا فانه ينتقل الى علاج العقبة الثانية وهي عقبة الكفر بالساعة.

عند ما يؤمن الإنسان بفكرة ما فانه يبحث عن اي شيء ليبرر هذا الايمان ، حتى ليمكننا تقسيم فكر الإنسان الى جانبين :

١ ـ جانب الاعتقاد : وهو الايمان بالفكرة ذاتها.

٢ ـ جانب التبرير : وذلك للإبقاء على الاعتقاد.

وهذا التقسيم نجده ليس لدى الكفار بالحق فحسب ، بل حتى لدى المؤمنين ، إذ لا بد ان يسعى كلا الطرفين ليبرر موقفه ، فالتبرير له وجه ايجابي وذلك إذا كان من أجل الحق ، وله وجه سلبي عند ما يكون من أجل الباطل.

إنّ قسما من الناس يبرر رفضه للرسالة بأعذار ، فيسأل : إذا كان الله قد بعث رسولا ، فلما ذا لا ينزل علينا الملائكة لتخبرنا بصدق الرسالة؟ أو يسأل : عن الله لماذا لا نراه جهرة؟

وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى

٤١٥

رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً)

استكبروا في أنفسهم حينما أراد كل واحد منهم ان يصبح رسولا تنزل عليه الملائكة ، وعتوا حينما طالبوا برؤية الله سبحانه وتعالى.

[٢٢] إن الدنيا دار اختبار ، ولا يتم الاختبار من دون حريّة القرار ، وإذا ظهرت الملائكة فان ذلك إيذان بنهاية مرحلة الاختبار الى مرحلة الجزاء ، وآنئذ لا ينفعهم شيء.

يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً

ان الملائكة التي يطالب هؤلاء بمجيئهم مخلوقات جبّارة ، أصوات بعضهم كالرعد ونظراتهم كالبرق ، يستطيع أحدهم ان ينسف الأرض بمن فيها ومن عليها بنفخة واحدة ، إذا أوكل الله له ذلك.

وسيكتشف المجرمون مدى حماقتهم ، حين وضعوا شرط نزول الملائكة عليهم ، وسيعلمون كم أوقعهم عنادهم في الجهل ، عند ما يرون الملائكة ، وسيكون قولهم آنئذ «حجرا محجورا» أي يا ليت بيننا وبينهم حاجزا يحجبهم عنا ، فنتخلص من هول الموقف ، الذي لا طاقة لنا به. وكانت هذه الكلمة إيذانا بالتسليم عند العرب ، والطلب من العدو الا يضربه.

[٢٣] وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً

فالكدح الذي كدحوه في الدنيا ، للحصول على الثروة والجاه ، سيضيع من أيديهم ، ولن يجدوا غير الحسرة والندامة. لأنهم كانوا يعيشون ضيق الأفق ، فلم يحسبوا للآخرة حسابها. ولعل في الآية إشارة الى أنّ الأعمال الصالحة لا تنفع من

٤١٦

دون طاعة الرسول والقيادة الشرعية.

[٢٤] أما ما يقدمه المؤمنون برسالة الله ، المصدقون لرسوله فان الله عز وجل سيحفظه لهم ، ويعيده عليهم في صورة ثواب عظيم و جزاء كريم ، يدخلهم الجنة ، وسيكونون فيها صالحي البال ، يشعرون بالاستقرار والطمأنينة ، وينامون مليء أعينهم ، كما ينام الإنسان وقت القيلولة لا يزعجه ألم ولا يهدده خطر :

أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً

[٢٥] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ

ربما يكون تفسير هذا المقطع من الآية ، أن السماء تنفطر وكأنها غمام ، أو أن فيها غمام ينكشف عن السماء. وكم هو مريع حين تنفطر هذه السماء المترامية الأطراف أمام ناظري هذا الإنسان الضعيف الذي لا يتحمل أبسط الشدائد.

من جهة أخرى : لقد جعل الله السماء سقفا محفوظا ، وجعل منظرها في النهار بهيا ، وفي الليل جميلا ، وجعل فؤاد البشر يطمئن إليها ، وانما يسعى الإنسان للدفاع عن نفسه عبر وضع الحواجز من حوله ، ولا يمكنه ان يحتاط لنفسه عن الأخطار التي تصله من السماء. لذلك كان تشقق السماء ـ هذا السقف المحفوظ ـ أشد رهبة وأعظم.

والخطر لا ينزل بصورة عمياء كالصاعقة أو الشهب المتساقطة ، كلّا .. بل يتنزل الملائكة الغلاظ الشداد ، يأخذون المجرمين ويسلكونهم في الأغلال ويسحبونهم الى النار وساءت مصيرا.

وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً

فئاة فئاة ، والمرة تلو الأخرى.

٤١٧

الخوف والرجاء :

[٢٦] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ

بالرغم من أن الملك لله في كل حين ، وعلى كل حال ، الا أن ملكوت الله يتجلى بصورة أظهر وأعظم في يوم القيامة ، وقد ذكرت الآيات بصفة الرحمة الإلهية في هذا المورد ، وليس بصفة الغضب لتشير الى انه في الوقت الذي تتجلى قوة الرب التي لا تحدّ ، يعطينا السياق أملا في رحمته الواسعة ، ولكن يحذرنا أن نضيع الفرصة ولا نستفيد من رحمته ، وكم يكون الإنسان شقيا لو ترك الاستفادة من رحمة الله ، التي وسعت كل شيء؟!

وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً

حينما ينظر الإنسان الى رحمة الله يزداد أملا ورجاء ، الى حد قد يتصور أن لا عذاب عند الله ، وأنه سيدخل الناس جميعا الى جنته الواسعة.

ولكن حينما يفكر البشر في معاصيه ، ومخالفته لربّه ، يحس أن كل العذاب قليل بحقه ، لهذا نجد معادلة قرآنية تتجلى في قوله تعالى : الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ من جهة ، وفي قوله : وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً من جهة ثانية ، وهي معادلة التوازن النفسي بين الرحمة والغضب ، اللذين يجب أن ينعكسا على سلوك الإنسان.

٤١٨

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)

___________________

٢٨ [خليلا] : الخليل هو الصديق.

٤١٩

كذلك لنثبت به فؤادك

هدى من الآيات :

في جو تشقق السماء ، وتنزل الملائكة ، وتجلّى ملكوت الرب الرحمن ـ الذي مرّ آنفا ـ يعالج هذا الدرس صداقات السوء التي تنفصم عروتها يوم القيامة حتى يقول الظالم : يا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ، ويشتد به النّدم حتى تراه لا يكتفي بعض سبابته ، بل يعض على يديه ، ويقول : «يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً».

إن صديق السوء يضل صاحبه ويبعده عن الذكر ، ثم يتركه لشأنه كما يفعل الشيطان. حيث يخذل من اتبعه في ساعة العسرة.

ويجيء الرسول شاهدا على قومه الذين هجروا القرآن ، فلم يؤمنوا به ، أو لم يعملوا به بعد ان تظاهروا بالايمان.

ويسدل السياق الستار على مشهد القيامة المهيب. بعد ان يهدم بنيان النظم الجاهلية للمجتمع. حيث الولاءات الجاهلية التي لا تنفع ولا تضر ، وحيث صداقات السوء التي تضل عن السبيل ، ويختم كل ذلك ببيان انّ لكل رسول عدوا

٤٢٠