من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

عن النبي صلّى الله عليه وآله : (ستكثر من بعدي القالة) ولم تلتفت الى حذر أصحاب الرسول من بعده عن قبول الأحاديث الا إذا شهد عليها شاهدان ، وقد طردوا بعض الرواة وضربوهم بالدّرة ، لأنهم أكثروا من نقل الحديث غثة وسمينة.

وقد تصدى أئمة أهل البيت بحزم لهذه الظاهرة الخطيرة وأصروا بان يعرض كلام الرسول وكلامهم أيضا على كتاب الله. فما وافق كتاب الله أخذ وما خالف كتاب الله ضرب به عرض الحائط ، واستطاعوا ان يفندوا الكثير من الاشاعات الضالة بهذا المقياس الرشيد.

وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ

ان الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي ، حتى مرضت قلوبهم وقست واستجابت لفتنة الشيطان انهم بعيدون عن الحق كثيرا.

ويستوحي من الآية الكريمة : ان قسوة القلب مرحلة تالية لمرضه ، وان ما يسبب مرض القلب هو الظلم فاذا فحش وازداد قسى القلب.

[٥٤] وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ

يتميز الذين أوتوا العلم ، بأن موقفهم أخذ في التكامل فمن العلم الى الايمان الى الإخبات ، ذلك لان العلم هو اكتشاف الحقيقة والايمان هو الاعتراف بها ، والإخبات هو ان تتبعها بكل كيانك.

وهذا التكامل يتم عبر الصراط المستقيم الذي كلما مشى فيه الإنسان ظهرت له معالم الحق ، والله هو الذي يهدي المؤمنين الى هذا الصراط ، ولا أحد سواه قادر على الهداية اليه.

١٠١

وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ

[٥٥] اما الذين كفروا فهم باقون أسارى شكهم النابع من جهلهم. ولا يمكنهم التخلص من هذا الشك الى اليقين بسبب كفرهم.

وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ

الساعة هي يوم القيامة ، اما العذاب العقيم فهو العقاب في الدنيا.

[٥٦] هنالك عند قيام الساعة ، يتجلى ملكوت الربّ ، وقضاؤه الفصل وجزاؤه العادل ، فهو الملك والحاكم والمدبّر.

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ

فله السلطان الظاهر ، حيث يطوي بعزته سلطات الجور التي نشرها الشيطان ، وامهلها الله بحكمته الى أجل مسمى.

يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ

فلا أحد يستطيع رد حكمه ، والادعاء كذبا بأنه على حق كما هو اليوم في الدنيا.

فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

[٥٧] ذلك هو مصير المؤمنين العاملين للباقيات الصالحات ، اما مصير الكافرين فهو العذاب المهين.

١٠٢

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ

كلمة المهين توحي بان أهم العوامل التي تدعو الإنسان للشك واتباع الاماني هو التكبر ، والاهانة هي العذاب النفسي الذي يصيب المتكبرين. ولعله أشد ألما من العذاب المادي.

١٠٣

وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ

١٠٤

بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)

١٠٥

هكذا ينصر الله المظلوم الذي يتحدى

هدى من الآيات :

هنالك هجرتان : هجرة معنوية واخرى مادية ، فالهجرة المادية عادة ما تتبع الهجرة المعنوية ، لذلك نجد القرآن الحكيم حينما يحدثنا في هذا الدرس عن الهجرة المادية من دار الكفر والكبت والحرمان ، الى دار الحرية والإسلام ، لا يلبث ان يحدثنا عن الجوانب المعنوية لهذه الهجرة.

وبمناسبة الحديث عن الهجرة يحدثنا القرآن الحكيم عن قدرة الله ، وأهم وأبرز مظاهر هذه القدرة حركة الليل والنهار ، وإيلاج كل واحد منهما في الثاني ، فكما يبدل الله ـ سبحانه ـ الليل نهارا ، فانه كذلك يبدل ظلام الإرهاب والكفر والجاهلية الى نور العدالة والإسلام والحرية.

تلك القدرة المهيمنة على الكون هي ذاتها القدرة المهيمنة على المجتمع ، لأن قيادة هذا الكون ، وولايته سواء في السماء أو في الأرض لله الحق وحده.

١٠٦

بينات من الآيات :

[٥٨] بعد ان ذكرنا الرب سبحانه ببعض حقائق الايمان في آيات آنفة ، جاءت هذه الآية تذكرنا بدور الهجرة في الله. لماذا؟

لان الطريق الى الايمان يمر عبر الهجرة والجهاد. إذ أنّ الطغاة لا يدعونك حرا تؤمن بالله وحده ، وتطبق منهجه فقط ، إنّما يريدون أن تميل عن عبادة الله الى الشرك به بعبادتهم ، ولا بد من تحدّيهم حتى تصبح مؤمنا بالله وحده. ومن هنا تبدأ مرحلة الجهاد بالهجرة من ديار الكفر الى بلاد الإسلام. والواقع فالهجرة ذاتها مرحلة متقدمة من مراحل الإيمان ، فليس كل مؤمن مستعدا للهجرة الى الله بعيدا عن اهله ووطنه ، والهجرة لا تتم من دون معاناة ، فالمهاجر عادة يتعرض للقتل بسبب أو بآخر.

وليس هناك ما يعوض القتل أو الموت إلا الرزق الحسن من الله ، فهذا المهاجر الذي ترك موارده الخصبة في بلده ، يعوّضه الله خيرا منها دار الخلود ، وبدل خروجه من وطنه ساخطا يدخله تلك الدار راضيا مرضيا.

هذا لمن يهاجر ويلقى حتفه ، اما الذي يبقى حيّا فأن الله سوف ينصره نصرا مؤزّرا على من كانوا السبب في تهجيره وتشريده ، وبما أن الهجرة من دار الكفر الى دار الايمان تنشأ من السخط على الأوضاع الفاسدة ـ السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ـ فان الهجرة في عرف الطغاة تشكل سنّ الحربة لذا فهم يسعون لوأد هذه الحركة بقتلهم المهاجرين ، أو التضييق عليهم كأن يبرموا الاتفاقات مع الدولة الاخرى كي يسلموهم ، أو يضيّقوا عليهم ، حتى يستحيل عليهم النصر فيموتوا بعد سنيّ النضال الطويل.

وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ

١٠٧

 رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

هكذا يعرفنا الله نفسه.

من الآية (٥٨) الى الآية (٦٥) يذكرنا القرآن ب (١٥) اسما من الأسماء الحسنى ، هي خير الرازقين ، العليم ، الحليم ، العفو ، الغفور ، السميع ، البصير ، العلي ، الكبير ، اللطيف ، الخبير ، الغني ، الحميد ، الرؤوف ، الرحيم.

ونستوحي من منهج القرآن في ذكر أسماء ربنا هنا وفي سائر السور ، ان الله يريد ان يعرفنا نفسه في مختلف جوانب الحياة التشريعية والاجتماعية ، أو المادية التكوينية ، وان هناك مسافة تفصل بين الايمان والمعرفة ، كما تفصل مسافة مماثلة بين الإسلام والايمان ، فليس كل مسلم مؤمنا ، وليس كل مؤمن عارفا وان للعرفان درجات.

ان الله سبحانه وتعالى قد تجلى في آيات القرآن لعباده ، وكما تجلى في آيات الحياة ليعرفنا نفسه ، فكيف نعرف الله؟

باستطاعتنا ان نعرف الله سبحانه عبر صفاته وأسمائه الحسنى ، المبثوثة في آياته القرآنية والكونية ، فكل شيء ، وكل آية هي تجلّ واضح لأسماء الله وصفاته.

جمال الربيع ، وبهجته ، وعبق أزهاره ، يقودنا الى جمال الله ، وعظمة الليل والنهار ، ودوران الفلك العظيم بشموسه وأقماره ، يهدينا الى عظمة الله ، وانه عليّ كبير.

وقطرات المطر التي تنزل من السماء ، ثم تستقر في رحم الأرض ، وتتفاعل مع حبات التراب ، وإذا بتلك البذرة الصغيرة ترتفع نحو السماء ، فتصبح شجرة عظيمة ، كل ذلك يقودنا الى لطف الله في صنعه.

١٠٨

اما إذا نظرنا الى ما في الجبال من خزائن ، وما في البحار من ثروات معدنية وحيوانية ، وما في الأرض من كنوز ومعادن ، فسنعرف آنذاك أن ربّنا غنيّ حميد ، وانه على كل شيء قدير.

وحين نعرف بأن ربنا سبحانه قد جعل في السموات والأرض أنظمة وسننا ـ يحفظنا بها ـ ولو لا ذلك لانتهت حياتنا على الأرض ، أو تحولت في أحسن الظروف الى جحيم لا يطاق.

ان نظام الغلاف الجوي كأبرز مثال من الدقة بحيث لو انه كان أقل سمكا لتهافتت النيازك والشهب فأحرقت الأرض ، ولو انه كان اسمك قليلا لما استطاعت الأرض ان تأخذ قدرا كافيا من اشعة الشمس فكانت تتجمد ، وهكذا الجاذبية ، وسماكة الأرض .. أقول إذا عرفنا كلّ ذلك هدانا الله الى انه سبحانه رؤف رحيم.

وكذلك تحولات حياتنا من الموت الى الحياة ، ومن الحياة الى الموت ، يدلّنا على ان تدبير الأمور بيد غيرنا لا بيدنا نحن ، وان الرحمن على العرش استوى. وهكذا نجد في هذه الآيات منهجا قرآنيّا عظيما. حيث يذكرنا بآية من الآيات ، ثم بصفة من صفات الخالق ، واسم من أسمائه ، وهذا هو الأسلوب المناسب لمعرفة الله سبحانه ، وبتعبير آخر التحول من درجة الايمان الى درجة المعرفة.

جزاء الهجرة :

[٥٩] لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ

قد يكون هذا المدخل الذي يرضونه في الدنيا ، لأنهم خرجوا غاضبين في سبيل الله ، وقد يكون المدخل هو الجنة لان اللّام في قوله : لَيُدْخِلَنَّهُمْ تفيد المستقبل.

وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ

١٠٩

فهو يعلم عملك وسيجازيك عليه ـ ولكن بعد حين ـ لأنه حليم لا يعجل ، فمن جهة يعطي الكافرين مهلة أطول ، ومن جهة أخرى يطلب من المؤمنين الصبر حتى يعلم صدق ايمانهم.

[٦٠] ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ

ذلك لان الذين خرجوا من ديارهم مهاجرين الى الله سوف يرجعون إليها فاتحين بإذنه ، فيقتلون أعداء الله وأعداءهم ، لأنهم تعرضوا للبغي ، والبغي هو ان تطالب بحقك المغصوب فلا تعطى إياه ، بل وأيضا تواجه بالقمع والإرهاب. إذ لا يجد غاصبوك سبيلا لاسكاتك الا بالقضاء عليك.

«ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ» اي مواجهة الاعدام بالاعدام .. مثلا بمثل ، «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ» اي ظلم بعد أخذه لحقه المشروع (لينصرنه الله) في هذه الكلمة تأكيدان على تحقيق النصر ، أولهما يدل عليه لام التوكيد ، وثانيهما تعبر عنه نون التوكيد.

إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

عفوّ غفور عما تجاوزتم ، ودلالة عفوه وغفرانه نصره لكم.

استوحى بعض المفسرين من الآية فكرة هامة ان الصراع في الإسلام ليس قاعدة مطردة كما في النظرية الماركسية ، انما هو حالة اضطرارية ، فالإسلام يدعوك الى ان تضرب صفحا عمن يظلمونك أو يسلبون بعض حقوقك البسيطة ، اما حين يتعدى هؤلاء الحدّ في السلب والظلم ، آنئذ يجب عليك ان ترفع عقيرتك في وجوههم وتواجههم فيكون صراعك لا من أجل الصراع ذاته ، بل من أجل العدالة ، وحالما يعود إليك حقك آنئذ تقف عند هذا الحد. ومثل هذه الآية قوله تعالى :

١١٠

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً .

إذا وقبل كل شيء يجب ان يكون الصراع في الله وبالله ، نهبّ متى استنهضنا ونقف عند ما يأمرنا بذلك.

الليل والنهار :

[٦١] ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ

ما يحدث في الطبيعة مثل حيّ تمر به الأمم ، فمرة يمتطي صهوة التاريخ كفرة فجرة ، فيصيب المؤمنون جام انتقامهم عليهم ، فتعود مؤمنة كما كانت ، لكنها لا تلبث ان تضمحل وتتلاش وتعود من جديد كافرة فاجرة .. وهكذا تتعاقب الأمم حتى يأذن الله لأوليائه الصالحين بالنهوض لازالة الجاهلية والضلال من ارض الانسانية جميعا.

ان معنى الإيلاج هو الإدخال ، فمرة يلج الليل في النهار ويدخل فيه ، ومرة يلج النهار في الليل ويدخل فيه ، ففي المرة الاولى يكون الفصل شتاء ، وفي المرة الاخرى يكون الفصل صيفا ، لان إيلاج الليل في النهار يعني اقتطاع الليل قطعة من النهار فيصير الليل أطول ، وهذا فصل الشتاء ، والعكس من ذلك إيلاج النهار في الليل.

وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

اي ان الله قريب من السنن الجارية في السموات والأرض ومن مظاهر قربه سمعه وبصره ، واحاطته بكل صغيرة وكبيرة.

١١١

أسماء الله :

[٦٢] ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ

سلطته أعلى من سلطة الآخرين ، هذا إذا سلمنا جدلا بأن للآخرين سلطة ، والافهم في الحقيقة سراب يحسبهم الظمآن ماءا والله هو الحق المبين.

وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ

فما سواه ليس عليا ولا كبيرا ، الا به والعلو والكبر تعبير ان عن قدرة الله وسعة سلطانه ، فلتسقط الأصنام البشرية والحجرية التي تعبد من دون الله ، وليخلص العارف نيته وعمله لله الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل لأنه وحده الحق وما سواه هو الباطل.

[٦٣] وانه لطيف خبير ، لطيف بعباده يرزقهم من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون ، وخبير بحاجاتهم.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ

السماء تمطر والأرض تستقبل حبات المطر ، لتتحول تلك الحبات الى بساط أخضر ، فطعام لنا ولأنعامنا. ان كل ذلك يدل على إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ .

ان علماء النبات يعرفون ، كم هي دقيقة وعظيمة تلك القوانين التي تنظم نمو النبات ، التي عادة ما نمر نحن عليها بلا تأمل أو اعتبار. فبعد ان صرفوا الملايين من الدولارات في المختبرات النباتية لم يعرفوا والى الآن سرّ التمثيل الضوئي .. كيف ان شعاع الشمس يتحول الى ثمرة كالتفاح مثلا التي تعتبر أكثر مواده من نور

١١٢

الشمس.

[٦٤] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

ان الله سبحانه وتعالى يمتلك كل الأشياء ، ويسيّر قوانينها ، وهو بالرغم من انه يمتلك الأشياء وقوانينها فهو غني عنها ولا يحتاج إليها ، فهي لا تعطيه القوة ، بل هو من جهة غني عنها ، ومن جهة اخرى حميد يعطيها الوجود والحركة تبارك وتعالى.

[٦٥] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ

كل ما في الأرض مسخر لنا .. بقسميها البريّ والبحريّ ، فالقسم البري يحوي المعادن والكنوز ، والأشجار والحيوانات ، ويحوي القسم البحري الحيوانات والمعادن ولعل أهم فائدة نستفيدها من البحر ، هي جريان سفننا بأمر الله فيه وان من أمر الله الرياح التي تدفع السفن وتحركها الى الامام.

الجاذبية :

وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ

ان النجوم والكواكب وسائر الاجرام السماوية تبقى في مساراتها بقدرة الله ، ولو لا ان الجاذبية موجودة لاختل نظام الأفلاك ولاصطدمت ببعضها وتناثرت على الأرض فدمرتها. وربما يكمن التفسير الصحيح في الآية ذاتها في قوله : «الا باذنه» اي من الممكن ان تسقط إذا اذن الله لها بالسقوط ، وما هي السواقط تلك؟

ان السواقط التي يعبر الله عنها بالسماء هي : النيازك والشهب التي تهبط الى الأرض بإذن الله ، ولم يكتشف العلم الحديث والى اليوم سر الجاذبية ، ما هي؟

١١٣

واين هي؟ ولكن الله يعبر عنها بقوله :

«وهو الذي يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ » اي ان الجاذبية بيد الله ... وضعها حسبما شاء وباستطاعته ان يعدمها ، ولكن كلمة «الا باذنه» لا تدل على ان الله يعدم الجاذبية بل هو إثبات لها ، فالنيازك والشهب التي تسقط على الأرض بفعل الجاذبية نفسها.

ومعلوم ان تقلص الأرض هو نتيجة طبيعية لاعمال الإنسان ، بسبب صرفه لطاقات الأرض إذ تزايد في الآونة الاخيرة استخدام الطاقة ، واستحلاب الأرض من معادنها وغير ذلك.

كما قال تعالى :

«ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ». (٤١ / الروم)

ولعلنا نستوحي من هذه الآيات ان الله لا يأذن للأرض بالدمار الا بسبب فساد الناس.

إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ

آية رأفته ورحمته انه سخر لنا ما في البر والبحر ، وأمسك السماء ان تقع على الأرض الا باذنه والا فهو قادر على ان يجعل كل ذلك جحيما علينا ، فهناك احتمالات رهيبة في الكون لا يمكن ان تصدق ، وأبرز مثال على ذلك ان هناك الكثير من الشهب والنيازك تتساقط على الأرض وباعداد هائلة ، ولكنها لا تلبث ان تتلاشى إذا اصطدمت بالغلاف الجوي وهكذا نقرأ في الدعاء ، سبحان من لا يأخذ أهل الأرض بألوان العذاب سبحان الرؤوف الرحيم.

١١٤

[٦٦] وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ

ثم بعد عرض آيات الله ، وبعد عظيم علمه ورأفته ترانا نكفر بنعم الله. ان المشكلة في الإنسان انه محدود النظرة ، فلو نظر الى ما حوله من آيات الله ، بل لو رأى خلقه .. وتقلبات كل ذلك من حياة الى موت لآمن ، ولكن الإنسان كفور بنعم ربه ، وبعطائه ، ولعل كفره هذا هو علة كفره بالله رأسا.

١١٥

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ

___________________

٧٢ [يسطون] : إظهار الحال الهائلة للاخافة.

١١٦

تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)

١١٧

الطغاة لن يخلقوا ذبابا

هدى من الآيات :

لكي يزداد البشر تقوى وإحساسا بمسؤولياته في الحياة ، لا بد ان يزداد معرفة بالله وبأنه محيط به علما ، ولا بد ان يشعر بان هناك رقيبا يراقبه ، ويحيط به ، وهذه المعرفة تعطيه التزاما أكثر بمسؤولياته.

وفي هذا الدرس ما قبل الأخير من سورة الحج التي تركز حول موضوع التقوى نجد ـ في هذه الآيات ـ ايحاءات تدل على علم الله بالكون ، وان المسؤولية ليست امام الرسول ولا امام المؤمنين بقدر ما هي امام الله رب العالمين ، فالله هو الذي يشرع لكل امة مناسكها ، وهو الذي يطالبها بأدائها ، ويحاسب على تركها ، فلما ذا اذن يجادل هؤلاء الكفار الرسول؟

ان مسئولية الرسول هي الدعوة الى الله عبر الصراط المستقيم ومسئولية الرسول لا تتجاوز هذا الحد ، أما حساب الناس فهو على ربه وربهم.

١١٨

ان الله محيط علما بما في السموات والأرض ، وان كل شيء عنده مكتوب في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ، وذلك على الله يسير. لان تسجيل حوادث الدنيا ومتغيراتها وإدراجها في كتاب أمر بسيط ، فاذا حانت ساعة الحساب فان يدك كتاب ، وجلدك كتاب ، وعينك كتاب ، وكل ما فيك كتاب شاهد عليك ، فما تفعله لا يذهب هباء ، ومع كل ذلك ، فانك تجد أناسا يعبدون من دون الله أناسا عاجزين مثلهم ويخضعون لاصنام بشرية أو حجرية.

ان الإنسان ينبغي له ان يتبع أحد أمرين : اما ان يتبع شريعة الله ويخضع لأوامره ، ونواهيه ، واما ان يتبع العلم ، فمن لم يتبع أحد هذين الأمرين فهو ظالم لنفسه ، ومن يظلم نفسه ، أيحسب آنئذ ان الأصنام الحجرية أو البشرية ستشفع له؟! انها ستكون عليه ضدا ، وسيحشر معها في جهنم كما قال تعالى :

إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ .

وانك لترى مدى التعصب للباطل عند عبد الطاغوت ، حيث تتبين في وجوههم المنكر .. فاذا بها تظلم وتعبس ، كلما تليت عليهم آيات الله ، البالغة الوضوح ، حتى ان اعصابهم تتحفز وكأنهم يستعدون لمعركة ، ويكادون يرفعون أيديهم للسطو على من يتلوا عليهم الآيات ، ودون النظر الى محتوى الآيات ، وان التالين لها ليسوا سوى مبلغين وان قول الحق إذا كان مرا لان فيه تهديدا وإنذارا بالعقاب الواقعي ، فان ذات العقاب وهو النار التي وعدها الله الذين كفروا انه أشد حرارة وأسوأ مصيرا.

وبمناسبة الحديث عن الأصنام التي تعبد من دون الله ، يتحدى الله الأصنام البشرية موجها إليها المقال بان ليس في إمكانها خلق ذبابة واحدة حتى لو احتشدت كل القوى العظمى اليوم مثلا (امريكا ، روسيا ، أوروبا ، اليابان وأذنابهم) ما

١١٩

استطاعوا اليه سبيلا.

انهم يعجزون عن صنع حشرة صغيرة كالذبابة ، وان تسلبهم الذبابة شيئا ، فأنهم أعجز من ان يستنقذوه منها ، بالرغم من ضعف قوتها «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» اذن فلما ذا الطغيان ، ولماذا عبادة هؤلاء الضعفاء؟!

بينات من الآيات :

اختلاف الشريعة ووحدة المشرّع :

[٦٧] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ

ذكر المفسرون : ان لكل امة مناسك وطقوسا خاصة ، تختلف من امة الى أخرى ، وهذه الاختلافات لا تدل على اختلاف المشرع ، أو على اختلاف الشريعة الاسلامية التي أتى بها كل الأنبياء وغاية ما في الأمر هو ان الله الذي أوحى بشريعة نوح قد نسخ هذه الشريعة بشريعة إبراهيم ، ثم نسخ هذه الشريعة بشريعة موسى ، ثم بشريعة عيسى ، ثم نسخها بشريعة محمد (ص).

هذا التفسير صحيح لكنه ليس كافيا ، فهناك أحكام المختلفة بالرغم من وحدة الرسالة ووحدة النبوة ، وهناك واجبات تختلف من فرد لآخر حسب أحواله وظروفه المكانية والزمانية والمعاشية وغيرها ، ومن باب اولى ان تنسحب هذه المسألة على الشعوب والأمم ، والمقياس الوحيد لتقدير هذه الظروف المختلفة هو وحي الله سبحانه ، وما على الإنسان الا الانصياع لمن له الخلق والأمر ، وما دام الله هو رب الشرائع جميعا ، فلما ذا الاختلاف اذن؟! لنتوجه اذن لاصلاح ما بيننا حتى يعم السّلام والأمن ربوع المعمورة.

ولعل الآية توحي بأن البحث عن جزئيات المناسك العبادية لا يجدي نفعا ، بل

١٢٠