من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)

___________________

٦٧ [سامرا] : السمر الحديث ليلا.

٢٠١

وأكثرهم للحق كارهون

هدى من الآيات :

في سياق حديث سورة (المؤمنون) عن محورية الحق في الحياة ، يذكرنا القرآن بأن أولئك الكفار يعيشون في غمرات الشهوات والضلالة ، بعيدين عن الحق ، يمارسون أعمالا إجرامية ، ويستمرون عليها حتى يأخذ الله مترفيهم (وهم قياداتهم المفسدون) بالعذاب ، فإذ بهم يتضرعون من هول العذاب ، ولكن من الذي يعذب في الدنيا؟ انهم المترفون ، الذين يأتيهم الخطاب : لا تتضرعوا ، فإن الضّراعة عند نزول العذاب لا تنفع ، ولا ينصرهم الله. أفلم يكونوا يتولون هار بين كلما تليت عليهم آيات الله وهم يستكبرون بها ، وعند ما يسهرون بالليالي يقولون : كلاما تافها ضدها؟!

ولماذا الاستكبار على الحق ، ولماذا لا يتدبرون في القرآن ليجدوا انه يهديهم الى الحق الذي دعا اليه كل الرسل والصالحين (ممن تعترف البشر بفضلهم) وهذا الرسول يعرفونه بإخلاصه ، وصدقه ، وأمانته ، فلما ذا ينكرونه ، وهل يعقل ان يكون

٢٠٢

به جنة؟! كلا .. إنما سبب جحودهم له دعوته الى الحق ، والحق يكرهه أكثر الناس (بجهالتهم واتباعهم للشهوات).

ثم إنّ الكون قد خلق وفق سنن وأنظمة ، بعضها نعرفها نسميها القوانين الطبيعية. كجاذبية الأرض ، وانسياب النور ، وانفلاق الحبة من التربة الصالحة ، وبعضها الآخر قوانين غيبية مثل غفران الله للمذنبين التائبين ، أو تعذيبه للمجرمين.

وسواء هذا أو ذاك ، فان هذه القوانين هي الحق. الذي خلق الله وفقه السماوات والأرض ، والذي لو زال وحلّ مكانه الهوى والباطل لفسد الكون في لحظة.

وعلى الإنسان أن يستجيب للحق الذي قامت به السموات والأرض ، ويكفينا دليلا على ذلك حياة الإنسان ، فهو يعيش ضمن سنن لا يحيد عنها كالجوع ، والعطش ، والنوم ، الا سنة واحدة اعطى الاختيار فيها بين آلاف السنن والقوانين ، بعد أن بيّن الله له أبعادها ، ومع ذلك فانه قد يحطم نفسه والأرض بهذا الاختيار.

وأنت أيها الإنسان اعتبر بهذه الحقيقة ، فإنك لو أعرضت عن الحق ، واتبعت الباطل والهوى فإنّ حياتك ستفسد ، وستفسد الآخرين.

بينات من الآيات :

[٦٣] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا

تلفها الشهوات ، من كل جانب ، كما لو أنها رسبت في لجة آسنة.

وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ

أعمال الإنسان تنطلق من فكره وقلبه ، وما دامت قلوب هؤلاء مغمورة في

٢٠٣

الشهوات فإنّها لا يصدر عنها الا السيئات ، ولعل كلمة «مِنْ دُونِ ذلِكَ» تشير الى هذه الحقيقة ، أو الى ان الأعمال الاجرامية التي يمارسونها على فضاعتها تعتبر دون أفكارهم الضالة ، فإن خبث العقائد الفاسدة أشد من خبث الأفعال المنكرة.

[٦٤] حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ

ولم يقل الله (حتى إذا أخذنا هم بالعذاب) وهذا التحويل في لحن السياق القرآني لعلّه يدل على فكرة معينة هي أن الله لا يأخذ كل المغمورة قلوبهم بالعذاب ، بل يأخذ المترفين منهم ، والآيات التي تلي هذه الآية تفسرها ، وهذه من خصائص السياق القرآني أنه يفسر بعضه بعضا.

والجأر هو : نهاية حالة الضراعة ، والطلب الملح.

[٦٥] ولكن ليس ينفع المترف دعاؤه حين يحل به العذاب.

لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ

[٦٦] والآية التالية ، جواب على سؤال يفترض أنه يصدر عن المترفين ، حين يجدون أنفسهم بين يدي العذاب ، إذ يتساءلون عن سبب رد الله لاستجارتهم وتضرعهم ، فيأتيهم الجواب :

قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ

ان الآيات القرآنية وهي وقود الانطلاق والتقدم ، يفترض انها تدفع الإنسان نحو الأمام ، أما إذا كان قلبه مطبوعا بالتخلف والانحراف فهي لا تنفع معه أبدا ، بل تزيده طغيانا وكفرا ، والنكوص على الأعقاب ، كناية عن المشي القهقرى.

[٦٧] لذلك يقول القرآن :

٢٠٤

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ

اي بالقرآن.

سامِراً تَهْجُرُونَ

ان تكبر الإنسان على القرآن شيء ، وتكبره بالقرآن شيء آخر ـ وهو أعظم ـ حيث تتحول هذه الرسالة الإلهية العظيمة إلى أداة للاستكبار ، وهذا نقيض أهداف القرآن في تحرير الإنسان من عبودية الجبت والطاغوت ، وقد فسر بعضهم كلمة «به» هنا بالكعبة ، حيث ان المشركين اتخذوها وسيلة استكبارهم في الأرض ، بينما فسره البعض بالقرآن الذي تشير اليه كلمة «آيات» وتدل عليه كلمة «القول» في هذا السياق.

وكانوا إذا جن عليهم الليل واختلط ظلامه بنور القمر الهادئ ، وهيئت لهم ظروف السمر ، تحلقوا حول الكعبة ، وأخذوا يتداولون كلاما هجرا ، كأنه هذيان المرضي ، لا يقصدون به معنى حقيقيّا.

ذلك الكلام الفارغ الذي كان يكشف عن مدى غفلتهم وخوضهم في غمرات ـ اللهو ، والهوى ، واللاهدفية ـ أرداهم الى هذا الحضيض السافل من العذاب ، الذي لا خلاص لهم منه. تدبروا في حالتي ـ الجأر والهجر ..

[٦٨] أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ

في مقابل هؤلاء نرى المؤمنين الذين يتدبرون القرآن ، والتدبر من كلمة الدبر ، أي النهاية فمن القرآن يبدأ المؤمن فيسير بعقله ، وعلى ضوء الآية ، الى الحقائق ، فيرى ماذا تريد الآية وأين هو واقعها الخارجي ، وتطبيقها الحي.

إن القرآن لم يكن بدعة ، فهو امتداد لرسالات الله لبني البشر. عبر الزّمان ولا

٢٠٥

حجّة لأولئك الذين يتنصلون عن تطبيقه أو يتكبرون عليه ، ويفرغونه من معانيه.

أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ

ان البشر يقدّر ـ عادة ـ السلف الصالح ، وتزخر ذاكرته بقصص الأتقياء والمصلحين وفي طليعتهم الرسل ولكنه ـ في ذات الوقت ـ يكفر بالرسول الذي يأتيه بآيات الله ، ويتساءل عن صحة رسالته ، وانما هي تكميل للرسالات السابقة.

[٦٩] أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ

كلا .. فالناس كانوا يعرفون رسول الله بصدقه وأمانته وأخلاقه ، والرسالة التي جاءهم بها هي عينها التي تدعوا إليها عقولهم ، والله الذي يبعث بقرآن من السماء قد انشأ عقلا في داخل الإنسان يصدّقه ، فيعرف الإنسان أن الذي جاء به هو الحق ، وهكذا يستطيع كلّ إنسان بشيء من التعقل ان يهتدي الى رسول الله ، وان الذي ينصحه هل هو رسول الله أم داعي الشيطان؟ ولكن بشرط أن يخرج من سجن الشهوات التي تغمره ، وعند ذلك فقط سوف يرى الحقائق بوضوح.

[٧٠] أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ

وهل هذا قول مجنون ، وفيه من ينابيع الحكمة ، وخزائن المعرفة ، وبرامج الحياة ، ما يعجز عن اكتناهه أولو الألباب؟!

وهل المجنون يفعل ما قام به الرسول من تنظيم الحياة الناس ، ثم قيادة المجتمع على أفضل وجه؟!

بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ

كلا .. انهم يكرهون الحق ولذلك يجادلون فيه ، وينكرون الرسول الداعي

٢٠٦

اليه ، ولا يتدبرون في القول الذي يحتويه ولماذا يكره الحق أكثرهم؟ لأنهم يعيشون في غمرة منه تحيط بهم شهواتهم ، وهذا هو الفرق بين المؤمنين والكافرين.

[٧١] وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ

ليس فقط من الناحية الغيبية الإلهية فقط ، بل من الناحية الواقعية أيضا لأن الحق الذي تنزّل به القرآن تعبير عن حقائق الإنسان والحياة ، فالعدل يقيم الحياة ، بينما الظلم يؤدي بها إلى الدمار ، والصدق يعود على الناس بالنفع بينما الكذب يعود عليهم بالضرر ، وهكذا سائر القيم السلبية والإيجابية.

بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ

البعض يفسر هذه الآية بان : القرآن جاء شرفا للناس ، ولكنهم معرضون عن شرفهم ، وهذا صحيح ، اما التفسير الآخر ـ حسبما ارى انه أقرب ـ فهو ان القرآن جاء مذكرا لهم بما نسوه ، وغفلوا عنه ، ولكي ينورهم فلما ذا يعرضون عنه؟!

وهذا التفسير تأكيد للفكرة السابقة وهي : ان الله الذي يرسل رسالة على يد رسول ، أودع رسالة اخرى في قلب الإنسان ، وانطباق هاتين الرسالتين دليل على صدق الرسول.

٢٠٧

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا

___________________

٧٤ [لناكبون] : أي عادلون ومائلون عن الحق.

٧٧ [مبلسون] : آيسون من كل خير.

٢٠٨

لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)

٢٠٩

هكذا نتحدى عقبات الايمان

هدى من الآيات :

جاءت سورة (المؤمنون) لبث روح الايمان في القلوب ، ولكن القلوب المريضة لا تستقبل هذه الروح ، إذ لا بد من شفائها اولا ، في الدرس الماضي قرأنا كيف أن كراهة الحق النّاشئة من غمرات الضلالة ، أفرزت الجحود بالرسالة ، وهنا يساعدنا السياق لتجاوز العقبات التي تعترض طريق الايمان ، وبالتالي يحبب إلينا (الحق) ويطهر القلب من وساوس الشيطان التي تصدنا عنه.

الأول : الخوف على الثروة ، ويقول القرآن : انك لا تسألهم خرجا ، بل الله خير الرازقين ، وانه سوف يبارك لهم في ثرواتهم لو اتبعوا الحق الذي جاء به الرسول.

الثاني : المحافظة على التقاليد ، ويقول الذكر : أن سبيلهم ضال ، وانك ـ يا رسول الله ـ تدعوهم الى الصراط المستقيم ، وسبب ضلالتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة ، وفي آخر الدرس نقرأ تأكيدا على هذا السبب.

٢١٠

الثالث : لو كانت الرسالة حقّا ، لكشف الله بها الضرّ ، ولكن مقدارا من الضر يحافظ على توازن البشر الذي يطغى لو كشف الله عنه ضره ، وبالرغم من العذاب الذي أخذهم الله به تراهم لا يسلّمون لربهم ، ولا يتضرعون اليه. حتى ينزل عليهم عذابا شديدا ، فإذا بهم في ورطة وإبلاس.

بعد تطهير القلب من هذه الوساوس ، يذكرنا الرب بنعمه التي لا تحصى. أوليس قد أنشأ لنا السمع ، والأبصار ، والأفئدة. أفلا نشكره؟!

وهو الذي جعل البشر يتناسل في الأرض ، وبعد الموت يحشر من جديد ، وبيده الحياة والموت ، وتدبير الليل والنهار ، أفلا يكفي ذلك حجة لو انتفعنا بعقولنا؟!

كلّا .. إنهم يقولون ـ كما قال آباؤهم الضالون ـ كيف يبعث الله من يموت ويصبح ترابا وعظاما؟! انها أساطير الأولين. حيث قد وعدوا كما وعدنا نحن أيضا بذلك!

هكذا أصبح إنكارهم للبعث سببا لجحودهم برسالات الله ، وهكذا الإنكار ـ بدوره ـ نشأ من حالة الجهل ، واستبعاد حياة الإنسان من بعد الموت. وكلمة أخيرة : اننا نجد السياق ينتقل من الحديث عن العقبات في طريق الايمان ، وكيفية التغلب عليها ، إلى الحديث عن آيات الله التي تهدينا اليه ، وهذه هي الطريقة القرآنية في توجيه الإنسان الى ربه ، وهي تختلف عن الطرق البشرية ، فالطريقة القرآنية تعتمد على مرتكزات من بينها وأهمها الأسلوب الوجداني ، فالإنسان خلق على فطرة الايمان ، والله هو أجلى وأظهر حقيقة في هذا الكون ، وفطرة الإنسان تدعوه إلى الله :

«فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ».

٢١١

ولكن لماذا لا يؤمن البشر؟

لأن بينهم وبين الله حجبا. كحجاب الغفلة ، وحجاب الشهوة ، وحجاب التقليد ، وحجاب الخوف ، أو الرجاء في الأمور الدنيوية ، وحجاب الشك في الآخرة. ويجب على الإنسان أن يتحدى هذه الحجب بإرادته ، وبتذكير الله ـ عبر رسله ـ لكي يصل الى معدن الايمان ، ونور الله البهيّ.

وهذه النظرة القرآنية نجدها موزعة في كتاب الله ، والمتدبر في القرآن يجد هذا الأسلوب في توجيه الإنسان إلى الله واضحا في آيات الذكر الحكيم ، والذي أسميه بالاسلوب الوجداني الذي يبدأ بتزكية القلب ، وإجلاء الدرن والصدأ عنه ، ويكشف عن الحجب ليتصل بنور معرفة الله بصورة مباشرة ، وآنئذ نعرف معنى قول الامام علي (ع) : حين يسأله رجل قائلا : يا أمير المؤمنين أو رأيت ربك؟ قال : «ويحك! وكيف أعبد ربّا لا أراه؟!» قال السائل : كيف رأيته؟ قال : «لا تدركه الأبصار بملاحظة العيون ، وإنما تدركه القلوب بحقيقة الايمان».

بينات من الآيات :

[٧٢] من العقبات التي تعترض طريق البشر إلى الإيمان هو زعمه : بأن ايمانه سيكلفه التضحية بالمال ، دون ان يعلم بأن الايمان يدفع المجتمع لانتهاج شريعة متكاملة توفر له التعاون ، والعدالة ، والنشاط ، وفي مثل هذا المجتمع يستطيع الإنسان كسب المزيد من الثروة ، والمزيد من السعادة ، ولو أنه حسب ما ينفقه في سبيل الله خمسا ، أو زكاة ، أو نشاطا ، خسارة ومغرما ، فلأنه لا يعلم بأن تدوير الثروة وتوزيعها بالعدل يساعد على نشاط المجتمع ، وبالتالي على نموه الاقتصادي.

إن نظرة الإنسان للحياة من خلال معرفته بربّه ، تعرفه بأن عطاءه وإنفاقه في سبيل الله لا ينقصه شيئا ، بل يزيده مالا وسعادة ، ذلك انه سيكتشف عبر هذه

٢١٢

المعرفة بأن الله لا يحتاج الى ماله ولا نشاطه ، وانما ينفق ذلك لنفسه ، ولتدوير الثروة ، وتوزيعها العادل ، ولتطهير قلبه من درن البخل ، والمجتمع من آفة الطبقية.

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً

شيئا ينفقونه وكأنه يخرج من أموالهم ، وهو يقابل (الدخل).

فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ

كيف يطلب النبي المشمول ببركة الله ، وفيض عطائه من البشر الضعيف الفقير شيئا ، بل ماذا تعني ثروة الدنيا عند نبي تضاءلت الشمس والقمر أمامه.

وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

فالله الرزاق ، الذي لا حد لعطائه ، ولا ذلّة ، وهو الغني الحميد.

[٧٣] وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ

انك ايها الرسول تدعوهم الى انتهاج برامج صائبة لحياتهم. تتمثل في الصراط المستقيم الذي يصل بهم لو اتبعوه الى أهدافهم ، ومشكلة الإنسان في كثير من الأحيان انه يعرف هدفه ، ولكنه يفتقر الى الطريق والوسيلة الصائبة في بلوغه ، ورسالات الله تهديه الى السبيل الأقوم إلى أهدافه الفاضلة.

وأظهر مصاديق ـ الصراط المستقيم ـ بل وميزان الصراط المستقيم. القيادة الرشيدة ، والامام العادل الذي نصبه الله للناس علما ، يميزون الحق به عن الباطل ، وهو متمثل في شخص الرسول ، والائمة المعصومين من بعده (ع) والعلماء بالله. الأمناء على حلاله وحرامه من بعدهم ، و قد جاء في حديث مأثور عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ انه قال لعلي ـ عليه السّلام ـ :

٢١٣

«من أحبك لدينك ، وأخذ بسبيلك ، فهو ممن هدي إلى صراط مستقيم ، ومن رغب عن هداك ، وأبغضك وانجلاك ، لقي الله يوم القيامة لا خلاق له» (١)

[٧٤] وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ

ذلك أن الإيمان بالآخرة يشكل حجر الزاوية في كيان الإنسان العلمي ، أو ليست معرفة النهاية تساهم في معرفة حقائق الحياة ، ومن لا يعرف حقيقة الدنيا ، يزعم انها دار راحة ، وجزاء ، وحين لا يجدهما فيها يزداد شقاء ، ومن لا يؤمن بالآخرة لا يعرف هدف الحياة ، فيهدف فيها ما يضره ولا ينفعه ، أو يهبط الى مستوى العتو ، وقد ينتحر ، لأنه لا يجد طعما لحياته ، ومن لا يعتقد بالآخرة يتوغل في عبادة الشهوات ، ويحتجب بها عن معرفة الله ، ولا يلتزم بشرائعه ولا يهتدي برسالاته ، فهو في ضلال بعيد ، ولعله لذلك لم يقل الرب : ان الذين لا يؤمنون بالله ، بل قال : «وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ».

[٧٥] وماذا يفعل الله بالإنسان حين يتنكب عن الصراط؟

هل يرزقه النعم ويرحمه ، فاذا به يتوغل في الطغيان؟!

أم ينزل عليه النقمة فاذا به لا يرتدع ولا يتضرع الى الله؟!

وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ

كالفقر ، والمرض ، والخوف.

لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ

__________________

(١) المصدر / ص ٥٤٨.

انجلاك : ترك سبيلك. أي انجلى عنك.

٢١٤

لجّوا بمعنى : دخلوا وتوغلوا ، والله يشبه الطغيان في هذه الآية كما النفق الموحش ، وهؤلاء بدل أن يرجعوا عن المسير فيه ، كلما رحمهم الله تراهم يتوغلون فيه أكثر فأكثر ، فيفقدون بصرهم وبصيرتهم.

والواقع ان من العقبات التي تعترض طريق الايمان هو موقف الإنسان من النعم ، فاذا رزقه الله نعمة طغى ، وزعم : أن طغيانه هو السبب فيها ، كما تزعم الدول الاشتراكية المتقدمة : ان نظامها الاقتصادي ، وإديولوجيتها المنحرفة هي السبب في تقدمها ، أو كما تزعم الاخرى الرأسمالية : ان نظامها سبب تقدمها وحضارتها ، وقد ملأوا الدنيا ضجيجا بأن الاقتصاد الحر هو سبب التقدم.

بينما نجد الرأسمالية حين زرعوها في العالم الثالث ، لم تنبت الا مزيدا من التخلف ، وكذلك الاشتراكية حين حقنوا بها العالم النامي ، لم تلد سوى الدمار ، وهكذا عرفنا بأنه لا الاشتراكية ولا الرأسمالية هما سببا تقدم هذه الدولة أو تلك.

والعمه هو : العمى الذي يصيب الشخص منذ ولادته ، فلا يستطيع ان يميز شيئا أبدا ، بينما الذي يدركه العمى بعد أن يكون بصيرا مدة من الزمن ، فانه قد يستطيع ان يميز بعض الأشياء ، اعتمادا على ذاكرته وحواسه.

[٧٦ ـ ٧٧] وكذلك لو أخذهم الله بألوان العذاب ، فإنهم لا يرجعون عن انحرافهم ، ولا يتضرعون اليه ، بل تجدهم يعتمدون على هذا وذاك من دون الله ، فالمجاعة يكون حلّها عندهم بالاعتماد على معونات الانظمة الكافرة. بدل ان يكون علاجها بالعودة الى الله ، والتضرع اليه ، وتغيير الذات ، والسعي ، والتعاون ، والعلم ، والعدالة.

وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ

٢١٥

جاء في رواية عن الامام الباقر ـ عليه السّلام ـ :

«الاستكانة هو الخضوع ، والتضرع هو رفع اليدين ، والتضرع بهما» (١)

هناك نوعان من العذاب :

١ ـ عذاب الابتلاء : وهدفه تغيير الإنسان «فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ» وعادة لا ينتفع البشر بهذا النوع من العذاب.

٢ ـ عذاب الانتقام : وهو إذا انزل فلا مردّ له ، كالعذاب الذي حل بفرعون وقومه ، لأنه آمن متأخرا ، ومن دون فائدة. وهذا النوع من العذاب يهز الإنسان من الأعماق الى درجة انه يبلس ، اي تختلط مشاعره ، ويبقى في حيرة ، ولا يعرف كيف يتصرف.

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ

[٧٨] وبعد ان ذكرنا القرآن بالعقبات التي تعترض طريق الايمان ، يذكرنا الآن بالله وآياته ، فالإنسان إذا عرف العقبات والحجب التي تمنعه من الايمان ، وتحداها بقوة الإرادة ، وبتذكرة الله ، فانه يكون آنئذ مستعدا للتذكرة بالله ، ويفهم القرآن ، ويزداد به إيمانا.

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ

وهما نافذتا العقل على المعرفة.

وَالْأَفْئِدَةَ

__________________

(١) المصدر / ص ٥٤٩.

٢١٦

وهي أهم من السمع والأبصار ، لأنه لو عطب عن العمل فلن ينفعا أبدا ، إلا أننا قلّما نشكر الله على هذه النعم.

قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ

[٧٩] وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

ذرأ بمعنى : خلق وأظهر ، ولعل كلمة «في الأرض» للدلالة على أن التراب كان أصل خلقة البشر ، وأن اليه يعود ، ومنه ينتشر ، ويحشر تارة أخرى.

[٨٠] وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ

ان العالم مع ما فيه من تقدم تكنلوجي ، عاجز بأسره ان يضيف إلى الإنسان لحظة واحدة من الحياة ، لأن هذا الأمر بيد الله وحده ، وهو الذي يميت أيضا ، وليس الإنسان وحده الذي يخضع لإرادة الله ، بل لا تجد ظاهرة في هذا الكون إلا وهي تنتهي اليه.

وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ

فالليل والنهار يتعاقبان ، ليس فقط في التناوب الزمني ، وانما أيضا في القصر والطول ، ومن أوتي البصيرة ، ونظر بعين قلبه الى إتقان تدبير الله في الليل والنهار تبصر أيضا بمعنى الحياة والموت ، وقدرة الله المهيمنة عليهما.

[٨١] الإنسان يهتدي لهذه الحقائق حينما يستفيد من عقله ، اما حين يعطّله بالأسباب المختلفة ، كتقليد الآباء ، فانه أبعد ما يكون عن استيعاب هذه الحقائق الواضحة والقريبة منه.

بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ

٢١٧

[٨٢] ماذا قال الأولون؟

يرجعنا القرآن هنا الى السبب الجذري لعدم إيمان هؤلاء ، وهو الكفر بالآخرة ، والذي سببه التشكيك أو الكفر بقدرة الله ، وإرادته اللّامحدودة.

قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ

يتعجبون كيف أن العظام الرميم تصير بشرا سويا؟!

[٨٣] لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ

لقد زعموا بأن هذه الحقيقة أفكار رجعية متخلفة ، ونسوا أن مبدأهم كان من التراب ، وان الذي خلقهم أول مرة لقادر على بعثهم من التراب مرة اخرى.

٢١٨

قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥)

٢١٩

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)

___________________

٩٨ [يحضرون] : أي يشهدوني ويقاربوني ويصدّوني عن طاعتك.

٢٢٠