من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

لا بد ان يكون الحديث حول أصل صدق الرسالة ، فمتى ما أيقن المرء ان الرسول يدعو الى الله عبر طريق مستقيم. فلا يجوز ان يجادل في الفروع.

وانه لماذا الصلاة الى الكعبة ، وليس الى المسجد الأقصى ، ولماذا الصوم في شهر رمضان ، وليس في أيام عيد الفطر ، ولماذا لا يحرم الإسلام ما نهت عنه شريعة موسى ، وما الى ذلك مما كان الكفار يجادلون فيه ، ويتخذونه ذريعة لجحودهم ، ومما لا يزال بعض انصاف المثقفين يتخذونه مادة للجدل العقيم ، ويبررون به فسقهم عن الدين وكفرهم به.

وأساسا كلما منعت البشر العصبية عن منهج سليم ، ولم تفلح أدلته في رده ، أخذ يناقش في الجزئيات التي لا علم له بها والتي لا يستطيع أحد اقناع أحد فيها.

ولعلنا نستوحي من الآية : ان الامة الواحدة مهما اختلفت طرائق وشيعا فانها تقوم على أساس منسك واحد ، فالمنسك هو رمز مبدئية الامة ووحدتها ، فالمسلمون قد يختلفون في اي شيء الا في الصلاة الى الكعبة والحج إليها والصوم و .. و. والمسيحيون يختلفون كذلك في كل شيء الا في بيت المقدس ومجموعة مناسك يتفقون عليها مثلا.

فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ

أنت لا تملك ايها الرسول سوى البلاغ وليس لهؤلاء حق في ان ينازعوك أو يناقشوك فيما أمرك به الله ، خصوصا في المناسك ، وفي هذا نهي حتمي عن الخوض في مثل هذا الجدل.

وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ

انك على هدى ، تعرف الغاية وتعرف أيضا الطريق المستقيم إليها ، فلا تلتفت

١٢١

الى جدلهم ونزاعهم ، وأمعن في طريقك داعيا الى الله سبحانه.

[٦٨] وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ

لا تحاول ان تورط نفسك في الجدال العقيم معهم ، بل اتركهم الى ربهم فهم مسئولون امامه ، وليسوا أمامك الا بمقدار الدعوة والبلاغ.

[٦٩] اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

إذا وضع الإنسان الله مقياسا له وانه رقيب عليه ، فان الخلافات سوف تتبدد وتنتهي ولعل الآية تدل أيضا على ان هناك اختلافات لا تستدعي الصراع ، بل ان الإنسان هو الذي يسبغ على هذه الاختلافات الطبيعية لون العداء.

[٧٠] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ

ان الله يعلم كل ما يجري في السماء والأرض ، وكل شيء عنده مكتوب في اللوح المحفوظ الذي يسميه القرآن هنا بالكتاب ، وهذان الامران ـ علم الله وتسجيله للاحداث ـ يمثلان موعظة بليغة للإنسان إذا التفت إليهما جيدا ، حيث يراقب جميع أقواله وأفعاله ، ومعتقداته ، فيعمل على إصلاح شؤونه ، ويبتعد عن كل انحراف يجرح فطرته.

إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ

بالرغم من ان الإحصاء الدقيق في اللوح المحفوظ فوق تصورات البشر الا انه بالرغم من ذلك على الله سهل يسير.

ان الأفعال تطبع اثارا لا تمحى في صحائف شتى ، لا يقرأها الا أصحاب

١٢٢

العلم .. وكلما زاد العلم تقدما كلما توغل في معرفة الآثار التي تخلفها الظواهر .. وأبرز مثل لذلك المرض فانه يخلف آثاره على كل جوارح الفرد. وعلى نظام دورته الدموية ، وشبكة غدده ، وافرازاتها ، ومختلف انسجة جسمه. الا ان علماء الطب يختلفون من عصر لعصر في قدرتهم على اكتشاف المرض من خلال تلك الآثار ، فمنهم من يكتشفها من النبض ودقات القلب ، أو من لون البشرة أو من خطوط الكف ، ومنهم من يكتشفها بالموجات الكهربائية المنبعثة من حركة القلب أو الدماغ أو من تحليل الدم والافرازات. وهكذا تجد ان التأثيرات مكتوبة على لوحة الطبيعة ، وانما الاختلاف في القدرة على قراءتها.

وهكذا كل أعمالنا تكتب على عشرات الألواح ، وتتجلى يوم القيامة أمامنا فتعقل ألسنتنا عن الإنكار .. الا فلتستعد لذلك اليوم الرهيب الذي تبلى فيه السرائر.

ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ :

[٧١] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً

اي انهم يعتقدون ان بامكانهم ان يفلتوا من قبضة الحق ، ومن نطاق المسؤولية عبر عبادة غير الله التي ما انزل بها من سلطان ، فلم يعط إذنا صريحا بيّنا لهم بعبادتهم.

وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ

ان تتعبد بعلم هذه حجة قطعية وفي غير هذه الحالة لا بد ان تتعبد باتباع من تعرف يقينا ان الله جعله وليا عليك ، اما ان تتعبد بلا علم ولا شريعة ، فعبادتك باطلة ، وعملك هباء.

وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ

١٢٣

اي ان هذه الأصنام لن تكون المنتصرة لهم من الله سبحانه إذا أخذهم ، فهذه الأصنام التي تعبد لن تخلص نفسها فكيف تخلص الآخرين.

[٧٢] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا

حينما يسمعون آيات الله تبدو على وجوههم آثار الاستنكار والرفض ، عميقة و شديدة الى درجة يظن فيها الناظر انهم يهمون بالبطش بمن يتلون عليهم تلك الآيات ، وكأن هؤلاء لو لم تتلى عليهم هذه الآيات سيكونون في حل من القيام بمسؤولياتها.

قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

ان انحرافكم هذا يؤدي الى النار ، وإذا كان مجرد إنذارهم بالنار لا يعجبهم ولا يستطيعون تحمله فيا ترى هل ان النار نفسها تعجبهم ، ويمكنهم احتمال حرها؟!

[٧٣] يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ

كما هو ثابت علميا ان الذباب إذا أكل شيئا فأنه يتحول بسرعة عبر عدة تفاعلات كيمياوية الى مواد أخرى تستفيد منها هذه الحشرة ، ويستحيل آنئذ إعادتها من جديد ، وهكذا يكون عجز البشر ظاهرا إذ انهم لا يقدرون على استعادة ما يأخذه الذباب عنهم ، اضافة الى ان حجم الذبابة صغير ، بحيث لا تستطيع أدق الآلات ان تستخلص المواد من جوفها ، علما بأن المواد السكرية ، والكربوهيدراتية والبروتينية تتكون من مادتين رئيسيتين هي : الاوكسجين والكربون فاذا تحللت هذه

١٢٤

المواد في بطن الذبابة الى موادها الاولية ، آنئذ يستحيل على البشر ان يعيد العناصر الاولية الى مادة.

وأخيرا فالقرآن يؤكد ـ المرة تلو الاخرى ـ على ان الطاغوت لا قوة له الا في النفوس المريضة ، فقد يضخمه اتباعه حتى يصير عندهم ربهم الأعلى ، وقد يقزمونه حتى يصيرا حقر من الذبابة.

١٢٥

ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

١٢٦

هكذا يصطفي الله الدعاة اليه

هدى من الآيات :

في سياق الآيات التي جاءت في سورة الحج يذكرنا ربنا تعالى بأسمائه الحسنى التي لما عرفنا اسما جديدا منها كلما ازددنا ايمانا بالله ومعرفة به وبما خلق ، وكلما ازداد الإنسان معرفة بالخالق والمخلوق كلما كان أكثر استقامة وهدى.

ان المحور الاساسي الذي تلتقي فيه كل الخطوط ، هو توحيد الله ومعرفة أسمائه الحسنى ، لذلك فان الآيات الاولى من هذا الدرس تؤكد مجددا على أسماء الله تبارك وتعالى ، ان من الواجب على العباد ان يعرفوا خالق هذا الكون ، وموجد هذه الحياة ، ولكنهم لم يقدروا الله حق قدره إذ عدلوه بخلقه.

ان الله ليس لا يقاس فقط بالأنداد ، بل لا يقاس حتى بتلك القوى التي هي أعظم من الأنداد كالملائكة والرسل الا ان من الناس من جهل الله ولم يقدره حق قدره ، فقاسه بالطغاة فعبدهم ، ومنهم من أشرك معه الملائكة فتوجه إليها ، ومنهم من عدله برسله.

١٢٧

ان الله هو الذي يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس لينقلوا شريعة الله ورسالته الى الناس ، ويقوما فيهم بأمره في الوقت الذي يحيط بهم سمعا وبصرا دون ان يستطيعوا التقول عليه سبحانه وإذا عرفنا الله معرفة حقيقية فان جوارحنا وجوانحنا تهفو الى عبادته قربة له ، لان من يعرف الله سبحانه يتصل بنوره ، ومن يتصل بنوره ينعكس ذلك على كيانه كله ، فيندفع الى مرضاة ربه بصورة عفوية.

فجوهر العبادة إذا المعرفة ، وإذا تمت المعرفة اتصلت روح الإنسان بنور الله ، وتحركت جوارحه في طاعة الله بصورة عفوية ، لذلك يأمرنا الله بالركوع والسجود وفعل الخير ، ثم يأمرنا بحمل رسالة السماء الى الحياة.

ان الإنسان الذي يجد حلاوة الايمان في قلبه ويعرف حقيقته وفوائده الجليلة ، ينبغي له ان يندفع في توجيه الآخرين الى الايمان ، وبيان فوائده ومنافعه لهم ، وكذلك يأمرنا سبحانه بالجهاد فيه حق الجهاد ، انك بقدر معرفتك بالله يكون جهادك وتضحيتك في سبيله ، لأنك كلما ضحيت في سبيله وأنت عارف به كلما شعرت بان تضحياتك أقل واحقر من مقام ربك الأعلى.

ثم يعدد ربنا سبحانه بعد ذلك نعمه علينا كمجتمع فيقول : ايها المسلمون أنتم مجتمع فاضل ، اختاركم الله لتحملوا رسالته الى الناس جميعا ، فيجب ان تكونوا كذلك «ان الدين يسر لا عسر» ، «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» ومن ثم فأنتم مجتمع قائد لسائر المجتمعات مثلما كان الرسول قائدكم وأخيرا فان مجتمعكم يحمل تجربة جهادية منذ عهد إبراهيم (ع) قبل خمسة آلاف عام أو أكثر حيث ابتدأ المسيرة التوحيدية الجديدة في العالم ، فعليكم ان تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتعتصموا بالله وتتمسكوا بحبلة. (كتاب الله ورسوله خلفائه بمعنى آخر شريعة الله وامام مؤيد من تلك الشريعة) وآنئذ تكونون قد اخلصتم عبادتكم لله ، مولاكم ونصيركم «نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»

١٢٨

بينات من الآيات :

ما قدروا الله :

[٧٤] ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

ما قدروا الله حق قدره بان قاسوه بعباده ، ولم يعبدوه حق عبادته ، وكل الفساد والضلال والويلات انما نشأت بسبب عدم معرفة الله حقا.

ما هو الفرق بين القوة والعزة؟

يبدو ان الفرق بين القوي والعزيز هو ان القوي يستخدم ـ بسبب أو آخر ـ قوته في السيطرة على الآخرين ، ولكنه ليس بعزيز ، اما إذا كان قويا واستخدم قوته وقدرته في الساحة الاجتماعية ، فآنئذ يسمى عزيزا اي مرهوب الجانب ، والله سبحانه كذلك الا انه لا يقاس بخلقه فهو قوي مطلق القوة ، وعزيز يستخدم هذه القوة في تدبير شؤون الخلق ، فلا يتصور أحد انه قادر على تحدي الله أو ان باستطاعته بعد ذلك ان يفلت من عقابه ، وعموما فان القوة والعزة توحيان بضرورة التقوى حيث يعاقب الله من لا يقدّره حق قدره.

رسل المسؤولية :

[٧٥] اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ

ان الله سبحانه وكما جرت سنته لا يعذب قوما من دون ان يرسل إليهم رسولا حتى ولو لم يقدروه حق قدره ، «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» ، فالله وقبل كل شيء يصطفي رسلا من الملائكة ومن أهل الأرض ، فيرسل بالوحي هؤلاء الى هؤلاء ، فرسل الله في الأرض هم رسل المسؤولية ، وهذه الآية توحي بان رسل الله سواء كانوا ملائكة أو بشرا هم على درجات.

١٢٩

إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

وعند ما يصطفي سبحانه من الملائكة ومن الناس رسلا فانه لا يتخلى عن عباده ، بل هو سميع بهم وبصير بما يعملون ، يدبر أمورهم ، ويسجل أعمالهم ، ويعلم ما في سرائرهم وضمائرهم ، وان اصطفاءه للرسل انما يتم بعلمه ، وبسمعه وبصره فلا يكون عبثا ، ولعلنا نستوحي من قوله سبحانه : «وَمِنَ النَّاسِ» ان الله يصطفي من المؤمنين من يحمل الرسالة ، فهناك الرسول ، ورسول الرسول ، وهكذا ودليلنا على هذه الفكرة قوله تعالى في آخر آية من هذا الدرس ، حين يتحدث عن المجتمع الاسلامي : «وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» وآية أخرى يقول فيها سبحانه : وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فالله سبحانه يختار من سائر عبيده ، من يحمل الكفاءة العلمية والعملية والقيادة ، ويحمله مسئولية نقل رسالته.

[٧٦] والله سبحانه يحيط علما بمن يصطفيهم من الرسل فلا يقدرون على مخالفته ومعصيته ، ونقل مالا يرضى من القول الى الناس وانه لضلال مبين ان نقيس ربنا بمن يجتبيهم من رسله الذين :

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ

ان علم الله شامل لرسله أيضا ، فهو معهم ويعلم ما بين أيديهم وما خلفهم.

وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

أمور الأنبياء وأمور الناس ، وحينها يأخذ للمحسن من المسيء ، ويجازي المحسن بإحسانه ، والسيء بإساءته.

[٧٧] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا

١٣٠

 الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

من هذه الآية وما بعدها يلخص الله السورة مجملة كما انه يذكر الخلاصة التي يريد طرحها.

هذه الآية تبين مراحل الايمان وهي :

١ ـ الخضوع ، ودليله الركوع لله.

٢ ـ الخشوع بكل الجوارح ، والشعور بالحقارة امام الله ، ودليلها السجود.

٣ ـ استمرار الخضوع والخشوع والاستقامة عليهما ، وهذا هو معنى العبادة.

٤ ـ العطاء المستمر سواء بالإنفاق أو العلاقات الحسنة أو .. أو .. ، وهذا معنى قوله : وَافْعَلُوا الْخَيْرَ .

ونتيجة هذه السلسلة من الأوامر هي سعادة الإنسان ، ووصوله الى غاياته وتطلعاته ، وهو قوله : لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

وهكذا جاء في الحديث المأثور عن الامام أمير المؤمنين في وصيته لابنه محمد بن الحنفية رضي الله عنه :

«يا بني لا تقل ما لا تعلم ، بل لا تقل كلما تعلم ، فان الله تبارك وتعالى قد فرض على جوارحك كلها فرائض ، وأضاف بعد ذكر هذه الآية المباركة : فهذه فريضة جامعة واجبة على الجوارح». (١)

وعن الخير الذي أمرنا به في خاتمة الآية جاء في الحديث النبوي :

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ ص ٥٢٠.

١٣١

«رأس العقل بعد الايمان التودد الى الناس واصطناع الخير الى كل بر وفاجر» (١)

الاجتباء وحق الجهاد :

[٧٨] وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ

هنالك علاقة بين الأمر بالجهاد وقوله سبحانه : ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وهذه العلاقة هي انه بمقدار معرفتك بالله يكون جهادك في سبيله.

هُوَ اجْتَباكُمْ

اي اختاركم ، ويبدو هنا ان الاجتباء هو درجة أقل من الاصطفاء ، لان الله قال عن الرسل بأنه يصطفيهم ، اما المؤمنين فيجتبيهم ، وربما السبب ان الله يصطفي رسله بالغيب اما المؤمنين فانه يجتبيهم إذا ما توافرت فيهم الشروط المطلوبة وحسب السنن الجارية.

ان الايمان مستوى رفيع لا يصل اليه كل إنسان ، فاذا ما وصل اليه فلا بد ان يعرف ان الله قد وضع على عاتقه المسؤولية بعد ان اجتباه ، والاجتباء لا يكون بالإخبار المباشر ولكن بالقذف في القلوب والإلهام.

من هنا جاء الحديث المأثور عن الامام الرضا (ع) حين سأله المأمون العباسي عن زيد بن علي (ع) فقال : كان زيد والله ممن خوطب بهذه الآية : «وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ». (٢)

__________________

(١) المصدر ص ٥٢١.

(٢) المصدر ص ٥٢٢.

١٣٢

وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ

احكام الإسلام احكام سهلة ، فالذين لا يصلون يتصورون ان الصلاة صعبة ، ولكن الذين يؤدون الصلاة بخشوع لله فإنهم ليس فقط يرونها سهلة ، بل يجدون فيها اللذة أيضا ، وقد يسر الإسلام كل العبادات فلم يجعل من الصلاة حركات رياضية صعبة مرهقة كتسلق الجبال انما جعلها خفيفة ، وكذلك فانه لم يجعل الصيام عملية تجويع متعبة ، وانما هي سويعات صبر وبعدها نعود الى ما كلنا ومشاربنا ، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فان الإسلام يخفف بعض الأحكام في الحرج ، حيث لا يستطيع الإنسان ان يؤدي الفرض كاملا.

جاء رجل الى الامام الصادق (ع) وقال : جرح اصبعي فوضعت عليه مرارة حتى يندمل الجرح ، فكيف أتوضأ؟ فقال الامام (ع) : هذا وأمثاله يعرف من القرآن ، ان الله سبحانه وتعالى يقول : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» امسح عليه.

صفات القائد :

مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ

ان هذا الدين له جذور تاريخية ومجد تليد ، ابتدأه أبوكم إبراهيم (ع).

وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ

اي في هذا الدين الاسلامي تكون مسئولية الرسول ، حيث من مهمة الرسول ان يصنع منكم قادة للاجيال وشهداء على تطبيق الرسالة ، وهذا المقطع من الآية يجسد لنا الطموحات التي يجب ان نسعى إليها ، فلا تجعل هدفك ان تكون فردا كسائر

١٣٣

الناس ، بل اجعل هدفك ان تكون قائدا ، وشاهدا عليهم.

قد يسمى القائد في الإسلام إماما ، لأنه أول من يجب عليه تطبيق الدين فيؤمه الناس ، واما سبب تسمية القائد بالشهيد فلأنه يكون شاهدا على الناس في تطبيقهم للرسالة.

فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ

إنّ أهم صفات القيادي :

١ ـ اقامة الصلاة.

٢ ـ إيتاء الزكاة.

٣ ـ الاعتصام بالله والتمسك بحبله.

هذه الكلمات الثلاث هي احكام اجتماعية ، حتى الصلاة بالرغم من أنها علاقة بين الفرد وربه الا أنها وخاصة الجمعة والجماعة تركز الروح الاجتماعية ، وعموما فان أهم شرط يلتزم به القيادي هو تقوية ارتباطه بالله ، عبر إقامته لفرائضه ، اما الزكاة فواضح مردودها الاجتماعي ، من سد فقر المعوزين ، والاحساس بآلامهم و .. و .. ، والاعتصام بالله اي التمسك بحبله الذي مدّه لخلقه ، وهم أئمة الهدى وقادة أهل التقى .. وبتلخيص شديد فان صفات الإنسان القيادي : اتصال روحي بالله ، وعلاقة حسنة مع الناس ، وخط سليم.

هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ

هذا المقطع يفسر آية في سورة محمّد (ص) وهي «ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ».

١٣٤

ان الله هو مولانا الذي نتلقى منه الأوامر باعتزاز ، فنعم المولى هو الله إذ لم يكلفنا فوق طاقاتنا ولم يتركنا بدون هدى ، ونعم النصير ينصرنا على أعدائه وأعدائنا.

١٣٥
١٣٦

سورة المؤمنون

١٣٧
١٣٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة :

عن النبي صلّى الله عليه وآله انه قال :

(من قرأ سورة المؤمنين بشرته الملائكة بالروح والريحان ، وما تقربه عينه عند نزول ملك الموت (١)).

و عن الامام الحسين عليه السّلام أنه قال :

(من قرأ سورة المؤمنين ختم الله له بالسعادة ، إذا كان يدمن قراءتها في كل جمعة ، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيين والمرسلين (٢)).

__________________

(١) مجمع البيان ص ٩٨ ، ج ٧

(٢) نور الثقلين ص ٥٢٧ ، ج ٣

١٣٩

الإطار العام

ما هو الإطار العام للسورة؟

قد نجيب بسرعة : الإطار العام لسورة المؤمنون هو الايمان ، أو صفات هذه الطائفة المتميزة من البشر وهم المؤمنون.

بلى ولكن يبقى السؤال عن علاقة موضوعات هذه السورة بهذا الإطار العام؟ دعنا نذكر أولا موجزا منها :

١ ـ مراحل خلق الإنسان (الآيات : ١٢).

٢ ـ ان حركة الشمس ، والقمر ووجود المطر ، والزرع ، والثمرات ، والانعام.

كل ذلك يخدم حياة البشر (الآيات ١٧).

٣ ـ كذب قوم نوح بالرسل ، وكذلك قرون بعدهم كثيرون ، فاهلكهم الله

١٤٠