من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

١
٢
٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة :

عن أبي عبد الله عليه السّلام قال :

«من قرأ سورة الحج في كل ثلاثة أيام ، لم تخرج سنة حتى يخرج الى بيت الله الحرام. وان مات في سفره دخل الجنة»

الاسم :

وانبثق اسم السورة من أحكام فريضة الحج التي وردت في هذه السورة.

٥

الإطار العام

أولى آيات سورة الحج تصور لنا أهوال الساعة بهدف بث روح التقوى من الله.

ولعلّ التقوى من الأهداف التي تحققها كل السور القرآنية ، الّا ان انعكاساتها على الحياة تختلف ، وقد سبق الحديث عند التدبر في سورة البقرة انّ آياتها تهدف بيان صبغة الله التي جعلها للامة المسلمة ، والتي تتجسد في التقوى. وتكاد تكون سورة الحج تأكيدا على تلك الصبغة ، حيث أنها تشرع بأمر الناس بالتقوى ، وتذكرنا بمناسك الحج ، وواجبات الجهاد ، وتنتهي ببيان خصائص الامة الاسلامية.

ولكن هذه السورة التي اختلف المفسرون في أنها نزلت بمكة أو المدينة ، أو فيهما معا تتميّز عن سورة البقرة ـ فيما يبدو لي ـ في انها شفاء للقلب من أمراض الغفلة والجدل والجهل والنفاق ، وهي تعالج أيضا الأعذار التي يلجأ إليها الإنسان هربا من المسؤولية! مثل التظنّي والتمنّي ، والاتكال على عبادة الأوثان ، والخوف من

٦

الطغاة ، والخشية من الهزيمة أمام قوتهم.

كيف يشفي الله بآيات هذه السورة تلك الأمراض ، ويطهر القلب من الأعذار والمانعة عن التقوى؟

فيما يلي نتذكر معا الحقائق التي نستوحيها من التدبر في آيات هذه السورة التي تفيض هيبة وجلالا :

نرى في بدايتها هزة عنيفة تزلزل قناعات الإنسان ، السادر في الغي ، الغافل عن المصير الفظيع الذي ينتظره.

ثم يعالج السياق التبرير القديم الجديد ، الذي تلجأ اليه النفس البشرية هربا من عظمة المسؤولية وهيبة الجزاء .. وذلك هو الجدل في الله بغير علم ، والريب في البعث باعتباره مستحيلا.

وبعد التذكرة بقدرة الله على النشور ـ أو ليس قد خلق الإنسان أطوارا؟! ـ يعالج حالة الجدل بغير علم ، وحالة الايمان الحرفيّ ، حيث يهدف صاحبه المصالح العاجلة ، ويحذره بأنه الخاسر في الدنيا والآخرة.

ويهدينا السياق القرآني الى ضلالة من يظن بان الله لا ينصره في الدنيا والآخرة ، أو ليس هو السلطان الحق للسموات والأرض ، وهو الذي يفعل ما يشاء؟!

وهو الذي يفصل بين الناس ـ على اختلافهم ـ بالحق.

ثم يبين جزاء المؤمنين ، وعقاب الكفار ، وبالذات الذين يصدون عن المسجد الحرام .. ذلك البيت الذي بناه إبراهيم ويجب قصده ابتغاء مرضاة الرب.

٧

ان من أعظم حكم الحج بث روح التقوى في القلب ، لتطهيره من درن الشرك ، وذلك عبر ذكر الله ، وإطعام البائس والفقير ، وتطهير البدن من التفث.

وهكذا يبدأ السياق بذكر الحج من آية (٢٦) ، ويستمر ببيان جانب هام من التقوى ، هو تعظيم حرمات الله واحترام شعائره ، وينهى عن الأوثان ، ويأمر برفضها عبر الحنفية التي تعنى الطهارة والنقاء.

ان تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب ، والهدف من الذبح تنمية التقوى ، عبر ذكر الله عليها. وقد حدد الله لكل امة منسكا ، ليذكروا الله على نعمائة.

وأسمى درجات التقوى حالة الإخبات حيث يذكرنا السياق بصفات المخبتين ، من خشية الله والصبر واقامة الصلاة والإنفاق.

وخلال آيات (٣٨ ـ ٤١) يذكرنا السياق بالجهاد الذي هو حصن المقدسات ، ودرع الحرمات. والعلاقة وثيقة بين الحج الذي يسمى بجهاد الضعفاء والجهاد ، أو ليسا يهدفان معا إعلاء كلمة الحق ، أحدهما بصورة سلمية ، والثاني بالدفاع الدامي؟!

ولعل الإذن بالجهاد في هذا السياق لتكميل جوانب التقوى ، حتى لا يتبادر الى الذهن ان التقوى تعني العزلة والتقوقع والرهبنة .. وعموما يبدو ان هذه الآيات هي سنام السورة.

ثم يعالج السياق تبريرا شيطانيا آخر حيث يظن المكذبين بالرسالات ان تأخير العذاب دليل إهمال الله لهم. بينما ينبغي السير في الأرض للنظر في عواقب المكذبين الذين أملى الله لهم ثم أخذهم أخذا شديدا ، بينما أسبغ على الصالحين نعمه ظاهرة وباطنة. والسير في الأرض لا ينفع الذين يسعون في آيات الله معاجزين ، وهم

٨

يعاندونها ويتحدونها ولكن لهم عذاب شديد.

ويداوي الذكر الحكيم قلب البشر من التمنيات التي هي أرضية وساوس الشيطان ، والله سبحانه يؤيد أنبياءه فينسخ ما يلقي الشيطان. ثم يحكم آياته.

وعلينا ان نعالج هذه التمنيات بآيات القرآن ، حتى لا تكون فتنة لنا.

ولكن القلب المريض والقاسي يستقبل ما يلقيه الشيطان فيه عند التمني فيضل عن الصراط السوي.

والكفار يترددون في ريبهم. ولهم عذاب شديد.

وهناك عذر شيطاني آخر تعالجه آيات الذكر وهو اليأس ، حيث يتساءل المرء : ماذا ينفع القيام لله والمطالبة بالحقوق الضائعة؟.

بلى .. الذين يهاجرون في سبيل الله ، ويدافعون عن أنفسهم ضد البغي ينصرهم الله ، ولا يعجز الله شيء في السموات والأرض ، أو ليس هو الملك الغنيّ الحميد الرؤوف الرحيم ، وإنه يحيى ويميت؟!

ولكي نعالج حالة اليأس لا بدّ من النظر في آيات قدرة الله ورحمته.

ولعلّ ما يعوق الإنسان عن العمل هو الجدل في الدين ، والله نهى عنه ، ونبّئنا بأنه قد جعل لكل امة منهجا ومنسكا ، وانه عليم بكل شيء.

والشرك ملجأ المبررين حيث يزعم المشرك بأنّ الاعتماد على الشركاء ينجيه من المسؤوليات ، ولكن القرآن يذكرنا بان أولئك لم يخلقوا ذبابا ، وانهم لا يقدرون على مقاومته.

وفي الدرس الأخير من السورة يبيّن الله كيف يصطفي الرسل من الملائكة ومن

٩

الناس .. وانه المهيمن عليهم ، فلا يزعم البعض بأنهم انصاف آلهة.

وفي ختام السورة نقرأ آية كريمة تحدد ملامح الأمة الاسلامية ، وتأمر بالجهاد كما ينبغي.

١٠

سورة الحج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ

________________________

١ [زلزلة] : الزلزلة شدة الحركة على الحال الهائلة وقيل ان أصله زلّ فضوعفت للمبالغة.

٢ [تذهل] : الذهول عن الشيء دهشا وحيرة.

٣ [مريد] : المتجرد للفساد ، وقيل ان أصله الملاسة فكأنه متملس من الخير.

١١

وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)

________________________

٥ [نطفة] : المني ـ ماء الرجل.

[علقة] : قطعة دم جامد.

[مضغة] قطعة لحم بمقدار ما يمضغ من اللحم.

[مخلقة] : مستوية الخلقة.

[أرذل العمر] : أسوء العمر وأخبثه (الهرم).

[ربت] : أي زادت وأضعفت نباتها.

[البهيج] : الحسن الصورة.

١٢

ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)

١٣

معايشة الساعة سبيل الإصلاح

هدى من الآيات :

في الآيات الاولى من هذه السورة يهزّ السياق القرآني ضمير الإنسان هزّا عنيفا بتصوير اللحظات الحرجة الاولى لوقوع الساعة ، حيث يذهل الإنسان ويبتعد ذهنيا عن كل العوامل التي كانت تضله في الحياة.

ونسأل : لماذا يضل الإنسان؟

لأنه يحب المال والجاه والولد وما أشبه ، فاذا به في تلك اللحظات يذهل عن ماله وولده .. ، لان الساعة أدهى وامر ، وأكبر وأعظم من كل تلك الأمور ، فالمرأة تذهل عمن ترضعه ، والحامل تضع ما تحمله ، وكل إنسان يكون كالسكران ولكن ليس بنشوة الخمر وانما هو سكر العذاب ، وهيبة الساعة.

بعد ان يهز القرآن ضمير الإنسان بهذا الهول الرهيب يقول له : أتعرف لماذا تتورط في مثل هذا الهول؟ وكيف تخلص نفسك منه؟!

١٤

انما تتورط لأنك اتبعت إلها غير الله من دون علم ، وكذلك لأنك غفلت ولهوت حينما يريد الإنسان ان يختار فراشا لبيته أو لونا لغرفته أو ساعة يلبسها أو اي شيء آخر ، تراه يفكر ويخطط و يسأل ويستشير ، ولكن حينما يريد أن يعبد إلها غير الله ، فانه يعبده من دون تفكير أو بحث ، وبالتالي يتورط في ذلك الموقف العظيم بالاسترسال.

اما كيف يتخلص الإنسان من هذا الهول؟ فهو لا يكون إلّا عبر الايمان بالله وحده ، والايمان بالبعث والنشور.

ان كل إنسان مفطور على الايمان بالبعث ، وبما انه معرّض لوساوس الشيطان الذي يزرع الشك في قلبه ، فهو يكفر ان لم يحاول قمع تلك الوساوس ، ويقمع القرآن هذا الشك بقوله : «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ».

ان النظر الى سلسلة الحياة الماضية يهدينا الى المستقبل ، لأن السنة واحدة تنطبق على الماضي والحاضر والمستقبل ، فاذا أردت ان تعرف المستقبل فارجع قليلا الى الوراء وانظر اليه كيف كان؟

خلق الإنسان من تراب ثم من نطفة ، فعلقة فمضغة ، وبعد الولادة كان في حالة تطور ، فمن الطفولة الى الشباب الى الهرم الى الوفاة ، وهذا التطور يسير حسب قانون وتدبير رشيدين ، من لدن اله قدير مبدع ، فلكي تعرف مستقبلك انظر الى بداية خلقك ، فبعد ما كنت ضعيفا في رحم أمك قويت وسوف تعاد كذلك في أرذل العمر ، أو ليس الذي انشأك في ظلمات الأرحام ، وفي الحياة خلقا بعد خلق بقادر على انشائك من بعد موتك؟!

ورد في بعض الأحاديث عن يوم القيامة : ان الأرض تصبح كرحم الام ينشأ الإنسان فيها كما ينشأ في رحم أمه ، وإذا كان الإنسان يولد من بطن امه ولادة ،

١٥

فانه في ذلك اليوم ينبت من الأرض نباتا. والفارق : ان الناس في الدنيا يولدون بالتدرج اجيالا الا انهم يوم القيامة يولدون جميعا.

وقدرة الله في الأرض تتجلى في شيء يأمرنا ربنا بالتدبر فيه وهو ان الله يصنع الأشياء بمختلف الصور ، فهم لم يخلق نوعا واحدا من الحيوانات وانما خلق كل شيء بمختلف الاحجام والألوان ، كل هذه الحيوانات والكائنات خلقها ودبّر أمرها وصورها حتى أننا لا نتصور شيئا الا وقد خلقه الرب ، أو ليس الذي استطاع ان يخلق كل شيء بقادر على ان يبعث الإنسان في الآخرة مرة أخرى ، كما خلقه اولا في رحم أمه؟! وفي نهاية الآيات يذكرنا الله بأمرين :

الاول : ضرورة الايمان بقدرة الله.

الثاني : ضرورة الايمان بيوم القيامة.

ذلك ان الايمان بقدرة الله هو الطريق للايمان بالبعث ، فكلما شككنا في البعث لا بد ان ننظر الى آيات قدرة الله ، لان الشك في البعث ناتج من الشك في الله ، والذي يعرف الله حقا لا يشك في البعث.

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تشير بسم الله الى ان الحياة وما فيها مخلوقة من قبل الله سبحانه ، وقائمة به ، لذلك فاننا كلما بسملنا على أمر فان توجّه هذه البسملة يكون نحو ذلك الأمر ، فاذا قلت بسم الله أقوم يعني ان قيامك بالله ، وإذا قلت : بسم الله أنام ، يعني ان نومك

١٦

بالله ، و هكذا.

وتختلف سور القرآن الحكيم في معانيها العامة ، لذلك فان كل (بسملة) في بداية كل سورة تشير الى ان كل شيء هو قائم بالله ، فعند ما نحج فانه باسم الله ، وهدف الحج هو تقوى الله ، والتقوى بدورها من الله وبالله ، وعند ما نصوم فإن صيامنا باسم الله ، وهدف الصيام هو تقوى الله ، والتقوى بدورها من الله وبالله .. وهكذا عند ما نصلّي ونقوم بأي واجب آخر.

[١] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ

الهدف من سورة الحج هو تكريس التقوى التي هي أعلى درجات الايمان بالمسؤولية. ففي سورة الأنبياء ـ التي سبقت سورة الحج ـ كان الحديث عن المسؤولية ، اما هذه السورة ، فالحديث فيها عن التقوى باعتبارها مرحلة متقدمة من الايمان.

من الصعب على الإنسان ان يؤمن بمسلّمات ، ويظن انها قواعد راسخة يستطيع ان يقيم عليها بناء أفكاره ، من الصعب عليه ان يؤمن بغيرها ، حتى ولو كانت أقوى ، وهنا ـ بالضبط ـ يمكن خطأ الإنسان إذا تأسره مسلمات فكرية توجه كل حياته ويزعم انه ضعيف امامها ، كلا ان الإنسان أقوى من مسلّماته ، وعلم الإنسان أنفذ من سابقياته الذهنية ، ومما يعتقد به مجتمعة وآباؤه ، وان الايمان بالساعة وزلزالها وأهوالها يحطم المسلمات ، والسابقيات الذهنية ، ويعطي البشر قدرة هائلة للتفكير من جديد. عبر جسر الشك المنهجي فيما يزعم انه من الحقائق المسلمة.

[٢] يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ

فلا تستطيع المرضعة ان تفكر انئذ ـ لهول الساعة ـ برضيعها.

١٧

وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ

ان الحامل تجهض ويسقط جنينها ، والمرأة لا تجهض الا إذا كانت تمر بهول عظيم ، وترى كل إنسان كالسكران ، لا يستطيع ان يستوعب ما يجري حوله ، قد شغلته نفسه عن الآخرين ، واسكره العذاب حتى صار فاقدا لقدراته الفكرية.

ان تصور هذه الأهوال المروعة كفيل بايقاظ القلب الغافل. وهكذا كان السلف الصالح فقد جاء في قصة نزول هاتين الآيتين من سورة الحج ما يلي :

نزلت الآيات من أول السورة ليلا في غزاة بني المصطلق وهم حيّ من خزاعة ، والناس يسيرون ، فنادى رسول الله (ص) فحثوا المطى حتى كانوا حول رسول الله (ص) فقرأها عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام والناس بين باك أو جالس حزين متفكر ، فقال لهم رسول الله (ص) : أتدرون اي يوم ذاك؟ قالوا : الله ورسوله اعلم ، قال : ذلك يوم يقول الله لآدم : ابعث بعث النار من ولدك ، فيقول آدم : من كم كم؟ فيقول عز وجل : من كل الف ، تسعمائة وتسعة وتسعين الى النار وواحدا الى الجنة ، فكبر ذلك على المسلمين وبكوا فقالوا : فمن ينجونا يا رسول الله؟ فقال (ص) : أبشروا فان معكم خليقتين : يأجوج ومأجوج ما كانتا في شيء الا كثرتاه ، ما أنتم في الناس الا كشعرة بيضاء في الثور الأسود ، أو كرقم في ذراع البكر ، أو كشامة في جنب البعير ، ثم قال : اني لأرجو ان تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ، ثم قال : اني لأرجو ان تكونوا ثلث أهل الجنة ثم قال : اني لأرجو ان تكونوا ثلثي أهل الجنة فان أهل الجنة مائة وعشرون صفا ثمانون منها أمتي ، ثم قال : ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب.

١٨

[٣] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

وقوله «يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» اي من دون تفكير في ذلك الإله الذي يجب عليه ان يطيعه.

ان الجدال بالباطل لشاهد على حالة الاستقرار الكاذب ، الذي لا يرضى صاحبه التحول عنه ، حيث يزعم انه يهدم أساس حياته ، أو يخالف عزته الشخصية ، بينما الاحساس بزلزال يوم القيامة ، يجعل المؤمنين قادرين على مراجعة افكارهم في ضوء العقل والوحي واستقبال الحقائق الجديدة بلا حمية ولا اعتزاز بالإثم ، والباطل.

ويزعم الكفار انهم يحافظون على كرامتهم ، حين يعتزون بأفكارهم الباطلة بينما يفقدون استقلالهم وكرامتهم بذلك ، إذ انهم يتبعون شيطانا مريدا.

وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ

متجردا عن كل خير متمحضا في الفساد والإفساد.

[٤] كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ

بإرادته وجعله واليا عليه.

فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ

من المستحيل ان يكون ذلك الشيطان المريد هاديا لاتباعه ، لان الله قدر ان يكون مضلّا لمن اتبعه ، وان نهايتهما هي السعير.

[٥] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ

١٩

 تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ

ان كنتم في ريب من البعث فانظروا الى ماضيكم هل باستطاعتكم ان تقولوا : ان الله لا يقدر على خلقنا من جديد؟ فكيف استطاع إذا ان يخلقكم أطوارا ، بعد ان لم تكونوا شيئا؟!

وجاء في القرآن والسنّة ان الإنسان قد خلق مرتين ، مرة في عالم الذر حيث خلق كل الناس من تراب ، ومرة أخرى حينما أودعهم الأصلاب ، ثم الأرحام. فبعد ان تقذف النطفة في رحم الام ، نجدها تتحول بعد فترة الى قطعة دم ، تعلق برحم الام (علقة) ثم الى ما يشبه اللحمة الممضوغة (مضغة).

مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ

قد تحددت معالمهما كالعينين والرأس والأطراف ، أو غير مخلّقة لا تلبث ان تسقط من الرحم قبل ان تتحدد معالمها.

لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ليفهم الإنسان بأن التطورات التي تحكم وجوده ، دليل على انه مدّبر وان الله هو المدّبر الحكيم له وللخلق.

وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى

ان المضغة تستمر في الرحم الى ان يشاء الله ويأذن للجنين بالولادة ، وبقاء الجنين في الرحم ليس محدودا بمدة تسعة أشهر ، فقد يولد قبل هذا لذلك قال : (ونقرّ في الأرحام ما نشاء الى أجل مسمّى). ومن معاني (ونقرّ) اي نكتب ، لأنه كما ورد في الأحاديث ان سعادة الإنسان وشقاءه يكتبان عليه وهو في بطن امه.

٢٠