من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

إلى الهوى. فيتبع أهواءه بدل عقله ، مما يجعله لا يميز الحق من الباطل.

إن عبادة الأهواء أساس كفر الإنسان ، لان مقياسه في تقييم الحياة سيكون ـ آنئذ ـ شهواته (حبّه وبغضه) لا عقله وعلمه ، فلأن فلانا محبوب لديه فهو جيد ، وأفكاره سليمة ، فيتبعه ، ولأن فلانا الآخر مبغوض عنده ، فهو خبيث وكل أفكاره خاطئة ، وسلوكه منحرف.

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ

ونرى الآن وبوضوح ان أساس الانتماء والولاء في عالمنا اليوم قائم على الحب والبغض وليس العقل والعلم ، وقد عرف أولوا السياسة وأنصار الثقافة الجاهلية ، ان مفتاح شخصية المجتمع الجاهلي هو الحب والبغض ، فسعوا لزخرفة أفكارهم الخاطئة بما يثير شهواتهم ، فشوهوا تقييمهم للأفكار ، وجعلوهم يلهثون وراء كل مجلة تنشر الصور المثيرة ، واتبعوا أجهزة الاعلام بالغناء والرقص وصور الفاتنا ، وما يثير شهوة الجنس أو السيطرة أو الطعام و .. و ..

وهكذا ضلوا وأضلوا ، ولم يكتفوا بتضليل الناس في القضايا المختلفة حتى سلبوهم قدرتهم على أن يسمعوا أو يعقلوا.

فلو ذهب شاب مثقف إلى مكتبة ما ورأى فيها كتابا قيما يحوي أفكارا هامة ، ولكنه مطبوع قبل مائتي عام وعلى ورق أصفر رديء ، فانه قلما يجد دافعا لشرائه وقراءته. وان تجشم الصعاب وضغط على نفسه ليقرأ بعض صفحاته ، فانه يشمئز من جراء الأخطاء المطبعية أو عدم الوضوح في كلماته حتى ليكاد أن يخطّئه.

وكذلك إذا وصلت بيده ورقة منشور لحركة إسلامية ، ومن جماعة مؤمنة لم تسرق أموال الناس لتطبع أفكارها على الأوراق المصقولة الجميلة ، أو في المجلات

٤٤١

ذات الأغلفة الملونة ، فانه يتركها جانبا ليقرأ بدلا عنها مجلة تمولها أجهزة الاستكبار لتضليل الناس ، وتصرف عليها بعض ما سرقته من الشعوب المستضعفة ، أو تمولها اعلانات المترفين الذين يمتصون ثروات الفقراء والمساكين ، وينفقون جزء منها على وسائل الاعلام الجاهلية لتبرر للناس أفعالهم القبيحة.

وهكذا تجد المجتمع الجاهلي يتردى في بؤر الجهل بسبب طاعة أبنائه الشهوات والأهواء بدل العقل والعلم.

وهنا يتضح أساس الخطأ في المحور المعتمد للتقييم. فهل المحور الصحيح ان كل ما تحبه حقّ؟ أم الحق هو الذي ينبغي أن تحبه؟

أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً

ومثل هذا الإنسان لا تنفعه شفاعة الشافعين ، ورسول الله لا يشفع له ولو استغفر له سبعين مرة ، بسبب تولّيه عن القيم واتباعه الهوى.

[٤٤] الذي يترك عقله لهواه ، والحق لما يحب ويبغض ، فانه يجعل نفسه أضل سبيلا من الأنعام ، لأنها أوتيت مقدارا من الشعور والفهم تعتمد عليه ولا تحيد عنه ، فلم نر الأنعام يوما تدخل جحيما من النار أو تتبع مضرتها لحبها ، ولكن الإنسان يستخدم ما يؤذيه ويتبع ما يضره.

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ

كلّا إنهم لا يسمعون العلم ولا يعقلونه إن سمعوه ، وهم بلا علم يستفيدونه من الآخرين ولا عقل يستوعب ذلك العلم.

إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ

٤٤٢

وهذه نتيجة اتباعهم الهوى. إذ جعلهم يبدلون مقاييسهم ، فبدل أن يحبوا الحقّ يعتبرون ما يحبونه حقا.

ويبقى سؤال :

أيهما أفضل الأنعام تتبع شعورها القليل ، أم البشر يتركون عقلهم المنير؟ وندع الاجابة للقرآن حيث يقول :

بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً

الأنعام تعمل بغرائزها بصورة شبه إجبارية ، بينما أوتي الإنسان العقل ليقوم بدور الغرائز وأفضل منها ، فاذا ترك عقله هلك ، لأنه لا يملك كالأنعام دافعا غريزيا ، أما هو قد أفقد نفسه نعمة العقل البديل عنه.

٤٤٣

أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠)

___________________

٤٩ [اناسي] : جمع إنسان وجعلت الياء عوضا عن النون وقيل أنها جمع أنسي.

٥٠ [صرفنا] : بثثنا ووزعنا.

٤٤٤

 ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً

هدى من الآيات :

في الدرس السابق قرأنا عن أولئك الذين اتخذوا إلههم أهوائهم واستهزءوا بالرسول فكفروا برسالة الله .. ويعالج القرآن هذا المرض بتذكير البشر بربه فاذا عرفه تلاشت الآلهة من دونه.

أفلا تنظر الى آثار ربّك في هذا الظل الممتد؟ كيف يبسطه ثم يقبضه بتحريك الشمس مشرقا لمغرب؟! ثم يقسم الليل والنهار بقدر ليكون الليل سباتا وسترا وراحة ، ويتخذ النهار نشورا ونشاطا وبحثا عن المعاش.

والمعاش بدوره يدره الرب حين يرسل الرياح لتبشر برحماته وبركاته. فاذا بالسماء تنزل الماء الطهور. فاذا بالحياة تدب في البلد الميت أرضه وبشره وبهائمه.

كل ذلك ليتذكر الإنسان ، ولكن أكثر الناس يكفرون. وكفرهم هذا يدعوهم ليتخذوا إلههم الهوى ، ويتحدوا ـ بالتالي ـ قيادة الرسول.

٤٤٥

بينات من الآيات :

وهو الذي مدّ الظلّ :

[٤٥] الايمان بالله قاعدة كل معرفة ومنطلق كل ايمان ، فلا يمكن للإنسان ان يؤمن بالوحي قبل الايمان بمن أنزله.

وفي أول آية من هذا الدرس نجد قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» وذلك مما حيّر المفسرين ، وجعلهم يؤولون الكلام تأويلا .. أو يستطيع الإنسان ـ هذا الضعيف المحدود ـ أن ينظر الى ربه؟!

فقال بعضهم : ان في الآية لقلبا ، ومعناها : ألم تر الى الظل كيف مده ربك وقال البعض ان فيه حذفا ، ومعناه الم تر الى فعل ربك ولكن يبدو لي : ان في تعبير الآية ايحاء لا نجده في غيره ، فالإنسان يرى ربه بالفعل وليس بعينيه ولا بصورة مباشرة ، بل يراه بقلبه المنفتح من خلال آياته في الكون ، فهي لوضوحها الشديد تعبّر عن بديع صنع الله ، وتشهد على ما ورائها من قوة مهيمنة عليها ، وهي قوة الله وأسماؤه الحسنى.

وماذا يحصل للإنسان عند ما يرى شيئا ما؟

أو ليس يؤمن به ايمانا عميقا؟

والا فلما ذا يؤمن بالشمس وظلها ، وبالأرض وما فيها؟

بالطبع لأنه يرى كل ذلك ، اذن فالرؤية تعطيه هذه المعرفة ، وتصنع هذه الحالة النفسية من الايمان والاطمئنان لديه حتى يصل الى درجة اليقين الاعمق.

بالطبع أنه لا يرى الا انعكاسا لنور الشمس عليها.

٤٤٦

ومن الشمس ماذا يرى؟

أليس نورها دون جرمها؟

وهكذا بالنسبة للقمر وسائر النجوم والأشياء.

فمن النجوم ما يحتمل العلم أنها اندثرت ولا نرى منها سوى نورا انبعث قبل مليون عام ليصلنا اليوم مثلا ، فلا نستطيع ان نتأكد من فناء النجم ، الا بعد مليون عام.

وماذا نرى من التفاحة التي نحملها بين أيدينا غير النور المنبعث من اي مصدر ضوئي انعكس عليها؟

وحتى جرم التفاحة لا نرى منه غير الاجزاء المحيطة به ، فالثقل ظاهر محيط بالجسم لا ذات الجسم.

وهكذا الحقيقة غيب ، لا يصل إليها الإنسان الا عبر الظواهر والشواهد المرتبطة بها والدالة عليها ، فهي تشبه أمواج الأثير التي لا ترى الا على شاشة التلفزيون ، وأمواج اللاسلكي التي لا تلتقط ولا تسمع بغير المذياع والاجهزة المشابهة.

وهل هناك حقيقة ترى بأحسن ما يمكن ان يرى الإنسان ربه؟

إذا كانت الشواهد هي التي تحملنا على الايمان والاعتقاد بكل شيء وليس الاحاطة به ، وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة لسائر الأشياء ، كالأرض والسماء وما فيها ، فهل لشيء من الآيات والشواهد وبالتالي من الظهور والوضوح مثلما لله سبحانه وتعالى؟!

فلما ذا يجوز ان نقول رأينا الشمس ونظرنا الى القمر .. إلخ ولا يجوز ان نقول رأينا

٤٤٧

ربنا؟!

ان ايماننا بالله يجب ان يكون أقوى من ايماننا بأيّ شيء سواه ، لأننا نجده في كل شيء ، (وفي كل شيء له آية تدل على انه واحد) .. ففي كل شيء تتجلى آثار القدرة والعظمة ، والحكمة والنظام ، والجمال والروعة وهي من أسماء الله الحسنى.

ونحن عن طريق النور الذي ينبعث من الشمس الى الأرض نكتشفها ونؤمن بها ، والشمس أظهر الحقائق عندنا ، فاذا أراد الواحد بيان وضوح شيء قال : «كالشمس في رابعة النهار» ، ولكن هل رأينا الشمس رأي العين؟

كلا .. بل ان كل ما نراه هو ظلها الممتد على البسيطة. وقد قال بعض المفسرين ان الظل هو موجود منذ البدء في الكون ، ثم تأتي الشمس لتذهب به ، فكلما ارتفعت انحسر أكثر ، حتى يأتي وقت الزوال فينعدم تقريبا ثم يعود فيئا بعد دوران الأرض حول الشمس ، فيصبح الوقت مساء.

الا ان هناك احتمالا آخر لمعنى الظل أطرحه ليتدبر فيه المتدبرون : إن الظلّ هو انعكاس نور الشمس ، ولذلك جاء في الحديث في تفسير علي بن إبراهيم وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السّلام) في قوله عز وجل : أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ فقال : «الظل ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس».

وإذا سميت شبح الأشياء ظلّا فلأن شعاع الشمس يمتد إليه.

ونسأل : ماذا يرى الناس من ظل الشمس؟

لا يرون الا نورا منبعثا منها منبسطا على الأرض ، وهو في انقباض وانبساط بمشيئة الله فبين الحين والآخر يتبدل النهار ليلا والليل نهارا ، وكل ذلك آية دالة على وجود الشمس.

٤٤٨

إننا نؤمن بالشمس ، دون ان نرى غير ظلها ، الذي نعرف من خلاله طبيعتها وقوّتها ، ومدى دفئها ، كما لو كانت الشمس هي التي نراها ، وكذلك عن طريق أسماء الله وآياته في الكون يجب ان نعرف ربنا ونتيقّن يقينا راسخا به ، وكما ان الشمس هي دليل الظل بإذن الله وليس العكس ، كذلك الرب هو الدليل إلى ذاته بذاته ، وبآياته وأسمائه وليس العكس.

أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً

وذلك بوقف دوران الأرض لتبقى في ليل دائم ، أو نهار مستمر.

ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً

تتماوج التعابير والإيحاءات القرآنية لتبث حزمة نور الى القلب وتوصل الإنسان الى غيب الحقائق ، فما نراه ظل للشمس ، وآية من آيات الله ، فلما ذا عن طريق الظل نكتشف الشمس ولا نعرف وجود الله؟! واين نحن من ذلك الإمام الذي قال : «ما رأيت شيئا الا رأيت الله قبله ومعه وبعده»؟!

فالمؤمن يعيش محاطا بمعرفة الله ، لأنه أنّى ينظر يجد آيات الله الواضحة ، مما يزيده ايمانا الى ايمانه ، فان رأى الجمال والكمال قال سبحان الله ، وان رأى العظمة والقدرة قال الله أكبر. ولعل الآية توحي الى التشابه بين شمس الطبيعة وشمس الوحي ، وأن الذي جعل الشمس دليل الظل أوحى بالرسالة لتكون هدى ونورا.

[٤٦] ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً

وهنا تتجلى هيمنة الله ، وكيف أنه ينشر الظل ، ثم يقبضه بصورة سهلة وميسرة ، دون نصب وتعب تعالى الله عن ذلك.

٤٤٩

[٤٧] بين ساعة وأخرى يرتدي الكون ظلمة الليل ، ويتوقف كل شيء في مكانه ، فالنور المنبعث من السماء يخفت ، وزرافات الحيوانات المنطلقة من هنا وهناك تعود الى مهاجعها ، وأسراب الطيور تؤوب الى وكورها ، ويعود الإنسان الى بيته يبحث عن ملجأ يأوي اليه وكأنه يخشى من شيء غريب. وبعد لحظات يرى الإنسان الذي كان كتلة من النشاط ، قد تراخى على فراش نومه.

ولعلّ هذا التعبير يشير الى التعبير الذي يحصل في الإنسان المؤمن ، فان الذي يهتدي بالقرآن كمن يعيش الصباح والنهار فكله معرفة وحركة ونشاط ، بينما يشبه الكافر والضال من انغمس في سبات عميق ، في ظلمة ليل بهيم ، فكله سكون عن النشاط وخوف وجمود.

وبين هاتين الحالتين يجب على الإنسان التحرك نحو النشاط عبر الوحي ، فالله في هذه السورة يحدثنا عن القرآن ولكنه يختار ما يتناسب مع موضوعها من آيات الطبيعة.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً

حيث يشبّه ربنا الليل وكأنه لباس يشمل ملايين البشر ، كما يغطي الطبيعة سهلها وجبلها ، برّها وبحرها.

وَالنَّوْمَ سُباتاً

السبات هو الانقطاع عن العمل والحركة. فاذا توقفت الآلة عن العمل قيل لها سبتت ، وسمي يوم السبت كذلك لأن الماضين كانوا ينقطعون عن العمل فيه ، وهكذا تنقطع أعضاء وجوارح الإنسان عن النشاط والحركة ليلا ، ولذا سمّي النوم سباتا.

٤٥٠

وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً

فهو عكس الليل لأنه انبعاث وعمل.

[٤٨] وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ

ان الإنسان ليفرح بالرياح وهي تقل له عرف الورود والاوكسجين ، كما تحمل السحب المليئة بالمطر ، فهي مصدر بشارة وسرور له.

وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً

لقد أثبت العلم ان أفضل أنواع المياه هو ماء المطر ، لان ما ينزل من السماء بالاضافة الى كونه ماء فانه يحمل الاوكسجين النقي ، فهو نظيف ومنظّف ، كما هو ان نزوله يزيل الأمراض.

[٤٩] لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً

ان التعابير القرآنية هنا إشارات الى رسالة الله ـ كما يبدو ـ فالله الذي يطهر الأرض بالماء الذي ينزله من السماء يطهر القلب بالوحي.

وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً

خلق الله الماء وأودعه الأرض ليسقي به الانعام والناس.

[٥٠] وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا

فما ذا صرّف الله بينهم؟

قال البعض ان هذه العبارة تدل على تصريف الله للسحاب ، ينزلها بإذنه على

٤٥١

المناطق المختلفة من الأرض ، ولو لا ذلك لتجمعت في مكان واحد وأنزلت كل حمولتها من المطر على بلد واحد حيث تفيض المياه ، بينما تبقى سائر البلاد قاحلة لعدم وصوله لها.

ولكن القرآن يقول : «وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا» وكلمة صرّفناه لا تدل على السحب بقدر ما تدل على الأمثال التي ضربها آنفا.

والمعنى انّا صرفنا أمثالنا وكلماتنا فبيّناها للناس كافة ، وفي البلاد المختلفة أنزلنا كتابا من الله يحمل رسالته للبشرية عبر رسول منه.

فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً

وهنا نرى نوع التشابه والتنسيق ، بين المطر الذي ينزل من السماء ، وعن طريق توزيع القنوات الطبيعية في الأرض يجري ليسقي الانعام والاناسي ، وبين الرسالة التي تهبط من السماء فتستقر في قلوب الناس.

٤٥٢

وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨)

___________________

٥٣ [مرج] : أصل المرج الخلط ومرج أي خلط.

٤٥٣

 وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً

هدى من الآيات :

لم يخلق الله البشر عبثا ، ولم يتركهم سدى ، فلقد وفّر لهم سبحانه جميع وسائل الهداية ، وعند ما تكون الاكثرية هي الكافرة ، فان ذلك لا يدل على انعدام الفرصة امامهم ، بل لان الايمان تكامل عظيم قلما يرتفع إليه إنسان. كما لا تدل قلة المصلحين الاجتماعيين أو المخترعين والعلماء على عدم أهمية العلم والاختراع ، أو الإصلاح الاجتماعي ، وانما هي مراتب عالية لا يصل لها الا القليل.

وان يرسل الله رسولا واحدا للعالم بأكمله لا يدل على ضآلة قيمة الرسالة عند الله حاشا ، بل العكس هو الصحيح فلعظمتها اكتفى بشخص واحد يبلغها البشرية كلها. وكما تكفي الشمس ان تكون مصباحا لكل الأرض والكواكب المحيطة بها ، فان رسول الله (ص) يكفي ان يكون بشيرا لكل العالمين.

وبالطبع لا يكون ذلك الا إذا تسلح بالقرآن وتحدى الكافرين دون طاعة لهم أو تنازل عن القيم ، فواحد يتسلح بالقرآن يمكنه الانتصار على الجاهلية العالمية

٤٥٤

بأكملها ، ويذكرنا الرب بقدرته لعلّنا نخشى إنذاره ونتبع النذير المبعوث من عنده. انظروا الى البحرين كيف أرسل الله المياه فيهما من عذب فرات وملح أجاج وجعل بينهما حاجزا لكي لا يختلطا.

ومن مظاهر قدرته خلق الإنسان من الماء وتنظيم حياته عبر جعله نسبا يتصل بعضهم ببعض عبر الولادة ، وصهرا يتكاملون بالزواج.

كذلك ينبغي ان نخلص له العبادة ونسلم لمن أرسله ، بينما يعبد الكفار من دون الله أصناما وأناسا لا ينفعون من أطاعهم ، و لا يضرون من رفضهم ، ويتظاهرون ضد رسل الله ورسالاته.

وليس الرسول وكيلا عنهم انما هو مبشر ونذير ، وهو لا يطالب بأجر لقاء اتعابه وانما يسعى لإسعاد الإنسان عبر هدايته الى السبيل السوي.

ولا يعتمد الرسول على قوة بشرية فانية ، انما يتوكل على الحي الذي لا يموت ، ويستمد منه القوة حين يسبّح بحمده ، وهو وحده الذي يحاسب عباده ، وكفى به خبيرا.

بهذه الصفات ينعت القرآن رسول الله ، ويزيل الشبهات التي ألقاها الشيطان في قلوب البسطاء ليكفروا بالوحي.

بينات من الآيات :

الجهاد الكبير :

[٥١] وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً

ان الله قادر على أن يبعث نذيرا في كل قرية ، ولكنه بالحكمة جعله واحدا لكل

٤٥٥

البشر ، وليس هذا دليل على عدم عظمة النذير ، ولا هو دليل أيضا على عدم أهمية الفئة القليلة الملتفة حوله من المؤمنين ، بل لعله يدل على العكس تماما .. وإذا كان القلب طاهرا والأذن واعية يكفي نذير واحد للعالمين ، أما إذا كان في الآذان صمم وعلى القلوب رين فلا ينفع وجود المنذرين في كل قرية بل ولا في كل بيت.

[٥٢] الكثير من المؤمنين يفقدون احساسهم بشخصيتهم ، وثقتهم بذاتهم إذا وجدوا أنفسهم فئة قليلة ، فينهارون أمام ضغوط الكفار ، وهنا يحذر الله الرسول من هذه السلبية إذ يقول :

فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً

اي جاهد الكفّار بسلاح القرآن جهادا لا هوادة فيه. وقد قال بعض المفسرين ان الجهاد الأكبر هنا هو جهاد الكلمة والحجة ، ولكن السياق لا يدل على هذا التفسير ، لان التعبير في هذا المورد اشمل من ان يدل على جهاد الكلمة فحسب ، لان المؤمن حينما يرفض طاعة الكفار أو الاستسلام لأفكارهم وضغوطهم ، فذلك يجره الخوض المعارك معهم مما يجعله يدخل الصراع بجهاد أكبر ، ومن جميع الأنواع وفي مختلف الجبهات ، ولا بد ان يعرف الكفار أن مخالفتهم للرسالة تعرضهم للخطر من موقعين ، من عند الله ومن عند رسوله والمؤمنين. فلا يحسبوا ان النعم التي خشوا زوالها بالايمان سوف تستمر لهم إن هم كفروا بالوحي ، كلّا .. سوف يعلن الرسول جهادا كبيرا عليهم سواء بالكلمة الصاعقة أو بالسيف الصارم أو بوسائل ضاغطة أخرى.

ونتساءل ماذا تعني كلمة «به» هنا؟ الجواب : أن القرآن ذاته نهج الجهاد الثقافي والسياسي والاقتصادي والعسكري ، فالجهاد يتم بالقرآن شاملا متكاملا مستمرا.

٤٥٦

[٥٣] ولقد حذّرنا الرب نفسه ، وابلغنا واسع قدرته ، وذكّرنا بآياته في الخلق. أفلا نخشاه؟! دعنا نقرأ في كتاب الطبيعة أسماء ربنا العزيز المقتدر .. دعنا نخرق حجب الظاهر الى غيب الحقائق .. هذه المياه التي أقرب ما تكون الى الامتزاج بها ، يجريها الرب في مجاريها بحرين مختلفين هذا عذب فرات ، وهذا ملح أجاج ، ويجعل بينهما فاصلا يحجز هذا عن ذاك. أو ليست تلك علامات القدرة وشواهد الحكمة؟! فما أكثر من يتحدى ربا هذه آياته وتلك هي أسماؤه الحسنى.

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً

العذب هو الماء الحلو ، والفرات هو أحلى المياه ، والملح هو الماء المالح ، والأجاج هو أشد المياه ملوحة. والبرزخ هو السد الذي يمنع المائين من الاختلاط ببعضهما.

[٥٤] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً

وكما جعل الله الاختلاف في المياه ، جعل ذلك في بني البشر ، فالناس كلهم من ماء واحد ، وارض واحدة ، الا أنهم يختلفون بالنسب والصهر عن بعضهم ، فالبعض ينتسب الى الآخرين عبر النسب كالأب والأخ والابن .. إلخ ، وبعضهم ينتسب للآخرين عبر التصاهر بالزواج.

[٥٥] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ

وتسأل : وهل عبادة الإنسان للأصنام تضره أم لا؟

بالطبع أنها تضره ، ولكن القرآن يقول : «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ» ذلك ان ما يضر الإنسان عبادته للأصنام وليس الأصنام ذاتها ،

٤٥٧

فالطغاة من الحكام ، والمترفون ، والمؤسسات الثقافية المضلة .. كل أولئك أصنام ، والإنسان هو الذي يلحق الضرر بنفسه عند ما يخضع لهم ، ويؤيّد الشيطان والكفّار.

ولو لا خضوع البسطاء من الناس واستسلام أصحاب المصالح لما قامت للظلم قائمة. دعنا نقرأ معا حديثا حكيما في ذلك :

عن علي بن أبي حمزة قال : كان لي صديق من كتّاب بني أميّة فقال لي : استأذن لي على أبي عبد الله فاستأذنت له ، فلمّا دخل سلّم وجلس ثمّ قال : جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم ، فأصبت من دنياهم مالا كثيرا وأغمضت في مطالبه ، فقال أبو عبد الله (ع) : لو لا أنّ بني أمية وجدوا من يكتب لهم ، ويجبى لهم الفيء ، ويقاتل عنهم ، ويشهد جماعتهم ، لما سلبونا حقّنا ، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلّا ما وقع في أيديهم ، فقال الفتى : جعلت فداك فهل لي من مخرج منه؟ قال : إن قلت لك تفعل؟ قال : أفعل ، قال : أخرج من جميع ما كسبت في دواوينهم ، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ، ومن لم تعرف تصدّقت به ، وأنا أضمن لك على الله الجنة ، قال : فأطرق الفتى طويلا فقال : قد فعلت جعلت فداك. قال ابن أبي حمزة : فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئا على وجه الأرض إلّا خرج منه حتّى ثيابه الّتي كانت على بدنه ، قال : فقسمنا له قسمة ، واشترينا له ثيابا ، وبعثنا له بنفقة (١).

وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً

ان من يعبد الطاغوت بخضوعه يظاهره ويعاونه ضد الحق ، والا فبمن استطاع الطغاة التسلط على رقاب الناس؟!

__________________

(١) بح ٧٥ / ص ٣٧٥.

٤٥٨

١ ـ أليس بالصحفيين المأجورين وأمثالهم ، ممن يتسكعون على عتبات القصور من أجل فتات الخبز وفضالة الطعام ، ثم يلمعون أوجه الطغاة القبيحة بمقالاتهم السخيفة؟!

٢ ـ أو ليس بالجنود المجندة من الشباب الذين يصرّفون طاقاتهم في خدمة الطغاة ، بدلا من ان يكون كل واحد منهم قائدا في مجتمعة؟!

٣ ـ أو ليس بالموظفين الذين أذلّوا أنفسهم في دوائر السلطة كي يشبعوا بطونهم؟

٤ ـ ثم الأهم من كل ذلك ، أليس بسكوت الناس عنهم ، وخنوعهم عن المواجهة والثورة ضدهم؟!

اذن فالجريمة ليست من الطغاة وحدهم ، بل للشعوب المستسلمة نصيب وافر من المسؤولية أيضا.

[٥٦] الرسول ينذر ويبشر والناس يتحملون مسئوليتهم. وإذا ساد الظلام أمة من الناس ينتمون ظاهرا الى رسالة الهية فلا يعني أبدا أن في رسالات الله نقصا .. بل أنهم هم المسؤولون لأنهم تركوا العمل الجاد بها ، وتحمل مسئولية الثورة ضد الطغاة.

وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً

إذا تسلط الطاغوت ، فان البعض يحاول ان يلقي باللوم والمسؤولية على كاهل الحركة الاسلامية العاملة ، ثم ينتظرها تخلصه من هذه الازمة كلّا وهذا خطأ.

فكما ليس من الصحيح ان ينتظر الناس الرسول أن يجاهد الطاغوت وحده ،

٤٥٩

ليس من الصحيح أيضا ان تنتظر الامة الاسلامية اليوم ، الطليعة الرسالية أن تقوم بهذا الدور ، ذلك أن دور الرسل كما الحركات الرسالية هو قيادة النضال وتوجيهه ، لا القتال نيابة عن الناس ، كما كان بنو إسرائيل ينتظرون من نبيّهم موسى (ع) فلما جاءهم وحمّلهم مسئولية الجهاد «قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» (١).

فأعضاء الحركة الاسلامية يبذلون أقصى الجهود ، من كتابة ، وتوزيع ، ومؤتمرات ، لفضح الطواغيت بإبراز أعمالهم الاجرامية ، متحملين في سبيل ذلك التبعات ، من السجن والتعذيب والاعدام ، حتى هتك الاعراض والحرمات ، ولكن لا يجوز للناس ان يتفرجوا وينتظروا الانتصار.

لأن مسئولية الطليعة من حملة الرسالة هي مسئولية الرسول نفسها ، اي تبليغ الرسالة للناس وقيادة المعركة وعلى الناس المقاومة والثورة ضد الفساد والانحراف.

[٥٧] قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً

إن الرسل ومن يمثلهم عبر التاريخ لا يطالبون الناس أجرا مقابل ما يقدمون لهم من خدمة البشارة والإنذار ، هذا فيما يخص الناس.

[٥٨] أما فيما يخص الرسول وحملة الرسالة فان واجبهم السير في الطريق رغم الصعاب ، بالتوكل على الحي القيوم ، دون التفات لقلة الأنصار حولهم ، أو مدى الطاعة والرفض من قبل الناس.

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ

__________________

(١) الأعراف / ١٢٩.

٤٦٠