من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

ولعلّ الآيات توحي بانّ من يكفر بالرسالة سوف يتعرض لمعاداة المؤمنين ، ولا ينفعه الأنداد شيئا ، كما انهم لا يضرونه إذا خالفهم.

وفي المقابل لا يطلب الرسول اجرا ، ولا يعتمد الّا على الله.

ويأمر الله الرسول بالتوكل على الحي القيوم ، ويذكره بأسمائه الحسنى ، فقد خلق السموات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على عرش القدرة ، ينشر رحمته على عباده وهم ينفرون من السجود للرحمن بكفرهم!

وفي الدرس الأخير يذكرنا القرآن باسم «تبارك» الذي به جعل في السماء بروجا ، وجعل فيها سراجا منيرا ، ثم يضرب مثلا من واقع عباد الرحمن الذين صاغهم الوحي ، فهم يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، وهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ، ويحذرون عذاب الآخرة ، ويقتصدون في الإنفاق ، ولا يدعون مع الله إلها آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرّم الله الّا بالحق ، ويتوبون الى الله ، ولا يشهدون الزور ، ويمرون باللغو كراما ، وتعي افئدتهم آيات ربهم ، ويتطلعون الى ان يصبحوا إماما للمتقين ، فيجزيهم الله الغرفة بما صبروا ، ويلقون فيها تحية وسلاما.

وفي الآية الأخيرة يذكرنا السياق بدور الدعاء ، ولعل السبب يتلخص في انه ردّ التحية من قبل العبد لرسالات الرب.

٣٨١

سورة الفرقان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)

٣٨٢

تبارك الذي نزّل الفرقان

هدى من الآيات :

في الدرس الأول من هذه السورة التي تبيّن حقائق عن الوحي ، يذكرنا ربنا بأنّ من انزل الفرقان هو الله الذي تنوعت وكثرت بركاته ، والهدف من الفرقان الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وآله هو إنذار كافة الناس.

ويفصّل الذكر حديثه عمن انزل الفرقان. أو ليس خطر شأن الرسالة إنما يكون بمن أرسلها؟ وها هو المليك المقتدر الواحد بلا شريك والمقدر لكل شيء ينزل ما يهدينا الى حقيقة الأشياء.

بينما الضالون الذين يهتدون بالقرآن يشركون بربهم من لا يخلق شيئا ، ولا يملك لنفسه ضرا فيدفعه أو نفعا فيجلبه ، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا.

وشركهم الله يجعلهم يكفرون بالفرقان ويزعمون انه ليس إلّا إفك صنعه الرسول بالتعاون مع آخرين. هكذا يظلمون الرسول ، وهكذا يقولون باطلا.

٣٨٣

ويقولون : انها مجموعة أفكار السابقين تملى عليه فيكتبها بكرة وأصيلا.

كلّا .. انما انزل الفرقان الخبير بسر السموات والأرض. أو ليس الله هو الغفور الرحيم يتجاوز عن ذنوب عباده ويرحمهم بانزال الوحي إليهم؟!

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ :

[١] ان من أبرز مميزات القرآن الكريم انّ الحكمة تتجلى فيه ، لأنه من لدنّ حكيم خبير ، فلا تجد لفظة من ألفاضة على صيغة معيّنة الا لحمة.

ولعل سبب تسمية هذه السورة بسورة «الفرقان» هو التالي :

أولا : لاشتمالها على هذه الكلمة في بدايتها.

ثانيا : بما ان الإنسان خلق للبقاء في حياة أخرى لا تفنى ، وإنما جيء به الى الدنيا لتتكامل نفسه ، ويعدّ لتلك الحياة ، وطريق التكامل الوحي ، وسورة الفرقان تحدثنا عن الوحي ، وضرورة الايمان به ، وكيفية تجاوز العقبات التي تعترض طريق الأيمان به ، ونقرأ في نهاية السورة عرضا لأبرز صفات المؤمنين به ، والتي تبين ـ في ذات الوقت ـ صورة عن الإنسان المتكامل الذي يعده الفرقان للجنة ، ومن هنا سمّي الوحي هنا بالفرقان لأنه يميّز الإنسان المتكامل المعدّ للجنة عن البشر الناقص الذي يلقى في النار ، فالفرقان هو القرآن الذي يعمل به ، وتصاغ عبره شخصية أصحاب الجنة.

٣٨٤

فبالقرآن يعرف الحق من الباطل ، والخير من الشر ، ومن اهتدى به أوتي الفرقان ، وارتفع إلى درجة الولاية على الناس تشريعيا ، إذ يستخلفه الله على أرضه ، لا لميزة ذاتية ، بل لأنه يجسّد ـ أكثر من غيره ـ رسالة الله في سلوكه وتصرفاته ، كما أنه يسمو لمستوى الولاية التكوينية ، لأنه قد طبق بنود الرسالة على نفسه مما يعطيه القدرة على تسخير الأرض وما فيها.

وعند ما تبدأ آيات هذه السورة المباركة بكلمة «تبارك» والتي تعني التكامل في الحياة ، فلكي تشير الى حقيقة عظيمة تهم الإنسان كمسؤول عن حياته ومصيره ، فلو طمح يوما إلى التكامل ، فلا بد له من ادراك هذه الحقيقة ، وإلّا فانه سيظل عاجزا عن بلوغ الهدف الكبير.

تلك الحقيقة هي أن الإنسان لا يمتلك القدرة الذاتية على التكامل ، ولا سبيل له إلى ذلك الا بالارتباط بينبوع التكامل والبركة وهو رحمة الله ـ جل شأنه ـ عبر التمسك بحبله الممدود من السماء الى الأرض ، وهو القرآن ، حيث يسمو بالإنسان نحو مدارج الكمال ، ويفجّر طاقاته الخيّرة التي أودعها ربنا فيه.

لذا نجد هذه الكلمة تتكرر ثلاث مرات أو أكثر بعبارات مختلفة في هذه السورة ، التي يستوقف الإنسان سياقها في الآية الاولى ليبيّن ان الهدف الأساس من الوحي هو الإنذار لأن الإنسان أقرب الى دفع الشر عن نفسه منه عن جلب الخير ، فلو علم بعدوّ يريد اقتحام البيت تراه يتحرك استعدادا للدفاع بنشاط أكبر مما لو علم بوجود فرصة امامه للكسب ، ولربما كان هذا السبب الذي يجعل الإنذار يسبق التبشير.

القرآن رسالة الى العالمين :

وتشير الآية الكريمة الى أنّ القرآن ليس رسالة موجهة الى طائفة من بني البشر

٣٨٥

دون أخرى ، انما هي رسالة مترامية الابعاد ، تسع البشرية كلّها ، فهي شاملة وعامة ، وهذه الميزة من أكبر الدلائل الواضحة على أنها وحي أرسله الله سبحانه ، وانها ليس من اصطناع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأن الإنسان لا يمكنه الوصول الى مستوى متقدم من التجرد عن الذات والمصلحة العنصرية والاقليمية وغيرها من الانتماءات المادية ، وانما يستطيع ذلك عند ما يتصل بمشكاة النور ، ويتنصّل من اي انتماء مادي ، ويرتبط بالله المهيمن على جميع الحدود والقيود والولاءات.

فكون القرآن حديثا للبشرية دليل على صدقه ، وانه مرسل من عند الله ، ثم إنّ من يضع المنهج للحياة ، ويفرضه على الإنسان لا بد أن يكون مطلّعا على شيئين : الإنسان والكون ، فلا بد ان يعرف طبيعة الإنسان ، ومكنوناته من الطاقات والتطلعات ، أما الكون فلا بد أن يكون مهيمنا عليه ، عارفا بسننه وانظمته ، ولا يتسنى هذا الأمر لغير الله ـ سبحانه ـ الذي أودع السنن والانظمة وقدرها تقديرا.

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً

لماذا اختار الله سبحانه كلمة «عبده»؟

يبدو لي أن الهدف من هذا التعبير أمران ، هما :

أولا : ان عظمة الرسول (ص) نابعة من عبوديته لربه ، وإخلاصه له سبحانه.

ثانيا : ان القرآن ليس من فكر الرسول ، ولا هو إفراز طبيعي يعلمه ، وكمال عقله ، أو دليل على اختلاف عنصره.

«الفرقان» كلمة مشتقة من فرق يفرق مفارقة ، وقد سمّي الذكر فرقانا لأنه

٣٨٦

يهب الإنسان قدرة على التمييز ، وعليه مسئولية الاختيار.

جاء في النص المأثور عن أبي عبد الله (ع) في معنى الفرقان :

في قوله «أَنْزَلَ الْفُرْقانَ» قال :

«هو محكم ، والكتاب هو جملة القرآن ، الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء» (١)

و في الصحيفة السجادية عن أبي محمد الباقر زين العابدين ـ عليهما السّلام ـ :

«وفرقانا فرّقت به بين حلالك وحرامك ، وقرآنا أعربت به عن شرائع أحكامك» (٢)

[٢] وإذا عرف الإنسان رب العزة الذي انزل الفرقان عرف صدق هذا الكتاب ، وكلما زادت معرفته بربه كلما زادت قدرته على الاستفادة من كتابه ، وتحول الكتاب عنده الى مقياس سليم لمعرفة الخير والشر ، والنفع والضر. ذلك لأن من عرف ربّه بأسمائه الحسنى ثم تليت عليه آيات الكتاب ، رأى تجليات ربه فيها ، وعرف انه لا يكون مثل هذا الكتاب الّا من الله الخبير ، فلا يخالجه ريب في صدق رسالة ربّه.

وهكذا ذكرتنا سورة الفرقان أولا بمن انزل الكتاب.

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج ١ / ص ٣١٠.

(٢) المصدر.

٣٨٧

شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)

إن من الناس من يعبد الآخرين باعتقاد ذواتهم الالوهية ـ كما يزعمون ـ أو ان شرعيتهم نابعة من الله ذاتا ، كالاعتقاد بأن السلطان ظل الله في الأرض ، أو أن الله أمر بعبادة التراب ، وتقديس القوم والعشيرة.

وعند ما ينسف الله هاتين الفكرتين ، فانه ينسف بذلك قاعدة التمايز الطبيعي بين العناصر البشرية ، أو القوميات والوطنيات ، أو أيّ شيء آخر.

ويأتي عجز الآية الكريمة مكملا ـ بتناغم وتناسب ـ مع كلمة «الفرقان» التي مر ذكرها في الآية الاولى ، فهي ليست بعيدة عما تهدف اليه كلمتي «فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» في آخر هذه الآية ، لأن الفرقان جاء لتعريف الإنسان بالتقديرات الالهية ، والأنظمة الربانية ، والتقادير هي الانظمة والسنن.

وقد أضافت الأحاديث في معنى التقدير وحدوده ونذكر فيما يلي بعضا منها :

روي عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام يقول :

«لا يكون شيء الا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى».

قلت : ما معنى شاء؟ قال : «ابتدأ الفعل».

قلت : ما معنى قدر؟ قال : «تقدير الشيء من طوله وعرضه».

قلت : ما معنى قضى؟ قال : «إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له» (١)

__________________

(١) المصدر / ج ٤ / ص ٣.

٣٨٨

والتقدير الالهي سبق الخلق بمدة طويلة ، هكذا يروى مسندا عن أبي علي بن موسى الرضا عن آبائه عن علي (عليهم السّلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :

«ان الله عز وجل قدر المقادير ، ودبر التدابير قبل ان يخلق آدم بألفي عام» (١)

و قال الامام الرضا عليه السّلام ليونس :

«تدري ما التقدير؟ قلت : لا ، قال : هو وضع الحدود من الآجال والأرزاق والبقاء والفناء» (٢)

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً :

[٣] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ

وينساب السياق القرآني ليطهر الافئدة من الأساطير الجاهلية ، فلا آلهة من دون الله تخلق وتصنع. كلّا .. انما هي التي تخلق وتصنع ، بل قد يكون الإنسان هو الذي يصنعها كما تشير اليه آيات أخرى ، والتي توحي بأن الله يخلق الآلهة خلقا أوليّا من العدم ، ولكن الإنسان يعطيها منصب الألوهية ، وليس الله الذي لبس رداء الوحدانية ، وتسربل بالعزة والفردانية ، ولا من قبل أنفسهم.

اننا نجد هجوما قرآنيا شديدا بين الحين والآخر على الأساطير والخرافات انما لإبطالها ، والأخذ بيد الإنسان الى الحقيقة بعد إسقاط الآلهة الكاذبة التي نبتت في مستنقع أوهام البشر البدائي ، الإنسان ذو الذهنية الساذجة والمحدودة.

تخلف الإنسان هو المسؤول الاول والأخير عن ضلالاته وفساده سواء على صعيد

__________________

(١) المصدر / ص ٤.

(٢) المصدر / ص ٥.

٣٨٩

الإفراد والمجتمعات والأمم ، إذ لا وجود لهذه الآلهة المزيّفة لولا جهله وضيق أفقه ، وتوجهاته المنحرفة في قوالب الشهوة والمصلحة.

والا فما تفسير ظاهرة الطغيان. إذ يعتلي فرد أو تتكبر جماعة لتتحكم بمصير مجاميع بشرية هائلة وكأنها آلهة ، فيتزلف له أولهم الناس ، ويتسكعون على أبوابه ، متناسين الحقيقة العظمى في هذا الكون ، ومتغافلين عن واقع الذين يعبدونهم بأنهم أناس مثلهم ، خلقوا من طين لازب ، وهم الآن من لحم وشحم ، وعظم ودم. تحكمهم ذات القوانين والانظمة الجسدية والنفسية التي تحكم سائر الناس ، وانما أصبحوا بهذه الهالة من التقديس الأجوف بخوف الناس منهم ، ورغبتهم في خيرهم.

وإذا أراد مجتمع ما ان يكتشف هذه الحقيقة ، فما عليه الا ان ينفض غبار التخلف عن نفسه ، وينتفض لله ضاربا بالخوف عرض الحائط ، متنازلا عن المصلحة والشهوة العاجلة في سبيل هدف مقدس هو رضوان الله ، فان الطاغوت آنئذ لا يمكنه الوقوف على عرش السلطة لحظة واحدة ، لان عوامل انهياره موجودة ـ إذا ـ في ضمير الإنسان والمجتمع وفي سنن الحياة.

ولا يقصد بالآلهة المزيفة الحاكمين فقط بقدر ما يعنى بهذه الكلمة كل شيء يقدسه الإنسان الى حد العبودية له ، سواء تجسد ذلك في الحاكم كفرعون ، أو القبيلة كقريش ، أو العنصر كاليهود ، أو الإقليم أو الحزب أو ما أشبه.

فلربما يشرد بالإنسان خياله في مغبات الانحراف ليصور له الوطن شيئا قائما بذاته ، أو العلم المصنوع من القماش هو الذي يحفظ البلاد والإنسان ، هكذا قد يتصور الإنسان قطعة القماش التي لا تعدو كونها رمزا لما في قلوب الناس من حب مكنون للوطن.

٣٩٠

فاذا أصبح حب الوطن بغضا للاوطان الاخرى ، أو التضحية من أجله بطشا وعدوانا على الآخرين بغير الحق ، فانه بذلك يصبح إلها يعبد من دون الله.

ويدرك البشر بفطرته ان لا إله في الكون الا الله ، فهو خالقه ، ومقدر سننه ، والمهيمن عليه ، وانه قد بعث نبيّه برسالة تبيّن تلك السنن ، إلّا أن الإنسان قد يستجيب لدعوات الشيطان والنفس التي تتحول إلى آلهة مقدسة بعد تبلورها في الواقع الخارجي.

ولو وقف الإنسان ساعة تفكر لنفسه ، وعرض دعوات الشيطان ، وضغوط النفس على ضوء الفطرة والعقل لتبدد ظلام الانحراف عن قلبه ، ولوجد الآلهة التي تعبد من دون الله لا تملك شيئا ، بل الله يملكها ومن يعبدها من دونه.

وينثني السياق ليهتف بالإنسان قائلا : ما دمت أنت الذي تعطي لهذه الآلهة الشرعية ، فلما ذا تخضع لها تارة خوف البطش ، وتستجيب لها أخرى رغبة في الخير؟! ولكن لا يستجيب لهذا الهتاف المقدس الا من هدى الله قلبه للايمان ، اما من غرق في بحر الجحود والكفر ، وتوغل في الضلالة والهوى ، فانه بالاضافة الى رفضه هذا النداء ، يتهم القرآن بالإفك والرسول بالافتراء ، وانما يأفك الإنسان الذي يفتري على الله تكذيبا وزورا ، من أجل لذة عابرة ، إذ لا يكذب كذّاب لغير مصلحة ورغبة.

أما الرسول ذلك الإنسان العظيم الذي تجرد عن رغباته وذاته ، فأصبح موضوعيا في كل شيء لا يمكنه ان يختلق هذه الفرية الكبيرة ، ولماذا يختلقها وقد تجرد عن المصلحة؟

وانه من السخف ان يتهم أحد رسول الله بالفرية والكذب ، فان القرآن لا يولي اهتماما بالغا لتهمة هؤلاء الرسول بذلك ، بل يمر عليها مرور الكرام ، واي مصلحة

٣٩١

له من ذلك وقد وهب حياته كلها وما يملك من أجل الناس؟!

وكذلك لا يولي اهتماما لمن اتهموا الرسول بأنه يقتبس هذا القرآن ليلا ، من مجموعة عبيد كانوا في مكة بينهم عبد بن طحيّ «مولى طحيّ» ، ورحب «مولى عبد شمس» وأناس آخرين لم يكونوا يميزون الهر من البر ، لقصور افكارهم عن إنتاج فكري أقل من انتاج إنسان عادي ، فكيف بالقرآن العظيم الذي هو ضمير الحياة ، لان من خلق الحياة هو الذي بعث رسوله محمدا (ص) به؟!

إن القرآن حق لا ريب فيه ، وكلما توغل الإنسان في الحياة أكثر ، وتدبر في آيات الذكر أكثر كلما اكتشف العلاقة الوثيقة بين السر الذي يكتشفه عند ما يتوغل في الحياة ، والآخر الذي يعثر عليه عند ما يتدبر في القرآن ، وكلما نمى عقل الإنسان وزاد علمه ، وتكاملت شخصيته كلما كان أقرب الى فهم القرآن ومعرفة آياته الكريمة.

ويبقى الإنسان هو المسؤول عن تسلط الآلهة ، وتلبّسها بالقداسة المزيّفة ، وهي ليست أكثر من حجر يتحطم بضربة.

وصدق أبو ذر الغفاري (رضوان الله عليه) حيث قال عند ما رأى الثعلب ـ الثعلبان ـ يبول على رأس صنم قبيلته :

أرب يبول الثعلبان برأسه

لقد هان من بالت عليه الثعالب

وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً

إذا كانوا لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم ، فكيف يستطيعون الحاق الضر بغيرهم؟!

٣٩٢

انهم أعجز ، ولكن الثقافة الجاهلية هي التي تهول الأصنام وتعظيمها ، وهي التي ترمز للقوى الاجتماعية الحاكمة حتى اننا نقرأ في التاريخ : ان بعض القبائل العربية كانت تدخل الإسلام ولكنها ترفض تحطيم أصنامها بأيديهم خشية نزول العذاب عليهم ان هم كسروا تلك الأحجار التي صنعتها أيديهم ، وفي التاريخ ان الرسول (صلى الله عليه وآله) قبل من ثقيف شرطهم عليه الا يتولوا هم تكسير أصنامهم ، فأمر بعض أصحابه بذلك ، وكانوا يزعمون ان الجدب والبلاء سيحلان بهم لو أهانوا تلك الأحجار الصماء بسبب كثافة الاعلام السلطوي الذي مارسه بحقهم المترفون الذين كانوا يحكمون البسطاء باسم تلك الأصنام.

واليوم نرى بعض الشعوب تقدس أصناما بشرية ، ويظنّون انهم مصدر الاستقرار والرخاء ، فمنهم من يقول : «الله يعز الملك» أو «الله يعز الشيوخ» أو «الله ، المليك ، الوطن» بدلا من التوجه الى الله ، والدعاء للمؤمنين ، ثم من هو الملك ومن هو الرئيس ومن هو الأمير حتى نعتقد انه أساس كل خير وبركة؟!

بلى. ان سلبية الناس هو انسحابهم من الساحة السياسية ، وهي التي صنعت الأجواء المناسبة لنمو الانظمة الفاسدة ، وانتفاخ الطاغوت.

وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً

ولعلّ المقصود من الآلهة التي ذكرها القرآن في قوله : «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» الرموز الاجتماعية المعبودة من دون الله لا الأصنام الحجرية ، إذ ليس للصنم موت ولا حياة ، بل هما من طبيعة الإنسان.

والنشور هو البعث بعد الموت ، وكيف يعبد من لا يملك لنفسه ذلك؟

[٤] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ

٣٩٣

آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً

من الناحية اللغوية الافك هو : الكذب ، والافتراء هو : اصطناع الكذب من غير أساس.

وكما هي العادة يسم الكفار الرسول بهذه الخصال الرديئة ، ولا يكتفون بذلك بل يدّعون اعانة مجموعة من موالي مكة للرسول على هذه الأمور ، ولا يستمهلهم القرآن دون ردّ ، بل يجيبهم : انكم جئتم ظلما وزورا ، ولعلّ الآية تشير الى ان الانحراف هو وليد الظلم العملي والزور الفكري.

[٥] وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً

اتهموا الرسول بأنه يتلقى القرآن من جماعة تأتيه أول النهار وآخره ، ثم يطلع عليهم ليسميها وحيا نازلا من عند الله ، ولا لشيء الا لتبرير الكفر والجحود بآيات الله ، إذ ان اعترافهم بالقرآن والرسول ـ انهما من عند الله ـ يكلفهم الكثير.

[٦] قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً

لان الله عالم السرّ في السماوات والأرض ولأنه غفور رحيم ، يريد الغفران لذنوبنا ، والرحمة لنا. لهذا وذاك كشف لنا سر الحياة دون ان يجهدنا في البحث عنه ، وكان ذلك عبر رسوله محمد (ص) والصالحين من أوليائه الذين جعلهم نورا وسراجا منيرا ، كي ينقذوا الناس من الضلالة والضياع.

فكيف يكون من أساطير الأولين التي لا تكشف سرا ولا تهب نورا؟!

٣٩٤

وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ

٣٩٥

أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)

٣٩٦

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ

هدى من الآيات :

بعد أن ذكّرنا الرب بمن أنزل الفرقان ليهدينا ـ كما يبدو لي ـ إلى المنهج القويم لمعرفة الكتاب ، وللتصديق به بعدئذ. دحض تبريرات الكافرين بالرسالة ، ولا يزال يفندها السياق. الواحد تلو الآخر.

لقد قالوا : كيف يبعث الله إلينا بشرا رسولا يحتاج إلى الطعام ، بل وإلى اكتساب المعيشة من الأسواق ، فلو لا انزل إليه ملك ليكون معه نذيرا.

أو يستغني عن اكتساب رزقه بأن يلقى إليه كنز أو لا أقل تكون له جنة يأكل منها.

وتطرف الظالمون فقالوا : ليس هذا الذين تتبعونه سوى رجل مسحور.

ويعالج القرآن هذه الأفكار المريضة :

٣٩٧

أولا : بأن قياس الرسول بأنفسهم وضربهم الأمثال له ، جعلهم يضلون السبيل. ولعلهم لو تجردوا عن الأحكام المسبقة لم يضلوا عنه.

ثانيا : إن القرآن نزل فعلا من عند الله تبارك خيره ، وعظم فضله ، فلو شاء وقضت حكمته البالغة لجعل لرسوله خيرا من ذلك ، جنات تجري من تحتها الأنهار (في الآخرة ، أو حتى في الدنيا عند ما جرت ثروات الأرض على أقوام تابعية بما لم يحلموا به ، ولا تخيله أولئك الجاهلون الذين كفروا برسالته أول مرة).

ثالثا : إن سبب جحودهم إحساسهم بالأمن من عذاب الله ، فهم قد كذّبوا بالساعة ، ولقد أعدّ لهم الرب سعيرا ملتهبا. يدعوهم إلى نفسه من بعيد ، ويستقبلهم بالتغيظ والزفير.

إنه مكان ضيق. محلهم فيه كمحل الوتد في الحائط ، وهم مغلولون ببعضهم مع شياطينهم ، وينادون بالويل ، ويناديهم الملائكة : ألا أدعوا ويلا كثيرا.

ما قيمة الكنز والبستان ، في مقابل قيمة الخلاص من نار جهنم؟! وأيضا قيمة الجنة التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا ، لهم فيها ما يشاءون خالدين.

هكذا يعالج القرآن النظرة المادية اللامسؤولة بتذكير النفس البشرية بعذاب الساعة ، وثواب الله في الجنة.

وهكذا ينسف العقبات ويزيلها عن طريق الإيمان بالفرقان.

بينات من الآيات :

المقاييس الخاطئة :

[٧] لقد أراد الكفار أن يكون الرسول الذي بعث إليهم كأحد قياداتهم

٣٩٨

المزيفة ، أو بالأحرى آلهتهم التي تعبد من دون الله ، وبالتالي خاضعا للمقاييس الجاهلية لاختيار القيادة ، ومن أهم المقاييس التي كانوا يعتمدونها في تمييز القيادة :

١ ـ القوة البشرية (عدد التابعين والأصحاب).

٢ ـ القوة الاقتصادية (الثروة والمال).

٣ ـ السيطرة السياسية ، وعادة ما تكون نابعة من القوتين السابقتين.

وما دام الرسول لا يمتلك الجنود المجندة حتى يخضعوا لقمعها ، ولا تلك الثروة التي تستعبدهم بها الطبقة الرأسمالية ، ولا تلك الأراضي الواسعة حتى يحترموه كما يحترمون اقطاعييهم الكبار ، فهو لا يستحق ـ إذا ـ قيادتهم ، ولكنهم لم يعلموا أن هناك فرقا شاسعا بين الرسول وقادتهم الجاهليين ، فقد ضلوا السبيل لمّا ضربوا له الأمثال.

وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً

فمن جانب يتعجبون لان الرسول (ص) يشبههم في حياتهم ومعيشتهم ، يأكل الطعام ، ويبحث عن رزقه في الأسواق ـ وكأنهم كانوا يريدون له الاقامة في البروج العاجية ، وأن يجعل بينه وبينهم عشرات الحجب ، كما يفعل الملوك والسلاطين ـ ومن جانب آخر يتساءلون لماذا لم ينزل معه مخلوق غيبي ، يتوعد كل من يعرض عن دعوة الرسول ،

ولعلّنا نستوحي من قوله تعالى «نذيرا» عن لسان الكفار ، ولم يقولوا «بشيرا» انهم أرادوا أن يكون للرسول قوة قامعة تدعم الرسالة بإذلال الرقاب ، وكانوا يريدونها قوة مادية يشاهدونها بأعينهم ، أما أن تكون قوة الغيب الالهية هي السند ، فهذا ما لم تستوعبه عقولهم التي لم تتحرر من قيد المفاهيم المادية.

٣٩٩

[٨] أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها

وإذا لم تهبط عليه الثروة بصورة كنز يلقى له من السماء ليجعله من طبقة الأثرياء ، فليكن عنده بستان يدر عليه من الدخل ما يغنيه عن الاكتساب لطعامه الخاص؟!

وقد أغفل هؤلاء بهذه التخرصات كرامة الإنسان التي هي فوق القوة والمال وما تغله الأرض من ثمرات.

وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً

وقد نسب القرآن صفة الظلم لهم دون الاكتفاء بضمير يعود على ما تقدم ذكره لان لكلامهم جانبين :

الأول : المطالبة بحجة قاطعة على صدق الرسالة ، وقد يتصور لها جانب الموضوعية.

الثاني : اتهامهم الرسول بأنه رجل مسحور. أي فاقد العقل والارادة الحقيقيين ، وهذا ظلم في حق الرسول ، ومن يدعي باطلا مقابل الحق يتحول من مجرد منكر باللسان إلى محارب بكل معنى الكلمة ، وحين يدعو شخص أحدا إلى فكرة فإمّا يرفض أو يقبل ، وامّا أن يعلن الحرب ضده ، ويتهمه بالجنون ، فإنه الظلم ذاته؟ لأن عدم اقتناعه بالدعوة ـ لو افترضناه ـ لا يسمح له أن يمنع الناس من قبولها.

[٩] عند ما بدّل الكفار المقاييس ، ضربوا الأمثال لمقاييسهم الخاطئة ، حيث أرادوا الرسول قيادة كقياداتهم ، كي يستجيبوا له ، فطالبوا بملك كرمز لقيادة أصحاب القوة ، أو كنز كرمز لقيادة أصحاب الثروة ، أو جنّة كرمز لقيادة أصحاب

٤٠٠