من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

سيقولون لله قل أفلا تذكرون

هدى من الآيات :

لقد مهد السياق القرآن في سورة (المؤمنون) للتذكرة بالله سبحانه ببيان العقبات النفسية التي تعترض سبيل الايمان ، وبعدها جاءت الآيات تستثير أعمق مشاعر الإنسان الفطرية. تلك التي تهديه لربه وخالقه. عبر تساؤلات فطرية. تفرض نفسها على وجدان الإنسان فرضا ، فمن الذي خلق السموات والأرض؟ ومن بيده حاكمية هذه السماء المترامية الأطراف ، والكون الذي لا نعلم حدوده؟ ومن هو صاحب القدرة العليا علينا ، فإليه يلتجئ الناس عند الشدائد؟

وتجيب الآيات على هذه التساؤلات بوضوح : انه (الله) القاهر فوق كل شيء ، وليس كمثله شيء ، وتتوجه اليه قلوب الناس بفطرتهم التي خلقهم الله عليها ، وكما قال الرضا (ع):

«بالفطرة تثبت حجته». (١)

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤ ـ ص ٢٣٣.

٢٢١

اذن فما العائق امام ذكر الله؟ وما هي العقبة التي تقف أمام التقوى ، وتجعلنا غافلين مرة ، ومسحورين أخرى ، قد فقدنا الإرادة نتيجة لضغوط مختلفة داخلية وخارجية ، بل قد نهوى الى حضيض التكذيب والشرك.

هذا التسلسل الباطل يتدرج عبره الإنسان خلال مراحل هي :

١ ـ الغفلة : فعند ما يغفل الإنسان فإنه يضع لبنة الأساس للحاجز الذي يحول بينه وبين كنه الحقيقة المنشودة ، فينسيه أبرز حقيقة في هذا الكون الواسع ، التي يقول عنها تبارك وتعالى :

«قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؟!». (١)

مما يمهد للهوى والشهوة ان يسدلا ستارهما امام نور العقل ، وضياء الفطرة.

٢ ـ والذي يجعلنا لا نتقي عذاب الله وسخطه بالتقوى ، هي حجب الغفلة والشهوة التي تجعل الإنسان يتخبط في ظلام الجهل والعناد مخالفا أوامر عقله ، ووخزات ضميره ، وصرخات وجدانه.

٣ ـ السحر : وهي مرحلة فقدان الإرادة الانسانية ، والوعي البشري ، حيث أن الضالين يحاولون تضليل الآخرين ، فيؤثّرون على فئة من الناس بمعتقداتهم ، التي ضلوا بها عن الله ، فيجعلونهم يرتكسون في بؤرة الغفلة والشهوة ، لتسلب عنهم مشاعرهم ، فالأعين عمياء لا تبصر الحقيقة ، والأذان صمّاء لا تسمع وحي الله ـ سبحانه ـ وحقائق الحياة ، والألسن بكماء لا تتكلم ، الا في مجال اللهو والعبث ، والاهتمامات الشخصية ، والمشاعر الأنانية ، فيدفعهم كل ذلك للمرحلة الاخيرة من مسيرة التسافل والسقوط.

__________________

(١) سورة إبراهيم / ١٠.

٢٢٢

٤ ـ التكذيب : ونسأل أنفسنا لماذا نكّذب بهذه الحقيقة الواضحة ، ونكفر ، ونسخر بهذه العقيدة الراسخة في اعماق النفس البشرية ونحن على وعي وادراك بهذه المسألة؟!

ولكن الخالق البارئ يرجع المسألة لعواملها الأولية ، ويلقي بمسؤولية الانحراف على نفس الإنسان فيقول :

«قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ». (١)

٥ ـ وتبقى هناك عقبة كأداء وهي عقبة الاعتماد على الآلهة المزيفة ، التي خلقتها شهوات النفس ، وظلام الجهل لتبرير واقعها المعاش ، والإعتقاد بان لله ولدا ، أو وسائل أخرى توصل اليه ـ سبحانه ـ غير التي بينها لهم ، وبأن هناك آلهة صغارا يمكن ان يشفعوا للإنسان من دون الله ، ويحجّهم ـ سبحانه ـ بقوله : انه لا يتخذ ولدا ، وأنتم تعلمون أيها البشر بفطرتكم ، وبهدي عقولكم بأن الله هو مالك السموات والأرض ، وصاحب العرض العظيم ، وعالم الغيب والشهادة ، والظاهر ، والباطن. فكيف لا يعلم بوجود ولد له أو شريك؟! وانكم انما تخدعون أنفسكم ، وتتوهمون ، وتزعمون بوجود شركاء الله أو أولاد ، لتخلّصوا أنفسكم ، وتنقذوها من غضب الله.

هذه هي الحجب الخمس والمتدرجة التي لا بد ان يخرقها المؤمن بإرادته ـ بعد ذكر الله ـ ذلك مما نستوحيه من السياق في هذا الدرس حيث يقول ربنا : «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» اشارة الى حجاب الغفلة ، ويشير الى حجاب الشهوات بقوله : «أَفَلا تَتَّقُونَ» والى حجاب التضليل والإسحار بقوله : «فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» وحجاب

__________________

(١) سورة الأنعام / ١٠٤.

٢٢٣

التكذيب : «وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» وبالتالي الى أكبر الحجب واخطرها وهو الشرك فيقول سبحانه : «فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

ان هذه الوساوس من همزات الشياطين ، والهمزة مفرد همزات ، وهي : الدفعة القوية ، والشيطان يدفع بالإنسان نحو الكفر ، والشرك بالله دفعا قويّا ، فعلى الإنسان ـ الضعيف ، الغافل ، الظلوم ، الكّفّار ـ ان يتوسل بقوة الله وقدرته ، ليقيه شر هذه الهمزات لأنه لا حول له ولا قوة الا بالله العلي العظيم ، ومن دون التوكل على الله ، والاعتماد عليه والاستعاذة بقوته والاعتصام بكلمته العليا ، فإنه سينهار أمام هذه الدفعات النفسية الشهوانية للشيطان ـ وصدق الله العلي العظيم ـ حينما يقول :

وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ . (١)

ويلعب الشيطان دورين في حياة الإنسان :

الاول : دفعه نحو الاعتقادات الخاطئة ، والممارسات المنحرفة ، ولو بشكل تدريجي.

الثاني : الحضور الدائم له في النفس البشرية ، ودور المراقبة والمرافقة. حيثما تحرك وتفكر ، وعلى الإنسان ان يستعيذ دائما بالله من الشيطان ، والوسواس الخناس ، واللجوء الى حصن الله ، والتمسك بحبله ، وعروته الوثقى.

ولكن كيف يستعيذ الإنسان بالله من الشيطان؟

وكيف يتجاوز عقبة الشرك والاعتقاد بأنّ هناك قوة أخرى في هذا الكون تطاول

__________________

(١) سورة المؤمنون / ٩٧ ـ ٩٨.

٢٢٤

قدرة الله سبحانه وتعالى؟

ان العلاج النفسي لهذه العقبة هو تذكر الآخرة ، وعذاب القبر والبرزخ.

و من كلام لأمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ لمحمد بن أبي بكر (رض) عن الموت وعذاب القبر :

«يا عباد الله ما بعد الموت ـ لمن لا يغفر له ـ أشد من الموت والقبر ، فاحذروا ضيقه ، وضنكه ، وظلمته ، وغربته ، فأن القبر يقول كل يوم : انا بيت الغربة. انا بيت التراب. انا بيت الدود والهوام ، والقبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار»

وفي مقطع آخر يقول :

«يا عباد الله إن أنفسكم الضعيفة ، وأجسادكم الناعمة الرقيقة. التي يكفيها اليسير تضعف عن هذا ، فان استطعتم ان تجزعوا لأجسادكم وأنفسكم بما لا طاقة لكم به ، ولا صبر لكم عليه فاعلموا بما أحب الله ، واتركوا ما كره الله».

ويصور لنا القرآن مشاهد كثيرة من مشاهد الآخرة ، إذ يصور الإنسان عند ما تحضره الملائكة لقبض روحه ، فيصيح ويقول :

«رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ».

فهو يتمنى ان يعود للدنيا أياما معدودات ، يصرف فيها جميع طاقاته ، وممتلكاته ، وقدراته في سبيل الله ، فيصرف أمواله صدقة ، وقوة جسمه للعمل الصالح ، وفصاحة لسانه للدعوة وذكر الله ، وعينه للاعتبار بخلق الله ، والبكاء على ذنوبه التي اقترفها ، لكن الجواب صارم ، صاعق. لو نزل على جبل لهدّه. انها كلمة كلا .. ، وان الفرصة قد انتهت ، وسنين حياتك قد انصرمت. دون عودة.

٢٢٥

اما كم يعيش الإنسان؟ ومتى تكون الساعة؟ فالله وحده هو العالم ولا عالم غيره ، وهذه الحقيقة تكشف لنا أن هذه الآلهة المزيفة التي يعتقد الإنسان بأنها شريكة ، وامتداد لقدرة الله وقوته ، يجب ان تسقط من أعيننا ، وتتحطم في داخل نفوسنا ، لنعبد الله مخلصين ، له الدين ، ولو كره المشركون.

بينات من الآيات :

[٨٤] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

ان كنتم تستفيدون من علمكم ـ والاستفادة هي معيار الجهل والعلم ـ فالعلم يعطيه الله لمعظم الناس ـ ولو بقدر محدود ـ ولكن متى يكون الإنسان عالما فقط؟ عند ما يستفيد من علمه وإلّا فهو جاهل ، ولو سألتهم من خالقكم ومالككم ـ وما تحويه هذه السموات والأرضون ـ ومن بيده الحاكمية العليا؟

انه الله حيث يقول :

إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ . (١)

والذي عنده القدرة التنفيذية المطلقة في الكون الواسع ، لا يملك الإنسان امامه الا التسليم والخضوع.

[٨٥] سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ

اذن فلما ذا يحجزكم حجاب الغفلة عن هذا الرب العظيم ، الذي يملك الأرض ومن فيها؟!

وهذه الكلمة لا تختص بالآخرين ، بل بنا جميعا ، لأننا لا نزال نخلد إلى أرض

__________________

(١) سورة الانعام / ٥٧.

٢٢٦

الغفلة ، وقد نتذكر ما دمنا في أجواء التذكرة ، ولكن عند ما تواجهنا شهوة أو يصادفنا غضب اين يصبح ذكر الله؟!

حينها تلتجئ النفس البشرية في خلق الأعذار والتبريرات لتلقي عن كاهلها نبعة المسؤولية ، ولذلك جعل الله سبحانه ذكره مستحبا شرعا ، وجعل من ذكره ـ من المؤمنين ـ حين قال :

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ . (١)

ففي جميع الحالات المادية ، والظروف النفسية ، يجعل الله ذكره ضروريّا.

ونسأل : ما هو الذكر الذي تعنيه الآيات؟

ان الذكر هو تذكر الله حين تهم بالمعصية ، أو تشرع في ارتكاب الخطيئة. حينما تجد من يعاتبك داخل وجدانك على ما تفعل ، فلا بد ان تذكر الله لتحسم صراع النفس لصالحها ، اما حين تفقد الذّكر يموت الوجدان ، وينتهي الإحساس ، فتميل الكفة لصالح الارادة الشريرة في نفس الإنسان.

[٨٦] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ

الله رب السموات السبع ، لأنه خلقها ، وأكمل خلقها ، طورا فطورا ، واجرى الخلق كما الطفل عند ما ينمو ، ويكبر ، فهو الذي خلقها ، وهو المسيطر عليها ، والمهيمن الذي يجري عليها سلطانه ، وقوانينه ، وانظمته ، والعرش يعني : السلطة الفعلية على الكون ، وبهذا التساؤل تكمل مسيرة الاستدلال المنطقية على وجود الله مخاطبا بها العقل البشري ، والفطرة الانسانية.

__________________

(١) سورة آل عمران / ١٩١.

٢٢٧

[٨٧] سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ

يجب ان يخشى الإنسان من بيده السلطة ، فلما ذا لا تخلع حجب التحدي والعناد والتكبر؟!

والخشية هي الحجاب الفاصل بين التقوى والانحراف ، والايمان والكفر.

[٨٨] قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ

الملكوت مبالغة في الملك ، كما الجبروت مبالغة في التجبر ، والطاغوت مبالغة في الطغيان ، وملك الله يشمل ما يظهر وما يخفى ، لا كسائر الملوك والسلاطين الذين يهيمنون على ظاهر الناس دون باطنهم.

وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

ان الله قادر ان يمنع الآخرين عنك فيجيرك ، ولكن لا يستطيع أحد ان يمنع عذاب الله وانتقامه عنك. لو أراد ذلك ، وهناك فكرة تنقل عن أفلاطون وهي : إذا كانت السماء قوسا ، والبلاء سهما ، والرامي هو الله فأين المفر؟! وقد نقلت هذه الفكرة الى رسول الله (ص) فنزلت الآية «فَفِرُّوا إِلَى اللهِ» وفرق بين الفكرة الاولى السلبية ، والثانية الايجابية التي تدعونا ان لا نقف مكتوفي الأيدي حين نرى البلاء ، بل نلجأ الى الله ، فنفر من الرامي اليه ، ومن غضبه الى رحمته. فنقرأ في الدعاء المأثور : «من أين لي الخير ولا يوجد إلّا من عندك؟! ومن أين لي النجاة ولا تستطاع الا بك؟! لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك ، ولا الذي أساء واجترأ عليك خرج عن قدرتك».

[٨٩] انك لو سألتهم عن كل ذلك :

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ

٢٢٨

بفطرتهم.

قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ

تخدعون من قبل الآخرين ، وتسلب منكم مشاعركم ، وإرادتكم.

[٩٠] بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ

والكذب مرحلة خطيرة من الكفر والجحود ، حيث ينكر البشر الحق لا عن جهل به ، وانما عن وعي بأنه الحق.

[٩١] ومن أكبر كذبهم ادعاؤهم بأن لله ولدا أو شريكا ، والقرآن ينفي هذه الكذبة إذ يقول :

مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ

«من» تفيد الحصر ، والآية ردّ على الذين يزعمون بان : الله منح قدرته وسلطانه لبعض الناس دون بعض ، ولو افترضنا أن مع الله آلهة أخرى :

إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ

وجعل لخلقه نظاما خاصا به ، ولكنّا نجد أن النظام الذي يحكم الذرة هو الذي يحكم المجرة ، ولو صح ما يزعمون لحدث التناقض بين هذه الآلهة.

وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ

وما دمنا نلمس وحدة النظام والخلق. اذن فالاله واحد لا شريك له ، ونجد فكرة تعدد الآلهة منتشرة في الأساطير اليونانية بكثرة ، والكفرة العميقة في هذا المقطع من الآية هي : انه لو كانت توجد الهة غير الله لكان لكل إله قدرة ذاتية ،

٢٢٩

ولسعى لمد قدرته وسيطرته من أجل الهيمنة على غيره ، ولاستحالت الحياة ، ولأدى ذلك الى فساد الكون.

«لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا».

سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ

وهو انزه واقدس مما يصفه هؤلاء.

[٩٢] عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ

ولو كان ثمة آلهة غيره لكان أدرى بها ، لأنه ذو العلم بما غاب وما حضر.

[٩٣] قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ

حيث وعد الكفار والمشركين بالهزيمة والدمار.

[٩٤] رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

فالبلاء إذا نزل عم ، ولا سبيل للتخلص من عذاب الله النازل على الظالمين والمشركين ، الا الانفصال عنهم ، ونكران أعمالهم. لا السكوت عنها لان الله يقول :

«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً».

[٩٥] وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ

من العذاب والانتقام.

لَقادِرُونَ

٢٣٠

[٩٦] ولكي تتخلص من العذاب ، ولا تشرك مع الظالمين ، يجب ان تواجه انحرافهم بالاستقامة على الحق ، وذنوبهم بالطاعة لله. ولعل الآية تعتبر صورة جلية للتحدي ، وآية واضحة لعزة الله وقدرته ، وعزة المؤمنين به ، وقدرتهم في مواجهة أعداء الدين.

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ

صحيح ان الله قادر على دفع عادية الكفار ، وصحيح انه يفعل ذلك متى ما اقتضت حكمته البالغة ، ولكن ينبغي الا يسبب ذلك في إساءة خلق المؤمنين ، وتجبرهم في الأرض ، بل لا بد ان يتمتعوا بأخلاقية سامية في التعامل مع الآخرين ، والصبر على أذاهم وتحمل الصعاب الشخصية دون تبليغ الدعوة.

[٩٧] وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ

والهمزات هي الدفعات ، التي يقوم بها الشيطان لتضليل الناس واغوائهم ، وليس ضروريا ان يكون الشيطان ذلك الموجود الخفي الذي نتصوره ، بل قد يتجسد في صورة شهوة عارضة ، أو إنسان منحرف يحاول التأثير عليك سلبيا.

[٩٨] وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ

يجب على المؤمن ان يفر من مجالس الشياطين ـ الانس ، والجن ـ كمجالس المعصية ، والحديث على الناس.

[٩٩] ان الإنسان الذي لا يستعيذ بالله من الشيطان في الدنيا ، ولا يتقي الله. يدركه الندم حين لا ينفع الندم ، لذلك بعد ان حذر الله من الشيطان يتعرض لحال الإنسان المنحرف حين الموت قائلا :

٢٣١

حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ

بصيغة الجمع تعظيما لله لعله يعيده مرة أخرى لكي يبني له مستقبلا جديدا بما يملك من طاقات.

[١٠٠] لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ

ولكن يا للحسرة والندامة ، إذ يأتيه الجواب :

كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها

ولو أعيد لما تغير ، وكان حري به ان ينتفع برسالة الله ، وبفرصة الدنيا لينقذ نفسه.

وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ

٢٣٢

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)

___________________

١٠٤ [كالحون] : الكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو.

١٠٨ [اخسؤا] : خسّأت فلانا إذا زجرته ليتباعد ومعناها تباعد تباعد.

٢٣٣

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

٢٣٤

إنه لا يفلح الكافرون

هدى من الآيات :

موقف السخرية من رسل الله أشد المواقف خطورة ، وهو نابع من حالة اللامبالاة والزعم بان الخلق عبث لا هدف له ، ويبدو ان هذا الدرس الأخير من سورة المؤمنون ، يعالج هذا الموقف ، بتذكير البشر بالحساب الدقيق ثم الجزاء الأوفى الذي ينتظره بعد الموت.

ويبين السياق :

أولا : ان تلك العلاقات التي كانت سببا للجحود والابتعاد عن الله ، سوف تنتهي يوم القيامة (فلا أنساب بينهم) ، اذن يجب على الإنسان ان لا توقفه هذه العقبة عن الايمان.

ثانيا : ان المقياس الحق لتقييم الإنسان نفسه ، هو الميزان الذي يجسد القيم الحقيقة التي فطرت عليها العقول ، وتذكر بها رسالات الله ، وهو الذي نعرف عن

٢٣٥

طريقه هل أننا بخير أم على شر ، فاذا ثقلت موازين الإنسان ، وكانت صالحاته أكثر من سيئاته كان من أصحاب الجنة ، والا فانه من أصحاب النار ، والآية التي تحمل هذا المضمون (١٠٢ ـ ١٠٣) هي أكثر الآيات تحذيرا في القرآن كما يبدو لي ، إذ من الذي يستطيع ان يطمئن ولو نسبيا الى أنّ حسناته أكثر من سيئاته؟! لهذا فان المؤمنين لا يتركون وقتا الا واستغلوه للعمل الصالح.

ثم يصف لنا القرآن بعض المشاهد من يوم القيامة ، يوم تلفح النار وجوه الكافرين والظالمين ، حتى تنكمش أسنانهم وتحترق وجوههم فتظهر أسنانهم كلها ، وعند ما يطلبون من الله العودة لاستئناف العمل يأتيهم الجواب أن اخسأوا ، وهي كلمة لا تقال الا للكلب ، فقد كنتم تهزؤون وتسخرون من عبادي يوم كانوا يدعونكم الى عبادتي ، وها قد جزيتهم بالجنة وأنتم في النار.

ويستمر السياق يبين لهؤلاء اخطاءهم ، والتي من أهمها انهم اعتقدوا بان لا رجعة بعد الموت ، وبالتالي لا مسئولية ، فتمادوا في غيهم وانحرافهم ، وفاتت عليهم فرصة الدنيا التي يفترض ان يزرعها الإنسان عملا صالحا ينفعه في الآخرة ، وذلك لن يكون دونما ايمان خالص بالله.

وحتى لا تكون هذه الشدة سببا لليأس يفتح الله بآخر آية من هذه السورة بابا للامل ، حينما يذكرنا بأنه أرحم الراحمين ، وكم هو شقي ذلك الإنسان الذي يسد على نفسه أبواب رحمة الله التي وسعت كل شيء.

بينات من الآيات :

[١٠١] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ

حيث تتلاشى العلاقات النسبية ، فلا يعرف أحد أحدا ، وكل ينادي نفسي نفسي الا المؤمنين قال تعالى :

٢٣٦

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ . (٦٧ / الزخرف)

وَلا يَتَساءَلُونَ

عن أنساب بعضهم ، لهول الموقف ، ولعدم فائدة ذلك ، إذ يكون لكل منهم شأن يغنيه عن شؤون الآخرين.

لقد كان أئمة الهدى عليهم السّلام يجهدون أنفسهم بالعبادة بالرغم من صلتهم القريبة الى رسول الله (ص) ، وإذا سألهم أحد عن ذلك تلو عليه هذه الآية ، يقول طاووس الفقيه : رأيته ـ أي زين العابدين (ع) يطوف من العشاء الى سحر ويتعبد ، فلما لم ير أحدا رمق السماء بطرفه ، وقال : الهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد (ص) في عرصات القيامة ، ثم بكى وقال : وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وانا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولكن سوّلت لي نفسي ، واعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟! وبحبل من اعتصم ان قطعت حبلك عني؟! فوا سوأتاه غدا من الوقوف بين يديك ، إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا ، أمع المخفين أجوز؟! أم مع المثقلين أحط؟! ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب ، اما آن لي ان استحي من ربي؟! ثم بكى وانشأ يقول :

أتحرقني بالنار يا غاية المنى

فأين رجائي ثم أين محبتي

أتيت باعمال قباح رزية

و ما في الورى خلق جنى كجنايتي

ثم بكى وقال : سبحانك تعصى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تعص ، تتودد

٢٣٧

الى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم ، ثم خر الى الأرض ساجدا ، قال : فدنوت منه ، وشلت برأسه ووضعته على ركبتي ، وبكيت حتى جرت دموعي على خده ، فاستوى جالسا ، وقال : من الذي اشغلني عن ذكر ربي؟! فقلت : انا طاووس يا ابن رسول الله. ما هذا الجزع والفزع؟! ونحن يلزمنا ان نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون ، أبوك الحسين بن علي وأمك فاطمة الزهراء ، وجدك رسول الله (ص)؟! قال : فالتفت اليه وقال : هيهات هيهات يا طاووس دع عني حديث أبي وأمي وجدي ، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبدا حبشيا ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولدا قرشيا ، أما سمعت قوله تعالى : «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ»؟! والله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح.

(١) [١٠٢] الجميع يقف امام الميزان ويده على قلبه ينتظر النتيجة ، إما إلى الجنة وإما الى النار ، ولعل أصدق الموازين وأنفذها حجج الله على خلقه ، الذين يجسدون في الدنيا قيم الرسالة وهم الرسل والائمة.

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

إذ يصيرون الى نعيم الجنة ، وأهم من ذلك يصيرون الى رضوان الله.

[١٠٣] وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ

ولعل معنى خسروا أنفسهم انهم خسروا فرصتهم الوحيدة في الدنيا.

[١٠٤] وأي عذاب يناله هؤلاء؟

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٨١.

٢٣٨

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ

واللفح هو ضربة السيف الشديدة ، ففي الآخرة تضرب النار وجوههم كأنها حدّ السيف.

وَهُمْ فِيها كالِحُونَ

اي مكشّرين عن أسنانهم بسبب احتراق شفاههم وانكماشها باللفح.

[١٠٥] ويأتي النداء لأصحاب النار حينما يستغيثون من النار :

أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ

[١٠٦] قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ

لقد شقوا بأعمالهم ولا يخلق الله شخصا شقيا بطبعه.

[١٠٧] ويضيفون :

رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ

اعطنا فرصة أخرى ، وجربنا مرة ثانية ، فاذا عدنا فاننا ظالمون فعلا.

[١٠٨] قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ

أخسأوا : بمعنى عودوا ، وهي كلمة يقولها للكلب صاحبه ، حينما يتبع أحدا ليؤذيه أو غير ذلك ، ويقولها الله لهم إهانة وتحقيرا ، والواقع إن تحقيرهم أنفسهم في الدنيا هو الذي أهانهم في الآخرة ، إذ لم يرتفعوا الى مستوى تطبيق آيات الله ، وهبطوا الى حضيض اتباع الشيطان الرجيم المطرود من رحمة الله.

٢٣٩

[١٠٩] إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ

لقد كانت جماعة منكم ، وبين ظهرانيكم ، يدعون ربهم ويؤمنون به ، لقد آمنوا ثم اعترفوا بالتقصير ، وسعوا نحو مرضاة الرب.

[١١٠] فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ

ان الاستهزاء من المؤمنين يحمل في طياته السخرية من مبادئهم ، ولكنه يحوّل الصراع الى صراع شخصي ، حيث يعادي الكفار اشخاص المؤمنين ويسقطون هيبتهم من أنفسهم ، ويحقّرون كل أفعالهم وتصرفاتهم ، وبالتالي ، يصبح حاجزا نفسيا دون التفكير في المبادئ التي يدعون إليها ، ولعل ذلك هو ما أشار اليه القرآن هنا بقوله : «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي».

اما قوله : «وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ» فهو الجانب السلوكي والعملي لحالتهم النفسية حيث كانوا يتخذونهم سخريا.

[١١١] لقد كان المؤمنون في الدنيا عرضة لالوان البلاء والمشاكل ، من السخرية والضحك و .. ولكنهم استقاموا وصبروا فكان جزاؤهم الجنة.

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ

ويبدو من الآية ان من أعظم الصبر الصبر على تجريح الشخصية ، ولذلك نجد أبرز صفات المؤمنين حقا انهم لا يأبهون باللوم ولا يخافونه.

[١١٢] ثم يسألهم الله :

٢٤٠