من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

باستكبارهم. كما أهلك فرعون وملأه حين كذبوا برسولهم موسى بن عمران (الآيات : ٢٣).

٤ ـ ولقد اوى الرب مريم الصديقة وابنها الكريم ربوة ، وأمر الرسل بأكل الطيبات ، والقيام بالأعمال الصالحة (الآيات : ٤٩).

٥ ـ لقد اغتر الكفار بالنعم الالهية فكانت عاقبتهم النار (الآيات : ٥٣).

٦ ـ والصفات المثلى للمؤمنين (الآيات : ٥٧).

٧ ـ جزاء الكفار في الدنيا (الآيات : ٦٣).

٨ ـ موقف النبي من ذلك الجزاء (الآيات : ٩٢).

٩ ـ عقاب الكفار في الآخرة (الآيات : ٩٩).

١٠ ـ مشاهد من يوم القيامة ، وثواب المؤمنين فيها (الآيات : ١١٦).

ولعلنا نجد في الجواب التالي على هذا السؤال ، ليس فقط الرابط بين هذه الموضوعات وبين الإطار العام فيها ، بل وأيضا الرابط بين موضوعات سائر السور القرآنية الكريمة وبين الاطر العامة فيها ، والجواب هو التالي : ان القرآن ليس مجرد دعوة للإصلاح ، بل هو الإصلاح ذاته ، وليس وصفة طبيب ، بل دواء للمريض ، وشفاء عاجل ، انه ضياء ونور وهدى.

أو ليست حقائق الايمان ظاهرة ، وشديدة الظهور ، أو ليس الله خالق السموات والأرض أكبر شهادة من كل شيء؟!

١٤١

فلما ذا ـ إذا ـ لا يؤمن به أكثر الناس بالرغم من حرص أصحاب الرسالات على هدايتهم؟!

لأن القلوب مريضة ، والعيون مصابة ، وفي الأذان وقر ، إن ركام العقد ، وحجب الغفلة ، وسحب الكبر ، والغرور ، والسخرية لا تدع أنوار الحق تغمر القلوب.

وبالقرآن يعالج المؤمنون كل هذه الأمراض ، وموضوعات السورة هذه تصب في هذا المجرى .. كيف؟ بعد ان حدد الذكر ملامح التجمع المؤمن ، وبيّن انهم هم المفلحون ، ذكّرنا بنفسه ، من خلال آياته في خلق الإنسان ، أو ليس أساس الايمان معرفة الرب؟! ثم عدد نعمه علينا ، وكيف أنها تحيط بالإنسان ، وتهدينا الى ذلك التدبير الرشيد في الخلق ، ولكن أو ليست هذه الآيات ظاهرة ، وتشهد على وحدانية الرب ، من خلال وحدة التدبير؟! بلى. إذا لماذا يكفر أكثر الناس بربهم؟ لأنهم مستكبرون ، وكيف نعالج الاستكبار؟ انما بمعرفة عاقبة من استكبروا من قبل ، وقوم نوح أبرز شاهد ، حيث أغرقهم الله بالطوفان العظيم ، وحمل المؤمنين وحدهم في الفلك المشحون ، وهكذا عاد وثمود ، وقرون متمادية ، حيث أتبع الرب بعضهم بعضا ، وجعلهم أحاديث.

وهكذا استكبر الملأ من قوم فرعون لما ذكّرهم موسى ـ عليه السّلام ـ بربهم ، فأغرقهم الله في النيل ، ونجى بني إسرائيل من الغرق ، وانزل على موسى الكتاب فرقانا وضياء.

ان إنقاذ المؤمنين دليل رحمة الهية تخصهم ، بينما الشيطان يريد ان يغرينا بوساوسه التي منها ان الايمان يضر البشر. كلا .. فهذه مريم وابنها البارّ ، يؤويهما الرب الى ربوة ذات قرار معين ، ويأمر الأنبياء بان يأكلوا من الطيبات ، ويعملوا صالحا ، ويعبدوا ربهم الواحد ، ولا يتفرقوا شيعا. الا ان موقف الكفار من النعم ،

١٤٢

بل ومن رسالات الله كان خاطئا. حيث تقطعوا أمرهم بينهم زبرا. لماذا؟ لأنهم اغتروا بالنعم وفرحوا بها وزعموا ان ذلك دليل سلامة خطهم وهم لا يشعرون.

ومن أبرز صفات المؤمنين : انهم لا يغترون بالنعم ، ولا بما يؤتون من الصدقات ، فما جزاء أولئك الا العذاب المباغت الذي ينزل بمترفيهم ، فاذا هم يجأرون ، وذلك جزاء استكبارهم.

ويعالج القرآن الحكيم في هذا السياق (٥١) سلسلة من الأمراض التي تصيب القلب بسبب تواتر النعم ، ويعطي بصائر ينظر من خلالها المؤمنون الى الحياة ، ومن نعم الله فيها ، فلا يزدادون بها الا ايمانا وتسليما.

ثم يعود ويذكرنا بنعم الله علينا (٧٨) ويخص السياق جانبا هاما من دروس آخر السورة بالايمان بالآخرة ، لأنه بذاته جزء من الايمان ، وفي ذات الوقت ، مكمل للايمان بالله ، وشرط للايمان بالرسالات.

فالله يحيي ويميت ، ويدبر الحياة ، وهو بالتالي قادر على أن يعيد الإنسان بعد ما كان ترابا وعظاما.

ويساعدنا الذكر الحكيم على تجاوز عقبات في طريق الايمان كالجهل ، والغفلة ، والفسق ، والتأثر بضلالات الغواة (٨٤).

ومن تلك العقبات الزعم بان الله شريكا ـ سبحانه وتعالى ـ والقرآن يذكرنا بسخافة هذا الزعم (٩١).

ولكي يتميز المؤمنون عن الكفار يأمر الله رسوله بان يستعيذ بالله من العذاب الذي ينزل على الظالمين ، ويأمره بالسيرة الحسنة ، وبالاستعاذة بالله من همزات الشياطين ، بل وحتى من مجرد حضورهم (٩٣).

١٤٣

ولعل كل ذلك يخدم حالة التميّز المطلوبة بين المؤمن ، والمغوين الذين يسحرون الناس ، ولا يدعونهم يؤمنون بربهم الكريم.

ولا بد ان نحذر عاقبة هؤلاء الذين يندمون عند نزول الموت بهم ، ويطلبون العودة الى الحياة حتى يصححوا مسيرتهم ، ويأتيهم الجواب : كلا .. بل سوف يبقون في البرزخ حتى ينفخ في الصور ، وانئذ لا أنساب بينهم ، ولا هم يتساءلون عنها ، ولعل الاعتماد على الأنساب عقبة في طريق الايمان (٩٩).

ويحذرنا الرب من الموازين. حيث يخسر الذين خفت موازينهم ، بينما يفلح المؤمنون الذين تثقل موازينهم ، ويبدو ان ذلك أعظم وسيلة لتربية النفس. حيث يسعى المؤمن للتخلص من النار التي تصيب أولئك الذين كذبوا بآيات الله ، واعترفوا بشقائهم ، وطلبوا العودة الى الدنيا ، فرفض طلبهم وأسكتوا ، أو ليسوا كانوا يسخرون من عباد الله حين يدعون ربهم ، فنسوا ذكر الله (بتلك السخرية)؟! فأولئك المؤمنون هم الفائزون بصبرهم (١٠٢).

ويبدو ان السياق يعالج ـ بعدئذ ـ حالة التسويف في النفس والتي هي الاخرى عقبة في طريق الايمان.

فاذا بسائل يقول : كم لبثتم في الدنيا؟ فلا يعرفون حساب بقائهم ، ولكنهم يعتبرونه يوما أو بعض يوم ، بلى. لقد لبثوا قليلا في الدنيا (بالقياس الى زمن الآخرة) ولكنهم لم يعلموا ذلك والا لما استهانوا بحياتهم الآخرة (١١٢).

ويعالج العبثية التي يزعم أصحابها ان الحياة بلا هدف ، ويذكرهم بأنهم سيرجعون الى ربهم للحساب ، وانه تعالى الرب الملك الحق ، فلا عبث ولا لعب ولا لهو في الخلق.

١٤٤

ويذكرنا الرب بالتوحيد ، وان حساب المشركين عسير عند ربهم ، وانهم لا يفلحون ، وتنتهي السورة بفتح باب التوبة والدعاء ، الى الله وهو ارحم الراحمين.

١٤٥

سورة المؤمنون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)

١٤٦

قد أفلح المؤمنون

هدى من الآيات :

تبين هذه الآيات ابرز صفات المؤمنين والتي تمتاز بأنها سلوك متأصل في شخصيتهم ، وليست مجرد اعمال عارضة ، والفرق بين السلوك والعمل هو :

١ ـ ان العمل يمارس حينا ، ويترك حينا ، بينما السلوك يبقى مستمرا مع اختلاف الظروف والأحوال.

٢ ـ ان السلوك نابع عن قناعة فكرية ، بينما العمل قد لا يكون كذلك ، فانه يخضع لمختلف النيّات والعوامل النفسية ، فلربما يصدر من شخص عمل ما في وقتين ، ولكن بنيتين متناقضتين ، فالصلاة تكون مرة عبادة لله ومرة اخرى رئاء الناس.

اما الصفات المثلى التي يتحلى بها المؤمنون فهي :

١ ـ الخشوع وهو الايمان حقا.

١٤٧

٢ ـ الاعراض عن اللغو.

٣ ـ العطاء (الزكاة).

٤ ـ تحديد الشهوات.

٥ ـ رعاية الأمانات والعهود.

٦ ـ المحافظة على الفرائض والحدود.

ولا شك ان هذه الصفات سوف تنتهي بصاحبها الى جنة الفردوس بفضل الله.

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ان فلاح المؤمنين ووصولهم الى سعادتهم يكون (ببسم الله) لا بذاتهم.

صفات المؤمنين :

١ ـ الخشوع لله :

[١] والخشوع هو جذوة الايمان التي تلتهب في القلب ، وينتشر شعاعها الى سائر أنحاء السلوك ، فالإيمان حقيقة هو الخشوع الذي يعني تسليم النفس الى ارادة الله من خلال الالتزام برسالته ، واطاعة أوليائه ، فقد يصبح الإنسان عالما بشيء ولكنه لا يؤمن به. إذ الايمان ليس مجرد العلم ، بل المؤمن هو الذي تسلم نفسه للمعرفة ، وتخشع للحق.

والنفس الخاشعة لا تتكبر ، لأنه لو وجد في قلب الإنسان ولو بمقدار حبة الخردل فانه سيمنع الخشوع ، كما ان النفس الخاشعة ابعد ما تكون عن القساوة ، لأن

١٤٨

القساوة تجعل النفس كالصخرة ، لا ينبت عليها الزرع ، ولا تستقبل أمواج النور.

اذن الخشوع هي الصّفة الاساسية التي يتحلى بها المؤمنون ، بل هو الايمان ذاته.

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ

ان فلاح المؤمنين ، ونيلهم سعادتهم يكون بتأديتهم الصلاة بخشوع ، لان الخشوع يتجلى عند الصلاة أكثر من أيّ وقت آخر ، ولهذا كان الامام الحسن (ع) إذا توضأ لها اصفر لونه ، وتغيّرت ملامحه حتى ينكره الذي يعرفه ، وقد أمر الدين بالخشوع القلبي دون الظاهري في الصلاة ، فقد جاء في الأثر عن رسول الله (ص) انه قال :

«ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق»

ونهى الدين عن العبث أثناء الصلاة لأنه يتنافى وخشوع القلب قال أمير المؤمنين (ع) :

«ليخشع الرجل في صلاته ، فانه من خشع قلبه لله عز وجل خشعت جوارحه ، فلا يعبث بشيء» (١)

٢ ـ الاعراض عن اللغو :

[٣] لان القلب المؤمن خاشع فهو يعي مسئوليته ، أو ليس يسلّم للحق ، ويعرف أنه سيسأل عن كل صغيرة وكبيرة ، ويحاسب عليها ، ويعلم أن الحياة جدّ ، لا عبث فيها ، ولا لغوا بينما الذي لا يعرف ان وراء حياته جزاء ، وانه يجب ان يكيف حياته على هدى ذلك الجزاء ، فانه يتخذ الحياة لهوا ولعبا.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ ص ٥٢٨.

١٤٩

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ

الذي يكون لديه مريض في حالة خطيرة لو مر على جماعة يلعبون فهل سيقف معهم؟ كلا .. وهكذا حال المؤمن فانّ قلبه مهموم بأهدافه ومسئولياته في الحياة ، مما يجعله يترفع عن صغائرها وتوافهها. وحتى لو جاءه اللغو يسعى فانه لا يعيره أي اهتمام ، ولا يقول القرآن عنهم : انهم لا يفتشون عن اللغو ، بل قال «عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» اي لو حاول أحد ان يؤثر عليهم ، فهم لا يتأثرون به وبلغوه.

وقد فسر اللغو في كلمات أئمة أهل البيت (ع) بالاصغاء الى ما لا يحل الإصغاء له ، مما يشمل الفحش ، والغيبة ، والخوض في آيات الله.

و جاء في حديث مأثور عن أبي عبد الله الصادق (ع) في تفسير الآية :

«ان يتقول الرجل عليك بالباطل ، أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه الله»

وجاء في حديث آخر تفسير اللغو بالغناء ، والملاهي ، وفسر في حديث آخر بالاستماع الى القصّاص ، اما الامام أمير المؤمنين (ع) فيقول :

«كل قول ليس فيه لله ذكر فهو لغو» (١)

٣ ـ العطاء :

[٤] وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ

والزكاة التي يذكرها القرآن هنا ، ليست مجرد العشر الذي يعطيه المسلم على تسعة أشياء هي الغلاة الأربع ، والانعام الثلاث ، والنقدين ، وانما كل زكاة ،

__________________

(١) المصدر ص (٥٢٩).

١٥٠

وزكاة كل شيء بحسبه ، فزكاة العلم نشره ، وزكاة الجاه بذله ، وزكاة المال إنفاقه ، وزكاة الصحة النشاط.

ان نظرة المؤمنين الى الحياة تنبع من خشوعهم للحق المتمثل في رسالات ربهم ، فلأنهم خاشعون لله يعملون بشرائعه ، ويشكرون ربهم على نعمائه بالإنفاق ، لأنهم يرون كل نعمة منه ، وكلمة «فاعلون» تختلف عن معطون. إذ توحي باستمرار الإنفاق ، وانه سلوك لا حالة طارئة ، اي ان فعلهم وعملهم هو الزكاة ، والواقع ان الزكاة قرينة الصلاة في القرآن دائما ، ولا تقبل الصلاة الا بها ، وقد أكد الإسلام عليها ، و جاء في الحديث عن الامام الصادق (ع) :

«من منع قيراطا من الزكاة فليس هو بمؤمن ، ولا مسلم ، ولا كرامة» (١)

٤ ـ تحديد وتوجيه الشهوات :

[٥] لقد خلق الله الإنسان مزوّدا بشتى الغرائز ، وليس ذلك الا ليستفيد منها ، ولكن بالشكل المناسب ، والمؤمنون وحدهم الذين يستثمرونها لصالحهم ، لأنهم يهيمنون على أنفسهم ، ويكبحون جماح الشهوات بالخشوع والتسليم للحق.

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ

وقد يعني الحفظ هنا بالاضافة للالتزام بالشريعة ، وتوجيه الغريزة وفقها ، الحفاظ على فرج الإنسان من الناحية الصحية أيضا ، وذلك بعدم الإفراط في الشهوة ، والالتزام بالمنافذ الشرعية لها.

[٦] إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ

__________________

(١) المصدر ص (٥٢٩).

١٥١

من الإماء.

فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ

اي غير مؤاخذين عند الله ، لأنهم يصرفون شهواتهم في محلها المناسب ، ولعل في الآية اشارة الى خطأ الابتعاد كليّا عن الشهوات ، وان وساوس الشيطان هي التي تزرع اللوم في افئدة البعض إذا ما رسوا الشهوات بقدرها ، وعلى المؤمن الا يأبه بها.

[٧] فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ

الذين يستحقون الجزاء في الدنيا بالحدود الشرعية ، وفي الآخرة بالعذاب المهين ، والعادي أو المعتدي : الذي يتجاوز الحدود.

وفي الآية بيان فساد كل استغلال للشهوة في غير موردها مثل استثارة الشهوة بالنظر الى الاجنبية ، والصورة الخليعة ، والأفلام الجنسية ، أو باستماع قصص الغرام.

اما الشذوذ الجنسي ، والعادة السرية (الاستمناء) ، ونكاح البهائم ، فان الآية تنطق بحرمتها صراحة.

و جاء في الحديث : عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ :

«ابعد ما يكون العبد من الله إذا كان همه فرجه وبطنه»

و عنه أيضا :

«تحل الفروج بثلاثة وجوه : نكاح بميراث ، ونكاح بلا ميراث ، ونكاح بملك يمين» (١)

__________________

(١) المصدر ص ٥٣٠ / ٥٣١.

١٥٢

٥ ـ أداء الأمانات والعهود :

[٨] وعلاقات المؤمنين مع الناس قائمة على أساس الالتزام والمسؤولية ، وليس اللامبالاة ، فاذا أخذوا شيئا من أحد تحول في نظرهم الى كرامة ، تتضرر شخصيتهم لو لم يردوه إليهم ، وأكثر من هذا الوازع يدفعهم لرده الخشوع والايمان خوفا من الله. دافع انساني ودافع ديني ، لذلك يرعون الامانة والعهد.

والعهد والامانة هما شيء واحد ، فالإنسان مسئول امام الآخرين فيما يأخذ وفيما يقول.

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ

والتعبير في هذه الآية دقيق جدا حيث استخدم القرآن كلمة «راعون» فلم يقل : ردوا الامانة وذلك لسببين :

الاول : حتى تشمل الكلمتين العهد والامانة ، فالعهد لا يرد لأنه شيء معنوي لا مادي.

الثاني : كلمة «راعون» أدق حتى في موضوع الأمانة من كلمة (الرد) إذ تبين حرص المؤمنين على أموال الآخرين ، فليس همهم ان ترد الامانة بأية صورة ، وانما يظلّون يرعونها ويحافظون عليها ربما أكثر من ممتلكاتهم الشخصية حتى تسلم الى صاحبها ، بينما نجد ان أكثر الناس يكون حفاظهم على ممتلكاتهم الشخصية أشد من ممتلكات غيرهم.

وهكذا يرعون العهد بالثبات عليه ، وتأكيد الالتزام به ، ومن أعظم العهود التي يرعاها المؤمنون حق رعايتها ، عهد الولاية. حيث يؤدونها الى أهلها ، وقد جاء في أحاديث آل البيت ـ عليهم السّلام ـ تفسير العهد بالولاية.

١٥٣

٦ ـ المحافظة على الفرائض والحدود :

[٩] بعد تبيان هذه المجموعة من الصفات يذكرنا القرآن باهمية المحافظة على الصلاة ، وربما تختلف الصلاة التي يذكرها في أول الصفات عن هذه التي في آخرها ، فبينما الخشوع في الصلاة يعني في ذات الصلاة ، وهو أصل الايمان وحقيقته ، اما المحافظة على الصلاة فهي المحافظة على حدودها ، وهذا يوضح ما للصلاة من انعكاس على جميع أبعاد الحياة لدى الفرد ، فأيّ انحراف في ايّ بعد يؤثر على صلاته ، وهكذا تعني المحافظة عليها الالتزام بسائر الحدود الشرعية ، والمؤمنون لا يتهاونون في الأحكام الشرعية بحدودها ، وشرائطها ، باسم جوهرها. فلا يتركون الصلاة مثلا بحجة ان الخشوع هو الأصل فيها ، فاذا تحقق فلا أهمية للركوع والسجود ، كما يتصور ذلك بعض المتصوفة ، إذ تراهم لا يحترمون الحدود الشرعية بزعم انها وسائل للوصول الى الحق ، وانهم يصلون اليه عبر وسائل اخرى ، وانهم إذا بلغوا الحق واتصلوا به سقطت عنهم التكاليف لان الله يقول : «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» وهم ـ في زعمهم ـ قد أوتوا اليقين.

كلا .. المؤمنون حقا هم المحافظون على حدود الصلاة ، ولكنهم لا يلتزمون بالحدود فقط بعيدا عن جوهر الصلاة ، وسائر العبادات ، فهم من جهة في صلاتهم خاشعون مراعون لجوهرها ، وهم من جهة اخرى على صلواتهم يحافظون ، ويراعون حدودها.

وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ

وراثة الفردوس :

[١٠] لماذا يؤمن الإنسان؟

١٥٤

لأنه يعرف ان ايمانه سينتهي به الى جنة عرضها كعرض السماوات والأرض ، ولهذا يأتي الحديث بعد هذه الصفات عن الجنة.

أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ

ولهذه الآية معنيان :

الأول : ما جاء في الأحاديث من ان لكل إنسان بيتين. أحدهما في الجنة ، والآخر في النار ، فمن أصبح من أهل النار ورث المتقون بيته في الجنة ، فقد روي عن النبي (ص) :

«ما منكم من أحد الا له منزلان ، منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فان مات ودخل النار ، ورث أهل الجنة منزله» (١)

الثاني : انهم يرثون الفردوس وهي أعلى مراتب الجنة من دون عمل يذكر ، الا انتسابه للجنة ، كالذي يرث مال أبيه لا بعمله وكده ، بل لانتسابه اليه.

والله سبحانه وتعالى يريد من الإنسان ان يتصل بسبب الى الجنة ، حتى إذا مات ورثها.

الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ

__________________

(١) المصدر ص ٥٣٢.

١٥٥

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ

___________________

١٢ [سلالة : السلالة اسم لما يسلّ من الشيء وتسمى النطفة سلالة والولد كذلك والجمع سلالات وسلائل ، فالسلالة صفوة الشيء التي يخرج منها.

١٥٦

طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)

١٥٧

فتبارك الله أحسن الخالقين

هدى من الآيات :

السبيل الى الايمان معرفة الله ، معرفة تغمر أرجاء النفس وتبلغ أعماقها ، ولكن كيف يتسنى للإنسان وهو المخلوق الضعيف ، المحدود في عمله وقدراته ، ان يعرف الخالق القوي العزيز؟!

اننا لا نستطيع ان نتعرف على الله الا إذا عرّفنا نفسه ، و قد ورد في الدعاء(الهي بك عرفتك ، وأنت دللتني عليك ، ولو لا أنت لم أدر ما أنت) ولقد عرّف الله سبحانه نفسه إلينا حينما تجلى في آيات الكون بما فيها الإنسان نفسه تارة ، وفي آيات القرآن تارة أخرى ، بما في تلك الآيات ، وهذه من إثارة للعقول نحو أهم المعارف وأجلّها ، وهي معرفة الله.

ان التفكير في أطوار خلق الإنسان من طينة ، الى نطفة ، الى علقة ، فمضغة ، حتى يصير بشرا سويّا. بعد ان ينفخ الله فيه الروح ، ويزوده بالعقل والارادة ، وسائر الجوارح وهو يسير الى الموت ، وإنّ نظرة عميقة الى الكون وما فيه من آيات الله تهدينا

١٥٨

الى معرفة الله وهي ـ بدورها ـ تهدي الى وعي حقيقة الحياة ، اما حين نفصل معرفة الله عن معرفة الأشياء فانها تظل ألغازا حائرة.

فاذا نظرنا الى حاجة الجسم الى قدر من المواد ، ثم وجدناها جاهزة في دهن الزيتون ، اولا يهدينا ذلك الى ان هناك مدبرا لهذا الكون.

الا ان جهل البشر وتكبّره ورجعيته تحجبه عن معرفة الخالق ، كمثل قوم نوح إذ دعاهم رسولهم الى عبادة الله وحده ، فحجبهم عن عبادته ومعرفته ، التكبر. حيث قالوا : «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» ، كما حجبهم التقليد فقالوا : «ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» ، ثم اتهموه فقالوا : «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ» ، ولكنه توكل على ربه ، وطلب منه النصر على تكذيبهم إيّاه.

بينات من الآيات :

[١٢] إذا عرف الإنسان ربه حينئذ يكون اتصاله به أسمى من ذلك الذي يؤمن خوفا من النار أو رغبة في الجنة ، فالإيمان الحق انما هو الذي يكون منطلقة المعرفة و القناعة كايمان علي (ع) والذي كان يقول عنه :

«الهي ما عبدتك حين عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنتك ، وانما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك»

والسبيل الى المعرفة بالله هو :

١ ـ التفكر في النفس :

ومن هذا المنطلق يعرّف الله الإنسان حقيقته :

«و من عرف نفسه فقد عرف ربه»

١٥٩

فيقول :

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ

فالإنسان ينسل من طين الأرض انسلالا ، ومن الطين يحوله الله الى نطفة.

[١٣] ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ

في صلب الأب أولا ، وفي رحم الام ثانيا ، والنطفة هي الماء القليل.

ان التفكر في خلق الإنسان يهدينا الى معرفة بعض أسماء الله الحسنى ، كيف خلق الله من الطين الميّت نطفة حية ، وكيف أودعها من صلب الى رحم في ذلك الموقع الآمن ، وأمّن له النمو حتى أصبح بشرا سويا ، ثم ألهمه العقل ، وسخر له الأشياء سبحانه.

ويزعمون انها الصدفة ، وهل يمكن ان تنبثق خلية واحدة بالصدفة؟! يقول بعضهم : ان هذا الزعم يشبه القول ، بان انفجارا في المطبعة ، سبب (صدفة) صدور الموسوعة البريطانية ، بكل ما فيها من علوم! ويقول عالم غربي آخر ان تطور الخلية الحية بالصدفة يشبه القصة الخيالية التالية :

(ان رجلا كان يعيش على كوكب الأرض ، ضمن المجموعة الشمسية ، ضمن مجرتنا ، وكان بجانب مجرتنا مجرة اخرى ، وفي احدى المجموعات الشمسية ، في احدى الكواكب ، وفي أحد الأقاليم نهر به سمكة ، فحدث صدفة ان أطلق هذا الرجل طلقة ، فطارت من كوكبنا متخطية مجموعتنا الشمسية ، متخطية مجرتنا ، لتدخل في المجرة التالية ، من المجموعة الشمسية المعينة ، في ذلك الكوكب ، لذلك الإقليم ، في ذلك النهر ، لتصيب الطلقة رأس السمكة)!!

[١٤] ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً

١٦٠