من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

ويبدو أن حياة هؤلاء كانت متشابهة ، ولكنها تطورت عند فرعون وملأه ولذلك أفرد بالذكر ، فهذا موسى وأخوه هارون ، يرسلهما الرب إليهم ، فيستكبرون ويعلون في الأرض طغيانا ويقولون : عجبا! كيف يأمراننا بالايمان ، والطاعة لهما ، وقومهما يعبدوننا؟! وهذا التكبر أرداهم ، حيث أنهم كذبوهما ، فجرت عليهم سنة الله في هلاك المكذبين.

ولكن الله لم يرد هلاكهم انما أراد هدايتهم. إذ بعث فيهم رسولا ، وآتاه كتابا.

بينات من الآيات :

[٤٠] بعد ان دعا أحدهما (هودا أو صالحا) قومه ، واستكبروا عليه ، سأل الله ان ينصره عليهم ، فجاء الخطاب الالهي :

قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ

فنهايتهم قريبة ، وسيعرفون انها نتيجة لعملهم ، وسيندمون ، وقال الله «عما قليل» لأنهم استبعدوا الجزاء بقولهم «هيهات هيهات».

[٤١] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ

كثيرا ما تتكرر كلمة «بالحق» في القرآن ، قال تعالى :

«انا أرسلنا رسلنا بالحق».

«إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً».

وهكذا. وتوحي كلمة «بالحق» بعدة أفكار :

١٨١

١ ـ ان الحياة قائمة على أساس سنن ، وقوانين لا تحيد عنها ، وان علينا ان نكيف أنفسنا معها ، والا فان ارادة الله اقتضت ان نتكيف معها ، كالكافر الذي لا يسجد الله ، ولكن ظلاله رغما عنه يسجد له.

٢ ـ ان هذه القوانين والانظمة ليست عبثا ، وبلا حكمة ، وأنها لن تتساهل ، فاذا خالفها الإنسان هلك.

٣ ـ ان قدرة الله وتدبيره غير محدودين ، ولكنه ـ تعالى ـ لا يعمل شيئا دون تلك القوانين والسنن التي وضعها الا في حالات خاصة لأنه فوق كل ذلك ، فمن الناحية النظرية قدرة الله فوق كل قدرة ، ولكنه عمليا أبى أن يجري العدالة في الكون الا برحمته وحكمته ، فاذا أراد العذاب لإنسان ما أنزله بقدر ذنبه ، وبالطريقة المتناسبة معه.

فالذي كان يعبد الماء يغرقه بالنيل ، والذي كان يفتخر بالقوة تقتلعه الرياح ، والمتكبر تأتيه الصيحة من فوقه ، والصيحة التي يتحدث عنها هذا الدرس كانت حقّا ، وجاءت لتطبق الحق.

فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً

الغثاء هو ما يجتمع حين السيول ، أو وراء حواجز الأنهار. من أوساخ لا ينتفع بها الإنسان ، وهكذا تكون نهاية المتكبرين ، ولن يقرر هلاكهم عطف أحد ، لأنهم ظالمون ، بل تلاحقهم اللعنة ليل نهار.

فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

[٤٢] والله حين يهلك هؤلاء فانه لا يعبأ بهم ، لأنهم لم يكونوا يزيدون في ملكه شيئا ، ولم يحدثوا فراغا بهلاكهم ، لأن «أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»

١٨٢

لذلك فقد خلق غيرهم.

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ

[٤٣] ولكل امة من هذه القرون أجل محدود.

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ

ان يقين الإنسان بأن فرصته في الدنيا محدودة وانه حين يأتي أجله لا يقدر على تأخيره ، يجعله يخشى ربه ويتقيه ، علما بأن نهاية الأجل غير معروفة له ، فقد يعاجله العذاب في أية لحظة.

والآيات القرآنية عادة ما تشير الى الجماعة (الامة ـ الشعوب ـ الطائفة ، ...) لان الإنسان يتحمل مسئولية امام الآخرين. شاء أم رفض.

[٤٤] وسنة الله في الحياة انه يرسل الى كل أمّة هاديا ورسولا.

ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا

يؤيد بعضهم بعضا في ذات النهج ، ولذات الهدف.

كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً

كما ان الله يرسل الرسل واحدا بعد الآخر ، كذلك يهلك الأمم المكذبة الواحدة تلو الأخرى.

وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ

والأحاديث جمع أحدوثة ، وليس جمع حديث ، والاحدوثة هي الحادثة النكراء التي تتناقلها الألسن ، وهي عبرة لهم.

١٨٣

فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ

تعسا لهم وابعادا عن الرحمة والحق.

[٤٥] ومن الأمم التي بعث الله إليها الرسل فكذبوهم امة فرعون :

ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ

الآيات هي التوراة ، اما سلطان الله عند موسى فهو الثعبان ، وسائر الآيات.

[٤٦] إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ

وهنا مقابلة ، ففي طرف يقف موسى وهارون ، وفي الطرف الآخر فرعون وملأه ، وهكذا أرسل كل الأنبياء الى طواغيت زمانهم ، ومن يلف لفّهم من المرتزقة وأصحاب المصالح.

والذي يتدبر في قصة موسى وفرعون يهتدي الى ان القضية كانت كبيرة جدا. حيث يرسل الله اثنين (موسى وهارون) وذلك لعظم المسؤولية. حيث انها نقلة حضارية من ذلك المستنقع الآسن الذي تردّى اليه فرعون وجماعته ، الى القمة السامقة من التوحيد والايمان ، وموسى من أعظم أنبياء الله ، وقصص موسى قريبة من واقع الامة الاسلامية ، فلا تزال البشرية تعيش ظروفا مشابهة لتلك التي عاشها قوم موسى ، حيث لا يزال المستكبرون من ملأ فراعنة الأرض يستضعفون سائر الناس ، ويجعلونهم شيعا ، ويعلون في الأرض بغير الحق ، فنحن بحاجة الى التدبر في هذه القصة لنزداد وعيا ، وعزما ، وجهادا حتى يأذن الله لنا بالنصر ، ولذلك يذكر القرآن هذه القصص زهاء سبعين مرة.

ولكن هل استجاب فرعون وملأه لرسول الله موسى ولأخيه هارون (ع)؟ كلا ..

١٨٤

فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ

الإنسان ربما يستكبر ولكنه لا يملك شيئا من مقومات الاستكبار ، فنراه فقيرا ، وذليلا ... إلخ ، وحينا آخر يستكبر الإنسان وهو يمتلك المقومات الظاهرية لذلك ، كفرعون الذي كانت تجري الأنهار من تحت قصره ، والذي يسيطر على شعب مصر.

[٤٧] لذلك لما جاءهم موسى واخوه كذبوهما :

فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ

ولم يقل وهما لنا عابدان؟

لعله لأنهما في الواقع ما عبدوا ، وما خضعوا للطاغوت ، وانما قومهما (بنو إسرائيل) هم الذين خضعوا لفرعون وملأه.

[٤٨] فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ

بالاغراق.

[٤٩] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ

الكتاب الذي أرسل إليهم عبر موسى كان يهدف هدايتهم الى الصراط المستقيم ، ولكنهم لم ينتفعوا بهذا الكتاب.

ان الله لم يخلق الناس ، ليهلكهم ، بل ليرحمهم بالفلاح ، والهدى في الدنيا ، والجنة في الآخرة ، ولكن الناس هم الذين يرفضون ذلك.

وكل هذه الآيات دعوة لنا للتفكير فيها وتطبيقها على أنفسنا ومجتمعاتنا. فبامكاننا ان نصير موسى ، وبامكاننا أن نصير فرعون ، وذلك إذا حملنا رسالة موسى

١٨٥

في الحياة ، أو سلكنا مسلك فرعون جاء في الحديث :

«طوبى لمن عصى فرعون هواه ، وأطاع موسى تقواه»

ومهما اختلفت طرق العذاب ، والانتقام الالهي فان الحقيقة واحدة ، ويجب أن لا نستبعد العذاب عن أنفسنا إذا انحرفنا عن هدى الله.

١٨٦

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)

___________________

٥٣ [زبرا] : كتبا.

١٨٧

من هم المؤمنون

هدى من الآيات :

لأن سورة (المؤمنون) تذكرنا بواقع الايمان ، فان هذا الدرس فيها ـ كما يبدو ـ قد خصص لبيان المقياس الحق للمؤمن. بعد ان ذكّرت الدروس الماضية بعاقبة الإنكار والجحود.

فهذه مريم وابنها آيتان ، حيث آواهما الرب الى مرتفع من الأرض فيه القرار والماء ، وهذا دليل على ان لله ـ سبحانه ـ انما أرسل الأنبياء لراحة البشر ، لذلك أمرهم بان يأكلوا من الطيبات ويعملوا صالحا.

ومنهج الرسل واحد ، وانما اختلف أهل الكتاب ، وتفرقوا أحزابا لفرحهم بما أوتوا من أموال وبنين ، وزعموا أن الله يسارع لهم في الخيرات ، وهم لا يشعرون ، فلعله استدراج لهم حتى يأخذهم عند ما يحين أجلهم.

أما قدرة الايمان فنجدها في الذين يشفقون ، وجلين من خشية الله ، ويستجيبون لآياته ، ولا يشركون بربهم ، وحتى عطاؤهم في الله لا يطمئنون اليه ، بل لا يزالون

١٨٨

وجلين لإيمانهم بأنهم الى ربهم راجعون. فهم لذلك يسارعون في الخيرات ، ويتسابقون إليها.

ولا يعني ذلك ان الله ينهكهم بالمسؤوليات ، بل ربنا الرحيم لا يكلف نفسا الا ما تقدر عليه ، وتطيقه ، وان الله يكتب لهم أعمالهم كلها وهم لا يظلمون.

هذا هدى المؤمنين. دعنا نقتدي به.

ونجد في آيات هذا الدرس : مقاييس لا تخطئ للايمان.

بينات من الآيات :

[٥٠] ان الهدف من التجمع المؤمن ليس اشقاء الناس ، بل تزكيتهم ، وجعلهم صالحين لينتفعوا أكثر ، بنعم الله ، وبالتالي ليرحمهم الله ، وذلك بأن يجسد افراده حياة عيسى وامه مريم (ع) ، اللذين جعل الله ربوة تحتضنهم ، وتسقيهم من معين سائغ شرابه ، وكذلك يريد الله للرسل ومن يشكل امتدادا لخطهم من المؤمنين ، ان يأكلوا الطيبات ، ويعملوا الصالحات ، ويشكروا الله.

وحرام على إنسان يأكل نعم الله ان يعصيه بعمل الخبائث ، كما لا يستطيع آكل الحرام ان يعمل الصالحات بصورة كاملة ، أو لم يقل ربنا سبحانه :

«وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً»؟!

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً

فمريم ولدت عيسى من غير زوج ، كما ان عيسى كلّم الناس وهو في المهد صبيّا.

وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ

١٨٩

بعد ان كانا يفتقران الى المسكن ، وفر الله لهما الربوة ، وهي المرتفع من الأرض ، ولها ميزات : انها بعيدة عن الهوام والأسقام ، وهكذا عند ما يأمر ربنا بالتيمم يقول :

«فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً».

ومن معاني الصعيد المرتفع من الأرض ، وفي علم طبقات الأرض ان المرتفعات التي فيها الماء هي أفضل المواقع. أمنيا وزراعيا وصحيا.

ويتساءل المفسرون : اين كانت هذه الربوة؟ هل كانت مدينة الناصرة في فلسطين. حيث التجأت إليها مريم ـ عليها السّلام ـ خشية أعداء ابنها عيسى ـ عليه السّلام ـ من اليهود؟

أم كانت منطقة خاصة في مصر. حيث عاشت مريم وابنها هناك ردحا من الزمن؟

أم انها كانت في (دمشق) أم مدينة (رملة) حيث عاشا فيهما أيضا فترة من الوقت؟

أم انها لم تكن سوى ذلك الموقع الذي وضعت مريم ابنها فيه ، في أطراف بيت المقدس ذاته. (١)

و في رواية مأثورة عن الإمامين الباقر والصادق ـ عليهما السّلام ـ :

«ان الربوة : حيرة الكوفة ، وسوادها ، والقرار مسجد الكوفة ، والمعين الفرات» (٢)

__________________

(١) راجع تفسير (نمونه) ص ٢٥٢ ج ١٤.

(٢) نور الثقلين ج ٣ ص ٥٤٤.

١٩٠

وعلى اي حال : فان في الآية درسا في اختيار الموقع المناسب للمسكن ، كما ان الآية التالية تذكرنا : بضرورة اختيار الطيبات للطعام.

[٥١] ولم تكن هذه النعم الا لكي تقيم أود الإنسان ، ولكن الهدف الأبعد منها ان يستخدم جسده في خير نفسه والناس ، من خلال الصالحات.

وقد كان هذا نداء الله لكل الرسل ، ومن بعدهم للمؤمنين ، ان يأكلوا لا ليعيشوا أو يتلذذوا بالنعم ـ فحسب ـ بل ليعملوا الصالحات.

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

كما ان المهم في العمل ان يكون خالصا لوجه الله حتى يأتي بثماره ـ دنيا وآخرة ـ وهل يخلص لله الا الذين يتحسسون برقابته ، وعلمه بهم؟! ويجب على المؤمنين ان يعملوا بما يمليه عليهم الشرع والعقل دون ان ينتظروا رضى الناس.

ويبدو ان الإسلام يرجع الناس الى عقولهم. البعيدة عن الهوى والضغوط ، والتي جعلها الله حجة بينه وبين العباد ، فتكون الطيبات التي تدعونا إليها هذه الآية هي التي يحكم بها العقل ، وهكذا العمل الصالح ، وانما الشرع يثير العقل ويبلوره جاء في الحديث :

«العقل رسول باطن والرسول عقل ظاهر»

[٥٢] ان المقاييس الايمانية التي وضعها الله سبحانه ، هي التي تكشف حقيقة الكثير ممن يدّعون الايمان ، إذ ان مقياس الايمان وحقيقته ليس ما يدّعيه البشر أو يعتقد به ، بل ما يضعه الله سنّة ، وما يعلمه من واقع كل إنسان ومجتمع.

١٩١

والمشكلة ان الإنسان الذي يغمره احساس ساذج بالايمان الصادق لا يكتشف خطأ ادعائه الا بعد فوات الأوان. حيث ينقله الموت من دار البلاء والعمل ، الى دار الحساب والجزاء ، فلا يستطيع ان يغيّر من أمره شيئا.

اذن لا بد ان نضع مقاييسنا الذاتية جانبا ، ونبحث عن الموازين الحق الالهية لتكون حجة بيننا وبين الله سبحانه ، عند الحساب والجزاء. لا لكي نقنع الآخرين باننا مؤمنون ، لأنهم يقتنعون منا ، بما يقتنعون من أنفسهم من ممارسة الشعائر الظاهرة ، ثم ماذا تجدي الإنسان قناعة الناس سوى بعض المصالح المحدودة في الدنيا؟ ولعله يظهر على حقيقته يوما عند الناس أيضا ان المهم هو ان يكون الله راضيا عنا.

وفي هذه الآية يضع القرآن الحكيم المقياس الاجتماعي الذي يميز المنافق عن المؤمن ، وهو مقياس الوحدة الايمانية ، فلو ادعى جماعة انهم مؤمنون ، ثم تفرقوا أحزابا وشيعا. انطلاقا من أهوائهم ومصالحهم ، فان ادعاء هم سيكون باطلا وسخيفا ، لان المؤمنين تجمعهم كلمة واحدة هي كلمة التوحيد ، وان التقوى هي محور نشاطهم ، وصبغة أعمالهم وحياتهم.

وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ

[٥٣] فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً

لكي نعرف المؤمنين ، لا بد ان نعرف المنافقين الذين يتناقضون معهم ، فبينما يتجه المؤمنون للوحدة على أساس القيم والقيادة الرسالية. نرى هؤلاء في سعي حثيث للنيل من الوحدة بتمام معنى الكلمة ، وكلمة «فتقطعوا» مبالغة في التقطيع ، فهؤلاء يسيرون في نفق التقسيم ، والفرقة. بحيث تنقسم كل جماعة على نفسها باستمرار.

١٩٢

كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ

ان الأساس في هذه الفرقة ، وهذا الانقسام هو اغترار كلّ بما لديه من رجال ، ومال ، وأفكار ، بينما نجد المؤمنين مشفقين من خشية ربهم ، والفرح هو آية الغرور ، ويبدو انه يعكس حالة الرضا عن النفس.

وان الفرح هو السبب المباشر للتحزب. حيث ان قصر نظر الفرد ، وحرج صدره ، وضيقه ، وتفاهة اهدافه ، وتحقيره لنفسه ، ولقدراتها. كل ذلك يجعله معجبا بنفسه ، وبما يملك ، ويزعم انه وما يتصل به أفضل مما سواه ، فيتقوقع على ذاته ، ولا يعترف للآخرين بفضل ، ولا يرى الأهداف العظيمة التي تحتاج الى الوحدة ، وتراكم الجهود.

[٥٤] ويشبه القرآن هؤلاء حينما يطغى عليهم الاعجاب ، والفرح بالغريق الذي يغمره الماء من كل ناحية.

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ

فلا توقظهم إلا صاعقة العذاب. تأتيهم بغتة.

[٥٥ ـ ٥٦] والسؤال لماذا يفرح هؤلاء؟

لأن غاية ما يطمحون له ان يصبحوا أصحاب مال وبنين ، ولفرط حبهم لذاتهم ، ولما يتعلق بهم خاصة من مال وبنين تراهم يجعلونهما مقياسا للخير والصلاح ، ويزعمون بأنه لو لم تكن أفكارهم صائبة ، ولم يكن الله راضيا عنهم إذا لم يكونوا يحصلون على المال والبنين ، وبالتالي ان حصولهم عليهما في الدنيا دليل صلاحهم ، وحصولهم على الفلاح في الآخرة ، كما قال قائل منهم :

١٩٣

«وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً».

ولا يزال العالم المادي اليوم يعتبر ميزان التقدم الدخل القومي ، ويزعم بعضهم ان الله معه ، لأنه أصبح أشد بطشا وارهابا في الأرض ، ويكتب على دولاراته ـ بالاعتماد على الله ، ثم يتلاعب بمصير الشعوب بتلك الأموال ـ حاشا الله ـ انه لا يسلط الظالمين على البشرية ، ويرضى عنهم.

أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ

هل يتصور هؤلاء ان الخير والكمال هو المال والرجال؟ واننا حين نعطيهم ذلك يعتبر حبا منا لهم أو رضى بهم؟!

بَلْ لا يَشْعُرُونَ

لان الخير الحقيقي هو فيما يقوله القرآن ، لا ما يملكون ، وهو أيضا ما يجسده الذين تتحدث عنهم الآيات التالية :

[٥٧] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ

فالمؤمنون يعملون ، ولكنهم لا يغترون بعطائهم ، بل يشفقون على أنفسهم ، لأنهم يعرفون أن هذه الأجساد لا تحتمل لهب النار ، فيبقى همهم وشغلهم الشاغل هو إنقاذ أنفسهم من جهنم ، وتتكرر في الدعاء هذه العبارة : «وَقِنا عَذابَ النَّارِ» وفي الآية القرآنية :

«فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ».

وتؤكد هذه الآية وما بعدها على الفروق بين التجمع المؤمن ، والآخر المصلحي

١٩٤

القائم على أساس المال والرجال ، وهي :

الف / الإشفاق من العمل ، فدائما ما يستقل المؤمنون أعمالهم ، ويساورهم هاجس التقصير ، بما يحسسهم انها قد لا تبلغ مرضاة الله ، مما يزيدهم عزيمة وإصرارا على العطاء الأكثر ، والإخلاص الأنقى ، أما المنافقون فإنهم يفرحون بأعمالهم ويكبرونها ، فلا يقبلون الانتقاد بما يرونه في ذواتهم من كمال وعصمة ، بينما يرحب أولئك بكل انتقاد بناء. حيث أنهم يتهمون أنفسهم بالتقصير ، فلعلهم اخطأوا أو غفلوا ، ومحور هذه المقارنة هو الخشية عند فريق دون الفريق الآخر ، فكلما عمل المؤمنون لا تزال فيهم بقية ارادة ، وعزيمة خشية التقصير ، وانهم لما يفكوا رقابهم من النار.

جاء في نهج البلاغة عن الامام علي ـ عليه السّلام ـ وهو يصف المؤمنين :

«فلو رخص الله في الكبر لأحد ، لرخص فيه لخاصة أنبيائه ، وأوليائه ، ورسله ، ولكنه سبحانه كره لهم التكابر ، ورضي لهم التواضع ، فالصقوا بالأرض خدودهم ، وعفروا في التراب وجوههم ، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين وكانوا قوما مستضعفين قد اختبرهم الله بالمخمصة ، وابتلاهم بالمجهدة ، وامتحنهم بالمخاوف ، ومحصهم بالمكاره ، فلا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد. جهلا بمواقع الفتنة ، والاختبار في موضع الغنى والاقتصار». (١)

و قد نصح لقمان ابنه فقال له فيما قال :

«خف الله ـ جل وعز ـ خيفة لو جئته ببرّ الثقلين لعذبك ، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك». (٢)

__________________

(١) المصدر ص ٥٤٥.

(٢) المصدر ص ٥٤٧.

١٩٥

ونحن نقرأ في سيرة أولياء الله ما يجعلنا نتصاغر في أنفسنا. اين نحن من واجبنا ، والى متى نغفل عن مصيرنا ، ونحن لا نعلم هل خلقنا للجنة ، أم ان عاقبتنا النار؟!

فهذا زيد بن علي بن الحسين ـ عليه السّلام ـ يقص علينا سيرته سعيد بن جبير قال :

قلت لمحمد بن خالد : كيف زيد بن علي في قلوب أهل العراق؟ فقال : لا أحدثك عن أهل العراق ، ولكن أحدثك عن رجل يقال له النازلي بالمدينة قال : صحبت زيدا ما بين مكة والمدينة ، وكان يصلي الفريضة ثم يصلي ما بين الصلاة الى الصلاة ، ويصلي الليل كله ، ويكثر التسبيح ، ويردد :

«وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» (١)

فصلى بنا ليلة ، ثم ردد هذه الآية الى قريب من نصف الليل ، فانتبهت وهو رافع يده الى السماء ويقول : الهي عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة ، ثم انتحب ، فقمت اليه ، وقلت : يا ابن رسول الله لقد جزعت في ليلتك هذه جزعا ما كنت أعرفه؟ قال : ويحك يا نازلي اني رأيت الليلة وانا في سجودي إذ رفع لي زمرة من الناس عليهم ثياب ما رأته الأبصار ، حتى أحاطوا بي وانا ساجد ، فقال كبيرهم الذي يسمعون منه : اهو ذلك؟ قالوا : نعم ، قال : أبشر يا زيد فانك مقتول في الله ، ومصلوب ومحروق بالنار ، ولا تمسك النار بعدها أبدا فانتبهت وانا فزع ، والله يا نازلي لوددت اني أحرقت بالنار ، ثم أحرقت بالنار ، وان الله أصلح لهذه الامة أمرها. (٢)

__________________

(١) سورة (ق) ـ آية (١٩).

(٢) بحار الأنوار ـ ج ٤٦ ـ ص ٣٠٨.

١٩٦

باء / الاستجابة للحق ، فلو كانوا على خطأ سرعان ما يتذكرون ويعودون عنه ، لأنهم يجعلون الحق ـ وليس ذواتهم ـ محور حياتهم ، لأنهم يعرفون خشوع الايمان ، والتسليم للحق في الدنيا خير من خشوع الذل في نار جهنم.

[٥٨] وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ

فهم منفتحون على الحقائق التي يجدونها في آيات الله ، ولا يمنعون أنفسهم خيرات الحق بالعصبيات والتقاليد والتحزب ، بل يبحثون عن الحق انّى كان ، حتى لو خالف مصالحهم أو تقاليدهم أو عزة أنفسهم.

[٥٩] وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ

جيم / وتوحيدهم لله يتجلى في سائر جوانب الحياة ، السياسية والاجتماعية و .. و .. ، فاذا اختاروا قيادة فانما يختارونها بدافع ايمانهم لا بعامل الهوى ، فليس لان فلان من بلده ، أو حزبه ، أو طائفته فاذن هو قائده ، كلا .. انما المقياس الوحيد عندهم هو ما يقوله الله وما يرتضيه.

خوف التقصير :

[٦٠] وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ

دال / وبينما المنافقون يفرحون بقليل ما يصدر عنهم ، تجد هؤلاء في حالة عطاء دائم مصحوب بوجل ، وخوف من التقصير ، لان المسألة لو كانت متوقفة على رضى الناس عنهم لنالوه بعطائهم الظاهر ، ولكنهم يبحثون عن رضى الله ، الذي لا ينال الا بالإخلاص ، وانّى لهم اليقين بقبول الله لأعمالهم وهو القائل عز وجل :

«إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

١٩٧

ويدفعهم خوف التقصير الى المزيد من العطاء ، ذلك ان الشعور بالكمال يمنع مسيرة التقدم ، والاستمرار في العطاء ، و حينما يسأل رجل الامام الصادق عن سبب خوف هؤلاء ، ووجلهم يجيبه «انهم يخشون ان لا تقبل حسناتهم ، وان لا تغفر سيئاتهم» وما أكثر الثغرات في الحسنات التي نعملها ، وقد يكون بعضها سبب في عدم قبولها.

فنحن لا نستطيع ان نتأكد من أننا قد فزنا. اذن دعنا لا نقف عند حدّ في عطائنا وإنفاقنا ، ولا نفرح ، لان الفرح من جنود الشيطان.

[٦١] ان خوف هؤلاء من التقصير يدفعهم نحو العمل ، بل المبادرة اليه.

هاء / أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ

التسابق بين هؤلاء ليس في الشهرة ، بل في عمل الخير ، وهذه صفة نقيضة لما يعيشه التجمع المنافق ، فبينما يلهي أولئك التكاثر في الأموال والأولاد ، ترى هؤلاء يتسابقون الى الخيرات.

وَهُمْ لَها سابِقُونَ

وهذه الآية تحتمل معنيين :

الاول : ان أنفسهم مجبولة على الخير ، والعطاء ، والعمل ، وهذه الصّفات ليست وليدة ظرف معين ، بل وليدة صفة راسخة في النفس ، فمع أنهم يتصدقون الآن مثلا ، ولكن أنفسهم قبل هذه الصدقة كانت تحمل هذا المعنى الخيّر (مساعدة الضعيف).

الثاني : المبادرة فهم دائما يسبقون غيرهم للخير ، إذ يكتشفون مجالات ووسائل جديدة للعمل الرسالي ، وهذا ناتج عن الهمّ الذي يحملونه لتطوير مسيرتهم

١٩٨

وتحركهم ، مما يدفعهم باتجاه البحث عن المجالات والابعاد الجديدة للتقدم بمسيرة العمل ، أو لمواجهة العقبات والمشاكل التي تعترضه.

ان هؤلاء يسعون دائما لنيل رضي الله ، فيفكرون في أساليب جديدة للعمل ويطبقونها.

[٦٢] وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها

الله هو الذي خلق الإنسان ، وهو أعرف بقدرته وطاقته ، فلا يكلفه إلّا بقدرها ، وعلى الإنسان أن يسعى في طريق الخير قدر جهده وتمكنه ، فإذا فعل ذلك سقط عنه التكليف ، وإلّا فما دامت به بقية مقدرة فهو مسئول.

فما دام الإنسان قادرا يجب ان يعمل ، وبقدر الاستطاعة يجب ان يعطي ، وبقدر وسعه يجب ان يسعى ، فلا يقل أحدنا : اني عملت ، وأنجزت المهمة الكذائية وكفى ، وانما ينجز مهمة لينتقل الى غيرها ، كما قال الله تعالى :

«فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ».

فاذا انتهيت من عمل فانصب الى غيره ، ولا يقل أحدنا انه انتهى الواجب فقد قال تعالى :

«وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ».

فالعمل واجب حتى الموت.

ونستفيد من الآية الكريمة ان مسئولية كل إنسان حسب قدرته ، فالقوي تختلف مسئوليته عن الضعيف ، والعالم عن الجاهل ، والمسؤول عن الفرد العادي و .. و .. ولعل الآية تشير أيضا الى الرفق بالنفس في العمل ، فلا يهلكن أحدنا نفسه ، ولا

١٩٩

يحملها فوق طاقتها ، فقد قال أمير المؤمنين لولده الحسن ـ عليهما السّلام ـ وقد وجده يجتهد في العبادة :

«يا بني! ان هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق»

والبعد الآخر للآية : الواقعية في الطموحات الرسالية. إذ ينبغي ان تكون اهداف المسلم بقدر طاقاته ، فلا يتكلف ما لم يكلفه الرب به.

وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ

فلو ادعى شخص انه تعب ، فان الله يحتج عليه : بأنه أعطاه القدرة التي لم يستغلها كلها حتى يدعي ذلك ، ويحتج عليه بالآخرين الذين يمتلكون مثله من القدرات ، ولكنهم لا يزالون يعطون ويعملون دون تراجع ، وفي مقابل هذا التشدد في المسؤولية هناك رحمة الهية تتمثل في عدل الله ، وفضله.

وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ

فالله يجزي الإنسان على كل خير. صغيرا كان أو كبيرا ، جزاء مضاعفا. حيث تتحول الحسنة الى عشر أمثالها.

٢٠٠