من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

فريق هدى وفريق حق عليهم الضلالة ..

فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ

الذين كفروا تقطع لهم ثياب من نار فصّلت بمقدارهم ، حتى تكون النار أكثر ملامسة لكل جزء من أبدانهم كذلك ليذوقوا العذاب الشديد.

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ

عند ما يحيط الثوب الناري بالجسم تبقى بعض الأعضاء مكشوفة كالرأس فيصب عليه الحميم الساخن ليكون العذاب شاملا لكل أجسامهم.

[٢٠] يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ

ان الحميم من شدة حرارته (والذي قيل في شأنه انه الرصاص المذاب) يصهر ما في أجوافهم القلب ـ الكبد ـ الأمعاء.

[٢١] وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ

المقمعة : آلة تستعمل للدق ، تحملها الملائكة لتضرب بها رؤوس المجرمين.

[٢٢] كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ

بالرغم من ان الكفار في جهنم يعلمون ان لا أمل لهم في النجاة منها الا أنهم من شدة العذاب يحاولون الخروج منها بسبب غمّها وكدرها ، وفي كل مرة يحاولون ذلك يفشلون ، وهذا بحدّ ذاته عذاب نفسي لهم.

هكذا يتبين مدى خطأ الفكرة التفويضية التي ترى ان الله لا ينصر العبد في

٤١

الدنيا والآخرة ، وانه لا يرتبط به شيء من التقدير والتدبير ، كلا .. ان الله هو الذي ينعم ويهدي ويكرم ويجازي ، فالى كهفه نلتجئ ، ومن غضبه الى رحمته نفر ، وبه من عذابه نستعيذ.

٤٢

إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى

________________________

٢٥ [بإلحاد] : الإلحاد العدول عن القصد.

٢٦ [بوّأنا] : وطّأنا.

٤٣

كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)

________________________

٢٧ [فج عميق] : طريق بعيد.

٢٩ [العتيق] : هو الكعبة ، وانما سمّي عتيقا لأنه أعتق من أن يملكه العبيد.

٤٤

واذن في الناس بالحج

هدى من الآيات :

انتهت آيات الدرس السابق بإنذار بالغ الشدة للذين كفروا ، وذلك بتصوير مشهد من مشاهد العذاب في يوم القيامة ، ولأنه كلما ورد إنذار في القرآن الحكيم شفع بترغيب وبشارة فقد جاءت هذه الآيات تبشر المؤمنين بان لهم عند ربهم ثوابا يتجلى في جنة تجري من تحتها الأنهار ، وفي زينة يتزين بها هؤلاء في تلك الجنة ، ومن قبل هداهم الله الى القول الطيب والصراط الحميد. ثم يتناول موضوع الحج باعتباره منسكا من مناسك الامة الإسلامية الواحدة ، ويهدف تكريس التقوى في نفوس ابنائها ، أما الكفار الذين يصدون عن سبيل الله ، ومن أبرز مصاديقه المسجد الحرام ، فلهم عذاب اليم ، بل كل من ينحرف فيه بظلم الناس ، فله عذاب اليم.

ويعيدنا القرآن الى اليوم الاول الذي بني فيه المسجد الحرام ، وكيف أمر الله تعالى إبراهيم عليه السّلام ببناء البيت للناس جميعا ، لا من أجل طائفة أو قوم. انما البيت للقريب والبعيد ، للقاصي والداني.

٤٥

ولم يوضع الحرم لكي يشرك بالله عبره ، انما وضع لكي يعبد الله وحده هناك. (بإقامة الصلاة وبالركوع والسجود) فقد أمر الله إبراهيم (ع) ان يطهّر بيته من الأصنام التي كانت تعبد من دون الله ، في أيام الجاهلية ، والأصنام البشرية التي تعبد اليوم هناك وباسمه.

وآيات هذا الدرس هي سنام هذه السورة ـ فيما يبدو لي ـ لأنها تتحدث عن وسيلة تكريس التقوى ، والحج هو أفضل وسيلة لذلك ، وقد عرفنا مسبقا أنّ التقوى هي أعلى درجات الاحساس بالمسؤولية.

بينات من الآيات :

الجنة نعيم شامل :

[٢٣] إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

الذين آمنوا ايمانا صادقا بالله ، هم المؤمنون حقا ، وهم الذين ينعكس ايمانهم في واقع حياتهم ، بالقيام بالأعمال الصالحة. والجنات التي يدخلها هؤلاء هي ترجمة لعملهم الصالح ، ولهذا جاءت كلمة (جنات) بلفظ الجمع باعتبار ان عملهم الصالح على درجات وان لكلّ عمل جنة.

يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ

اي يزينون بأساور من الذهب ، كما يتوجون أو يقلدون باللؤلؤ النفيس ، ويلبسون ملابس خضراء من حرير فاخرة وتصور هذا المنظر يشّوق الإنسان الى الجنّة.

[٢٤] ثم لا يكتفي السياق ببيان النعم المادية ، بل يضيف إليها النعم المعنوية

٤٦

أيضا حيث يقول :

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ

الطيب من القول هو : (السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وجاء في بعض الأحاديث ، انه كلمة التوحيد ، وقد ورد في بعض النصوص : أنّ الله يرسل الى أهل الجنة كل وقت بهدية وانها هي الطيب من القول ، وهذا هو المعنى الذي ذهب اليه المفسرون ، وكأن الهداية تتم في الجنة ، ولكن يبدو لي ان معنى الآية : ان المؤمنين قد هداهم الله في الدنيا الى الطيب من القول ، وهو كلمة التوحيد والإخلاص. والى الصراط الحميد ، وهو طريق الأنبياء والائمة الهداة ، عليهم جميعا صلوات الله.

الصد عن السبيل :

[٢٥] بعد ذلك يبدأ القرآن بنبذة عن الكفار ، وما هو عملهم ، بالمقارنة مع المؤمنين ، وعملهم فيقول :

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

ليس الكفر هو الكلام النظري أو العقيدة المجردة فحسب. بل هو أيضا ما نبع من ذلك كله كالعدوان والعمل الشيء ، لذلك لا يلبث القرآن بعد ان ذكر الكفار ، ان يبين واقع كفرهم قائلا : «وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» يعني ان هؤلاء قد كفروا في قرارة أنفسهم ، اما عملهم فصد عن سبيل الله ، ولذلك تجد كلمة «كفروا» جاءت بصيغة الماضي ، بينما جاءت كلمة «يصدون» بصيغة المضارع الدالة على الحال والمستقبل ، فالكفر قرار واحد ، اما الصد عن سبيل الله فهو عمل دائب ومستمر.

والصد عن سبيل الله ، يقف حاجزا بين الإنسان وقيامه بالعمل الصالح ، أيا كان هذا العمل ـ امرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو بناء مساجد الله وأداء فرائضه

٤٧

 ـ لان الصد عكس ذلك تماما كخلق العراقيل التي تمنع الحجاج عن أداء فرائضهم ، أو منع السلطات عمارة الأرض ، وكبت حرية العمل والتجارة ، وعموما فان الكفر يقف حجر عثرة في طريق الإنسان لكي لا يصل ذرى التقدم والتكامل المادي والمعنوي.

وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ

اما الصد عن المسجد فهو نوعان :

النوع الاول : تكبيل الناس بالقوانين الادارية الجائرة ، ومنعهم من السفر الى الحج أساسا.

النوع الثاني : هو ان يتمكن الحجاج من الوصول الى المسجد الحرام ، ولكنهم لا يتركون ليؤدوا شعائرهم الدينية ، كما فرضها الله عليهم بحرية تامة ، بسبب هيمنة وضغط السلطات الجائرة المتحكمة على الأماكن المقدسة.

ضمان حرية الإنسان في الحرم :

وقبل ان يسوق القرآن الحديث حول بيت الله ومناهج الحج اليه ، يفرض احترام المسجد الحرام ، ويتوعد الذين يظلمون فيه ، ويعتدون على حرمات الناس ، ويصادرون حرياتهم ، بالعذاب الأليم.

والحرية هنالك تعني كل شيء ، إذ من دونها تكاد تتفرغ مناهج الحج من محتوياتها ، فكيف يشهد الحجاج منافع لهم وسيف الظلم مسلط عليهم. وكيف يتفكرون في شؤون الامة ، واجهزة القمع المتسلطة تلاحقهم ، وكيف يخلعون ثياب الشرك ، ويتحررون من خوف الجبابرة ليعبدوا الله وحده ، وشياطين السلطة يحيطون بهم.

٤٨

وهكذا نفهم ان أي انحراف يتم بالظلم تشمله الآية ، حتى ولو لم يكن من قبل الدولة ، بل من أصحاب السلطة الصغار كالزوج والمالك والمدير و .. و .. جاء في حديث مأثور على الامام الصادق ـ عليه السّلام ـ :

«كل ظالم يظلم الرجل نفسه بمكة من سرقة أو ظلم أحد أو شيء من الظلم فاني أراه إلحادا. ولذلك كان ينهى ان يسكن الحرم». (١)

أي كانت الاقامة الدائمة بمكة مكروهة شرعا ، لان الإنسان لا يخلو من ظلم نفسه بواحدة من هذه المحرمات فاذا سكن البيت اعتبرت معاصيه هذه إلحادا ، وضاعف الله عليها العقاب.

الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ

فالمسجد الحرام ليس ملكا لأحد ، لا لعائلة معينّة ولا لدولة خاصة انما هو للناس جميعا ، وقد جعله الله كذلك.

سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ

أي يتساوى فيه المقيم المعتكف بمكة ، مع ذلك الذي يأتيه من البدو أي الصحراء ، ثم يؤكد الله هذه الحقيقة ، مرة اخرى ، قائلا :

وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ

ان أصحاب السلطات الظالمة التي تتخذ المسجد الحرام وحاجة الناس إليها سببا لتحريف الناس وتضليلهم ، أو التي تفرض على الآخرين منهجا معينا في التفكير .. سوف يذوقون عذابا أليما. ومعنى (بإلحاد) بانحراف.

__________________

(١) تفسير نمونه ج ١٤ / ص ٦٥.

٤٩

ولكي يمرر الجاهليون ظلمهم وتسلطهم وافسادهم في الحرم تراهم يحرفون الكلم عن مواضعه وهذه هي مشكلة الإنسان الرئيسية. حيث ان أصحاب السلطة قادرون على تحريف المناهج التي وضعت لانقاذه منهم ، بحيث لا تنفع أو تكون اداة لتسلطهم عليه من جديد. ويبدو ان الآية هنا تحذر من هذه الحالة لكي لا يتحول المسجد الحرام الى مكان للظلم والإلحاد باسم جديد!

[٢٦] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً

لقد حدّد الله سبحانه وتعالى مكان البيت الحرام ، لإبراهيم عليه السّلام لكي يرفع قواعده عالية شامخة ، ولهدف معين هو : ان يكون البيت القاعدة الرئيسية لنسف فكرة الشرك اولا. ولاقامة منهج التوحيد الصحيح ثانيا. والواقع ان الكعبة المشرفة كانت موجودة من قبل إبراهيم (ع) ولكنها مع مرور الزمان ، اندرست أثارها ، ولم يبق لها رسم يدل عليها ، ولم يكن إبراهيم (ع) ليعلم حدود البيت. كما انه لم يكن باستطاعته ان يختار بيتا حسب رأيه الخاص ، لان هذا الأمر يختص بالخالق العظيم ، جل شأنه ـ الذي له الأمر والخلق .. فحدد الله مكانها له ثم أمره قائلا :

وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ

أي طهر بيتي من الأدران المادية والارجاس الوثنية. وقد ذكرت هذه الآية الحالات الأربع للعبادة عند المسجد الحرام ، وهي : الطواف والقيام .. (الاقامة أو الدعاء والذكر) والركوع والسجود وهما يرمزان الى الصلاة ويعبران عن الكثرة ، وهذه العبادات ترمز الى التوجه الخالص لله ، والخضوع له والتسليم لأمره ، واتخاذ شريعته محورا للحياة.

٥٠

نداء الحج :

[٢٧] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ

جاء في الأثر عن هذه الآية انه لما فرغ إبراهيم من بناء البيت أمره الله ان يؤذن في الناس بالحج ، فقال : يا رب! ما يبلغ صوتي؟ فقال له : اذن .. عليك الأذان وعلينا البلاغ ، وارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق (ملتصق) بالبيت ، فارتفع به المقام حتى كان أطول من الجبال ، فنادى وادخل إصبعه في اذنه واقبل بوجهه شرقا وغربا يقول : ايها الناس كتب عليكم بالحج الى البيت العتيق ، فأجيبوا ربكم ، فأجابوه من تحت البحور السبع ، ومن بين المشرق والمغرب ، الى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها ومن أصلاب الرجال ، ومن أرحام النساء بالتلبية : لبيك اللهم لبيك .. أولا ترونهم يلبّون؟ فمن حج من يومئذ الى يوم القيامة فهم ممن استجاب الله وذلك قوله : «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ» يعني نداء إبراهيم على المقام.

يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ

رجالا : أي مترجلين على اقدامهم ، وضامر : الدواب المضمرة التي أضمرت بكثرة التدريب أو لطول المسافة ، وهذه الآية ترمز الى ان الحجاج يأتون الى الحج متلهفين اما راجلين أو ممتطين دوابهم الضامرة.

[٢٨] لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ

المنافع المادية والمعنوية المختلفة التي فيها صلاح معاشهم واستقامة حياتهم ..

وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ

٥١

أي في أيام الحج من شهر ذي الحجة.

عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ

الاضحيات التي تنحر في منى يوم العاشر.

فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ

أي كلوا منها أنتم وقراباتكم ، وأطعموا الفقير الذي قد بؤس وجاع. وهذه دعوة صريحة للموسرين ، من أجل ان يخرجوا من حدود انانيتهم وشحهم ، كي يقضوا حاجات المعسرين المحتاجين ..

[٢٩] ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ

حيث تصبح شعورهم شعثاء غبراء من كثرة الترحال والمسير ، كما تطول اظافرهم ، وفي نهاية موسم الحج يقصون شعورهم ويقلّمون اظفارهم. ويطهرون أبدانهم من الأدران ، والتفث في اللغة الدرن.

وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ

وتلمح هذه الآية الى ان ضرورة قضاء النذور وهي ـ عادة ـ تلك التي يلزمها الفرد على نفسه ان بلغ مكة سالما ، أو ان قضيت حاجاته. ولعلنا نستفيد من هذه الآية التأكيد بتطهير القلب والتخفيف عنه بالوفاء بالنذور ، حتى يعود الحاج الى بيته بصفحة جديدة. اما الطواف بالبيت العتيق ، فقد جاء في الأحاديث انه الطواف الأخير الذي يسمّى بطواف النساء لان النساء لا يحللن الا بعده ، ويسمّيه البعض بطواف الوداع ، لأنه آخر تطواف حول البيت ، الذي سماه الرب هنا بالبيت العتيق ، لأنه حر عن ملكية الإفراد وعن سلطة الجبابرة ومركز لحرية الناس. وهو

٥٢

أول بيت وضع للناس (جميع الناس) وقد أعتقه الله من الغرق عند الطوفان الأعظم على عهد النبي نوح عليه السّلام.

وكلمة اخيرة :

لقد فسرت في أحاديث أهل البيت عليهم السّلام كلمة (ليقضوا تفثهم) باللقاء مع (الامام) أو ليس الحضور عند الامام والالتقاء به في اجواء الحرية عند البيت الحرام يقضي على الأدران المعنوية لقلب الحجاج ، ويؤهلهم لبدء رحلة جهادية جديدة ، وهذا التفسير يؤكد على الجانب الحضاري للحج ، المتمثل في تطوير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للامة عبر الحج وذلك باللقاء مع امام الامة ، وقائد مسيرتها ، ورائد حركتها المباركة.

وفي حديث آخر : يجعل الامام احدى حكم الوفادة الى بيت الله التفقه في الدين. ونقل أنباء القيادة ، الى الأقطار. جاء في الأثر المروي عن الامام الرضا عليه السّلام وهو يبيّن علل الحج : قال : لعلة الوفادة الى الله تعالى ، وطلب الزيادة ، وأضاف : ونقل اخبار الائمة ـ عليهم السّلام ـ الى كل صقع وناحية ، كما قال الله عز وجل :

«فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» ، وليشهدوا منافع لهم. (١)

__________________

(١) المصدر / ص ٤٩٠.

٥٣

ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)

٥٤

فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا

هدى من الآيات :

التقوى تنبت في ارض التوحيد ، وفروعها تشمل كل حقول الحياة ، وأهم وأبرز مظاهرها هو تعظيم حرمات الله وشعائره.

والذين يخالفون التقوى هم الذين يرتكبون الرجس من الأوثان ، فيفعلون ما ينبغي تركه ويتركون ما ينبغي فعله ، ويتبعون قول الزور والباطل ، فاذا بهم يرتكبون ما حرم الله كعبادة الأوثان ، ومن جهة اخرى يقبضون أنفسهم عما أحل الله لهم زورا وبهتانا ، وهذا مناف للتقوى.

ويعود القرآن ـ مرة أخرى ـ ليذكرنا بان جذر التقوى في النفس هو تحدي الضغوط ، بحيث يكون الإنسان حنيفا ، مائلا عما يريده الآخرون له ، وما يحاولون فرضه عليه. ومن يشرك بالله يكون كمن يهوي من السماء الى الأرض ، فإمّا ان يلتقطه الشيطان فيبتلع قدراته وقواه ، كما تخطف الطيور فريستها من السماء ، أو يترك حتى يهوي الى مكان سحيق.

٥٥

والدرجة العليا للتقوى هي تعظيم شعائر الله ، بتعظيم كل ما يرتبط بالله تبارك وتعالى احتراما له.

ويعود القرآن فيبين بعض مناسك الحج التي هي من شعائر الله : كالإبل التي تساق الى الحج لتنحر فيه. ويؤكد : ان عمل الإنسان هو الذي ينمّي التقوى في قلبه.

بينات من الآيات :

تعظيم الحرمات :

[٣٠] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ

لان تعظيم حرمات الله وشرائعه يعود نفعه الى الفرد نفسه ، إذ يحتسبه الله له ، فيجازيه خيرا منه ، سواء في الدنيا بزيادة البركات ، أو في الآخرة بالجنات.

وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ

ان الله أحل لنا بهيمة الانعام الا النزر اليسير ، كالموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، وان الالتزام بما أحل الله وبما حرم ، هو جوهر التقوى وأهم مصاديقه.

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ

هذا الشطر من الآية يبين الابعاد المعنوية للتقوى ، فتنقل الإنسان من اجتناب اللحوم المحرمة ، الى اجتناب الرذائل الخلقية التي تضر بكرامة الإنسان ، بل تضر المجتمع وتسيء اليه كله.

ونسأل ما هو الرجس؟

٥٦

لقد وقف المفسرون طويلا عند هذه الكلمة ، فمنهم من قال : انها القمار والنرد والشطرنج ، ومنهم من قال : انها الأوثان التي تعبد من دون الله ، باعتبار ان الحج كان ملوثا عند الجاهلية بعبادة الأوثان ، وقد أمر الله سبحانه ان يطهر الحج من عبادة الأوثان. وقال بعضهم : ان الرجس هو مجرد قبول فكرة وجود الصنم في بيت الله الحرام. وقال بعضهم : انها تلك الذبائح التي تذبح لغير الله. وقد سبق ان قال الله تبارك وتعالى : وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ وفي أماكن متفرقة من القرآن يؤكد الله على ان ما ذبح لغير الله حرام ، وانه رجس.

كل ذلك صحيح ومقبول ولكن يبدو ان هناك فكرة اعمق وهي : ان الإنسان اما ان يعبد الله وحده لا شريك له ، ويلتزم بالقيم التي أمر بها الله سبحانه ، واما ان يخضع للشيء أي شيء كان. بتعبير آخر : الناس اثنان ، فاما إنسان قيمي يقدس القيم ويؤمن بالغيب ، أو إنسان شيئيّ لا يؤمن الا بالشهود ، وهو يقدس الأشياء ، ان الرذيلة .. الانحراف .. الظلم .. إلخ كل ذلك ناتج عن شيئية الإنسان وعدم تقديسه للقيم ، وقد يحول في بعض الأحيان القيم الى الشيء ، فتراه يذهب الى الحج ولكنه ليس بهدف الوصول الى الله من خلاله ، بل ينظر الى مناكسه نظرة شيئية ، فيتوجه قلبه الى هذه الأشياء دون ان يجعلها سبيلا ورمزا الى القيم التي وراءها ، فالكعبة يجب ان تكون عندنا رمز التوحيد والوحدة ، والذبح يجب أن يرمز الى ان كل شيء فداء لله ، ورمي الجمار يجب ان يرمز الى ضرورة مقاومة الشياطين ... إلخ.

والذي ينحرف فيعبد الشيء لا شك انه سوف ينحرف انحرافات أخرى ، ومنها الشطرنج ، الذي يشبه الى حد ما تلك العادة الجاهلية التافهة ، التي كانت تقضي بالقرعة عند الأوثان ، ثم العمل بمقتضى ما يستخرج منها.

لذلك جا في الأثر : عن أبي عبد الله الصادق عليه السّلام ، قال في قول الله عز وجل :

٥٧

«فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ

قال :

الرجس من الأوثان الشطرنج ، وقول الزور الغنا» (١)

و في حديث آخر عن الامام الصادق عليه السّلام أيضا : ان من قول الزور :

«قول الرجل للذي يغنّي : أحسنت» (٢)

و في رواية أيمن بن خزيم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله انه قال : خطبنا فقال :

«ايها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله «ثم قرأ» فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ » (٣)

ومن مجموع هذه الأحاديث نستوحي ان قول الزور هو كل قول باطل.

وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ

صحيح ان كلمة (قول الزور) فسّرت بالغناء والطرب واللهو ، ولكن أهم وأعظم من قول الزور هذا هو : ان يقول الإنسان كلاما فينسبه الى الله تعالى ، ويتعبد به فيحلل ما حرم الله ويحرم ما أحلّ الله سبحانه.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ ـ ص ٤٩٦.

(٢) المصدر ص ٤٩٥.

(٣) المصدر ص ٤٩٦.

٥٨

الحنيفية دين الله :

[٣١] حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ

الحنيفية تعني الطهارة من أدران المجتمع والميل الى ما يريده الله منك ، كالميل عن سلوك المجتمع ، أو عن ضغط الأهواء والشهوات خالصا لوجه الله.

فليس من الحنيفية المطلوبة ان تتحدى ضغطا اجتماعيا لضغط آخر ، أو هوى نفسانيا لهوى آخر أو تحارب طاغوتا من الغرب ، من أجل آخر من الشرق ، كلا ، انما عليك ان تتحدى وتقاوم الضغوط كلها والأهواء جميعا وكل السلطات الظالمة لأجل الله الحق سبحانه.

فالحنيفية طريق واضح ومحجة بيضاء ، تختلف تمام الاختلاف ، وتتناقض تمام التناقض ، مع كل السبل الاخرى ولها وجهان : ميل عن الشركاء والضغوط ، واتجاه الى الله وحده.

والواقع : ان الحنفية هي فطرة الإنسان الطاهرة النقية التي يئوب إليها المؤمنون ، من هنا جاء في حديث مأثور عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام حين سأله زرارة : عن قول الله عز وجل : «حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» وعن الحنفية قال :

«هي الفطرة التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله قال فطرهم على المعرفة»(١)

وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ

__________________

(١) المصدر ص ٤٩٦.

٥٩

بفعل الجاذبية يخر الشيء من السماء ، فاذا كان هذا الشيء صيدا تسارع الطيور لاصطياده ، وان لم تصطده يستمر في السقوط الى ان يصل الى الهاوية ، وكذلك الإنسان الذي يشرك بالله ، اما ان يصبح من نصيب الطغاة يجيّرونه لمصلحتهم وينتفعون من طاقته ، واما ان يكون من نصيب الوادي السحيق ، البعيد القعر في جهنم.

اهداف شعائر الله :

[٣٢] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ

الالتزام بحرمات الله جانب من التقوى ، اما الجانب الأكمل منها فهو تعظيم شعائر الله ، الذي يعني تعظيم كل شيء يدلنا على الله. ان تعظيم قطعة قماش منصوبة على طرف عمود ليس تعظيما لذاتها ، انما هو تعظيم للوطن الذي يمثله هذا العلم ، كذلك تعظيم المسجد ، والعالم والقرآن انما هو تعظيم لله ، فالله سبحانه هو الحق ، وسائر الحرمات والشعائر وسائل اليه ، وكل شيء محترم أو شخص مقرّب ، يقدر لله ، لا لأجل ذاته.

والشعائر : جميع شعيرة بمعنى العلامة التي تدلك على الشيء. وشعائر الله هي الواجبات الدينية التي تشهد على عظمة الرب مثل مناسك الحج وصلاة الجمعة والجماعة ، وسائر مظاهر التوحيد. والشعيرة التي جاءت هذه الآية في سياقها : هي الأنعام التي يسوقها الحاج من منزله الى بيت الله. وقد علّمها بعلامة تدل على أنها هدي ، بالغ الكعبة.

[٣٣] لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى

باستطاعتكم ان تستفيدوا من الانعام التي تنوون تقديمها الى الله ، من حليبها

٦٠