من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ

ان للفاحشة هيبة تنبعث من الحياء والشرف البشري ، جبل عليها ضمير الإنسان وعند ما تشيع الفاحشة في المجتمع تسقط هيبتها من أعين الناس ، فيتورطون فيها ، بل لا يتورعون عن ممارستها باستمرار.

واشاعة الفاحشة تتحقق بمجرد نقل الإنسان ما يسمعه من كلام خبيث الى الآخرين ، وهذا ما يحطم جدار الشرف والحياء لدى أبناء المجتمع ، فلا هو يدعو الإنسان المريض القلب للعمل الصالح ، ولا هو ينصح الناس لما فيه خيرهم ، بل يبحث عن الشائعة الباطلة لينشرها ، وعن الفكرة الخبيثة الميتة ليحييها ويذيعها ، لأنه من أهل الفاحشة وان أنكرها بلسانه أو تظاهر بكراهته لها ، فلو بحثت عميقا في نفسه لوجدته يعبر بكلامه عن واقعه ، لا عن واقع الآخرين ، ويبدو ان التعبير القرآني ب «يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ» يدل على انعطاف نفسي عند هذا الفريق نحو اشاعة الفاحشة ، أما بسبب كراهية المجتمع ، أو كراهية الفريق المتهم منه ، أو لأنهم يرتكبون فعلا الفاحشة ، ويريدون ان تنتشر بين الناس جميعا حتى يرتاحوا من لوم الناس ووخز الضمير.

وعلى الإنسان ان يقاوم هذا الحب في نفسه ، ولا يفيض في نقل التهم بدافع هذا الحب الشيطاني.

ثم يختم القرآن حديثه الصادق بان الله عليم بالحقائق.

وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ

فأنتم لا تعلمون طبيعة الناس ، والدوافع التي تدعوهم الى خلق الافتراءات ضد

٢٨١

هذا وذاك ، فلا يجوز ان تثقوا باي فرد ، بل عليكم التثبت عما إذا كان نقيا عن حب اشاعة الفاحشة.

[٢٠] وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ

بان بعث لكم رسولا ووفر لكم فرصة الهداية ـ لولا ذلك ـ لما زكى أحد منكم ، اي تخلص من ورطة اتهام الآخرين بالزور والبهتان.

ويبدو ان المراد من الفضل هو الهدى (القرآن والرسالة) ومن الرحمة النعم المادية (الأمن والسلامة وكل ما يمنع الإنسان من التورط في الجرائم المختلفة).

فلو لم تتوفر للإنسان وسائل الهداية من جهة ، والوسائل المادية كالحياة الاسرية الفاضلة ، والمكسب الحلال ، وما الى ذلك من النعم من جهة أخرى ، لما تخلص من التورط في الجرائم.

وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ

ويبدو ان جواب لولا ما يشار اليه في الآيات التالية من قوله تعالى : ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً .

[٢١] الشيطان سواء الجنّي الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم ، أو الانسي الذي تملأ أبواقه وشبكاته حياتنا اليوم ، انه لا يدعونا الى الفواحش الظاهرة مرة واحدة ، وانما يستدرجنا إليها خطوة فخطوة ، وعلينا الحذر من اتباعه في الخطوات الاولى حتى لا يطمع فينا أكثر فأكثر.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ

وما دام الله وفر للإنسان فضله ورحمته فلما ذا يتبع الشيطان؟!

٢٨٢

ان الذي يتبع خطوات الشيطان لا يحقق سعادة الناس وهدايتهم ، فكثير أولئك الذين حدثوا أنفسهم بالوصول الى الحكم ، ومن ثم العدل والحرية للمستضعفين ، ولكنهم تورطوا في جرائم الإرهاب والذبح واشاعة الفاحشة ، فما أفلحوا بل أصبحوا أفسد ممن سبقهم ، فقد خدع الشيطان من انتموا الى حزب البعث في العراق بذلك ، ولكنهم بعد ما وصلوا الى الحكم دمّروا العراق وأصبحوا لعنة على الشعب.

ان السلطة التي تبنى على أساس الكذب والافتراء ، لا ولن تكون في سبيل الله والمستضعفين لذا يقول القرآن :

وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ

فلا يفكر الإنسان أنه سينصحه يوما ، ولعل المقصود من «لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» وسائله وسبله ، فالغاية لا تبرر الوسيلة ، بل تحدد الغاية الوسيلة المناسبة لها.

وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً

«لولا» حرف امتناع لامتناع ، وهي اداة شرط في هذا المقطع من الآية الكريمة «وفضل» مصدر ناب عن فعل الشرط ، اما جواب الشرط فقوله تعالى : «ما زكى»

ولعل هذا الجواب هو نفسه جواب لولا في الآية السابقة «وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» والآية تشير الى مدى صعوبة التخلص من شبكات الشيطان ، وعلينا إذا الا نرتاح الى ظل الغرور ، ونغفل عن خطر الاستدراج بل نتوكل على الله ، ونكون دائمي الحذر ، شديدي اليقظة.

وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ

٢٨٣

وذلك عن طريق الرسل والهداية والتوفيق ، وبما يوفر لهم من نعم ، تغنيهم عن تمنيات الشيطان.

وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

الموقف السليم :

[٢٢] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ

قيل : بعد ما وقعت حادثة الافك ، قرر المسلمون ان يقاطعوا كل المشتركين فيها مقاطعة شاملة ، فلا يزوجونهم ، ولا يعطونهم من المال شيئا ، ولا يدعونهم يحضرون مساجدهم ... إلخ ، وهذا ما يطمح اليه الأعداء ان يروا المجتمع المؤمن وقد تمزق كل ممزق ، فيجب ان ينتبه الواعون في المجتمع الاسلامي الى هذه الخطوة الشيطانية ، ويقفون قبالها ، لذلك نهى الله المؤمنين عن تطبيق قرار الجفاء والمقاطعة ، ومعنى الآية الكريمة : انه لا يحلف أولوا الفضل بعدم العطاء وصلة الرحم.

وكما قلنا : ان المقصود «بالفضل» الدين والهدى ، و «السعة» المال والنعم المادية ، فيصبح معنى الآية بهذا التفسير : انه على من أنعم الله عليهم بالهداية والمال ، ان يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين من ذلك ، ولو كانوا متورطين في جريمة الافك.

وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا

على ما مضى ، ولعل المراد من العفو هو عدم المعاقبة على ما مضى اما الصفح فهو ما يسبب اعادة اللحمة الى المجتمع.

٢٨٤

ووظيفة الامة الاسلامية بعد حوادث الافك وما تسببه من فرقة وخلاف هو السعي نحو الوحدة لبناء كيان جديد يقوم على أساسها.

أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ربما يؤاخذ المؤمنون من اختلق الافك ضدهم ، ولكن هل ضمنوا لأنفسهم البراءة الخالصة من ذلك ، والكل معرض لارتكاب الخطأ بحق الآخرين؟!

لذا ينبغي الصفح عن الآخرين حتى يغفر الله لمن يصفح ، وفعلا بادر المسلمون فور نزول هذه الآية الكريمة قائلين عفونا وصفحنا ، أملا في غفران الله.

٢٨٥

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ

___________________

٢٦ [مبرّأون] : منزّهون.

٢٨٦

عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)

___________________

٢٩ [جناح] : حرج واثم.

٢٨٧

الوازع الديني وأثره في تحصين المجتمع

هدى من الآيات :

يركز السياق هنا حول قضيتين رئيسيتين :

الاولى : إنذار شديد اللهجة ، يوجهه الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات ، ويحذرهم من نار جهنم ، يوم لا يمكنهم انكار افتراءاتهم ، وذلك ليحيي الوازع الديني في ضمير الناس ، ليرتفع المجتمع عن حضيض المهاترات الرخيصة الى ذرى الآداب الرفيعة.

الثانية : بعد ان حدثتنا الآيات السابقة ، عن ضرورة تحصين بيوت المسلمين معنويا ، تحدثنا آيات هذا الدرس ، عن ضرورة تحصينها ظاهرا عن دخول الغرباء ، لأنه حرم الإنسان ، (كما يقول الرسول (ص)) فلا يدخله من ليس بصاحبه ، الا ان يستأذن ويحصل على الموافقة من أهله ، وقبل الدخول لا بد ان يذكر الله مستأنسا ، رافعا صوته بذلك ، حتى يكون معروفا عند أهل البيت ، وبعد ذلك يبدأ

٢٨٨

بالسلام ، فان لم يكن رد منهم فليعد من حيث أتى ولا يدخله عنوة ، مدفوعا بالكبر ، ومأخوذا بعزة الإثم ، لان دخوله سيكون اعتداء ليس على هذا البيت فقط ، بل على المجتمع بأكمله.

بينات من الآيات :

[٢٣] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ

قد تكون المرأة في أحضان الفساد ومظان الفاحشة ، فلو اتهمت فانها تتحمل مسئولية ذلك ، كما المتبرجة الخليعة ، التي تتنقل من بيت لآخر ، وتقوم بحركات مائعة مشبوهة ، فهي تضع نفسها في دائرة الاتهام ، وتستجلب كلام الناس عليها.

أما المرأة الغافلة عن التهمة ، البعيدة عن مظانها فينبغي ان تحترم أشد الاحترام ، ومن يتهمها فانه ملعون في الدنيا ، اي مبعد عن الخير ، ومنبوذ لدى المؤمنين ، وملعون في الآخرة حيث يبعده الله عن رضوانه ، ويعذبه عذابا عظيما.

الشهادة :

[٢٤] يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ

كل عضو من الأعضاء يشهد على الإنسان يوم القيامة ، وفي مقدمة من يشهد على الذين يرمون المحصنات ، ألسنتهم التي ستنطق بفضحهم دون إرادتهم ، ثم أيديهم وهي التي يشيرون بها الى مواضع التهمة (فعادة ما يستخدم المتحدث لسانه ويده للتعبير عن مقاصده) ، ثم أرجلهم الساعية بالتهمة لتوزيعها على أكبر رقعة اجتماعية ممكنة ، كما المشاء بنميم ، ليفسد ما بين الناس ويقوض صرح العلاقات

٢٨٩

الاجتماعية ، وقد وقف قدامي المفسرين على هذه الآية مستغربين ، ليس من شهادة اللسان ـ فلذلك أمر طبيعي ـ وانما من شهادة الأرجل والايدي.

فقال بعضهم : ان الله يخلق ألسنة في كل جارحة تنطق بما عمله الإنسان ، وقال البعض الآخر : ان الله هو الذي ينطق عن الجوارح كما كلم موسى تكليما ، ولكننا اليوم ومع وجود الاجهزة الالكترونية المتطورة ، لا نحتاج الى مزيد من التفكير ، لنعرف كيف تشهد الايدي والأرجل ، فقد أثبت العلم الحديث بالتجربة العملية ، ان اي كلام أو تصرف يصدر من الإنسان ، ترتسم آثاره على الأشياء الموجودة حوله ، كالجدار والسقف والهواء ... إلخ.

إذا شعر الإنسان بالرقابة الالهية عليه ، ونمّى لديه الوازع الديني ، فانه لن يرتكب معصية عن علم.

[٢٥] يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ

عند ما تنكشف لهم الحقيقة ، ويتضح بطلان ما يدعون ، ويعلمون بان الله كان يحصي عليهم كل شيء حتى مشاعرهم ، ونوايا قلوبهم ، ثم يعطي جزاء كل ذلك ذرة بذرة جزاء وفاقا. ودين الإنسان هو ما يلتزم به ، فان التزم بالإسلام أعاده الله له يوم القيامة ، وكذلك لو التزم بالجريمة فانها تأتي له تسعى يوم الحساب فيجازى عليها.

وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ

لأنه أنصع الحقائق وأوضحها ، إذ تتجلى هذه الحقيقة لفطرة الإنسان السليمة بكل سهولة ويسر ، دونما حاجة للبحوث الفلسفية أو البراهين المعقدة ، ولكن الناس بأعمالهم الخاطئة ، يسدلون على قلوبهم أستار الغفلة ، فيجهلون ربهم وأسماءه

٢٩٠

الحسنى ، عن ارادة لا جبر ، وعند ما تزاح عنهم هذه الأستار في يوم القيامة ، تتجلى لهم الحقيقة العظمى (الله) كمن يهتدي الى حقيقة لاول مرة.

[٢٦] الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

تعددت وجهات النظر في هذه الآية من قبل المفسرين ، فقال قسم : ان هذه الآية تشير الى ان الأقوال والأفعال الخبيثة للخبثاء ، وعلى العكس بالنسبة للأقوال والأفعال الطيبة ، وقال قسم آخر : ان الخبيثات من النساء للرجال الخبيثين ، وعلى العكس بالنسبة للنساء الطيبات.

ولكن يبدو أن الآية تؤكد حقيقة اجتماعية مبدئية هي : ان الإنسان لا يمكنه تسجيل اسمه في قائمة المجرمين ثم يعيش مع الصالحين ، بل لا بد ان تنتهي الحياة به الى من سجل اسمه في قائمتهم عمليا.

اما في شطرها الثاني ، فانها تؤكد قدرة المجتمع الفاضل على بناء كيان مستقل ، بعيدا عن الالسنة البذيئة ، والافتراءات الكاذبة ، وهذا ما يمهد له الحصول على غفران الله ورزقه الكريم.

حرمة البيت :

[٢٧] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

تطرح لنا هذه الآية وما يليها مجموعة تعاليم تتصل بحرمة البيت ، حيث ينبغي ان يحس المرء بالأمن داخل منزله ، حيث يضع ثيابه ويتخلص من العادات الاجتماعية المرهقة ، ويستريح الى طبيعته ، ويتنفس عن مشاعره المكبوتة ، وحيث

٢٩١

زوجته التي يجب ان يخلو بها ، ويبث إليها اسراره وعواطفه ، ولعله يريد ان يقضي منها وطرا. فقبل ان تطأ قدماك بيتا غير بيتك ، لا بد ان تراعي آداب الدخول والتي منها : الاستيناس وإعطاء اشارة لقصد الدخول أولا ، وفي التعبير القرآني روعة ولطف ، فالاستيناس المتخذ من لفظة (الانس) يوحي بضرورة رعاية الجوانب العاطفية فلا كلمات نابية ، أو صياح عال أو طرق شديد للباب ، بل رقة ومحبة وتلطف وتودد. و جاء في الأثر ان «الاستيناس هو وقع النعل والتسليم» (١) و عن أبي أيوب الانصاري قال : قلنا يا رسول الله ما الاستيناس؟ قال : يتكلم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة يتنحنح على أهل البيت (٢) والتسليم ثانيا اشعارا بحسن النية وسلامة القصد. وليس هذا النظام شاذا عن الفطرة البشرية ، بل متوافقا معها ، وهكذا سائر الأحكام والآداب في الإسلام تتوافق مع فطرة البشر وعقله ، وهذا ما تشير له الآية التي تحث الإنسان على التذكرة فكثير من الحقائق ، معروفة لدى الناس ، ولكنهم نسوها فاحتاجوا الى التفكير ليتذكروها.

[٢٨] فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ

ان لم يكن في البيت من يملك صلاحية الاذن بالدخول ، أو وجد من يملكها ، ولكنه لم يعط إذنا بذلك فليرجع ، ففي ذلك زكاة للمجتمع ، اي نمو للاخلاقيات والعلاقات الطيبة فيه ، ولقد شددت النصوص الاسلامية على الاستيذان وآدابه قبل دخول البيوت.

فهذا الرجل يستأذن على رسول الله (ص) بالتنحنح ، فيقول الرسول لامرأة يقال لها روضة : قومي الى هذا فعلميه وقولي له قل : السّلام عليكم أأدخل؟ فسمعها

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٣ / ص ٥٨٥.

(٢) المصدر.

٢٩٢

الرجل فقالها فقال : ادخل (١)

و يسأله رجل عما إذا كان من الضروري الاستيذان على الام ويقول : انها ليس لها خادم غيري أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال : أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل لا .. قال : فاستأذن عليها (٢)

وهكذا كانت سيرة النبي (ص) فقد روى جابر بن عبد الله الانصاري قال : «خرج رسول الله يريد فاطمة عليها السّلام ، وانا معه ، فلما انتهيت الى الباب وضع يده فدفعه ثم قال : السّلام عليكم فقالت فاطمة عليها السّلام : عليك السّلام يا رسول الله ، قال : أدخل؟ قالت ادخل يا رسول الله ، قال أدخل ومن معي؟ قالت يا رسول الله ليس عليّ قناع ، فقال يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ، ففعلت ثم قال : السّلام عليكم فقالت وعليك السّلام يا رسول الله قال أدخل قالت نعم يا رسول الله قال انا ومن معي؟ قالت ومن معك» (٣)

بهذه الرقة والتودد ، أدبنا الإسلام.

ويحسن بنا الانتباه الى نهاية الآيات ، فعادة ما تكون نهايتها مفاتيحها ، كما تكون الآيات الاخيرة في السورة مفاتيح لها ، و هنا يقول تعالى :

وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

بعد ان يطرح مجموعة من القوانين والانظمة لماذا؟ الجواب :

__________________

(١) المصدر / ص ٥٨٦.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر ص ٥٨٧.

٢٩٣

لعله لان للإنسان قدرة التفاف هائلة على القانون ، وتحويله الى قشرة دون اي محتوى ، ولكي يحذر الله سبحانه الناس ، من الالتفاف حول النظام الاسلامي يحثهم على الالتزام به بدقة وإخلاص ، ويذكرهم بأنه يعلم حقيقة أعمالهم ، فلا مناص لهم من النصح في تطبيق الأحكام ، فقد يخادع الإنسان أصحاب البيت فيوهمهم حين دخوله انه يقصد هدفا شريفا ، وواقعة خلاف ذلك ، ولكنه لا يستطيع ان يخدع الله لأنه عليم بما يعمل الناس.

ودخول كهذا ، هو كما لو دخل بدون إذن لا فرق إذ لو علم أصحاب البيت بقصده السيء لما أذنوا له بالدخول.

وكثيرا ما يمتهن بعض المجرمين المهن التي تساعدهم على دخول البيوت ، بحجة القيام بخدمات معينة كاصلاح الكهرباء والهاتف أو تركيب الستائر والأثاث ، فيجدون بذلك فرصة سانحة للاطلاع على اعراض الناس ، والتجسس على المؤمنين ، ولا يعلمون انهم بذلك قد ارتكبوا جريمتين :

الاولى : جريمة الدخول بدون إذن ، لأن هدفه سيء.

الثانية : جريمة الإفساد في الأرض.

ولئن أفلت هؤلاء من علم أهل البيت أو السلطات الشرعية ، فلن يفلتوا من علم الله.

[٢٩] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ

لأنها وضعت لمنفعة عامة ، كالفنادق ، والحمامات العامة ، أو المحال التجارية ، ومكاتب الخدمات المختلفة ، وما الى ذلك ، ولكن لا يجوز الدخول فيها

٢٩٤

لغير الهدف المحدد ، وان جاز الدخول فيها بدون إذن.

وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ

من النوايا والاهداف ، وهذه دعوة لتنمية الوازع الديني في ضمير الإنسان ، انطلاقا من تحسيسه بالرقابة الالهية عليه.

فأولئك الذين يدخلون المحال التجارية مثلا لا ليشتروا مما يعرض فيها ، بل لكي يستريحوا من تعب المشي وزحام السوق ، أو ليستفيدوا من تكييف المحل في صيف حار أو شتاء بارد ، أو يدخلوا في دائرة ما ، لا لكي ينجزوا معاملة لهم فيها ، وانما ليتحدثوا في شؤون خاصة مع زملائهم العاملين فيها .. وما الى ذلك من الحالات الاخرى. ليعلم هؤلاء ان الإسلام لا يجوز لهم ذلك لما فيه من مضار اجتماعية ، قد لا يظهر أثرها الا مع مرور الزمن ، كما انها تناقض الأخلاق الفاضلة ، والسجايا العالية ، ولو وضع هؤلاء أنفسهم موضع أهل هذه المحلات والبيوت ، لما رضوا من غيرهم هذه الأعمال المخالفة.

٢٩٥

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)

___________________

٣٠ [يغض] : الغض أصله النقصان يقال غض من صفته ومن بصره أي نقص منه.

٢٩٦

وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)

٢٩٧

وانكحوا الأيامى منكم والصالحين

هدى من الآيات :

استمرارا للحديث الماضي عن الحدود الشرعية للغريزة الجنسية ، وبعد ان بيّن القرآن حرمة الزنا والقتل ، وحرمة دخول البيوت الا بعد الاستئناس والسّلام ، يبيّن هذا الدرس حدا آخرا لها هو حرمة النظر ، وضرورة الحجاب ، وما يحويه هذا العنوان ، من موضوعات هامة.

وانما فرض الإسلام الحجاب ليحدد الاثارة الجنسية في القنوات الشرعية النافعة لها ، وليحافظ على عفة المرأة وكرامتها ، وليهبها موقعا مناسبا في المجتمع ..

ويسمح الإسلام للمرأة بالحرية في أسرتها الصغيرة أو العائلة الكبيرة .. اي لدى زوجها أو الأب والابن والأخ وأبناء الأخ والاخت وآباء الزوج ، وبالتالي كل من يحرم عليها بالنسب أو السبب الزواج منها.

ولكن هل يجوز للمرأة باعتبارها (امرأة) التبرج أمام كل النساء؟

٢٩٨

كلا .. فقد حدد الإسلام بقوله «أو نسائهن» النساء اللاتي يجوز للمرأة التبرّج امامهن ، فلا يجوز لها التبرّج امام غير المؤمنات وهذا ما نصت عليه النصوص الاسلامية.

اما بالنسبة لغير ذوي الاربة من الرجال كالبله ، والمجانين ، فمن حق المرأة الا تلتزم بالحجاب امامهم ، لان الهدف منه كما تقدم تحديد (الاثارة الجنسية) في المجتمع ، وبما ان هؤلاء قد ماتت الغريزة فيهم تقريبا ، فلا بأس بالتبرّج أمامهم ، وكذلك بالنسبة للأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال ولمّا يميزوا.

وبعد ان حدد الإسلام الغريزة الجنسية ، صار يشجع على الزواج ، ولو لا ان الغريزة الجنسية هي من أقوى الغرائز الدافعة للإنسان ، لما تحمل أحد مسئوليات الزواج ، اننا نرى الكثيرين يتحملون الكبت الجنسي هربا من القيام بمسؤولية الزواج ، فلو وجدت في المجتمع قنوات أخرى لتفريغ هذه الغريزة لم يقدم الكثير على تحمل مسئولياته.

وحينما دعا الإسلام الى الزواج عالج المشاكل النفسية التي تعترضه ، وأهمها الخوف من المسؤوليات التي من أبرزها مسئولية الإنفاق ، وتأمين العيش للاسرة ، حيث يعد الله المتزوجين بان يبارك لهم ، ويبعث لهم بالرزق على قدر الحاجة ، وهذا ما تقتضيه سنته سبحانه وتعالى ، ذلك لأنه انما يتكاسل الإنسان حينما لا يشعر بالحاجة. ولكنه عند الحاجة يفجر طاقاته ، ويرزقه الله تعالى.

بينات من الآيات :

[٣٠] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ

بمطلق الحفظ وفي كل مجال ، فلا يجوز للإنسان ان يستثير شهوته بأي وسيلة مريبة ـ كما يسميها الفقهاء ـ فالنظر الى وجه المرأة الاجنبية أو حتى القريبة ، أو

٢٩٩

النظر بريبة وبهدف الآثار الى الصور والافلام كله حرام لأنه يستثير الغريزة الجنسية ، وقد أمر الله بحفظها.

ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ

من ان يضعوا أيديهم في مستنقعات الفساد المليئة بالميكروبات الخطيرة التي يخشى ان تتسرب الى جسم الإنسان ، وهل تتسرب الى جسم الإنسان إذا حفظ نفسه منها ، وابتعد عن مواضعها؟!

ان الغريزة الجنسية من أقوى غرائز البشر ، فاذا أثيرت جرفت السدود أمامها ، واندفعت في كل اتجاه ، ولربما حملت صاحبها على جرائم بشعة ، وعند ما نطّلع على أرقام الجرائم الجنسية في البلاد الغربية حيث الميوعة والخلاعة نصاب بالذهول ، وإذا فتشنا في أوراق المحاكم الجنائية عن خلفية الجرائم الكبيرة ، وجدنا الغريزة الجنسية وراء كثير منها.

وإذا ملأنا الأجواء اثارة ، وأشبعنا الغرائز ثورة وهياجا ، فان التوتر الجنسي العالي يضغط باستمرار على الاعصاب ، ويسبب أمراضا خطيرة للرجال ، والتشبيبة منهم بالذات ، ذلك لان تفريغ الغريزة لا يكون مقدورا دائما ، ثم لا يقتنع الفتى الذي يستمر هيجان الغريزة في كيانه بشريكة حياته ، بل ولا بالجنس الثاني مهما كان فاتنا ، بل يهبط الى درك الشذوذ ، ثم يتجاوزه الى المخدرات ، ذلك المهوى السافل الذي يهدد مستقبل الحضارة البشرية.

ولا تتوقف أثار التهييج الجنسي عند مفاسدها المباشرة. إذ هناك آثار اخطر .. أو ليست الاثارة الجنسية أعظم معول يهدم الشيطان به صرح الاسرة ، ويسبب في شيوع الخلافات العائلية ، بل وانتشار الطلاق والزنا ، وتكاثر أولاد الحرام وبالتالي ضياع الجيل الناشئ؟

٣٠٠