من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ

لنرى كيف كانت الدنيا التي بعتم الآخرة بها؟!

[١١٣] فيأتي الجواب :

قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ

وهذا التقدير يأتي نتيجة الفرق بين الآخرة والدنيا من زاوية الزمان.

[١١٤] قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

لو كنتم تعرفون بأن الحياة الحقيقية والخالدة تبدأ بعد الدنيا.

إن وعي الزمن وامتداد نظر الإنسان الى أبعد نقطة في المستقبل شرط أساسي للتكامل ، ولأن أسمى التكامل الايمان فإن المؤمن يقدر الزمن في الدنيا بميزان الخلود الأبدي في الآخرة ، ولذلك يفوز بالصبر لأنه سبق وأن أحسن التقدير.

ويبدو ان النظر الى الزمن ومقدار وعيه يشكل أساس الايمان بالآخرة ، والقرآن الحكيم يعالج هذه الناحية من نفسية البشر ، فلو كانوا يعلمون لعرفوا ان كل الفترة التي يقضونها في الدنيا قليلة في حساب الآخرة ، فلما ذا خسارة الآخرة بهذه الفترة القليلة؟!

[١١٥] أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ

هل كانت حياتكم الدنيا بلا هدف؟!

أم هل من الحكمة ان يخلق الإنسان للأكل والشرب ثم يموت؟!

٢٤١

[١١٦] فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ

ان الله أنزه من أن يخلق الإنسان بلا هدف. ثم إذا كان كل جزء في الإنسان يؤدي هدفا معينا فالعين تبصر ، والاذن تسمع ، والجوارح تقوم بأدوارها المحددة ، والأعضاء الداخلية تقوم بمهامها ، والغدد والاجهزة وكل خلية تؤدي وظيفة خلقت لها ، وحتى الزائدة الدودية التي سماها كذلك الطب في أيام طفولتهم تقوم بدور محدد ، فهل من المعقول ان يكون خلق الإنسان عبثا وبلا هدف محدد؟! ونحن حين ننظر الى ما حولنا من اشعة الشمس وضوء القمر وحركة الأرض ونشاط الأحياء فيها ، وانظمة سائر الموجودات نجدها جميعا تخدم وجود البشر ، وكذلك خلقت بهدف محدد ، فهل خلق الإنسان نفسه لغير هدف؟! سبحان الله!! ومن هنا يسأل أحدهم الامام الصادق (ع) : لم خلق الله الخلق؟ فيقول : «ان الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثا ، ولم يتركهم سدى ، بل خلقهم لاخطار قدرته وليكلفهم طاعته».

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ

فالله هو رب السلطة ، ولكنه السلطة الكريمة والحكيمة وليست العبثية حتى يخلقنا بلا هدف.

[١١٧] وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ

فحتى لو عبد غير الله فانه لن يخرج بذلك عن سلطته وهيمنته وسيكون حسابه وجزاؤه عنده.

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ

٢٤٢

ذلك الجزء من الآية يتحدث عن الحساب ، بينما يتحدث هذا المقطع عن الجزاء ، وهنا نجد المعادلة بين أول السورة الذي يقول (قد أفلح المؤمنون) وبين آخرها الذي ينفي الفلاح عن الكافرين.

والشرك ليس بالضرورة ان يتصور الإنسان وجود خالق غير الله ، بل قد يكون بطاعة الأشخاص ، من أصحاب المال والسلطة من دون حجة من الله.

[١١٨] ان الإنسان بطبيعته الترابية ، ينجذب الى أرض الشرك ، والتفكير بأن من يرزقه هو أبوه وأمه ، وبأن من يحكمه هو السلطة السياسية القائمة في بلده ، وبأن من يهديه هو الإذاعة والتلفزيون ، ولكن الإنسان بعقله وإرادته وإيمانه يستطيع ان يقتلع نفسه عن هذه الطبيعة اقتلاعا ، ويحلق بها عاليا في سماء التوحيد ، حتى يرى كل الأمور بيد الله الذي يسلم هو له.

ومن مشاكل الإنسان ان هذه الطبيعة تبقى معه حتى إذا صار مؤمنا ، فتارة يستجيب لها وتارة أخرى يتحداها ويتغلب عليها ، والشرك الذي يصيب البشر قد يكون خفيا فلا يخلو قلب من الشرك ، ولكنّ الله يعطي الإنسان المؤمن برنامجا لمواجهة هذه المشكلة فيقول :

وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ

ان وقود الإنسان المؤمن هو الاستغفار وقرن الاستغفار بالرحمة ـ في الآية ـ لكي لا نيأس فنترك الاستغفار والتوبة حين الذنب كبيرا كان أو صغيرا.

ونحن بدورنا نسأله ان يرحمنا ويجعلنا من المؤمنين الفائزين بالفلاح.

٢٤٣
٢٤٤

سورة النور

٢٤٥
٢٤٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة :

جاء في رواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السّلام :

«حصنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النور ، وحصنوا نساءكم ، فان من أدمن قراءتها في كل يوم أو في كل ليلة ، لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتى يموت ، فاذا مات شيّعه الى قبره سبعون الف ملك ، كلهم يدعون ويستغفرون له حتى يدخل في قبره» (١)

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ / ص ٥٧٠.

٢٤٧

الإطار العام

كما السور الرفيع يصون بيت الإنسان ، شرفه وقيمه وشرائع الرب في المجتمع.

والاسرة كمشكاة ، تحفظ ضياء الفطرة ونور الوحي عن عواصف الشهوة وأدران الهوى.

ونور الله الذي هبط من السماء أستقر في بيوت رفعها الرب بذكره.

حول هذا المحور تدور موضوعات سورة النور المباركة ، ولكن كيف؟

نقرأ في فاتحة السورة اشارة الى السورة التي فرضها الرب ، وانزل فيها آيات بينات ، بهدف تذكر الناس وتلك السورة التي فرضها الرب ، تصون بآياتها التي تفيض حزما فطرة البشر ، وذلك :

أولا : بفرض حد الزانية والزاني ، وتهديد مبطّن بان المؤمنة والمؤمن لا يمارسان الزنا.

٢٤٨

ثانيا : بتحصين البيت من عبث الفاسقين ، وفرض حد القذف على من رمى محصنا بالزنا ، من دون ان يأتي بأربعة شهداء.

ثالثا : بتشريع حكم اللعان بين الزوجة والزوج ، الذي يرميها بالفاحشة ، فعليهما القسم أربعا ، ثم التلاعن في الخامسة.

ويعالج القرآن مرض الشائعة ، التي تدور تاريخيا حول قصة الافك بينما تجري في كل اشاعة باطلة.

وهكذا يزكي القرآن الأجواء ، فلا قذف ولا شائعة (وهي قذف جماعي).

ويشير الى التطابق الاجتماعي ، بين الخبيثات والخبيثين كما بين الطيبات والطيبين (٢٦).

وبعد ان تزكي الدروس الاولى اجواء المجتمع من لوث الزنا والقذف والاشاعة ، ينتقل السياق الى تقرير «حرمة البيت» و «حرية الإنسان في بيته» فينهى عن دخول البيت الا بعد الاستيناس والسّلام على أهله ، والرجوع عنه عند افتقاد الإذن لأنه الأزكى ، الا البيوت العامة وغير المسكونة.

وفي اطار صيانة الاسرة يأمر القرآن بتنظيف الطرق والمراكز العامة من سهام إبليس ، حيث يأمر الرجال ، بغض الأبصار ، كما يأمر النساء بذلك وأيضا بالحجاب (٣١).

وحين يسد الشرع الحنيف أبواب الفساد ، يفتح باب النكاح ويشجع عليه ، ويأمر بالعفة لمن لا يجد سبيلا الى النكاح ، ويعالج وضع العبيد والإماء فيأمر بمكاتبة من علم منه الخير من العبيد وعدم إكراه الفتيات على البغاء ان أردن تحصنا (٣٣).

٢٤٩

على اي أساس متين ، ترتفع قواعد البيت الطاهر؟ أو ليس على الوحي الذي يهبط اليه ، وذكر الله الذي يصعد منه؟! بلى. ولذلك كانت سورة القرآن هي سور الاسرة ، ومن نور الوحي ضياء البيت ، وكانت الاسرة مشكاة ، فيها من نور الوحي مصباح تحيط به زجاجة شفافة ، من اولي الأبصار ـ الرجال الأتقياء حفظة الاسرة ـ يتقد شعاعا من شجرة المعرفة .. وكانت تلك البيوت التي أذن الله لها ان ترفع حصونا منيعة للوحي على مستوى الامة ، كما البيت حصن القيم على مستوى الاسرة (٣٨).

والامة التي لا تكرم بيت النبوة ، كما الاسرة التي لا تأبه بالقيم تتساقط أطرافها وتغدو قيمها شديدة الظلام (٤٠).

ونور المجتمع من بيت النبوة ، ونور الاسرة من ضياء القيم ، ويشرق هذا النور وذاك بنور الله.

وأشرقت السموات والأرض بنور ربها ، ألم ترى ان الله يسبح له من في السموات والأرض ، وله الملك ، وهو الذي يزجي السحاب ويبعث بالبرق ، ويقلب الليل والنهار ، وانه خلق كل دابة من ماء؟! بلى. انه الرب الذي أنزل آيات مبينات ، وهو يهدي من يشاء الى صراط مستقيم (٤٦).

وهكذا يحيط السياق بالنواحي المعنوية للبيت الرفيع ، ثم يعالج موضوع الطاعة التي تعتبر من أهم ركائز التربية ، ويقول : لا بد من التسليم لحكم الله والرسول ، والرضا بالحق كان له أم عليه ، وبعد ان ينعت المؤمنين بفضيلة الطاعة ، يلوم البعض ممن يدّعونها ويحلفون عليها ، ولكنهم حين يجد الجد يخشون (٥٣).

ويأمرهم بالطاعة لله وللرسول ، ليهتدوا. ويذكر بان الله قد وعد المؤمنين الصالحين أعمالا باستخلافهم في الأرض ، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

٢٥٠

وطاعة الرسول ، وعدم اليأس من روح الله ، والا يحسبوا الكفار معجزين في الأرض (٥٧).

ويعود القرآن الى حرمة البيت ، ويأمرنا بالاحتشام امام الأطفال والخدم ، فلا يدخلوا البيت ـ الذي هو عورة ـ أوقات الراحة الا بعد الاستئذان (٥٩).

ويضع عن القواعد من النساء فريضة الحجاب ، كما يرفع عن الأعمى والأعرج والمريض الحرج (لعله للتساهل معهم) ، كما يرفع الحرج عن الاكل في بيوت الأقارب والأصدقاء ، ويأمر بالسلام عند دخول البيوت. وبعد ان يبين بعض آداب المجتمع ، وعدم التسلل الى البيت عند وجود الاستنفار للحرب أو ما أشبه ، الا بعد اذن القيادة ، ينهى عن دعاء الرسول كدعاء بعضهم بعضا ، ويحذر المتسللين لواذا من فتنة أو عذاب أليم. ويختم القرآن الحديث مذكرّا بأن الله محيط علما بالناس وانه ينبئهم بما عملوا.

٢٥١

سورة النّور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)

٢٥٢

الاسرة سور الفضيلة

هدى من الآيات :

تبدأ هذه السورة المباركة بكلمتين :

الأولى : كلمة (سورة) وهي ما يعبر بها ، عن المجموعة المتكاملة ، من الآيات القرآنية.

فالسورة من جهة تشبه السور الذي يحيط بالبيت ، فيجعله مستقلا عن غيره ، ومن جهة أخرى تشبه السوار الذي يحيط بالمعصم فيعطيه زينة وجمالا ، وكما ان لكل مجموعة بشرية سورا يحيط بهم ، وهو الاسرة التي تمثل الحجر الأساس في بناء المجتمع.

الثانية : كلمة (فرضناها) فالسورة القرآنية جاءت لتكون ثابتة ومستقرة ومفروضة في المجتمع البشري ، وليكون الأخذ بها وتطبيق آياتها فرضا على جميع عباد الله.

٢٥٣

عند ما ينزل الماء من السماء تذهب كل قطرة منه ، في اتجاه يختلف عما ذهبت اليه القطرات الاخرى ، اما الآيات القرآنية فلم تتنزل لكي تتناثر هنا وهناك ، بل قدر الله لها ان تكون وحدة متراصة ، ضمن سور واحد هو القرآن الكريم ، تطبق كمجموع فلا تتبعض ، بل لا يمكن الأخذ بقسم منها وترك الآخر جانبا. هكذا فرض الله السورة.

وكما فرض الله السورة القرآنية ، فانه فرض الاسرة التي هي بمثابة سور الإنسان وحصنه ، الذي يلجأ اليه في الحياة الاجتماعية ، وهذا ما تؤكده آيات هذا الدرس من سورة النور.

وحيث انه لا يمكن فرض شيء الا بالقوة ، فقد فرض الله حرمة الاسرة بقوة العقوبات ، التي أوجبها بحق من يعتدي على نظامها في المجتمع الاسلامي ، حتى أننا لنلاحظ شدة العقوبة عليه ، إذ يجلد كل من الزانية والزاني مائة جلدة دونما رأفة.

وكما يفرض الإسلام عقوبة صارمة على الناكح بفاحشة ، كذلك يفرض على من يزني بلسانه ، فيرمي الأبرياء والبريئات بتهمة الزنا. إذ يعتبر ذلك نوعا من الاعتداء على سلامة البيت الاسري ، الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بسمعته النظيفة ، فالبيت الذي تلوكه الالسنة ليس محلا آمنا للحياة المستقيمة.

وبقدر ما يؤكد القرآن الحكيم على حرمة الزنا ، فهو يؤكد على حرمة الاتهام ، إذ يطالب المتهم بإثباتات كافية ، لان الاتهام ذاته قد يكون وسيلة لاشاعة الفاحشة ، والمجتمع الذي تسقط فيه قيمة الشرف العائلي يسهل عليه الهبوط الى حضيض الفواحش.

وبالرغم من الغلظة التي لا بد ان نقضي بها على الانحرافات الخلقية في

٢٥٤

المجتمع ، يؤكد القرآن على ان للتوبة بابا واسعا فتحه الله أمام الناس كي يصلحوا ما أفسدوه ، لان الله سبحانه وتعالى ـ وهو خالق الإنسان ـ يعلم بما أودعه في هذا الكائن من شحنات غريزية تبرر الزلل والسقوط لديه ، فلو لا فتح أبواب التوبة له ، فانه لن يتمكن من النهوض بعد السقوط.

بينات من الآيات :

[١] سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

أنزل الله السورة فأوجبها ، وحافظ عليها ، برغم كل الأهواء ، والشهوات والضغوط ، التي تحاول سلب القرآن قدسيته ومحتواه. والآيات الواضحة التي جاءت في السورة ، هي التي تذكّر الإنسان. لأن قلبه مفطور على الحقائق ، وانما يحتاج الى مذكر يثير فيه كوامن الفطرة ودفائن العقل.

الحدود الشرعية حصانة المجتمع :

[٢] بالرغم من ان الاسرة تبدأ عمليا بالزواج ، الا ان القرآن لا يبدأ بذكره ، بل يذكر عقوبة الزنا أولا ، والسبب أنه من دون قانون يحصن الاسرة ويحفظها من الانحراف والاعتداء ، تسقط كل القوانين الاخرى ، فما فائدة الحصن الذي لا يحميه جدار رفيع؟

وما هي فائدة الزواج في البلاد الغربية ، التي يجد فيها قطبا الاسرة الطريق مفتوحا لإشباع الغريزة الجنسية خارج البيت؟

إذن تبدأ الاسرة في الواقع عند ما تعطى لها حصانة ، بفرض العقوبة على من يخترقها.

٢٥٥

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ

الجلدة هي الضربة التي تلامس جلد الإنسان ، ولان ما تلذذ به الزاني كان عن طريق جلده ، الذي لامس جلد الجنس الآخر ، فعليه ان يتذوق الألم عقابا له على هذه اللذة المحرمة. صحيح ان النفس البشرية تتألم لمنظر إنسان عار يجلد مائة جلدة ولكن يجب ان لا ننسى أنه انتهك حرمة دين الله. فاذا سمحنا له بالهرب من طائلة العقوبة ، فذلك يعني ان نعرّض المجتمع كله للفساد ، لذا ينهانا القرآن ان نرأف بالزناة لأن التشديد عليهم يصلحهم من جهة ، ويكون رادعا للآخرين عن التورط في هذه الجريمة البشعة من جهة أخرى.

وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ

ولعله لذلك أكد القرآن هذا الحكم بقوله سبحانه :

إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

ان الحدود الشرعية ذات قيمة أساسية في المجتمع ، وكثير من الناس تأخذهم الرأفة حينما يعدم قاتل أمام أعينهم ، أو يجلد الزاني ، أو تقطع يد السارق ، دون ان يعرفوا خلفية هذا العمل العظيم ، فاعدام القاتل ـ مثلا ـ يمنع القتل عن الكثيرين ، وبالتالي يمنح الحياة للمجتمع ، وهكذا جلد الزاني يحصن الاسرة ، وقطع يد السارق يحافظ على ثروات الناس.

وهكذا إذا أنتشر الزنا في المجتمع فان بيوتا وأسرا ستتدمر ، وان أطفالا ابرياء سيضيعون ، أو سوف يتربون على العقد المتراكمة ، التي تتحول الى جرائم بشعة. أوليس أكثر الذين دمروا الحضارات كانوا من أبناء البيوت الفاسدة التي لم تعرف شرفا للأسرة؟

٢٥٦

ولأن هذا القسم من الناس لا يعرفون كل هذه الحقائق ، تأخذهم الرأفة السلبية على حساب الدين ، فقد يعطلون الحدود. ولكن من يؤمن بالله ، ويعلم بأنه أرأف بعباده منه ، وانه عند ما يأمر بجلد الزاني ، فان في ذلك مصلحة لكل الناس بل للزاني نفسه ، لا تأخذه هذه الرأفة.

ثم يقول ربنا :

وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

لا بد ان يكون الجلد في محضر من المؤمنين ، لان قيمة العقوبة لا تكمن في أثرها على الجاني فحسب ، بل لا بد ان تنعكس على المجتمع. والواقع ان حد الزنا ليس واحدا ، بل هناك ظروف مختلفة ، تختلف العقوبة بموجبها ، وفيما يلي حديث شريف يجمع بين مختلف الحدود :

جاء في تفسير علي بن إبراهيم : «انه احضر عمر بن الخطاب ، ستة نفر أخذوا بالزنا ، فأمر ان يقام على كل واحد منهم الحد ، وكان أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ جالسا عند عمر ، فقال : يا عمر ليس هذا حكمهم ، قال : فأقم أنت عليهم الحد ، فقدم واحدا منهم فضرب عنقه ، وقدم الثاني فرجمه ، وقدم الثالث فضربه الحد ، وقدم الرابع فضربه نصف الحد ، وقدم الخامس فعزره ، وأطلق السادس ، فتعجب عمر وتحير الناس. فقال عمر : يا أبا الحسن ستة نفر في قضية واحدة أقمت عليهم خمس عقوبات وأطلقت واحدا ليس منها حكم يشبه الآخر؟! فقال : نعم اما الاول فكان ذميا زنى بمسلمة فخرج عن ذمته فالحكم فيه بالسيف ، واما الثاني فرجل محصن زنى فرجمناه ، واما الثالث ، فغير محصن حددناه ، واما الرابع ، فرق زنى ضربناه نصف الحد ، واما الخامس فكان منه ذلك الفعل بالشبهة فعزرناه وأدبناه ، واما السادس مجنون مغلوب على عقله سقط

٢٥٧

منه التكليف» (١)

العفة سور المجتمع :

[٣] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ

من طبيعة الحياة الاجتماعية ان الشرفاء من الرجال أو النساء ـ لا فرق ـ ، لا يبحثون الا عن نظائرهم ، بينما نجد عكس ذلك لدى الهابطين خلقيا من الناس ، الذين يبحثون عن أمثالهم ، لذا ولخطورة الاختلاط ، فان الله يريد فصل مجموعة الزناة والزانيات عن المجتمع ، ليحصنه بسور العفة والشرف. ولعل في ربط كلمة الشرك بالزنا ، اشارة الى ان الزنا نوع من الشرك الخفي ، أو ليس ينطوي على عبادة الشهوات والهوى؟

وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ

لقد جاءت في هذه العبارة القرآنية رواية مأثورة عن الائمة (ع) ، في أنه يحرم نكاح الزانية أو الزاني ولذلك يجب على المؤمنين الابتعاد عن مجاميع الزناة ، نعم إذا تاب الزاني أو تابت الزانية جاز نكاحهما.

فقد روى محمد ابن مسلم عن الامام أبي جعفر عليه السّلام في قول الله عز وجل : «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً» قال : هم رجال والنساء كانوا على عهد رسول الله ، مشهورين بالزنا ، فنهى الله عن أولئك الرجال والنساء ، والناس اليوم على تلك المنزلة ، من شهر شيئا من ذلك أو أقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ / ص ٥٧٠.

٢٥٨

تعرف توبته. (١)

ولعل معنى كلامه (ع) والناس اليوم على تلك المنزلة ، ان سيرة الرسول تجري على الناس اليوم أيضا.

القذف بين الحد والتوبة :

[٤] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ

هنا يفرض الله عقوبة شديدة على من يرمي المحصنات ، بتهمة الزنا دون أن يأتي بأربعة شهداء عدول على ذلك ، ممن شهدوا الحادثة بأم أعينهم.

ولا يكتفي بذكر هذه العقوبة الشرعية ، بل يذكر عقوبة قضائية رديفة لها ، إذ يجب نبذ مثل هذا الإنسان بعد اجراء حد القذف عليه ، بإسقاط اعتباره في المجتمع ، لأنه بعمله هذا يكون قد فقد عدالته ، فلا شهادة له بعد ذلك ، ليس فقط في قضية الزنا ، بل وأيضا في سائر القضايا الاجتماعية ، كالعقود المالية ، وإثبات الهلال ، وسائر الموضوعات. وفي ذلك تأديب معنوي له ، بالاضافة الى التأديب البدني بالجلد.

ولا نجد كالقذف ، عقوبة صارمة على اللسان في التشريعات الاسلامية ، فلو قال شخص : ان فلانة زنت. عليه ان يحضر العدد الشرعي من الشهود العدول ، ولو شهد اثنان بالزنا ثم قالا ان هناك شخصين آخرين رأيا ما رأيناه ، وهما في الطريق لا يمهلان ، انما يجلد كل منهما ثمانين جلدة على الفور ، إذ لا تثبت شهادتهما الا إذا

__________________

(١) المصدر / ص ٥٧٢.

٢٥٩

دخل أربعتهم دفعة واحدة ، ليشهدوا لدى الحاكم على عملية الزنا ، والإسلام الذي فرض عقوبة الجلد أو الرجم على مرتكب الزنا ، هو الذي منع قبول الشهادة لأقل من أربعة ، وهل تقع عملية الزنا علانية حتى يتمكن هذا العدد من الشهادة عليها؟

ان الجرائم الاخرى كالقتل والسطو يمكن ان تحدث أمام الناس ، أما الزنا فان الحياء البشري الذي أودعه الله في فطرة كل إنسان يمنع وقوع هذه العملية جهارا أمام الآخرين ، فكيف يرى هذه العملية أربعة وبكل وضوح؟ انه لا يقع الا في حالات نادرة جدا مما يدل على ان هذه العقوبة الشديدة سوف تختص واقعيا بالذين يستهترون بالحدود الشرعية ، وبآداب العرف العام ، دعنا نقرأ النصوص التي تبين أحكام الشهادة على الزنا :

عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه السّلام :

«لا يرجم الرجل والمرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع والإيلاج والإدخال كالميل في المكحلة» (١)

وعن حكمة اشتراط الشهود الاربعة ، يروي ابو حنيفة امام المذهب الحنفي عن الامام الصادق عليه السّلام ، فيقول قلت له : أيهما أشد الزنا أو القتل ، قال فقال : «القتل» ، قال (ابو حنيفة) فقلت : فما بال القتل جاز فيه شاهدان ، ولا يجوز في الزنا الا أربعة؟ فقال لي : «ما عندكم فيه يا أبا حنيفة؟» قال : قلت ، ما عندنا فيه الا حديث عمر : ان الله اجرى في الشهادة كلمتين على العباد ، قال : «ليس كذلك يا أبا حنيفة ، ولكن الزنا فيه حدان ولا يجوز ان يشهد كل اثنين على واحد. لأن الرجل والمرأة جميعا عليهما الحد ، والقتل انما يقام الحد على القاتل ، ويدفع عن المقتول» (٢)

__________________

(١) المصدر / ص ٥٦٩.

(٢) المصدر / ص ٥٧٤.

٢٦٠