من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

شعور مؤقت قد يخبو مع الزمن في النفس البشرية ، فإنهم يدعمونها بالتقوى ، وهي الالتزام الدقيق بالتعاليم الاسلامية صغيرها وكبيرها ، والاهتمام البالغ بكل الأوامر الالهية.

٣٤١

وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)

٣٤٢

 وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً

هدى من الآيات :

في اطار الحديث السابق عن الطاعة للقيادة الشرعية التي أمر الله بها ـ تلك الطاعة التي هي أحد اهداف التربية السليمة ـ يبين هذا الدرس : ان هناك مقياسا واحدا وحقيقيا لمعرفة مدى تسليم الإنسان لربه ، وبالتالي لمعرفة مدى عمق الايمان وصدقه ، وذلك المقياس هو : مدى طاعة الإنسان لقيادته الرسالية التي تجسد أوامر الله سبحانه.

والطاعة المقصودة هي الطاعة المستقيمة في أوقات الشدة والرخاء لا في الرخاء فحسب ، لأن الإنسان قد يكون مستعدا للطاعة ، ولكن في حدود القضايا البسيطة التي لا تكلّفه شيئا من الجهد ، أما حينما يؤمر باقتحام الصعوبات في الحياة كالجهاد ، فانه ينكص على عقبيه ، خسر الدنيا والآخرة ، وكثير أولئك الذين يتظاهرون بالايمان بل ويحلفون بأغلظ الأيمان وأشدها انهم يطيعون القيادة عند الشدة الا أنهم حين تأمرهم القيادة بالخروج الى الحري ينكثون فاذا بادعائهم مجرد حلف غطاء لنفاقهم.

٣٤٣

ويؤكد ربنا سبحانه وتعالى على ضرورة الطاعة للقيادة الشرعية ، كالرسول (ص) ، واولي الأمر ، وانه يجب ان لا يقلق الإنسان بعد ذلك على المستقبل ، لان الله قد ضمنه للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، حيث وعدهم بالنصر والتأييد ، وأكد ان الرسول قد حمل الرسالة ، وأنتم حملتم طاعته.

ففي ساعة النصر ينسى الإنسان كل لحظات الصعوبة التي مر بها ، لذلك أكد الله سبحانه للمسلمين المؤمنين انه سيجعلهم خلفاء في الأرض ، بعد ان يهلك أعداءهم ، كما حقق ذلك للذين آمنوا وعملوا الصالحات من قبلهم ، والخلافة لا تشكل هدفا لذاتها ، بل هي وسيلة لهدف اسمى ، هو تطبيق حكم الله ، ومن ثم عبادة الله وحده وإسقاط سلطة الآلهة الباطلة.

وينهي القرآن الحديث في هذا الدرس بتسفيه فكر الكفار الذين يعتقدون بقدرتهم على فعل كل شيء ، إذ لا يمكن لأحد ان يقف أمام المد الايماني ، الذي تقوده رسالة الله ، ويتصدره المؤمنون الصادقون ، فليس الكفار بمعجزين في الأرض ، وليسوا بقادرين على ان يمنعوا حركة التاريخ من المضي قدما ضمن سنن الله في الطبيعة والمجتمع.

بينات من الآيات :

[٥٣] وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ

الى معترك الحرب وسوح الجهاد ، فقد أقسموا على ذلك بأغلظ الايمان الممكنة ، وهل يحتاج الإنسان الصادق للحلف حتى يفي بالوعد؟!

قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ

الطاعة الحق معروفة لان العمل يصدقها ولا تحتاج الى القسم ، فهل يحتاج

٣٤٤

الإنسان في البديهيات الحياتية الى القسم؟! بالطبع كلا .. لأنها قضايا معروفة لا داعي للحلف فيها ، لذلك ينبغي ان تكون الطاعة أساسا ثابتا في حياة المسلم ، وجزءا من كيانه ، فلا داعي لأن يجعلها في خانة الشواذ ، التي يحتاج صاحبها للحلف حتى يبرهن على صدقه فيها ، بل يجب تحويلها الى صبغة ثابتة في حياته.

إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ

فاذا خادعتم القيادة الرسالية بقسمكم ، فلن تخدعوا ربكم وهو الخبير بما تعملون ، وإذا كان عملكم رديئا فلن يغيّر القسم من طبيعته شيئا ، مهما كان مؤكّدا ومغلّظا.

دور القيادة ومسئولية الامة :

[٥٤] قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ

ان طاعة الرسول ـ وهكذا القيادة الشرعية من بعده ـ هي الطريق الى طاعة الله سبحانه ، ولا تعني طاعة الله شيئا من دون الطاعة للرسول ، ويخطئون أولئك الذين يقولون حسبنا كتاب الله ، رافضين طاعة القيادة الرسالية التي فرضها الله عليهم كي تحدد لهم المناهج الدقيقة والتفصيلية لمختلف التغييرات الحياتية.

هذا الموقف وان حاول أصحابه إعطاءه صبغة شرعية ، الا انه ـ في الواقع ـ نوع من التمرد على الله ، لذا تتكرر في الآيات القرآنية كلمة (الطاعة) ..

ولم يقل تعالى : قل أطيعوا الله والرسول ، بالرغم من ان طاعة الرسول امتدادا لطاعة الله ، بل كرر كلمة «أطيعوا» ليؤكد على الطاعة الثانية تأكيدا مباشرا ، وذلك لصعوبتها على كثير من الناس.

٣٤٥

ان طاعة الله قد تكون في الأمور الثابتة ، اما طاعة الرسول ـ التي هي أيضا طاعة الله ـ فهي اتباع منهج الله العملي في القضايا السياسية ، والشرعية ، وفي متغيرات الحياة العامة ، كما في الحوادث الواقعة (الجديدة).

ومن لم يفهم هذه الحقيقة فانه معرض للتمرد على الرسول ، ولمن يخلفه من بعده.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ

وهو تبليغ الرسالة.

وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ

وهو الاستجابة له فيما يأمر به.

والله يجازي كل إنسان على حدة ، دون ان يجعل مسئولية الناس على عاتق الرسول (ص) ، كما انه لا يكلف الرسول بان يفرض الطاعة عليهم.

وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا

لأنكم تصلون بذلك الى فهم حقيقة الحياة.

ونستوحي من هذه الآية تأويل قوله سبحانه في آية مضت آنفا : «وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» حيث نعرف ان طاعة الرسل وأوصياءهم وسيلة للهداية ، وان مخالفتهم طريق الضلال.

وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ

وبالرغم من أننا نعتقد بهذه الفكرة بصفتنا مسلمين ، الا أننا حين نضعها موضع

٣٤٦

التطبيق يثقل علينا الأمر ، لان الإنسان بطبيعته يحاول التهرب من المسؤولية ، وإلقاء الاخطاء على كاهل الآخرين ، أو يلقي بمسؤولية عدم قيامه بواجباته على عاتق القيادة ، أيّا كانت ، فالابن يلقي التبعة على الأب ، والتلميذ على الأستاذ ، والمدارس على ادارة المدرسة ، وادارة المدرسة على الوزارة المختصة بها ، وهكذا ..

فلكي يتنصل كل واحد منا من ثقل المسؤولية التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال تجده يوزع الاتهامات يمينا وشمالا ، ولا يبخل بها حتى على قيادته ، بل انها تنال الحظ الأوفر منها ، وهذه فكرة ضلال في نفس الوقت.

هدف الدولة الاسلامية :

[٥٥] وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

وهنا ثلاثة اسئلة لا بد من الاجابة عليها :

الاول : ما هو الربط بين هذا الوعد بعد الأمر بالطاعة؟

الثاني : لماذا أكّد القرآن على كلمة «منكم»؟

الثالث : ما معنى الاستخلاف في الأرض؟

الجواب أولا : لان الطاعة للقيادة أمر صعب جدا ، ولا يمكن ان يلتزم الإنسان بها مخلصا تمام الإخلاص ، الا ان يكون وراءه هدف محدد.

وحينما تسعى جماعة مؤمنة لتحقيق الاستخلاف في الأرض ، فان الإفراد يتنازلون مرحليا عن انانيّتهم ، ويذوّبون أنفسهم في بوتقة القيادة ، وهذا يجعل كل واحد منهم يلبس شخصية جديدة ، هي شخصية المجموع ، ويتمثل بالتالي شخصية

٣٤٧

القيادة.

ثانيا : جاءت كلمة «منكم» لتبين بأنّ الاستخلاف سنّة جرت في السابقين ، وهي ليست حكرا على أولئك ، بل تجري فينا أيضا ، ومن سيأتي بعدنا من المؤمنين ، إذ ليست هذه السنّة حكرا على فئة محدّدة في زمن محدد ، بل يكفي أن يحقّق شرطا «الايمان والعمل الصالح» لتأخذ هذه السنّة مجراها في أيّ مجتمع.

أما الجواب عن السؤال الثالث :

أـ فقال جماعة من المفسّرين إنّ الاستخلاف يعني ذهاب طائفة من الناس ، وحلول أخرى محلّها.

ب ـ وقال آخرون إنّ معنى الاستخلاف هو إكرام الله المؤمنين بجعلهم أئمة الناس ، ليقوموا بتطبيق الشريعة ، كما استخلف الأنبياء والأوصياء والصّالحين من المؤمنين من قبلهم.

والواقع إنّ الخلافة كما جاء في (أ) ، فهذا هو المعنى الضيّق للكلمة ، فكل الناس خلفاء لمن سبقهم ، حتى الكفار منهم ، فلا داعي للتخصيص ، لأن الله وعد المؤمنين بالخلافة عامّة.

وعموما فإن الخلافة في الأرض هي القيادة التي يهبها الله لفئة من الناس ، لأنهم يتبعون ما أنزل عليهم من قيم.

إذن فواقع الاستخلاف يعني أمرين :

الاول : انّ الله يعطي السلطة للمؤمنين ويمكّن لهم تمكينا.

الثاني : ان هذه السلطة لا تكون الا بإذن الله الذي يحققها ويعطيها الشرعية.

٣٤٨

وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ

فسلطتهم ليست كأيّ سلطة مادية ، بل هي سلطة روحية تهديها القيم الرسالة.

وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ

الذي عاشوه في ظل السلطات الجائرة وهم يقاومونها حتى يقيموا دولة الحق.

أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً

ان الهدف الحقيقي للحكم الذي يعطيه الله للإنسان ، ليس التسلط على رقاب الناس ، فهو ليس هدفا بذاته ، بل الحكمة منه هو عبادة الله وعدم الشرك به.

ان توفّر ظروف التخلص من الضغوط الشركية حيث يرتاح الإنسان من شبكات الاستعباد التضليلية والمالية والسلطوية هي أعظم نعمة يهبها الله للإنسان.

ومن المعروف ان الشرك لا يتحقق بعبودية الصنم ، بقدر ما يتحقق بعبادة الطاغوت والخضوع لسلطته الجائرة ، أو بعبادة المال ، والأرض ، والعنصر ... إلخ.

ورفض الشرك انما هو رفض للقيم التي يتغذى منها ، ولعل هذا ما نلاحظه في التعبير القرآني ، إذ لم يقل تعالى : «لا يشركون بي شخصا» مثلا ، وانما أطلق وقال : (شيئا) ، ذلك لان من يخضع للطاغوت لا يعبد جسده ، وانما يعبد الصولجان الذي بيده ، والقوة التي تحت سيطرته ، وهكذا من يخضع للأثرياء ، انما يعبد الدينار والدرهم.

وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ

فاذا قامت السلطة السياسية (الشرعية) فان كل من يكفر يكون فاسقا ، إذ لا

٣٤٩

يملك اي تبرير لكفره.

والواقع ان التأويل الحق والشامل لهذه الآية انما يكون عند تحقق وعد الله بالتمكين التام للدين المختار ، في كل أقطار الأرض ، كما جاء في أحاديث مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وآله انه قال :

«زويت لي الأرض ، فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ أمتي ما زوي لي منها»

وقال ـ صلّى الله عليه وآله ـ :

«لا يبقى في الأرض بيت مدر ولا وبر الا ادخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز ، أو ذل ذليل ، أما ان يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، واما أن يذلهم فيدينون بها» (١)

أما متى يتحقق ذلك؟ فانه إنما يتحقق عند قيام المهدي من آل محمد حيث جاء في حديث اتفق عليه المسلمون :

«لو لم يبق من الدنيا الا يوم ، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي ، اسمه اسمي ، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا» (٢)

[٥٦] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

ان اقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من التشريعات الالهية التي تدخل ضمن نطاق طاعة الله سبحانه ، لذلك فهما لا يكفيان دون طاعة الرسول ، ولعل المراد بالرحمة

__________________

(١) المصدر / ص ٦٢١.

(٢) تفسير «نمونه» / ج ١٤ / ص ٥٣٠.

٣٥٠

هنا النصر على الأعداء.

الانتصار وليد الثقة :

لا تنتصر أمة لا تثق بطاقاتها وقدرتها على الانتصار.

فلا ينبغي ان يقف حاجزا بين المؤمنين واقامة حكومة الإسلام وسلطة الشرع في الأرض ما يجدونه من قوة الطغاة ، وثروة الأغنياء ، أو جهل الناس ، بل اعتقادهم بأن الكفار قد سلبوا قدرتهم وإرادتهم على الصراع والانتصار باطل.

فلا تخشى ايها المؤمن الكفار!

[٥٧] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ

لا تظنوا ان السلطات الكافرة قد سلبتكم الإرادة ، وأوصلتكم الى حافة العجز.

وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ

فمن الناحية المادية لا قوة لهم تمنع المؤمنين من أخذهم حقهم ، ومن الناحية المعنوية فإن مصيرهم الى النار وبئس المصير ، وهذا يعني ان الله قد رفع عنهم دعمه ، فلن يجدوا من ينصرهم على المؤمنين ، «ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ»

ويا ليتنا نحن المسلمين اليوم ، نتخذ هذه الآية الكريمة شعارا في حياتنا السياسية ، وتحركاتنا الاجتماعية ، فنقاوم أكبر عقبة كأداء في حياة المسلمين الذين يعتقدون بتفوق الكفار عليهم ، وانهم قادرون على منعهم من أخذ حقوقهم ، وتحقيق اهدافهم ، مع أن الواقع عكس ذلك تماما.

٣٥١

والله يفند هذا الاعتقاد الباطل ، بوعده المؤمنين بالانتصار ، وببيان ان الكفار عاجزين وضعفاء.

٣٥٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ

٣٥٣

حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)

٣٥٤

تعاليم الإسلام في دخول البيوت

هدى من الآيات :

في اطار حديث سورة النور عن العلاقات الاسرية ، وضرورة تنظيمها ، يحدثنا ربنا في هذا الدرس عن بعض القضايا التي تبدو جزئية ، ولكنها ـ في الواقع ـ هامة ، لأنها ترسم حدود الاسرة ، والتي من بينها ضرورة تنظيم التزاور بحيث تستطيع الاسرة ان تبقى آمنة في مأواها ، بعيدة عن العيون الغريبة ، فيحرم على المملوك والأطفال دخول الغرف ، الا بعد الاستئذان ، وذلك في أوقات الاستراحة في الليل وعند الظهيرة ومن قبل صلاة الفجر.

وينهى الأطفال الذين يبلغون الحلم ، ان يسترسلوا على عادتهم في دخول البيوت بلا استيذان في غير الأوقات الثلاث.

ولان أعظم حكمة في ذلك هو المحافظة على العفة الاجتماعية ، يحدثنا السياق بهذه المناسبة عن القواعد من النساء ، وهي اللاتي لا يرغب في زواجهن أحد لكبر سنهن ، فيسوغ لهن وضع ثيابهن الظاهرة كالخمار والجلباب بشرط عدم التبرج بزينة

٣٥٥

من أجل اثارة شهوة الرجال.

ثم يبين السياق حكم الدخول في البيوت والاكل منها بالنسبة الى العائلة الكبيرة ، ويبدأ ببيان حكم ذوي العاهات فيجوز دخولهم جميعا البيوت وتناول الطعام بلا استيذان.

بينات من الآيات :

[٥٨] لتزكى اجواء المجتمع ، ويبقى الاحتشام والعفاف في البيئة الاسرية ، لا ينبغي السماح للعبيد والأطفال باقتحام غرف النوم والراحة من دون الاذن.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ

من العبيد والإماء.

وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ

وهم الأطفال من العائلة ، إذ يجب عليهم استئذان أصحاب البيوت في أوقات معينة ، وهي :

ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ

لأنها أوقات الراحة التي يتواجد الناس حينها في بيوتهم ، بعد ان يكونوا قد حضروا صلاة الجماعة في المساجد ، أو قاموا بأعمالهم المختلفة ونشاطاتهم المتنوعة لكسب الرزق ، وتحقيق المعاش ، وهكذا ينظم الإسلام الوقت بدقة ، فجزء لاجتماع المسلمين في المساجد كي يؤدوا الفرائض ويتبادلوا الأفكار والخبرات بينهم ، وجزء للسعي والعمل ، وجزء للراحة والاستجمام ، حيث يستعيدوا القوة والنشاط ويكملوا

٣٥٦

دورة الحياة.

ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ

أحوال يجب ان لا يظهر عليها الآخرون ، لأنها أوقات الراحة ، وكم يرتاح الإنسان نفسيا حين يطمئن بأن لا أحد يدخل عليه إذ يضع عن نفسه الكلفة.

لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ

وأما بعد هذه الأوقات فلا مؤاخذة عليكم ولا عليهم ولا عليهم اي الأطفال والعبيد والإماء أن يدخلوا عليكم دون استئذان.

طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ

اي تأخذ حركة الدخول والزيارات مجراها عليكم بعد المنع والتوقف ، وبالطبع ان الدخول بلا استئذان يختص بالمتعلقين بالشخص دون الأجانب.

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

فهو عليم بمصالحكم ، وحكيم إذ يضع لكم هذه الأحكام الرشيدة ، و جاء في النص المروي عن الامام الباقر عليه السّلام في تفسير الآية :

«فلا يلج على أمه ولا على أخته ، ولا على ابنته ولا على من سوى ذلك الا بإذن ، ولا يأذن لأحد حتى يسلم ، فان السّلام طاعة الرحمن» (١)

فما هي فائدة هذا الحكم؟

قبل ان نبين الاجابة على ذلك نورد ملاحظة هامة هي : ان الإنسان قد يكون

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٣ / ص ٦٢٢.

٣٥٧

مهتما بحدود التنظيم الاجتماعي وقيوده ، دون أن يهتم بجوهره ومحتواه ، وقد يعكس فيكون مهتما بجوهر التنظيم وهدفه ، ولكنه يتجاهل الحدود التي هي وسائل تحقيق الهدف ويعتقد بأنها غير هامة أو قشرية.

بينما يريد الإسلام من ابنائه الاهتمام بجوهر التنظيم وبحدوده ، اي بهدفه وبالوسائل التي تحقق هذا الهدف.

ان جوهر التنظيم الاجتماعي هو الطاعة الخالصة لله تعالى ، والبعيدة عن الأهواء والمصالح الآنية ، وكل أنواع العصبيات الجاهلية ، وتبرز أعلى مظاهر الطاعة لله ، في الطاعة للقيادة الرسالية وتتدرج هابطا حتى تصل الى ولي الأمر الحاكم الشرعي ، وكذا ولي الاسرة ورؤساء كافة التنظيمات الاجتماعية والسياسية الشرعية.

والاسرة الفاضلة هي الاسرة القائمة على أساس التعاون البنّاء ، ولا يأتي ذلك الا عن طريق الطاعة السليمة للقيم الحق ، بحيث لا تكون هذه الطاعة خالية من قانون يحددها ، بل يجب ان تصب في قنوات قانونية ، فلا يكتفي الإنسان المنظم بالطاعة لقيادته أو ولي أمره أو رب أسرته ، بل ان يلتزم أيضا بحدود القوانين الاجتماعية المفروضة ، فقد لا تبدو هذه القوانين ذات اهمية ، ولكنها حينما تطبق في الحياة الاجتماعية تصبح ذات نفع عظيم ، مثلا حينما يلزم الإسلام المسلم الوفاء بالعهد والالتزام بالوعد ، أتدري كم ينظم هذا الأمر حياة المجتمع ، أو كم يحافظ على الوقت الذي يذهب هدرا؟ والي اي حد يحافظ على علاقات الناس متينة وطيبة؟

وهكذا حين يفرض الإسلام تنظيم الوقت ، فلأنه حاجة اجتماعية ، وضرورة حياتية ، إذ لا يمكن للإنسان العمل في أي وقت يريد ، أو التبضع متى شاء ، أو حتى النوم متى يرغب ، بل هناك أوقات محدودة لكل نشاطات الحياة وشؤونها ،

٣٥٨

وبالرغم من ان تنظيم الوقت يبدو لكثير من الناس عملا ثانويا ، الا انه أشبه ما يكون بالقناة التي تحافظ على مياه المطر من التشتت ، لأنه يحافظ على طاقات الإنسان من التشتت ويجمع طاقات الجماهير ليصبها في قناة واحدة.

من هنا نجد تأكيدا في هذه الآيات على ضرورة ملاحظة أوقات الراحة للإنسان ، والتي عادة ما تكون قبل صلاة الفجر وعند الظهر ، وكذا بعد العشاء ، وبمعنى آخر ضرورة مراعاة أوقات الآخرين وبرامجهم.

وحتى الأطفال يجب عليهم الاستئذان في هذه الفترات لتبقى البيوت محلا آمنا يستطيع الإنسان الاستراحة فيه أنى شاء.

ولتنفصل أوقات الراحة عن أوقات العمل ، كي يكون هناك وقت للراحة ، كما ان هناك وقتا للسعي والكدح ابتغاء فضل الله. والذي يجد وقتا كافيا للراحة ، يستطيع الجد والإبداع عند العمل ، إذ يجب ان تكون أوقات الراحة ـ كالقيلولة في الظهر ـ منطلقا للتحرك نحو العمل من جديد ، وبروح نشطة.

وهذا القانون يوفر على الإنسان مزيدا من الوقت المنظم ، مما يعني مزيدا من التقدم الحضاري.

وكلمة أخيرة :

ان حكمة هذا التشريع الهام هي ابعاد الأطفال عن بعض المظاهر غير المناسبة المحتشمة في غرف النوم ، حيث تثيرهم وتزرع في نفوسهم حب الزنا ، أو حتى عداوة أحد الوالدين ، مما يتسبب في العقد الجنسية ، وما تتبعها من نتائج خطيرة.

ولقد حذرت النصوص الشرعية من ذلك واعتبرته نوعا من التشجيع على الزنا ، إذ يسقط الحياء وتصبح المعاشرة الجنسية عملا عاديا عندهم ، وسوف يمارسونها عند

٣٥٩

أول بوادر الحاجة الفسيولوجية إليها.

حتى جاء في حديث مأثور عن النبي (ص) :

«إياكم وان يجامع الرجل امرأته ، والصبي في المهد ينظر إليهما» (١)

اما غير الأطفال والعبيد فعليهم الاستئذان ، وقد سبق الحديث عن ذلك في آيات مضت وعلى الأطفال إذا بلغوا سن الرشد ان يتوقفوا عن دخول الغرف الا بإذن.

[٥٩] وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا

في الدخول.

كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

من الأحرار.

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

وهذا التكرار تأكيد على أهمية هذه الأوامر الالهية ، وانها ذات أثر عميق في المجتمع ، وان لم يستطع الإنسان الاحاطة علما بجميع أبعادها ، وآثارها الآنيّة ، والمستقبلية ، لقلة علمه وضعف عقله ، مما يجعله يستهين بها ، فلا يبذل جهدا للالتزام بها وتطبيقها بدقة.

لهذا يجب ان تكون حكمة الله وعلمه مقياسا لقوانين المجتمع البشري ، لا أهواء الإنسان وتخرصاته.

[٦٠] وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ

__________________

(١) تفسير نمونه / ج ١٤ / ص ٥٤٦ نقلا عن موسوعة بحار الأنوار ج ١٠٣ / ص ٢٩٥.

٣٦٠