من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

فاذا اعتمد البعض على قوة بشرية فان المؤمن يعتمد على الله الذي لا يموت وحده ، ولا يعتمد حتى على الأنصار والاصحاب ، فقد تزل قدم هؤلاء أو تعثر فييأس ويترك الجهاد.

وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ

ان القيادة أو الطليعة الرسالية هم الاقلية في بدء الانطلاق ، وهم الغرباء عن واقعهم ، إذ يشعرون بالوحشة وهيبة الطريق ، كما يتحسسون الفراغ الاجتماعي ، ولكي يقاوموا هذه السلبيات فان عليهم التعويض عن كل ذلك بالارتباط المتين والعميق بالله سبحانه وتعالى ، لان ذلك يثلج صدورهم ، ويسكن روع قلوبهم ، فيعطيهم الثبات والطمأنينة.

وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً

يعني ان الله قادر على إحصاء ذنوب الذين يتركون المؤمنين الحاملين للرسالة ، فلا تشغل الفئة المؤمنة نفسها بإحصاء سلبيات وذنوب الآخرين من المخالفين ، ولا تفكر في رفض الناس لها ولرسالتها ، وانما عليها المضي قدما على خطها ، تاركة ما يجري حولها الى الله ، فهو الذي يحصي ذنوب الناس وكفى به خبيرا بها.

٤٦١

الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً

___________________

٦٣ [هونا] : والهون مصدر الهين في السكينة والوقار.

٦٥ [غراما] : الغرام هو أشد العذاب.

٤٦٢

(٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)

٤٦٣

عباد الرحمن

هدى من الآيات :

في إطار التذكرة بالتوحيد الذي هو قاعدة الإيمان بالرسالة يبيّن الدرس بعض أسماء ربنا ، وبالذات أسمي «الرحمن» و «تبارك».

ويتجلى اسم «الرحمن» في خلق السموات والأرض وتدبير هما بالرغم من نفور الكفار من هذا الاسم الكريم ، ورفضهم السجود للرب الذي أحاطت بهم رحمته ، وزعموا انهم لا يسجدون لمن يأمرهم الرسول (استهزاء به وتحديا له).

بينما يتجلى اسم «تبارك» في ذلك البناء المتين الذي تعالى فوقنا ، والسراج المنير الذي تعلق به كالقنديل ، والقمر المنير الذي زينه وفاض نوره الهادىء على الربايا والسهول.

وهكذا في توالي الليل والنهار ليكون فرصة لمن يريد ذكر الله ، أو أراد له شكورا.

٤٦٤

إن أسماء الله تتجلى في أفئدة الذاكرين الشاكرين ، فيكونون عباد الرحمن حقا. فتراهم يمشون على الأرض هونا لا أذلاء ولا متبخترين ، ويواجهون الجهل بالسلام ، ويبيتون الليل بالتبتل ، ويتطلعون لاتقاء نار جهنم اللاهبة البئيسة ، وإذا أنفقوا اقتصدوا ، فلم يبخلوا ولم يترفوا.

ويواصل الدرس التالي الحديث عن سائر صفات هؤلاء الصالحين.

بينات من الآيات :

فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً :

[٥٩] يحدثنا القرآن الكريم في هذه المجموعة من الآيات عن أمرين متقاربين :

الأول : الايمان بالله.

الثاني : كيف يتجلى الايمان في سلوك الإنسان الصادق. لتوضيح هذا الأمر لا بدّ أن نتذكر أن هناك فرقا بين الايمان بالله وبين معرفته ـ حقا ـ لأن هناك درجات في مسيرة التوحيد وهناك مفارقات ينبغي أن نعرفها وهي كما يلي :

١ ـ فقد يكون الايمان إجماليا ، كما لو عرف الإنسان أن وراء الاكمة أشجارا ، أو أن وراء الجبل غابة ، وربما يؤمن بذلك عن طريق العلم بكثافة الأمطار وراء الأكمه ، أو وجود الحيوانات المختلفة الآتية من وراء الجبل ، أو عن طريق مخبر صادق يثق به.

وقد يكون الايمان عرفانيا ، وذلك حينما يدخل الغابة أو يشرف عليها من قريب ، ويزداد هذا العرفان كلما أحاط بما في الغابة من جزئيات.

٢ ـ الذين يؤمنون بالله عبر آية واحدة من آياته ، قد لا يندفعون إلى السلوك

٤٦٥

المتكامل الذي يصوغ الايمان العرفاني به شخصية المؤمنين. عبر معرفتهم بآيات الله المختلفة التي يرونها.

٣ ـ إذا أراد الإنسان اكتشاف حقيقة ايمانه ، وهل وصل إلى درجة العرفان ، أم لا يزال ايمانه بسيطا يخرجه عن حدود الجحود والكفر فقط ، فان عليه أن يبحث عن آثار الايمان الصادق ، فاذا كانت موجودة بصورة كاملة على سلوكه وتصرفاته كان وإلا فلا.

لذا نجد القرآن يربط بين من يؤمن بالله إيمانا كاملا ـ والذي ينعكس في صورة توكل على الحي الذي لا يموت ـ وبين سلوكيات عباد الرحمن كما تصفهم الآيات الكريمة.

٤ ـ كلما عرف الإنسان ربه بالتقرب إليه من خلال العبادة ، كلما عرف نفسه بصورة أكمل ، فهاتان معرفتان متقابلتان ، وسبب المقابلة إن الله هو خالق الإنسان ، فايمانه بالإله الخالق يدعوه للايمان بالعبد المخلوق. مما يجعله عارفا بمدى عبوديته وضعفه ، أو محدوديته وضيق أفقه ، وبين الأمرين (معرفة الله ، ومعرفة النفس) تتنامى نحو التكامل الشخصية الايمانية لدى الإنسان المؤمن.

كذلك يبصرنا القرآن بآيات ربنا المبثوثة في الآفاق ذكرى من بعد ذكرى فيقول تعالى :

الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

حينما يقف الإنسان على ربوة تل ، فيرمي ببصره نحو الأرض الممتدة من تحته ، أو السماء الواسعة من فوقه ، فانه ينبهر بكل ذلك ، وهنا وفي لحظات الانبهار بالذات ، عليه أن يجعل الانبهار سبيلا إلى الايمان بالله ، فكلما وجد عظمة وقدرة

٤٦٦

وجمالا وروعة تتجلى في الخلق ، كلما تعمق إيمانه بعظمة الخالق.

ولعلّ خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام ، دليل على أنه يطورهما باستمرار ، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ، وهذا لا يدل على عجز الله ، بل يشير إلى استمرار الهيمنة الالهية عليهما ، فلم يتركهما بعد الخلق لشأنهما سدى.

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ

وعلى هذا فهناك علاقة سياقية بين كلمتي «فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» و «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» حيث تشير الآية إلى ان الذي خلق السماوات والأرض يشرف عليهما ويدبر أمرهما.

و «ثُمَّ اسْتَوى» : أي هيمن على العرش ، وهو رمز التدبير بعد التقدير والإمضاء بعد القضاء.

الرَّحْمنُ

تتكرر كلمة الرحمن في مواضع كثيرة من هذه السورة ، ولعلّ الحكمة في ذلك انّ الرسالة الالهية هي أعظم منّة من ربنا علينا ، وانّ السبيل إلى الإيمان بها يمر عبر الإيمان بأن الله هو الرحمن ، وأنّ آيات رحمته في الخلق تجعلنا نثق بل نوقن انه لن يترك عباده في بؤر الجهل والضلالة. تتجاذبهم شهوات المترفين ، ونزوات المستكبرين.

إذا فلنؤمن برسالته التي يشكل إرسالها أكبر شاهد على رحمته.

فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً

أي فاسأل بهذا الأمر (خلق السماوات والأرض وعلى مراحل متتابعة

٤٦٧

ومتكاملة) خبيرا ينبّؤك به ، وهو ـ كما نعرف ـ من خلال الآية ، الله وجبرائيل (ع) فتكون هذه الآية مختصة بالنبي محمد (ص).

ولعلّ المراد من الخبير كل عالم من علماء الفلك والفيزياء والكيمياء وغيرهم ممن توصلوا إلى الاكتشافات العلمية التي تعرفنا بآثار رحمة ربنا سبحانه ، وبالتالي يكون هذا استشهاد بالعلم ، حيث يأخذ بأعناق المثقفين والمفكرين للايمان بآيات الله والاعتراف بالرسالة.

عند ما يتصور البشر ربه :

[٦٠] يتساءل الكفار : «وما الرحمن»؟ عند ما يؤمرون بالسجود له ظنّا منهم بأن الرسول يريد من وراء ذلك تعظيم نفسه ، وهذا سبب رفضهم الخضوع لله.

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا

أي هل تريد التأمر علينا بفرض السجود؟

إن المجتمع الجاهلي القائم في علاقاته الاجتماعية على أسس فاسدة ، كالعنف والاستغلال لا يمكنه أن يؤمن برحمانية الله ، وهو يحسب ان العلاقات القائمة في الكون تشبه العلاقات القائمة بين أبناء البشر ، فالمجتمع الجاهلي إذا تصور الله فانما يتصوره حسب مزاجه النفسي المستوحى من الخيال ، أو من الوضع الاجتماعي القائم.

فعند ما أراد المجتمع اليوناني تصور الله بادر مفكروه يضعون آلهة من التماثيل الحجرية واللوحات الفنية المتضاربة ، فلكلّ إله جيش وشعب ، وعنده حدود وإقليم ، ويستخدم شعبه وجيشه في محاربة الآلهات الأخر.

٤٦٨

وهذا الخيال يعكس التضارب القائم في ذلك المجتمع الاغريقي القديم ، فلأن وضعهم مليء بالصراع ، وعلاقاتهم مشحونة بالبغضاء ، تصوروا الله كذلك يشاركهم في المزاج والشعور (تعالى الله عما يصفون).

وهكذا كان يصنع المجتمع العربي قبل الإسلام فكل حزب بما لديهم فرحون ، لذا

جاء في الحديث المروي عن الامام الصادق (ع) :

«لو ان النملة تصورت ربها لتصورت له قرنين»

فما دامت القضية لا تتجاوز التصور ، فان النملة تمتلك القدرة على تصور الرب ، ولكن من واقعها وشعورها.

وقد وقع بعض البسطاء من المسلمين في ذات الخطأ ، فقالوا : ان الله شخص عنده لحية بيضاء طويلة ، ويركب الحمار لينزل الى الأرض في ليالي الجمع ، فكان بعضهم يضع حزمة علف على سطح بيته في كل ليلة جمعة ، حتى يأكل ما فيها حمار الله ، (سبحانه وتعالى عن الأمثال).

وسبب هذه التخيلات خضوع الإنسان لخياله المحدود عند تصور الله ، فيتصوره تارة من واقعة وطبيعته كإنسان فيحسبه كذلك ، أو من واقع المجتمع وطبيعته تارة أخرى ، فينعكس الوضع الاجتماعي على تصوره لله أيضا ، فلأن علاقة المجتمع الجاهلي بالتجمع الايماني مادية فهي صلفة ، فإنهم لم يكن بمقدورهم تصور الرحمة صفة من صفات الله ، فلا عجب ان يرفضوا أمر الرسول لهم بالسجود للرحمن. فقالوا : «وما الرحمن»؟

فهذا اسم جديد على واقعهم ليس بعيدا أن يستغربوا منه ، فواقعهم مشبع بالخوف والإرهاب وما الى ذلك من الصفات المشينة.

٤٦٩

وَزادَهُمْ نُفُوراً

لم يكن أمر الرسول لهم بالسجود لله الا لجمع شتاتهم. كي تشرق عليهم شمس الرحمة ، وتلفهم غمامة اللطف الالهي ، ولكنهم لعمق الاحساس بالارهاب والخوف وما أشبه من الصفات الرذيلة نفروا حتى من هذه الكلمة كما تنفر الإبل المذعورة.

ويعبر هذا النفور عن مدى الجهل الغارقين فيه ، والذي لا يزال جاهليي العصر يغرقون فيه أيضا ، ولا فرق بين الجاهليتين الا أن إحداهما حديثة والاخرى قديمة.

فلو نهض رسالي يدعو الشرق الملحد ، والغرب المشرك للسجود للرحمن ، واشاعة السّلام والعدل في أرجاء المعمورة لردوا «وما الرحمن»؟ أيضا ، وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ .

من آيات الكون :

[٦١] تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً

ربما تشبه كلمة البركة كلمة التكامل في منطقنا الحديث ، فالمبارك يعني واسع الخير وثابتة ، أو المتكامل الذي ينمو ـ وتعالى الله عن النمو لأنه ـ «الكامل الذي لا كمال بعده. إذ ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ، ولا أمد ممدود» كما قال الامام علي (ع).

فما معنى : «تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً»؟

ان الذي اعطى البركة للسماء هو الذي يعطي البركة للإنسان ، والبروج هي المواقع الظاهرة والمرتفعة في نفس الوقت ، وعادة ما يكون برج المدينة رمزها ،

٤٧٠

والشمس والقمر وسائر الكواكب والنجوم بروج للسماء ، والذي جعل الشمس والقمر والبروج هو صاحب البركة ، فالاولى أن نتوجه اليه دون غيره لأنه الرحمن ، فلما ذا لا نعرف هذه الصفة الحميدة من صفات ربنا؟

[٦٢] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً

لقد جعل الله كلا من الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر ، فلو دام الليل لانعدم المعاش ، ولو دام النهار لانعدمت الراحة.

ولكن متى يتذكر الإنسان؟ في الليل.

ومتى يحصل على النعم فيشكر الله؟ في النهار.

وكم هو جميل السياق إذ يقول : جعلنا الليل لمن أراد ان يذكر!

فحينما تهدأ الأصوات ، وتسكن الأحياء ، فيعم الصمت حيث الناس كل آوى الى فراش نومه ، فينبعث ضمير المؤمن حيّا ليناجي ربه «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً».

اما في النهار حيث ينهض الإنسان من نومه طلبا للرزق والمعاش ، لا لكي يطغى وانما ليشكر ربه ، ويصل بوظائف النعم التي وفرها له ، نجد انعكاس المعرفة الايمانية على سلوك عباد الرحمن الذين يصوغون به شخصيتهم من خلال الايمان العرفاني.

عباد الرحمن :

[٦٣] ان لعباد الرحمن الذين تتجلى أسماء الله وفي طليعتها (الرحمن) على

٤٧١

افئدتهم وسلوكهم صفات حسان كثيرة أبرزها :

١ ـ التواضع :

وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً

فعلاقتهم مع الطبيعة والناس علاقة الرحمة ، لأنهم عباد الرحمن ـ ولا غرابة ـ فقد انعكس اسم الرحمن الالهي على شخصيتهم فصيغت بقالب هذا الإسلام المقدس ، وهذا ما يدعوهم للسير هونا على الأرض ، مشية متواضعة لا كمشية المتكبرين على العباد والمفسدين في الأرض ، ولا كمشية الأذلاء والدونية ، لذلك جاء في الحديث في تفسير الآية :

«يمشي بسجيته التي جبّل عليها لا يتكلف ولا يتبختر» (١)

فعباد الرحمن يحبون حتى الأرض التي يضعون اقدامهم عليها ، وكما يقول المعرّي :

خفف الوطء فما أظن أديم

الأرض الا من هذه الأجساد

ولما يتعاملون به من خفة مع الأرض ، لا يسحقون حتى النمل ، ولا يقتلون حتى النبتة الصغيرة ، ولا ينفرون الحيوان ، بل يمشون عارفين بمواقع اقدامهم.

هذا بالنسبة للأرض ، أما بالنسبة للمجتمع فان علاقتهم علاقة رفق مع الآخرين ، وخلفية كل ذلك أنهم يتكيفون مع السنن والقوانين الالهية الثابتة ، في علاقاتهم مع الطبيعة والمجتمع ، مقتنعين بوجود سبل وأساليب ينبغي العمل وفقها ،

__________________

(١) المصدر / ص ٢٦.

٤٧٢

والسير في اطارها للاستفادة من الامكانيات الهائلة المودعة من قبل الله في الطبيعة ، وينعكس ذلك أيضا على مواقفهم الاجتماعية والسياسية ، فلأنها نابعة من فطرتهم النقية التي ترفض التكلف والتبختر فانها مشية معتدلة. لا تظاهر فيها ولا صخب. جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر عليه السّلام :

«الائمة عليهم السّلام يمشون على الأرض هونا خوفا من عدوهم» (١)

وهذا خلاف ما يفعله الآخرون ممن لا تشملهم الآية الكريمة «وَعِبادُ الرَّحْمنِ» فانا نجد علاقتهم مع الطبيعة والمجتمع علاقة قائمة على أسس فاسدة من الخشونة والعنف ، واستغلال الناس ، وتوجههم منصرف الى التمرد على الانظمة والقوانين الطبيعية ، مما نرى آثار ذلك في إفساد العلاقات الاجتماعية ، وانتشار التوتر والحروب بين الدول المختلفة.

٢ ـ الرفق :

وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً

لأنّ علاقتهم علاقة السّلام والأمن فإنهم يجيبون الجاهليين ـ ممن يخاطبونهم بالجهل ـ بقولهم : سلاما ، وقيل : ان المقصود بالسلام سلام الوداع ، اي انهم ينصرفون عن الجاهل بعد السّلام عليه ، عند ما يحتكون به دون مبادلته جهلا بجهل.

ولكن الأقرب الى قوله تعالى «قالُوا سَلاماً» انهم يبدءون كلامهم وعلاقاتهم مع الناس عن طريق السّلام ، وهو إبداء حالة من الأمن والعلاقة الايجابية مع الطرف الآخر.

__________________

(١) المصدر.

٤٧٣

٣ ـ قيام الليل :

[٦٤] وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً

قليل هم الذين يحيون ليلهم بالعبادة ، مكثرين من الصلاة والدعاء تضرعا لله وخوفا منه. والناس في نوم عميق ، والكثير من الناس من يطمح في الوصول الى مستوى عباد الرحمن ، ولكن لا يستطيع فلما ذا؟

لأن هذا القسم من الناس يريدون إجبار أنفسهم على الفضائل وهي لا تأتي بالإكراه ، وانما بصياغة الشخصية ، فاذا لم تنعكس آيات الرحمن على سلوك الإنسان ، فلا ينمي نفسه بالسجود له ليلا لأنه سيرى نفسه عاجزا أمام هجوم النوم ، أما عند ما تتجلى آيات الرحمن أمام ناظريه ، وتنعكس على سلوكه فتصوغ شخصيته ، آنئذ لا يستطيع النوم ليلا بل تتجافى جنوبهم عن المضاجع.

ففي وقت متأخر من احدى ليالي صيف مضى ، كنت نائما على سطح المنزل مستلقيا على فراشي ولما يستول عليّ النوم بعد.

وكان صاحبي على مقربة مني وعيناه تحملقان في آفاق السماء ، وكأنه أدرك عن طريق النجوم قرب الفجر فرأيته ـ كمن لدغته حية ـ يقفز من فراشه قفزا ، ويتوضأ بسرعة ليقف يصلي ، وهكذا هم عباد الرحمن.

فالأصل في كل فضيلة معرفة الله وإصلاح النفس ، فمن لا يعرف الله ، ومن ثم لا يصلح نفسه لا يحصل من الفضائل الاخرى على شيء ، إذ ليست المسألة مسألة تكلف بقدر ما هي سجية لقلب الإنسان.

٤٧٤

٤ ـ التقوى من النار :

[٦٥] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ

ان شهيق جهنم وزفيرها لا يعزب عن بالهم طرفة عين أبدا ، بل تتجسد صور النار أمام أعينهم في كل لحظة ، فيقول أحدهم : الهي اصرف عني عذاب جهنم ، وكأنه يرى نفسه ينصلي فيه ، أو لا يقول تعالى : «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا».

فكل إنسان سيمر من فوق الصراط على جهنم ، والعاقل من فتش عن سبيل للنجاة.

إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً

اي ان عذاب جهنم يلزم الإنسان الذي يدخله ، وانه لخسارة كبري ، فليس الخسران الحقيقي خسران الدنيا بما فيها من لذات ، وانما الخسارة ان يخسر الإنسان رحمة الله في يوم القيامة حيث المطاف الأخير.

[٦٦] إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً

فهي ليست مستقرا مرغوبا كي يقيم فيه الإنسان ، وليست مكانا طيبا يصلح ان يستمر فيه.

٥ ـ الاقتصاد في المعيشة :

[٦٧] وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً

٤٧٥

الكثير من الناس من ينفق المال ، والقليل من يحصل على الثواب ، والأقل من ينفقه كما يريد له الله ، وهم عباد الرحمن حقا ، فانفاقهم ليس بدافع الترف والشهوة ، أو الرياء والسمعة ، وانما بدافع الايمان والعقل والارادة ، فلم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما.

فبين هذا وذاك ينفقون وباعتدال ما يقيمون به حياتهم و حياة الآخرين.

وهكذا يروي العياشي يقول : استأذنت الرضا (ع) النفقة على العيال؟ فقال : «بين المكروهين. قال فقلت : جعلت فداك لا والله ما اعرف المكروهين ، فقال : بلى ـ يرحمك الله ـ أما تعرف ان الله تعالى كره الإسراف وكره الإقتار فقال : «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» (١).

و ضرب الامام الصادق عليه السّلام مثلا لذلك فأخذ قبضة من حصى وقبضه بيده فقال : هذا الإقتار ـ الذي ذكره الله عز وجل في كتابه ـ ثم قبض قبضة أخرى فأرخى كفه كلها ثم قال : هذا الإسراف ثم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال : هذا القوام.

وتربط رواية ثالثة بين الإنفاق ومستوى المعيشة في المجتمع ، بينما نجد رواية رابعة : تجعل الإنفاق في سبيل قوام البدن وفيما يصح البدن إسرافا ـ مهما كان ـ وتأمر نصوص أخرى بضرورة التوسعة على العيال ، ونفهم من مجموع النصوص انّ الإقتصاد في المعيشة يرتبط بمجموعة عوامل يحددها الشرع والعقل والعرف.

__________________

(١) المصدر / ص ٢٨.

٤٧٦

وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ

٤٧٧

فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)

___________________

٧٧ [لزاما] : أي أنه واقع لا محالة.

٤٧٨

عباد الرحمن بين السلوك والتطلعات

هدى من الآيات :

في الغالب تلخص الآيات الأخيرة من السورة أفكارها ، لتزيدها إيضاحا وتبيانا ، ولتزرع في نفس القارئ ، خلاصة مركزة عما مرّ الحديث عنه.

وفي نهاية سورة الفرقان التي خصصت لبيان الرسالة والوحي ، والايمان بهما ، يوجز لنا الله عدة موضوعات هامة ذكّرنا بها خلال السورة.

أولا : ليس الايمان بالرسالة كلمة تقال ، انما هو وقر عظيم وموقف حاسم يشعر كل فراد من افراد المجتمع بوطئه وخطورته.

ثانيا : ان المجتمع الذي تصنعه الرسالة بعيد عن السلطة ، فلا يتسلط فيه أحد على الآخر ، إذ لا خضوع لغير ولاية الله فيه ، اما الخضوع لولي أمر الله كالرسول أو الامام أو الفقيه العادل العارف فحقيقته خضوع وتسليم لله سبحانه. إذ لا يقدس المجتمع أشخاصهم ، وانما يقدس ويخضع للقيم التي يجسدونها.

٤٧٩

ثالثا : ان هذا المجتمع تحكمه روح الاحترام المتبادل في العلاقة بين ابنائه ، فلا يقتلون النفس ولا يزنون.

وهناك علاقة بين قتل النفس من جهة ، والزنا من جهة أخرى ، فكلاهما يعتبر نوعا من الاعتداء على كرامة الإنسان ، وبالتالي فكلاهما قتل للنفس كما سنوضح ذلك في البينات.

وان الذين يفضلون سيادة سلطة غير الهية عليهم ، فلا يحترمون النفس البشرية ، ويفعلون الفاحشة سيلقون العذاب في الدنيا والآخرة ، إلى ان يتوبوا الى الله ربهم.

رابعا : في المجتمع الرحماني لا يظلم أحد أحدا أبدا.

وحتى لا يظلم الإنسان غيره ، فان عليه الامتناع عن شهادة الزور ، وكثير من الذين يجدون جوا مناسبا للظلم تدفعهم شهواتهم ومصالحهم لارتكاب الجريمة ، والاعتداء على حقوق الآخرين ، أما في المجتمع الاسلامي فان الجو العام ، والقانون الالهي الحاكم لا يشجع على الظلم أو البغي ، فلو فتش ظالم عمّن يشهد في صالحه فسوف لن يبلغ مناه.

خامسا : الجدية من أهم مميزات المجتمع الايماني.

فهو بعيد عن اللغو ، الذي يكون عاملا من عوامل الانحرافات الاجتماعية الفكرية وغيرها ، كما اللامبالاة التي تعني العبثية واللاهدف ، فيجب ان يكون المجتمع جديّا في البحث عن اهدافه ، بعيدا عن اللغو واللامبالاة اللذان يجعلانه بعيدا عن الرحمانية ، قريبا من الجريمة والانحراف.

وهذا المجتمع هو الذاكر الذي يتكامل بذكره لله ، إذ يجعل ذكره لخالقه معراجا لسموه المعنوي والمادي أيضا ، وبتعبير آخر هو الذي يجعله يعرج الى مستوى التحضر

٤٨٠